"إني أفضل الموت على أن أنطق بكلام غير دقيق"
جورج واشنطن
إنها حكاية السارق الذي يصرخ: "إلى السارق!. وكيف تعتقدون أن السيد جورج دبليو بوش قد عنون التقرير الشهير الذي قدمه في 12 أيلول/سيتمبر عام 2002 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة موجهاً التهم فيه الى السيد صدام حسين؟ "عشر سنين من الكذب والتحدي". وما الذي أورده فيه وهو يفند "الأدلة"؟ سيل من الأكاذيب! ومما قاله على وجه الدقة ان العراق يقيم علاقات وثيقة مع تنظيم "القاعدة" الارهابي وأنه يهدد أمن الولايات المتحدة لأنه يملك "اسلحة دمار شامل"، وهي العبارة المرعبة التي اصطنعها مستشاروه في التواصل والاعلام.
وبعد مضي ثلاثة أشهر على نصر القوات الأميركية (ورديفتها البريطانية) في بلاد ما بين النهرين، بتنا نعلم أن هذه التأكيدات التي كنا شككنا اساساً في مدى صحتها [1] كانت مغلوطة. وأكثر فأكثر يبدو من البديهي أن الادارة الأميركية قد زورت المعلومات حول أسلحة الدمار الشامل، ففريق "عراق سورفاي غروب" المؤلف من 1400 مفتش في رئاسة الجنرال دايتون لم يجد حتى الآن أدنى ما يمكن أن يشكل دليلاً. وبدأنا نكتشف أنه في الوقت الذي كان السيد بوش يطلق فيه تلك الاتهامات، كان قد تلقى تقارير من أجهزة استخباراته تبيّن ان ذلك كله كان غير صحيح [2] . وبحسب السيدة جاين هارمن، النائبة الديموقراطية عن كاليفورنيا، فإن هذا يجعلنا إزاء "أكبر مناورة تضليل على مدى الأزمنة" [3] . فللمرة الأولى في تاريخها تتساءل أميركا عن الأسباب الحقيقية للحرب، وذلك بعد ان انتهت هذه الحرب...
وفي إطار عملية التلاعب الضخمة هذه كانت إحدى الدوائر السرية في البنتاغون، أي "مكتب المخططات الخاصة"، تلعب دوراً رئيسياً. وبحسب ما كشفه سايمور أم. هيرش في مقالة له نشرتها صحيفة "نيويوركر [4] " في 6 أيار/مايو عام 2003، فإن "مكتب المخططات الخاصة" قد أنشئ بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 على يد السيد بول وولفوويتز الرجل الثاني في وزارة الدفاع. وكانت مهمة هذا المكتب الذي تولى إدارته احد "الصقور" المتشددين، السيد أبرام شالسكي، أن يحلل المعطيات التي تجمعها مختلف وكالات الاستخبارات الأميركية (وكالة المخابرات المركزية ووكالة استخبارات الدفاع ووكالة الأمن القومي)، وذلك بغية جمع الخلاصات ونقلها الى الحكومة. وإذ استند "مكتب المخططات الخاصة" الى شهادات المنفيين المقربين من المؤتمر الوطني العراقي (وهو منظمة يمولها البنتاغون) والى شهادات رئيسه المشكوك في امره أحمد الجلبي، فقد ضخم كثيراً مسألة خطر أسلحة الدمار الشامل وقضية العلاقة بين السيد صدام حسين وتنظيم "القاعدة".
وتحت صدمة هذه الألاعيب، وتحت اسم "فيتران انتلليجنس برفيشيونال فور سانيتي"، أكدت مجموعة مغفلة من قدامى الخبراء في وكالة المخابرات المركزية وفي وزارة الخارجية، في مذكرة وجهتها الى الرئيس بوش في اول أيار/مايو، أن بعض المعلومات في الماضي "قد جرى تحريفها لأسباب سياسية ولكن ليس أبداً بهذه الطريقة المنظمة لتضليل نوابنا بغية السماح بخوض حرب" [5] .
