البيضة وحمص والمتاهة السائلة

حسان الجودي
(Hassan Al Joudi)

الحوار المتمدن-العدد: 8136 - 2024 / 10 / 20 - 00:00
المحور: قضايا ثقافية
    

في صباح شتائي بارد، حضرت إلى مطبخ العائلة الواسع المطل على القسم الشرقي القديم من أحياء مدينة حمص . كانت الشمس تتسلل بخجل عبر النافذة المغطاة بالصقيع، مُلقية بظلال رقيقة إلى الطاولة الخشبية المدهونة بالأبيض. تناولت بيضاً من الثلاجة لطهيه ، فسمعت تحذير والدتي وهي منهمكة في تحضير الشاي "احذر أن تكسر البيض!"
فالتفت إليها مداعباً وقلت: " إن وقعت مني إحداها، فهل تستطيعين إعادتها كما كانت؟"
ضحكت بصفاء ، وأخبرتني أن أذهب لمناقشة والدي في هذا الأمر.
كان تخيل المشهد برمته، وتخيل حضور والداي إلى بيتهما القديم من مقبرة " تل النصر" نوعاً من النوستالجياً ، وكان كافياً لفتح بوابة أمامي إلى عالم من التأملات. ، لم تعد البيضة مجرد طعام للإفطار، بل أصبحت كونًا صغيراً ، بيضة الوجود التي تحدث عنها ابن عربي قبل قرون.
تخيلت نفسي أقف على حافة الكون، أنظر إلى بيضة هائلة تحتوي كل شيء: النجوم، والمجرات، والأحلام، والذكريات. كل قطعة فيها تنبض باحتمالات لا حصر لها. وفكرت: ماذا لو انكسرت هذه البيضة الكونية؟ هل يمكن إعادة لصق شظاياها؟
عدت إلى الواقع عندما سمعت صوت انفجار بعيد. كانت الحرب قد بدأت بالتهام المدينة . وفي تلك اللحظة، وصلني صوت تهشم قشرة البيوت الاسمنتية الكالحة. فعرفت أن البيوت هشة وقابلة للكسر، وقابلة للالتهام أيضاً.
إنه قصف مرعب ، تكسير بيوض المكان ، والتهام العجة الدموية وإلغاء احتمال العودة في الزمن لبناء البيوت من جديد واستعادة الوطن والعواطف والعائلة والأصدقاء. ببساطة هو مستحيل يطابق المستحيل الفيزيائي لإعادة جمع أجزاء البيضة وفصل الخليط إلى بياض وصفار وإعادة لصقها ،بطريقة سحرية تعيد لها بهاء الشكل المخروطي القوي.
أسأل أمي من جديد، وأنا أتأمل بيضتي ، "إذا كان كل شيء قابلاً للكسر، فكيف أجد معنى في هذا العالم الهش؟"
أخذت أمي البيضة المسلوقة مني، وبحركة سريعة كسرتها في وعاء.، وفصلت الصفار المتماسك الذي أحبه عن البياض. وضعته فطوراً في صحني مع زيت الزيتون والكمون. ولم تقل كلمة واحدة، وغادرت من جديد إلى الأبد.
نظرت إلى البيضة، ثم إلى أنقاض المدينة . كلاهما هش، قابل للكسر بلحظة واحدة. وحين ينكسران، فلا عودة. ولا إصلاح.
أغمض عيني، أحاول استعادة رائحة حضور أمي في الصباح، ضحكات إخوتي في البيت، نظرات الحب الأولى في المدرسة الصيفية في الحميدية . لكن كل هذا الآن مثل محتويات بيضة مكسورة ، انسكبت على أرض الواقع القاسي، واختلطت بالتراب .
فكرت من جديد في كلمات ابن عربي عن "بيضة الوجود". هل كان يعلم أن الوجود بأكمله يمكن أن ينكسر هكذا؟ أن وطنًا بأكمله يمكن أن يتحول إلى شظايا لا يمكن جمعها؟
***
يد الحرب عملاقة لا مبالية، كسرت بيضة المكان. سكبت محتوياتها - ذكرياتنا، أحلامنا، على أرض باردة لا ترحم.
أمشي بين الأنقاض، كل حجر، كل قطعة أثاث محطمة، كل لعبة طفل مهشمة، هي بيضة صغيرة من الذكريات. كسرتها الحرب جميعًا، وتركتنا نحاول جمع الشظايا بأيدٍ تنزف أسئلة : هل يمكن خلق شيء من هذا الدمار الشامل؟
أخرج بيضة ثانية من الثلاجة ،أكسرها بحركة بطيئة على حافة حجر عار أراقب كيف ينساب البياض والصفار، يختلطان بالتراب والغبار. كما اختلطت الحياة بالدمار، ولا يمكن فصلهما بعد الآن.
وبينما أراقب البيض المنسكب، أرى شيئًا غريبًا يحدث. يبدأ في التشكل من جديد، ليس كبيضة، بل كشيء مختلف تمامًا. ربما هذا ما علينا فعله الآن. ليس محاولة استعادة ما كان، بل خلق شيء جديد من هذا المزيج الغريب من الذكريات المحطمة والواقع القاسي.
أقف وسط أطلال المدينة، وأدرك أنني أنا أيضًا لم أعد كما كنت. كسرت الحرب الجميع ، خضتهم بآلات هيدروليكية عملاقة ، ثم رمتهم من طوابق الجحيم . لكن ربما مثل البيضة المكسورة التي قد تتحول إلى وجبة، يمكننا أن نتحول إلى شيء جديد. شيء لم نكن نتخيله من قبل.
وبينما أغادر أطلال منزلنا، أحمل معي هذه الفكرة: أننا، مثل البيض المكسور، لا يمكن إعادتنا فيزيائياً إلى ما كنا عليه. لكن يمكننا أن نصبح شيئًا آخر، شيئًا مختلفاً، شيئًا ولد من قلب الانكسار نفسه.
شعرت بسلام غريب في العالم الذي بنيته لتوي بخيالي اليقظ ، ربما لأنني أدركت أنه مهما انكسر في عالمنا - بيوت، قلوب، أو حتى حضارات بأكملها - فإن جوهر الحياة، مثل محتويات البيضة، سيجد دائمًا طريقة للاستمرار، للتحول، وللتجدد..

#حسان_الجودي (هاشتاغ)       Hassan_Al_Joudi#          

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات