|
العرب والفكر النقدي
فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8142 - 2024 / 10 / 26 - 12:04
المحور:
الادب والفن
مضى من الزمن أكثر من قرن ونصف والعرب ما زالوا يتحدثون عن «النهضة» دون أن يخرجوا من هذا الطور، ما يطرح السؤال عن أزمة هذه «النهضة» المستعصية التي لا تزال في طور المخاض، ولم تعطِ أكلها رغم أنها مرَّت بمراحل مختلفة وأدوار متعددة، وهي كما كتب الكاتب اللبناني طارق زياد في مجلة «الناقد» قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، في أحسن حالاتها أعادت إنتاج الماضي تأويلاً وتفسيرًا وشرحًا، ولم تتعّدَّ ذلك إلى إبداع الحلول الجديدة للمشكلات المعقدة التي تواجه مجتمعاتنا، بل على العكس من ذلك، فإن العرب ما زالوا يعبرون من هزيمة إلى أسوأ منها، حتى بات تعريف بزمن «النهضة» تعريفًا بزمن الهزائم المفضية إلى الإحباط، بكل واحدة منها يؤرخ لدور جديد من أدوار «النهضة» المزعومة.
قد يختلف البعض مع هذا الرأي، إلا أن ما يعنينا في سياق هذا الحديث هو موقفه النقدي الذي يبدو واضحًا وهو يشير إلى أن هذه «النهضة» لا تخرج من اثنين: فإما هي تقليد للتراث أو تقليد للآخر (الغرب)، في حين أن التقليد مميت في كل حال ومؤدٍّ للجمود لأنه يغفل المعطيات الخصوصية لمجتمعاتنا الحاضرة ولا يأخذ بعين الاعتبار تاريخيتها، ما يجعل الاوضاع تتفاقم ضياعًا وحيرة وتبعثر جهود وفقدان رجاء.
وإذ كان العرب كما يبين الكاتب، وهو على حق، يرومون فعلاً الخروج من الأزمة البنيوية التي يعيشونها، فلا معدى لهم عن الفكر النقدي، يعملونه فى تفكيك بنيتهم وتحليلها والتفتيش في ثناياها عن مكامن الضعف والهشاشة والقصور، دون خوف أو وجل، والإ فإنهم سيبقون متخبطين بما هم فيه، بل ستزداد حالتهم سوءًا على سوء.
ووفقًا لتصوره، ثمة نتيجة أساسية يمكن أن نستخلصها ألا وهي أن الفكر النقدي ليس أداة سحرية، بل إنه يشترط أول ما يشترط الحرية. إذ لا إبداع من دون فكر حر. ولا فكرَ حرٍ من دون احترام كرامة الإنسان. ولا كرامة لإنسان إلا إذا عرف أن يقول لا. ولن يقول الموطن في البلدان العربية لا إلا إذا رفض السخافة والابتذال والتعصب والعبودية والفردية والوصاية التي تعود للقرون الوسطى والتدين الكاذب والمسايرة والأنانية والبطر والاتكالية والتقليد والدجل والتشاطر.
لن تكون للعرب كرامة إلا إذا رفضت التبعية والبؤس والفقر والجهل والمرض.
لن يخرج العرب من هوانهم إلا إذا رفضوا المساومة والأحباط واليأس، وقالوا لا للارتجال ولا للقبول بالأمر الواقع، لا للامتثال، لا للتغطية على الأوضاع السائدة. ولا للتعمية ولا للسطحية.
لا للموت البطيء. ولا للانتحار. ولا للفناء والعيون شاخصة والأبصار ناطرة والبصائر سادرة.
كان عنوان درس الأخلاق الأول: «نعم يا أمي». فلتكن كل عناوين سلوك العرب اليوم لا للتلقين. لا للاتكالية. نعم للاعتماد على النفس. نعم للإبداع. نعم الخروج على المألوف. نعم للفكر المغاير. نعم للخلق والعطاء والتجديد والتحديث. نعم لخروج المرأة من الأسر والعبودية. نعم لاقتحامها سبل الحياة. نعم لمساواتها قولاً وفعلاً بالرجل، نعم لانسانيتها وتفتحها وعطائها.
من العبث أن نكرر الكلام ونجتر القول في مسؤولية الآخر (الغرب) عن سقوطنا. فلنعرف جيدًا ما يريده الغرب منا. ولكن على أن تكون على مثل اليقين أن العلة تبقى فينا وفي قابليتنا للانهيار. لأن الآخر لا يستطيع عرقلة مسارنا التاريخي لو لم تكن بنيتنا الداخلية ضعيفة واهنة هشة فقيرة نتيجة أسباب ومعطيات عديدة، ليس اقلها التدهور الاقتصادي الذي نعانيه من عصور القهر والتمادي، مما افقد الإنسان مناعته الداخلية وعرضه للتقهقر المستمر. حتى إذا حل زمان الاقتصاد الريعي تفجر مع آبار النفط كل ما في النفس من مكامن الغرائز والشره والإقبال على الاستهلاك.
