|
بوادر العدمية
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8135 - 2024 / 10 / 19 - 20:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
٢٥٤ أركيولوجيا العدم العدمية الثورية ٢ - البوادر الأولى للعدمية
العدمية، حسب التعاريف التقليدية، هي الفصل بين القيم والمعايير وبين الحقائق والحوادث الإجتماعية والسياسية، وتساهم في إلغاء التسلسل الهرمي للقيم وإستحالة تفضيل قيمة على أخرى، وذلك لعدم وجود أي معيار منطقي أو عقلي يبرر هذا التفاضل الهرمي الإجتماعي، وذلك بطبيعة الحال لعدو وجود متعال يفرض هذا التراتب، وحتى في حالة وجود قوة عليا تسن القيم والقوانين، فستظل هذه القيم عشوائية وغير مبررة عقليا. هذا الموقف يؤدي إلى ما يسميه أعداء العدمية باللاأخلاقية والتشكيك الأخلاقي والفساد الإجتماعي والإنحطاط والسقوط الحضاري … غالبًا ما ترتبط العدمية بفكرة كل شيء سواء، لا أهمية لأي شيء بالتحديد، أي بالنسبية المطلقة في كل شيء، لكنها ليست نتيجة ضرورية لهذه النسبية، حتى لو كانت إحداهما مشتقة من الأخرى. تعتمد العدمية على التشكيك في قوانين السببية والقصديات ومعياريات الوجود. إنه موقف أو عقيدة تنكر المطلق، وبالتالي تنزلق بالضرورة إلى النسبية. تنطبق هذه الفكرة العامة على مجالات مختلفة من الممارسات الفكرية والسياسية والإجتماعية .. الفلسفية والدينية والأدبية والأخلاقية والسياسية. غير أنه من الواضح أن سوء الاستخدام الشائع للكلمة وعدم تحديد محيطها، يؤدي إلى استخدام المصطلح كمرادف للانحطاط أو الشذوذ أو غياب القيم، وهو ما يروج له الفكر الديني والفكر المسطح الذي يرفض التجديد والنقد والبحث الإرتيابي في الموروث الفكري. يمكن رد ظهر المصطلح، حسب بعض المؤرخين إلى عام 1787 بقلم عالم الباطنية السويسري جاكوب هيرمان أوبريت Jacob Hermann Obereit الذي يرى في أعمال إيمانويل كانط، الذي ينتقد تعالي الذات بطريقة تأملية، نفي منهجي لليقين بالعالم الطبيعي، والذي ينتج عنه انفتاح الوعي الفارغ من المعنى والقضاء على إمكانية أي معرفة. وقد أكد هذا التعبير بخصوص العدمية الفلسفية الفيلسوف فريدريش هاينريش جاكوبي Friedrich Heinrich Jacobi في رسالة إلى يوهان جوتليب فيشته Johann Gottlieb Fichte، سنة 1799لانتقاد نظامه الفلسفي. غير أن بعض المؤرخين يذهبون إلى أبعد من هذه التواريخ، ويرجعون تاريخ أول الأحداث الموثقة إلى عام 1763 حيث يرتبط المصطلح ببعض مواضيع اللاهوت المسيحي، كما أن القسيس الفرنسي بيير بونهوم Pierre Bonhomme 1803-1861 أستخدم مصطلح العدمية في كتابه ضد أوراني Anti-Uranie أو الربوبية مقارنة بالمسيحية. كما أنه هناك إستشهادات وإقتباسات متعددة لمصطلح العدمية في التاريخ الأدبي لفرنسا منذ القرن الثاني عشر. غير أن كل ذلك لا يتعدى ذكر المصطلح بدون تعمق أو بحث في معناه الفلسفي. أما كمفهوم فلسفي، فتعود كلمة «العدمية» في البداية إلى القرن الثامن عشر، تحديدًا إلى المناظرات التي جرَت بين الفلاسفة الألمان بشأن تبِعات ميتافيزيقا التنوير، وبالذات نقد فلسفة كانط المثالية، حيث ورد المصطلح في صيغته الألمانية Nihilismus. وتوجد أمثلة سابقة لهذا الإستخدام للمصطلح في المنشورات الألمانية، ففي عام 1733، استخدمها الكاتب الألماني فريدريش ليبريشت جويتز Friedrich Leberecht Götze كمصطلح أدبي، وفي الفترة المحيطة بالثورة الفرنسية، كان المصطلح أيضًا محاولة