وحتى أن السيد كولن باول نفسه وقع ضحية الخداع، وبات مستقبله السياسي معرّضاً. وقد حاول أن يقاوم ضغوط البيت الأبيض والبنتاغون لنشر اكثر المعلومات وهناً. فقبل خطابه الشهير في 5 شباط/فبراير عام 2003 امام مجلس الأمن حرص السيد باول على قراءة المسوّدة التي أعدها السيد ليويس ليبي، مدير مكتب نائب الرئيس ديك تشيني، وكانت تحوي معلومات مشكوك فيها الى درجة أن السيد باول استشاط غضباً وقذف الأوراق في الهواء ليقول: "لن أقرأ هذا. إنه لأمر م..." [6] . وفي النهاية طلب وزير الخارجية أن يجلس السيد جورج تينيت، مدير وكالة المخابرات المركزية، يوم 5 شباط/فبراير وراءه بشكل مرئي تماماً ليشارك في تحمل مسؤولية ما قاله.
وقد اعترف السيد وولفوويتز في حديث له الى مجلة "فانيتي فاير" نشر في 30 أيار/مايو بهذه الأكاذيب الكبرى، فأقر بأن القرار اعتمد بإبراز موضوع خطر أسلحة الدمار الشامل من أجل تبرير الحرب الوقائية على العراق وذلك "لأسباب بيروقراطية". وقد حدد قائلاً: "لقد تفاهمنا على نقطة واحدة، هي أسلحة الدمار الشامل، ذلك أنها تشكل الحجة الوحيدة التي يمكن أن يتوافق عليها الجميع" [7] .
فرئيس الولايات المتحدة قد كذب إذن. فالسيد بوش الذي لم ينِ يفتش عن سبب للحرب لكي يتجاوز منظمة الأمم المتحدة ويضم الى مشروعه لاجتياح العراق بعض المتواطئين (بريطانيا واسبانيا) لم يتردد في اختلاق احدى أكبر الأكاذيب.
ولم يكن هو الوحيد في ذلك. فحليفه طوني بلير، رئيس وزراء بريطانيا، أعلن أمام مجلس العموم في لندن في 24 أيلول/سبتمبر عام 2002 أن "العراق يملك أسلحة كيميائية وبيولوجية. (...) وأن في امكانه نشر صواريخه خلال 45 دقيقة." أما السيد باول فقد صرح في مداخلته أمام مجلس الأمن في الأمم المتحدة في 5 شباط/فبراير أن "صدام حسين قد قام بأبحاث على حوالى اثني عشر عنصراً بيولوجياً يمكنها أن تسبب أمراضاًُ مثل الالتهاب الرئوي والطاعون والحمى الصفراوية والكوليرا والجدري والحمى النزفية." واخيراً أيد نائب الرئيس تشيني ذلك حين صرح عشية الحرب في آذار/مارس عام ٣٠٠٢: "اننا نعتقد أن صدام حسين قد أعاد في الواقع صنع أسلحة نووية" [8] .
وعبر العديد من التصريحات ظل الرئيس بوش يكرر الاتهامات نفسها. ففي تصريح لوسائل الاعلام في 8 شباط/فبراير عام 2003 بعد اجتماع له مع وزير الخارجية السيد كولن باول، وصل به الأمر الى تقديم التفاصيل التالية: "لقد أوفد العراق خبراء في المتفجرات وفي تزوير الأوراق ليعملوا مع تنظيم القاعدة، كما أنه امّن للقاعدة تدريباً على الأسلحة البيولوجية والكيميائية. وقد تردد عميل من القاعدة على العراق في أواخر التسعينات لمساعدة بغداد في الحصول على السموم والغازات."
