محمد القطاونة
الحوار المتمدن-العدد: 8139 - 2024 / 10 / 23 - 09:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بنية العقل الغربي للفن من التجسيد الإغريقي إلى الدارونية إذا ما تتبعنا تاريخ الفن القديم نجد أن الفن تلازم مع الإنسان، وكان الفن يستمد مواضيعه من الدين، واستمد الدين قوته بالفن وهكذا كانت العقائد قبل الإسلام وكان الفن. ونحن نتحدث عن الفن في المفهوم اليوناني لا بد لنا أن نعلم أن معظم الآراء والمعارف والفنون _النظرية المعرفية_ لليونان انطلقت من أرضية وثنية أو فكر ملحد, نتيجة عدم إدراك عالم الميتافيزيقيا , يستوي في ذلك الفن وغيره ولذلك نجد اليونان في نظرتهم للطبيعة, ينطلقون من تقديس الطبيعة كونها مذهبا فلسفياً أخذ أبعاده من دائرة الفن, لذلك دخلت الطبيعة في قائمة "المقدسات" لدى فريق من الفنانين والفلاسفة. لذلك اتجه اليونان ليجعلوا من "الإنسان" الفنان نداً لله فإذا كانت الطبيعة من صنع الله، فان الإنسان يصنع مثلها، بل وأحسن منها، إذ يتلافى الأخطاء التي وجدت فيها، ويتم النقص الذي لم يستطع أن يتممه، وبهذا أصبح الفنان "خالقاً" وأضحى إنتاج الفن "خلقاً" واستعملت كلمة الخلق على نطاق واسع. وكل ذلك جاء نتيجة تقسيم الناس إلى فئات من العبيد والأجانب والمواطنون الأحرار, والتي يمثل فيها اليونانيون الطبقة الأولى, وهي خاصة بهم وحدهم, حيث كانوا يعتقدون أنهم وحدهم كاملوا الإنسانية, وقد زودوا بجميع ما يمتاز به الإنسان عن الحيوان, من قوى العقل والإرادة , على أن الشعوب الأخرى ناقصة الإنسانية مجرده عن هذه القوى, وإنهم خلقوا ليكونوا عبيدا مسخرين لليونان .
لذلك تطورت فكرة الإنسان عند اليونان حتى وصلت إلى فكرة "ألوهية الإنسان" وذلك يفسر لنا الصراع بين البشر وبين آلهه اليونان، والذي انعكس بالتالي على نتاج تصور الفن في البنية العقلية اليونانية، لذلك ظهرت الآلهة مجسمة في الفن اليوناني وكانت صورة "الله" ترتبط بخصائص المحلية وتتقمص أبرز الكائنات. وفي اليونان فنجد الآلهة ناساً كالبشر لهم نزوات البشر, ولكن لهم قدرات الآلهة وكان تزاوج الآلهة بالناس وتناسلهم أمراً مقرراً ومألوفاً وعنه صدرت أبرز صور الثالوث القديمة وكان بعض آله اليونان يتقمصون شكلاً بشرياً ليتصل بامرأة جميلة, وكان يمكن لابن هذه المرأة أن يكون "نصف إله" ونجد في مصر الثور و القطط و قرص الشمس ... , وما تفيض به الميثولوجيا اليونانية أو التاريخ المصري القديم أكثر , وبذلك أصبح الفن اليوناني فناً يعبر ويدافع لإثبات لاهوتيه تجسيديه منحرفة خارجه عن النسق الطبيعي والحقيقي للفن, وهكذا تقيد الفن بالقيد الوثني والأسر الكهنوتي منذ أقدم العصور وحتى ظهور الإسلام الذي حرر الفن من تلك القيود التي كبلته وقيدته. إن هذا الاتجاه الإلحادي القائم على أرض وثنية امتد عبر العصور, وسيطر على الفن وحتى الفن الكنسي, وها نحن نجد أنفسنا مع فنان الكنيسة في عصر النهضة الأوروبية "مايكل انجلوا" (1475م) وقد أتم نحت تمثال موسى ثم ضربه صارخاً :"تكلم يا موسى" ولا شك أن الذي دفعه إلى ذلك شعوره بأنه