لضحد بعض اتجاهات الحداثة المدمرة للقيم السائدة، أي إنكار المسيحية والتقاليد الأوروبية بشكل عام. فالعدمية إذا دخلت مجال الدراسة الفلسفية لأول مرة ضمن الخطاب المحيط بالفلسفات الكانطية وما بعد الكانطية وفي نقد المثالية الألمانية، وظهرت بشكل ملحوظ في كتابات الفيلسوف الألماني فريدريش هاينريش ياكوبي في عام 1799. وفي وقت مبكر من عام 1824، بدأ المصطلح يأخذ دلالة اجتماعية مع الكاتب والصحفي الألماني جوزيف فون غوريس Johann Joseph Görres، الذي عاش بين سنة 1776 وسنة 1848 وقد قد أقام علاقة سببية بين إنكار المؤسسات الاجتماعية والسياسية القائمة وبين فكرة العدمية. ثم أنتشرت الصيغة الروسية للكلمة، nigilizm - нигилизм، في عام 1829 عندما استخدمها نيكولاي ناديجدين Nikolai Nadezhdin،1856 -1804 وهو ناقد أدبي وأول عالم إثنوغرافي في روسيا، كمرادف للشكوكية أو الإرتيابية، مما أدى إلى إنتشار المصطلح وإثرائه بدلالات اجتماعية وسياسية متعددة في الصحافة الروسية. غير أن العديد من مؤرخي العدمية يعتبرون الروائي الروسي تورجينييف Tourgueniev، في رواية آباء وأبناء، 1861 أول من طرق هذا الموضوع وجسّد العدمية في شخصية روائية، حيث تخيل الطالب المادي بازاروف Bazarov كأول شخصية عدمية في تاريخ الأدب الإجتماعي، والتي يعالج فيها الأزمة العميقة التي كانت روسيا تمر بها في منتصف القرن التاسع عشر، حيث يدافع طالب العلم بازاروف عن النظام الجديد ليقف ضد النظام القديم، الأبناء ضد الآباء، العدميون ضد المثاليين والعلم ضد الخيال، "الكيميائي الصادق أكثر فائدة بعشرين مرة من أي شاعر". ولكن كما رأينا، فإن مقولة العدمية كانت متواجدة في العديد من الكتابات الأدبية والفلسفية واللاهوتية منذ القديس أوغسطين في بحثه عن تفسير الشر أو عن فهم ميكانيكية الزمن. فالكلمة ذات أصل لاتيني، Nihilisme مشتقة من الإسم Nihil أي "لاشيء"، مما يشرح سبب تواجدها في نصوص القديس أوغسطين.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أصول العدمية
-
العدم الوجودي
-
لماذا الكون ؟
-
حدوث أم أزلية الكون
-
دموع البحر
-
مسرحية ماكرون ونتنياهو
-
نظرية كل شيء
-
الشعب الذي يرفض أن يموت
-
لماذا لا نزحف على إسرائيل ؟
-
المادة العجيبة
-
عن العرب والإسلام والتخلف
-
ما هي المادة ؟
-
لماذا العبور
-
أزمة الفيزياء النظرية
-
عالم الذرة وعالم المجرات
-
نهاية العالم بين الجحيم والجليد
-
الأدلة على نظرية Big Bang
-
مراحل الإنفجار الكبير
-
الثانية الأولى من الإنفجار الكوني
-
نظرية تمدد الكون
المزيد.....
-
ترامب يريد معادن أوكرانيا الثمينة والنادرة مقابل الدعم المال
...
-
الصفدي يكشف عن رسالة لوزير الخارجية الأمريكي بشأن -حل الدولت
...
-
قاعدة عسكرية تركية وسط سوريا.. أنقرة ستوسع حضورها العسكري في
...
-
بعد سنوات في قيادة الناتو.. ينس ستولتنبرغ على رأس وزارة الم
...
-
شتاينماير يتفقد قوات بلاده في الأردن ويجري محادثات مع الملك
...
-
حاكم ولاية تكساس يوجّه الحرس الوطني بفرض قانون الهجرة على ال
...
-
بيدرسون يعلق على -نجاح المرحلة الانتقالية السياسية في سوريا-
...
-
تحذير جديد.. ارتفاع -مقلق- في مستويات البلاستيك الدقيق داخل
...
-
بيسكوف: العالم يصبح متعدد الأقطاب ولا يمكن تجاهل ذلك
-
حل لغز الغبار المشع الذي جاء إلى أوروبا من إفريقيا
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|