وجميع هذه التشهيرات، المستعادة والمضخمة بواسطة كبريات وسائل الاعلام التي حولت أجهزة دعائية، جرى تكرارها الى حد القرف في شبكات التلفزة مثل "فوكس نيوز" و"سي.أن.أن." و"أم.أس.أن.سي." وإذاعة "كلير شانيل"1225 (محطة في الولايات المتحدة) وحتى في صحف محترمة مثل "واشنطن بوست" أو "وول ستريت جورنال". وفي العالم كله شكلت هذه الاتهامات الكاذبة الحجة الرئيسية لكل الداعين الى الحرب. ففي فرنسا مثلاً استند اليها وبلا حياء شخصيات مثل بيار لولوش وبرنار كوشنير وإيف روكوت وباسكال براكنر وغي مييار واندره غلاكسمان وألان فنكلكروت وبيار ريغولو وغيرهم [9] .
كما أن هذه الاتهامات كررها أيضاً جميع حلفاء السيد بوش بدءاً بالأكثر موهبة بينهم السيد خوسيه ماريا أسنار رئيس الحكومة الاسباني الذي أكد أمام المجلس التشريعي في مدريد في 5 شباط/فبراير عام 2003 قائلاً: "نحن نعلم جميعاً ان صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل. (...) كما نعلم جميعاً أن لديه أسلحة كيميائية" [10] وقبل ذلك بأيام، في 30 كانون الثاني/يناير، وإنفاذاً لأمر من السيد بوش، دبّج السيد أسنار بيان دعم للولايات المتحدة، عرف بـ"رسالة الثمانية" كان ممن وقعه السادة بلير وسيلفيو برلوسكوني وفاتسلاف هافل. وقد أكدوا فيه أن "النظام العراقي وأسلحة الدمار الشامل التي بحوزته تشكل تهديداً على الأمن العالمي".
هكذا إذن وعلى مدى ستة أشهر، ومن أجل تبرير حرب وقائية لم تردها لا الأمم المتحدة ولا الرأي العام العالمي، كانت هناك آلة حقيقية للدعاية والتضليل يقودها الفريق المتعصب المحيط بالسيد بوش تنشر الأكاذيب الكبرى بنوع من الصلف الذي تميزت به أكثر الأنظمة المستكرهة في القرن العشرين.
وتندرج هذه الأكاذيب في إطار سياسة الأكاذيب الكبرى العريقة التي قام عليها تاريخ الولايات المتحدة. وأكثرها هولاً يتعلق بتدمير البارجة الحربية الأميركية "ماين" في خليج هافانا في العام 1898 وهو ما اتخذ ذريعة كي تدخل الولايات المتحدة الحرب ضد اسبانيا ولضم كوبا وبورتوريكو والفيليبين وجزيرة غوام.
وما حدث أنه في 15 شباط/فبراير عام 1898 وحوالى الساعة التاسعة وأربعين دقيقة تعرضت الـ"ماين" لانفجار عنيف. فغرقت البارجة في مرفأ هافانا وقضى فيها 260 رجلاً. وعلى الفور اتهمت الصحافة الشعبية الاسبان بأنهم دسوا لغماً تحت هيكل السفينة منددة ببربريتهم و"معسكرات الموت" لديهم وحتى بممارساتهم كأكلة لحوم البشر...
وستقع منافسة بين اثنين من أقطاب الصحافة في سعيهما الى الاثارة، هما جوزف بوليتزر من صحيفة "وورلد" وبنوع خاص راندولف هيرست من صحيفة "نيويورك جورنال". وقد حظيت هذه الحملة بدعم حماسي من بعض رجال الأعمال الأميركيين الذين كانت لهم استثمارات كبيرة في كوبا ويحلمون بطرد الاسبان منها. غير أن الجمهور لم يبد أي اهتمام، ولا حتى الصحافيين. وفي كانون الثاني/يناير عام 1898 كتب فريديريك ريمنغتون، رسام صحيفة "نيويورك جورنال"، من هافانا الى رب عمله: "ليس هناك حرب هنا، وأطلب اليكم أن تستدعوني للعودة." فأبرق اليه هيرست مجيباً: "ابق هناك وأرسل الرسوم وأنا أمدّك بمواضيع الحرب." وبعدها وقع انفجار الـ"ماين"، فأطلق هيرست حملته العنيفة المركبة كما رأينا في فيلم "سيتيزن كاين" لأورسون ويلز(1941) .