أنتج خلقاً مساوياً لخلق الله تعالى ولا ينقصه إلا الكلام ليصبح إنسانا سوياً. ويذهب المصور "جوجان" في هذا الميدان إلى مدى بعيد حيث يريد بصراحة ووضوح أن يكون عمل الفنان محاكاة لعمل الإله , علما بأنه واحد من أولئك الذين يرفضون أن يكون عمل الفنان محاكاة للطبيعة, الأمر الذي يؤكد الفكر الإلحادي الذي يكمن وراء العملية الفنية. من جانب آخر تحول الفن إلى صراع في كل الاتجاهات. "يؤكد هيجر على أن الصراع الذي تثيره الطبيعة ضد الفنان بغموضها وتحديها وخفائها ما هو إلا استفزاز ايجابي من أجل الكشف عن الحقائق الجمالية التي تغطيها الطبيعة أو الأرض بالغموض والخفاء والصمت" هكذا فالعلاقة بين الفنان والطبيعة علاقة"انتزاع" علاقة تحتاج إلى استعمال القوة, لا علاقة انسجام وتناغم. ولم تكتف الفلسفة بأن وصفة الطبيعة بالغموض والخفاء، بل أكسبتها صفة القبح. حيث يرى "بودلير" وهو مصمم هذا الرداء القبيح, فإن برتليمي يوضح لنا أن ذلك حدث ضمن الإطار الفلسفي, حيث يقول :"ولنذكر أنه إذا كان بلودير يرى الطبيعة قبيحة, فإنه لا يراها هكذا إلا في إطار آراء فلسفية تصوفية يطبقها مقدماً" إذاً فبودلير بنى تصوره بناءً على مقدمات فلسفية, جعلته منه ينتهي بهذا الرأي.
الفن والدارونية وما أن تخلصت العقلية الأوروبية من التجسيد الوثني عند الإغريق وتأثيراته على الرومان والكنيسة في مجال الفن حتى انتهى بهم الأمر إلى داروين ونظريته أصل الأنواع, التي تعتبر من أهم النظريات التي تأسست عليها المعارف والعلوم الأوروبية ومن ضمنها الفن , "وخلاصه هذه النظرية أن الأحياء الأرضية كلها قد نشأت من أصل واحد, ضمن الأحياء المائية ثم نشأت الأحياء البرمائية, ومن هذه الأحياء نشأت الأحياء البرية... ومن الحيوانات البرية نشأ الإنسان الذي لا يفصله عن القرد سوا حلقة واحدة"وهكذا تقررت "حيوانية" الإنسان, وبالتالي نفي الجانب الروحي "يقول التاريخ الأوروبي: إن نظرية داروين كانت نقطة تحول في نظرية العلوم, وإنها أثّرت في اتجاه التفكير البشري, بحيث يمكن تتبع آثارها في كل ما أنتجه العلماء في العهد الأخير" وقد تأثر بها فرويد , بقوله:"أن غرائز الإنسان هي الامتداد الطبيعي لغرائز الحيوانات السابقة له في سلم الصعود"
فكانت نظرية داروين حكماً بحيوانية الإنسان من خلال علم الأحياء ثم كانت نظرية "فرويد" حكما بحيوانيته مرة أخرى في ميدان علم النفس. وهكذا أصبح حيوانا جملة وتفصيلا. وهذا ما اعتمد عليه أصحاب الجمال التجريدي، فقد حاول أحد دعاة هذه المدرسة "أن يقيس شدة الإحساس ذات الطابع الذاتي الكيفي عن طريق قياس منبهاتها الموضوعية بكمية، فوضع منهجاً وقاس به لذة الشعور بالجمال وهي لذة داخلية شخصية بحته" وقد استغل بعضهم هذا الاتجاه التجريبي في مجال الدراسات الجمالية لوضع أسس مادية, أو قياس كمية لظاهرات الجمالية.
وخلاصة الأمر أن الفنّان في ظل هذا التصور، فقد النظرة الصحيحة القائمة على تصور كامل صحيح متوازن للإنسان كجسد وروح، فقد الإنسان إنسانيته، وبقي يعمل بحيوانيته، كما فقد روحه وبقي جسمه, وفقد مشاعره وبقيت غرائزه.