فإذا ما اعملنا سلاح الفكر النقدي في شعاراتنا وبديهياتنا وأفكارنا بمنهجية عقلية صارمة وبروح من الحرية والتسامح والحوار، فلابد لنا أن نكتشف العلل الخطيرة التي نرسف فيها، ونحاول فك قيودنا العديدة والخروج من حاضرنا الذليل.
على أن الفكر النقدي لا يخلق من عدم ولا يولد من برج عاجي ولا يستورد جاهزًا، بل يأتي خلاصة ونتيجة علاقات جدلية مع الواقع. فكيف لنا أن نبدع فكرًا نقديًا من واقع بائس. أو أن نطبق منهجًا عقلانيًا عليه ونحن أسرى الماضي أو مجرد مقلدين تابعين للغرب؟
تلك هي المسألة التي ما تزال ترين بثقلها على واقعنا الفكري منذ أن قامت «النهضة» المشلولة.
والحل يأتي في محاولة تغيير الواقع المتردي من ضمن تصور يحل الإنسان في مجتمعاتنا المحل الأول ويحترم كرامته وعقله وحريته.
والتغيير لا يكون بالتمني، بل بالعمل والكد والتعب والجهد. وعندما يثرى الواقع ويغتني، يزداد الفكر بدوره ثراء وغنى، ويتفاعل الواقع والفكر في جدل مستمر فيه زخم الحياة وشدة أوارها.
عبئًا ما تردد وما نقول من أن «النهضة» أحلت الفكر النقدي الحر مكانته السامية. ذلك أن المفهوم «النهضوي» للحرية انحصر في فكرة الاستقلال السياسي ولم يتعده إلى أعمال النقد والتشريح والتفكيك في عرى بنيتنا. فضحل مفهوم الحرية وبات قاصرًا، وأعدنا إنتاج الفكر ذاته - تراثيًا أو غربيًا - ونحن في غيبوبة من الرضى على النفس، وأعدنا معه الهزيمة تلو الهزيمة نحصدها تراجعًا مستمرًا وواقعًا مريرًا وعلقمًا مرًا.
ولا يستخلص أحد أن أزمتنا المصيرية مسألة تعليمية أو تربوية أو أخلاقية أو تنموية وحسب، كما تصورها المفهوم الذي ساد عصر «النهضة» الموعودة، بل هي قضية إحداث تغيير جذري في كل مناحي حياتنا الخاصة والعامة ونظرتنا وعقليتنا وتعاطينا مع الواقع وفهم حركة التاريخ، من منظور العلاقة الجدلية بين الإنسان ومجتمعه،بحيث لا يكون المسار مسألة جبرية أو آلية حتمية، بل صنع أيدينا نمسك بها مصيرنا ونخطط مستقبلنا،ونصنع التغيير ويصنعنا.
ويبقى الخوف كل الخوف من أن يظل الفكر النقدي العربي سطحيًا مسطحًا، كما هو الحال زمن «النهضة»، وأن يبقى مقصرًا عن التصدي للمعوقات المعرفية والواقعية بعمق الحرية، نتيجة الخوف والكبت والتسلط والقهر والقيود، وعندها لا معدى من انتظار هزائم أدهى وأشد، وكوارث أفج وأشمل.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قيم قابلة للتبديل بحسب الحاجة
-
المنهج النقدي عند محمد مندور
-
لماذا لا تزال أوروبا تدور في الفلك الأمريكي؟
-
الكتابة والحرية
-
هل تراجعت الهيمنة الأمريكية؟
-
يوسف سلامة.. فيلسوف العقل والتغيير
-
كتاب «وجهة نظر»
-
الدولة العميقة في الولايات المتحدة
-
المفكّر برهان غليون وحديث عن الطائفية
-
الدولة الفلسطينية والانقسام الأوروبي
-
الأنانية تقتل الليبرالية
-
المفكر الكبير لويس عوض
-
الصراع الروسي الأمريكي أكبر من أوكرانيا
-
حديث عن تغييب العقل وغياب الوعي
-
52 عامًا على اغتيال الأديب غسان كنفاني
-
«لن نصوِّت لك»
-
جرجي زيدان أبرز أركان النهضة العربية
-
«الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار»
-
حركات التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني وخطاب «اللاسامية»
-
تنامي القوة الاقتصادية للصين
المزيد.....
-
العراق ينعى المخرج محمـد شكــري جميــل
-
لماذا قد يتطلب فيلم السيرة الذاتية لمايكل جاكسون إعادة التصو
...
-
مهرجان -سورفا- في بلغاريا: احتفالات تقليدية تجمع بين الثقافة
...
-
الأردن.. عرض فيلم -ضخم- عن الجزائر أثار ضجة كبيرة ومنعت السل
...
-
محمد شكري جميل.. أيقونة السينما العراقية يرحل تاركا إرثا خال
...
-
إخلاء سبيل المخرج المصري عمر زهران في قضية خيانة
-
صيحات استهجان ضد وزيرة الثقافة في مهرجان يوتيبوري السينمائي
...
-
جائزة الكتاب العربي تحكّم الأعمال المشاركة بدورتها الثانية
-
للكلاب فقط.. عرض سينمائي يستضيف عشرات الحيوانات على مقاعد حم
...
-
أغنية روسية تدفع البرلمان الأوروبي للتحرك!
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|