ثم خصص وعلى مدى أسابيع، ويوماً بيوم، صفحات عدة من صحفه لقضية "ماين" مطالباً بالثأر بلا هوادة: "تذكروا الماين! الموت للاسبان!". ونسجت على منواله سائر الصحف. وفي بادئ الأمر ارتفعت مبيعات صحيفة "نيويورك جورنال" من 30000 نسخة الى 400000 ثم تجاوزت بشكل ثابت المليون نسخة! كما التهب الرأي العام حماسة، وبات الجو العام في حالة من الهوس. وإذ تعرض للضغوط من مختلف الجهات أعلن الرئيس وليم ماكنلي الحرب من مدريد في 25 نيسان/أبريل عام 1898. وبعد ثلاثة عشر عاماً، أي في العام 1911 استنتجت لجنة تحقيق في تدمير البارجة"ماين" أن انفجاراً عرضياً قد وقع في حجرة المحركات [11] ...
وفي خضم الحرب الباردة في العام 1960 سربت وكالة المخابرات المركزية الى الأوساط الصحافية "وثائق سرية" تبين أن السوفيات يكادون يحققون التفوق في السباق الى التسلح. وعلى الفور بدأت كبريات وسائل الاعلام تضغط على المرشحين الى الرئاسة وتطالب بالصوت الصارخ بزيادة ذات قيمة في موازنات الدفاع. وإزاء هذا الالحاح وعد جون كينيدي بتخصيص مليارات الدولارات لاعادة اطلاق مشروع صناعة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. وهذا ما كانت ترغب فيه ليس وكالة المخابرات المركزية وحسب وإنما كل المركب الصناعي العسكري. وبعد فوزه في الانتخابات وإقرار المشروع اكتشف كينيدي أن الولايات المتحدة كانت متفوقة عسكرياً على الاتحاد السوفياتي بشكل ساحق...
في العام 1964 ادعت مدمرتان أنهما تعرضتا لهجوم بطوربيدات فييتنامية شمالية في خليج تونكين. فبادر التلفزيون والصحافة الى جعل هذا الحدث قضية وطنية، فراحت تندد بالاذلال وتطالب بالانتقام، فتذرع الرئيس ليندون جونسون بهذه الهجومات ليطلق أعمال القصف الانتقامية على فييتنام الشمالية. وطالب الكونغرس بإصدار قرار يسمح له عند الحاجة باستخدام الجيش الأميركي. وهكذا نشبت حرب فييتنام ولن تنتهي الا بالهزيمة في العام 1975. وعلم في ما بعد وعلى لسان طواقم المدمرتين مباشرة أن الهجوم في خليج تونكان كان مختلقاً تماماً...
والسيناريو نفسه اتبع مع الرئيس رونالد ريغن. ففي العام 1985 أعلن فجأة "حالة الطوارئ" بسبب "الخطر الطارئ في نيكاراغوا" والمتمثل آنذاك بالساندينيين الحاكمين في ماناغوا مع أنهم انتخبوا ديموقراطياً في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1984 وكانوا يحترمون حرية الصحافة وحرية التعبير في آنٍ واحد. الا أن السيد ريغن أكد أن "نيكاراغوا هي على مسيرة يومين بالسيارة من هارلنغن في تكساس. فنحن في خطر!"، اما وزير الخارجية جورج شولتز فقد أكد امام الكونغرس أن"نيكاراغوا سرطان يتسلل الى أراضينا وهي تطبق مبادئ "ماين كامف" (كتاب "كفاحي" لهتلر) وتهدد بالسيطرة على النصف الشمالي للكرة الأرضية..." [12] . هذه الأكاذيب ستبرر المساعدات المكثفة التي قدمت الى الميليشيات المعادية للساندينيين، أي ثوار الكونترا والتي انتهت بفضيحة "إيران غايت".