حرية الفن الإسلامي من التجسيد الوثني والقيد الكهنوتي رأينا فيما مضى كيف كان الفن يخدم تلك العقائد، واستخدامها للفن في تأكيد العبودية وتوثيق تلك القيود. وفي ضوء ذلك يمكن القول إن الإنعتاق الحقيقي للفن من الأسر الكهنوتي كان في القرن السابع الميلادي، وذلك بظهور الإسلام وتحريمه للفن المستخدم في تعضيد العقائد المنحرفة، والتي تخدم الوثنية وتنشد الإباحية.
وهكذا يظهر أن الدين والفن شقان مرتبان, فأينما اتخذ الأول مساراً ردده الثاني, وحين تغير الأول انعكس صداه في الثاني, وكان لهذا الرباط ضرورة لتطوير الفن حتى يكون له مفهوم صحيح وواضح, فلا بد أن ينعتق من هذا القيد ويتصل بالكون والحياة والإنسان, وهو الفن الذي نبحث عنه في أرجاء الكون الفسيح الممتد .أما عند الإسلام فالقضية مختلفة، فلم يوجه الإسلام الفن بأن يتخذ الفن مساراً بافعل كذا، بل قال الإسلام، لا تفعل كذا، أي أن العقيدة الإسلامية لم تأمر الناس باتخاذ صيغة فنية محددة كما هو الحال في العقائد الأخرى، بل أوقفت الشريعة الإسلامية الفن المنحرف "عقائدياً وأخلاقياً", وتركت للناس الخيار في الممارسة الفنية، فالعقيدة الإسلامية أوقفت الخارج عن المنهج وتركت الداخل في المنهج أن يختار، فالتحريم يقع على الخارج من المنهج – أما ما هو في المنهج فهو مباح. وواجه الإسلام الوثنية وحرّم كل أدواتها، ومنها الفن المستخدم لهذا النوع من التعبد، وكان هذا لوضع الفن التشكيلي وكل الفنون في المسلك الطبيعي والمسار الصحيح للإبداع، وللانتقال بالفن من الأديرة والمعابد والصوامع والبيع إلى خارجها، حيث الطبيعة الرحبة والكون الفسيح. ولهذا لا نجد صورا ولا تماثيل في المساجد كتلك التي نجدها في دور العبادة الأخرى التي جسدت الآلهة، ورمزت إليها بأشياء محسوسة داخل تلك الدور, وعمل الفنان المسلم من خلال العقيدة بواسطة المجردات, وبالابتعاد عن الماديات – ليس بطرحه كلياً بل بإيقافه عند حدود المعقول – فلا تكون الغلبة للماديات على الروحانيات, بل بإيجاد التوازن بين الروح والمادة والتعامل مع كل الكائنات والنفاذ فيما وراء الطبيعة .
ثانياً: التوحيد انطلاقه وانسجام للفن أم تقييد وتضييق؟ واجه الفن الإسلامي إشكالية فكرية ترتبط ارتباطا وثيقا بالعقيدة, وهي عدم القدرة على التعبير عن الذات الإلهية المنزهة هذه القضية "إدراك الذات الإلهية"كانت أكثر واهم قضية فكرية حضارية كبرى طرحت على الساحة العقلية المسلمة وهي فكرة "التوحيد" التي جاءت كتجريد عام وشامل لكل توحيد سابق في أي حضارة من الحضارات, فقد جاء منزهاً عن أي تشبيه أو أي رمز بل هي أكبر الحقائق وأشملها وأعمها على الإطلاق, ولكنها حقيقة فكرية عقلية مجردة منزّهة عن كل تصور ولا يمكن التعبير عنها بشكل مادي ملموس, أو حتى بشكل فني وفني إبداعي قال تعالى:"ليس كمثله شيء وهو السميع العليم" اذاً كيف استطاع الفن والفنان المسلم التعامل مع هذه القضية منسجماً مع عقيدته أولاً ومبدعا في فنه ثانياً، ولعلنا من خلال هذا المبحث نستطيع الوقوف على رؤية الفن الإسلامي من خلال رؤيتين توصلنا لهما:
