|
كتابات من السّجن
حسين سليم
(Hussain Saleem)
الحوار المتمدن-العدد: 8138 - 2024 / 10 / 22 - 18:15
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
(2) أعمى بلا عصا
صديقتي لا تفارقني، ولا أفارقها منذ الصغر. أرى العالم القريب خلالها. وتجلب لي البعيد منه. دونها الضّباب حولي. تنام بجانبي كملاك وديع. تنام حين أنام وتستيقظ حين أستيقظ، هي كظِلّي في اللّيل والنّهار. أخاف عليها حتّى من نفسي. يكرهها أعدائي ويحبّها أصدقائي. تغفو على صدري بعض الأحيان. ومرّات أدعسها بالمنام، وفي حالات النسيان الكثيرة تدخل الحمّام معي، أو أبحث عنها وهي على رأسي، أخاف عليها من قطرات المطر، أو الغبار إذا مسها، وأخاف عليها من الضّباب أو عرق جبهتي إن تراكم عليها. كانت ومازالت جزءاً من أعضاء جسمي الأخرى، لا استطيع العيش دونها. كانت نظارتي الطبية أول الخسائر أو الضحايا في كلّ حادث، سواء في التحقيق أو السّجن. كان وقع خسارتها يقع على كاهل أمي المسكينة التي ابتليت بهذا الولد. مرّة سقطت على البلاط دون أن تتهشم، بصفعة من ضابط في (مديرية الأمن العامة)، بصق خلالها في وجهي بعصبية أبرزت الحقد المتراكم، على مَن ليس منّا فهو ضدنا. نادى على المفرزة القادمة من أمن الكرخ وقال: اعملوا له حفلة تليق به. كان المكتب الذي انتظرت فيه قدوم المفرزة يقع في الطابق الثاني من البناية، فيه سجلات كبيرة، وادراج متعددة مقسمة لكوادر وأعضاء الحزب، بدأ الشك يراودني، ما الذي يجري؟ يفترض أنني في حزب سِرّي، اتّبع أساليب الصيانة والعمل بصرامة! اقتادوني من (مديرية الأمن العامة) إلى (مديرية أمن الكرخ)، محاطاً باثنين من رجال الأمن في المقعد الخلفي لسيارة جيب ويداي موثوقتين إلى الخلف. أنظر من خلال النّافذة إلى حركة الناس في الكرادة داخل ثم جسر الجادرية. كان الوقت مساءً، والشارع في أوج ازدحامه بالناس والسيارات. أتسأل مع نفسي وشفتاي يابستان لم أذق طعم الماء أو الأكل منذ الصباح الباكر، ترى هل يعلم الناس أن في هذه السيارة أحد المغضوبين عليهم من الجهات الأمنية؟ هل هي نظراتي الساهية الأخيرة بمناظر الحياة هذه؟ هل ساعود يوماً في حركة الزخم هذا؟ قبل الوصول وضع أحدهم فوهة مسدسه على رأسي لأخفضه قبل دخولنا البناية. كنت أسمع ثلّة من رجال الأمن ينادون "جلبنا حسين" ادخلوني إلى غرفة يجلس خلف مكتبها أحدهم برتبة رائد يدعى الضابط السياسي. اجلسوني راكعاً على ركبتي ويديّ مقيدتين إلى الخلف. دار حديثاً بيننا رافقته الشتائم بما أنزل الله بها من سلطان، حين انكرت علاقتي بأي نشاط سياسي. وحين ازداد غضبه نهض من خلف الكرسي وتقدم نحوي، صفعني على وجهي فسقطت النظارة أمامي، تناول سكيناً طويلة أو ما يدعى " قامة"، بدأ يضرب نظارتي بالقامة حتّى تهشم زجاجها، ثم استمر بضربي على ظهري. كنت اشعر أنه يضرب عيني وأرى دم ينزف على السجّادة الحمراء يمتزج مع لونها. يمتد يغطي السجّادة ويصل مكتبه، الملف الذي طلبه والأوراق غدت حمراء، بدلته الرمادية تبدو حمراء أمامي. كلماته تطلق ضباباً أحمر، من فم ووجه محمّر، وحين غضب من اجابتي أغلق الملف ونادى على أحد الضباط أقل رتبة منه: خذوه احتفلوا به! …. وفي الزنزانة المشتركة لم أكن أرى بوضوح رغم ضوء المصباح المستمر، كانت حبات الرز الحمراء تلتصق بلحيتي الطويلة، وحين سألت الضابط الذي اتى لتفتيش الزنزانة كالمعتاد: انني لا أرى واحتاج ما تبقى من نظارتي إن لم تكن جديدة. قال بتهكم: لا تقلق سنجلب مع الغداء جزراً لتقوية بصرك! وحين جاء موعد المحاكمة بعد عدة أشهر، كنت بلا نظارة اتلمس طريقي أو أسال أحد المعتقلين. محكمة صورية اصدرت بالحبس المؤبد ضدي، لم