ولن نتوسع كثيراً في الأكاذيب التي تناولت حرب الخليج في العام 1991 والتي جرى التوسع في تحليلها [13] ولا تزال ماثلة في الذاكرة كنموذج حي على حشو الأدمغة بالطرائق الحديثة، حيث كررت باستمرار معلومات تبين في ما بعد أنها مغلوطة كلياً، مثل القول بأن "العراق هو القوة الرابعة في العالم" والحديث عن "نهب حاضنات الأطفال في مستشفيات التوليد في الكويت" و"خط الدفاع المنيع" و"الضربات الاستئصالية" و"فعالية صواريخ الباتريوت" الخ.
فمنذ الفوز المريب للسيد بوش في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2000، أصبح التلاعب بالرأي العام مركز اهتمام الادارة الجديدة. وبعد اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر 2001 الشنيعة تحول ذلك هوساً حقيقياً. فالسيد مايكل ك. ديفر، صديق السيد رامسفيلد والمتخصص بـ"الحرب النفسية" لخص الهدف الجديد على الشكل التالي: "بات من المفروض وضع الاستراتيجيا العسكرية على أساس التغطية التلفزيونية لأنه إذا كان الرأي العام معك فلا أحد يستطيع الوقوف في وجهك، وبدون الرأي العام تصبح السلطة عاجزة."
وما إن بدأت حرب افغانستان، وبالتنسيق مع الحكومة البريطانية تم تشكيل مراكز معلومات خاصة بالتحالف في كل من اسلام اباد ولندن وواشنطن. إنها دوائر حقيقية للدعاية من ابتكار كارن هيوغس، المستشارة الاعلامية للسيد بوش، وعلى الأخص من ابتكار السيد أليستير كامبل المرشد النافذ للسيد بلير في كل ما يتعلق بالصورة السياسية. وقد اوضح أحد الناطقين باسم البيت الأبيض دور هذه الدوائر على الشكل التالي: "تبث شبكات التلفزة بشكل دائم معلومات على مدى أربع وعشرين ساعة، حسناً فان هذه المراكز هي التي ستمدها بالمعلومات على مدى الاربع والعشرين ساعة، وفي كل الأيام..." [14] .
وفي 20 شباط/فبراير عام 2002 كشفت صحيفة "نيورك تايمز" النقاب عن المشروع الأكثر غرابة للتلاعب بالنفوس. فمن أجل توجيه "الحرب الاعلامية" وتنفيذاً لتعليمات السيد رامسفيلد ومساعد وزير الدفاع السيد دوغلاس فايث، عمد البنتاغون سراً الى إنشاء دائرة سرية للتأثير الاستراتيجي اوكلت رئاستها الى الجنرال في سلاح الجو هو السيد سيمون واردر كانت مهمتها نشر المعلومات المغلوطة في خدمة الولايات المتحدة. واعطيت لدائرة التأثير الاستراتيجي هذه صلاحية ممارسة التضليل وخصوصاً مع وسائل الاعلام الأجنبية. وقد اكدت الصحيفة النيويوركية اليومية أن هذه الدائرة قد وقعت عقداُ بقيمة مئة الف دولار شهرياً مع غرفة اتصالات هي "راندون غروب" كانت قد استخدمت في العام 1990 خلال الاعداد لحرب الخليج والتي ركبت الخبر المغلوط على لسان "ممرضة" كويتية تؤكد انها رأت الجنود الأميركيين ينهبون مستشفى التوليد في الكويت و"ينتزعون المواليد الجدد من حاضناتهم ويقتلونهم دون رحمة وهم يرمونهم أرضاً" [15] . وجاء هذا الخبر حاسماً في اقناع أعضاء الكونغرس بالتصويت لصالح الحرب...