الرؤية الأولى: استطاع الفن الإسلامي الاستفادة من انعكاس التوحيد في أعماله الفنيه التي اتسمت التجريد _الفن التجريدي _ Abstraction Art ومن هنا جاءت عبقرية الفنان المسلم الذي عبر عن هذه الحقيقة المنزهة وعن صفاتها معبرا عن المطلق اللانهائي كتعبير تأملي جمالي. وخذ مثالا على ذلك فأول عنصر من عناصر الفني "النقطة" التي تمتد لتكون خطا والخط يلتف ليكون دائرة ويحد مربعا وهي الأشكال الأولية والأبجدية الأولى المركزية التي تكون منها الفن الإسلامي. ففي الإسلام النقطة هي البداية, والأشكال اللانهائية التي تصدر عنها هي بمثابة تعبير ذهني تأملي جمالي يعبر عن أكبر حقيقة في الوجود وهي حقيقة الخلق وصدور كل هذا التنوع اللانهائي عن "المركز" أصل الوجود , ومن هنا فقد تناغم الفكر والإيمان مع الوجدان في نفس الفنان المسلم للتعبير عن التنزية وعدم التشبيه. يقول الفاروقي_في هذا الصدد_: "في قصر الحمراء توجد قبة كاملة من عدد كبير من العقود التي تقوم على أعمدة متناهية الصغر لا يستطيع إدراكها وتتبعها إلا خيال متوقد، هنا تصبح الطاقة التي يخلفها فينا الفن قادرة على هز أعماق أي إنسان لديه الإرادة أن يتحرك مع تلك الإيقاعات الفنية، هكذا كانت الصفة الجوهرية للذات الإلهية وكونها غير مشابهه للحوادث أي منزهة، هي الأساس الذي استولى على الشعور الإسلامي لدرجة انه أراد أن يري هذه الحقيقة معبراً عنها في كل شيء. ويمكن القول إن منهج الفن الإسلامي هو منهج رمزي مستوحى من الرقي الرمزي والإبداعي للمفهوم المطلق، وكأن الإبداعات الفنية الناتجة عنه بمثابة رموز مرئية أو رموز بصرية، غير مباشرة تستبطن بداخلها مضامين مطلقه غير مباشرة.
الرؤية الثانية: استطاع الفنان المسلم في التعبير عن فنه من خلال حل المعادلة الجمالية العسيرة في التعبير عن الإله الذي ليس كمثله شيء، ولا يمكن تصوره بالعقل البشري القاصر عن إدراك الكثير من الظواهر الطبيعية وكيفية حدوثها وجمالها، فكيف بخالق هذه الظواهر كلها، إذ لا يمكن للعقل البشري تمثله ولا يمكن التعبير عنه فهذا هو قمة الإعجاز, وهو أيضا ما يعجز أي فنان في التعبير عن جوهر لا يمكن تمثله أو يشبهه أي شيء, وهو في نفس الوقت حقيقة كبرى موجودة في كل مظهر من مظاهر الحياة في الطبيعة والكون. وهذا ما يوضحه الرازي في تفسيره للآية "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"( آل عمران: 190)."اعلم أنه تعالى رغّب في ذكر الله, ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله, بل رغب في الفكر في أصول السموات والأرض ... ولما كان الأمر كذلك -لاجرم أمره - في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض, لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم وكيف لا تقول ذلك" .
لذلك يقول الكسندر بابا :"أن الجماعة الإسلامية لم تكتف بملاءمة الفقه الإسلامي, والإعراض عن النقل الواقعي للعالم بل أنها تجاوزت ذلك إلى التعبير"ايجابيا" عن الروح الإسلامية عندما ارتبطت وثيق الارتباط بكل إبداعات الذهنية العربية الإسلامية" ومن هنا نستطيع القول أن"التصور الإسلامي للفن" هو تصور وثيق الصلة بالإسلام كالدين والتوحيد كأول وأهم ركن من أركان الإسلام, وهذا التعبير تتجلى عبقريته في ابتكار صيغه جماليه غير مسبوقة عند التعبير الجمالي عن التوحيد إذ لم يكن هذا التعبير تقريراً فنياً مباشراً عن طريق صور أو عبارات مباشرة تعبر عن التوحيد بشكل مباشر, بل جاء بمثابة ترجمة جمالية عميقة ترسمها في الوجدان.
#محمد_القطاونة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