أكن أرى بوضوح، كانت هالة من الضّباب أمامي لا أُميّز شيئاً سوى كتل زيتونية، وكتلة سوداء خرجت من باب جانبي قال حينها (عواد البندر) رئيس ما يسمى (محكمة الثورة): لقد انتدبت لكم المحكمة محامياً للدفاع عنكم. لم تستغرق مرافعته إلاّ بضع دقائق، طالب فيها بالحكم ضدنا وفق القانون! دخلت السّجن دون نظارة أيضاً حتّى واجهت أهلي وطلبت منهم أن يوفروا لي نظارة، اتتني بعد أسبوعين في المواجهة الأخرى وهذه النظارة لم تدم معي. ففي إحدى الليالي استدعينا إلى ضابط أمن السجن الذي عرض عليّ التعاون لكنني رفضت فصفعني على خدي وسقطت النظارة على البلاط وصلت الجدار المقابل بمكتبه، بقيت عدسة واحدة منها يتوسطها كسر وذراع يتحرك ربطته فيما بعد بخيط أو سلك معدني ثم اودعت المحجر لمدة قاربت أحد عشر يوماً، حتّى اتت المواجهة وطلبت نظارة أخرى . وحين خرجت من السّجن لم يكن في حوزتي نظارة وجدت نظارة لأحد أقاربي تنسجم مع قصر نظري فاستخدمتها حتّى خروجي إلى الاردن، بقيت سنة معي، قبل الانتقال إلى دمشق، التي شعرت بها بالأمان، وفيها تهشمت نظارتي في بيت صديق حين خطفها أحد ابنائه ورماها على الحائط، فاعطتني زوجة صديق آخر إطار نظارة نسائي غير مستخدم لديها، قلت يفي بالغرض فذهبت إلى محل نظارات وعملت عدسات له. بقي هذا الإطار معي لحين حصلت على عمل ومسكن في "مجلة"، فاشتريت واحدة جديدة،… فأنا دونها كالأعمى بلا عصا.
#حسين_سليم (هاشتاغ)
Hussain_Saleem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكايات شعبية من مدينة يثرب 5
-
حكايات شعبية من مدينة يثرب 4
-
حكايات شعبية من مدينة يثرب 3
-
صحة كبار السنّ
-
حكايات شعبية من مدينة يثرب 2
-
حكايات شعبية من مدينة يثرب
-
كان وليد واحدًا
-
المَوقِع
-
قرأت كتاباً: عنف الدكتاتورية
-
الانتحار السياسي في رواية عودة إلى وادي الخيول
-
رواية العمى بين الأدب والصحة العامة
-
الطب الاجتماعي
-
بين أيدي الآلهة
-
بائع الفطائر
-
علاقة
-
البُصاق
-
الإعلام البيئي والصحة
-
منفوش
-
منديل أبيض
-
الساحة
المزيد.....
-
ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر
...
-
الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج
...
-
مفوضية شؤون اللاجئين: 427 ألف نازح في الصومال بسبب الصراع وا
...
-
اكثر من 130 شهيدا بغارات استهدفت النازحين بغزة خلال الساعات
...
-
اعتقال رجل من فلوريدا بتهمة التخطيط لتفجير بورصة نيويورك
-
ايران ترفض القرار المسيّس الذي تبنته كندا حول حقوق الانسان ف
...
-
مايك ميلروي لـ-الحرة-: المجاعة في غزة وصلت مرحلة الخطر
-
الأمم المتحدة: 9.8 ملايين طفل يمني بحاجة لمساعدة إنسانية
-
تونس: توجيه تهمة تصل عقوبتها إلى الإعدام إلى عبير موسي رئيسة
...
-
هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست
...
المزيد.....
-
١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران
/ جعفر الشمري
-
في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية *
/ رشيد غويلب
-
الحياة الثقافية في السجن
/ ضرغام الدباغ
-
سجين الشعبة الخامسة
/ محمد السعدي
-
مذكراتي في السجن - ج 2
/ صلاح الدين محسن
-
سنابل العمر، بين القرية والمعتقل
/ محمد علي مقلد
-
مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار
/ اعداد و تقديم رمسيس لبيب
-
الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت
...
/ طاهر عبدالحكيم
-
قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال
...
/ كفاح طافش
-
ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة
/ حـسـقـيل قُوجـمَـان
المزيد.....
|