ومن المؤكد ان دائرة التأثير الاستراتيجي الذي اعلن حلها رسمياً بعد فضائح الصحافة لا تزال ناشطة. والا كيف يمكن تفسير بعض اكثر التحريفات ضخامة في الحرب الأخيرة على العراق؟ وبنوع الخاص الكذبة الكبيرة المتعلقة بالعملية الخارقة لتحرير الجندية جيسيكا لينش.
فما يمكننا تذكره أنه في اوائل نيسان/أبريل 2003 بثت كبريات وسائل الاعلام الأميركية فيضاً من التفاصيل المؤثرة حول قصتها. فقد كانت جيسيكا لينش واحدة من عشرة جنود أميركيين أسرتهم القوات العراقية. فإذ وقعت في كمين في 23 آذار/مارس ظلت تقاوم حتى النهاية مطلقة على مهاجميها النار حتى نفدت منها الذخيرة. وفي النهاية طُعنت وقُيدت واقتيدت الى مستشفى ميداني للعدو في الناصرية. وهناك تعرضت للضرب وسوء المعاملة على يد ضابط عراقي. وبعد أسبوع نجحت وحدات خاصة أميركية مجوقلة في تحريرها في عملية مفاجئة سبقها إطلاق نار كثيف وتفجيرات. وبالرغم من مقاومة الحرس العراقي نجح الكومندوس في دخول المستشفى والوصول الى جيسيكا وإعادتها بالهليكوبتر الى الكويت.
في مساء اليوم نفسه كان الرئيس بوش يعلن للأمة من البيت الأبيض تحرير جيسيكا لينش، وبعد ثمانية ايام سلّم البنتاغون الى وسائل الاعلام شريط فيديو صوِّر خلال الانجاز وفيه مشاهد جديرة بأفضل أفلام الحرب.
لكن حرب العراق انتهت في 9 نيسان/أبريل وانتقل عدد من الصحافيين، وبنوع خاص من صحف "لوس انجلس تايمز" و"تورونتو ستار" و"إل باييس" ومن شبكة "بي.بي.سي. وورلد"، الى الناصرية للتحقيق في رواية البنتاغون حول تحرير جيسيكا. وهناك سيصعقون. فبعد تحقيقاتهم مع الأطباء العراقيين الذين عالجوا الفتاة، وهو ما اكده الأطباء الأميركيون الذين فحصوها بعد تحريرها، فإن جراح جيسيكا (كسر في الساق واليد، والتواء في الكاحل) لم تكن ناتجة من إصابة بالرصاص وإنما بكل بساطة سببها الحادث الذي تعرضت له الشاحنة التي كانت تقلها... كما انها لم تتعرض لسوء المعاملة، بل بالعكس فإن الاطباء قد بذلوا كل جهد لمعالجتها، وبحسب ما روى الدكتور سعد عبد الرزاق: "كانت قد نزفت كثيراً وقد اضطررنا الى نقل الدم اليها. ولحسن الحظ ان افراداً من عائلتي كانوا يحملون فئة الدم نفسها، "أو إيجابي" فأمكننا الحصول على كمية كافية من الدم. كان نبضها قد وصل الى 140 ضربة عندما وصلت الينا، أعتقد أننا انقذنا حياتها [16] ".
وقد حاول هؤلاء الأطباء، في مجازفة متهورة، الاتصال بالجيش الأميركي من أجل تسليم جيسيكا. وقبل يومين من عملية تدخل الوحدات الخاصة كانوا قد نقلوا مريضتهم بسيارة الاسعاف على مقربة من الخطوط الأميركية. غير ان الجنود أطلقوا النار عليهم وكادوا ان يقتلوا بطلتهم...
كان وصولهم قبل طلوع فجر الثاني من أبريل/نيسان. وقد فاجأت الوحدات الخاصة مجهزة بتشكيلة من الأسلحة المتطورة العاملين في المستشفى. وكان الأطباء قبل يومين قد أبلغوا القوات الأميركية أن الجيش العراقي قد انسحب وأن جيسيكا في انتظارهم...
وقد روى الدكتور عمار عدي المشهد لجون كامفنر من محطة "بي.بي.سي": "بدا كأننا في فيلم هوليوودي. لم يكن هناك اي جندي عراقي، غير ان عناصر الوحدات الخاصة الأميركية كانوا يستخدمون أسلحتهم، ويطلقون في الهواء وكنا نسمع أصوات انفجارات، وهم يصرخون "غو!غو!غو!" فالهجوم على المستشفى كان نوعاً من عرض مشهدي او فيلم عنف مع سيلفستر ستالون" [17] .
وقد سجلت المشاهد بكاميرا للتصوير الليلي على يد مساعد سابق لريدلي سكوت في فيلمه "سقوط النسر الأسود" (2001). وبحسب روبرت شير من صحيفة "لوس أنجلس تايمز" فقد أرسلت هذه الصور بعد إعادة نركيبها، الى القيادة المركزية للجيش الأميركي في قطر وبعد ان دقق فيها البنتاغون بثها للعالم أجمع [18] .
إن قصة تحرير جيسيكا لينش سوف تحفظ في الكتب الخاصة بدعاية الحرب. وربما ستعتبر في الولايات المتحدة كإحدى اللحظات الأكثر بطولة في هذه الحرب. حتى وإن ثبت أنها قصة مختلقة مثل قصة "أسلحة الدمار الشامل"، التي يملكها السيد صدام حسين أو قصة العلاقة بين النظام العراقي السابق وتنظيم "القاعدة".
ففي نشوة التمتع بالسلطة خدع السيد بوش وحاشيته مواطنيهم الأميركيين والرأي العام العالمي. وإن أكاذيبهم تشكل، بحسب البروفسور بول كروغمان "أسوأ فضيحة في تاريخ الولايات المتحدة السياسي، أسوأ من ووترغيت وأسوأ من إيران غايت" [19] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] اقرأ“ De la guerre perpétuelle ”, Le Monde diplomatique, mars 2003.
[2] راجع
International Herald Tribune, 14 juin 2003 et El País, Madrid, 1er et 10 juin 2003
[3] Libération, Paris, 28 mai 2003
[4] http://www.commondreams.org/views03/0506-06.htm
[5] http://www.counterpunch.org/vips02082003.html
[6] International Herald Tribune, 5 juin 2003.
[7] http://www.scoop.co.nz/mason/stories/WO0305/S00308.htm
[8] تايم، المذكور سلبقا
[9] Le Monde, 10 et 20 mars 2003 ; Le Figaro, 15 février 2003. Lire aussi Anna Bitton, “ Ils avaient soutenu la guerre de Bush ”, Marianne, 9 juin 2003.
الآن وقد انكشفت الكذبة يتفاجئ المء بصمت هؤلاء..
[10] صحيفة إل باييس، مدريد،4/6/2003
[11] راجع على الانترنت موقع:
http://www.herodote.net/histoire02151.htm
[12] إقرأ:
" Entretien avec Noam Chomsky ", Télérama, 7 mai 2003.
[13] ينصح بنوع خاص بقراءة:
La Tyrannie de la communication, Gallimard, col. " Folio actuel ", no 92, Paris, 2001
[14] صحيفة واشنطن بوست، 1/11/2001.
[15] هذه الممرضة المزعومة كانت ابنة سفير الكويت في واشنطن، وقد اخترع شهادتها المزيفة ودبجها لمصلحة دائرة رندونغروب ميكايل ك.ديفر المستشار السابق لدى الرئيس ريغن في شؤون الاتصالات.
[16] صحيفة إل باييس،٧7/5/2003
[17] بي.بي.سي.، لندن، 18/5/2003، عنوانها على الانترنت:
http://news.bbc.co.uk/2/hi/programmes/correspondent/3028585.stm
[18] صحيفة لوس أنجلس تايمز،20/5/2003 راجع أيضاً موقع:
http://www.robertscheer.com
[19] صحيفة نيويورك تايمز،3/6/2003
جميع الحقوق محفوظة 20031© , العالم الدبلوماسي و مفهوم