أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - عبدالرحيم قروي - من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - فريدريك أنجلز-أصل العائلة و الملكية الخاصة والدولة3















المزيد.....


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - فريدريك أنجلز-أصل العائلة و الملكية الخاصة والدولة3


عبدالرحيم قروي

الحوار المتمدن-العدد: 8134 - 2024 / 10 / 18 - 22:12
المحور: الارشيف الماركسي
    


الحلقة الثالثة

2 ـ العائلة
إن مورغان الذي أمضى القسم الأكبر من حياته بين الإيروكوا الذين لا يزالون يعيشون اليوم في ولاية نيويورك، و الذي تبنته إحدى قبائلهم (قبيلة سينيكا)، قد اكتشف عندهم نظاماً للقرابة يتناقض مع علاقاتهم العائلية الفعلية. فقد كان يسود عندهم ذلك الزواج الأحادي، الذي يسهل على كل من الطرفين المعنيين حله، و الذي يسميه مورغان "العائلة الثنائية". و لهذا كانت ذرية هذين الزوجين معروفة و معترف بها من الجميع: فلم يكن من الممكن أن يقوم أي شك فيما يتعلق بالأشخاص الذين ينبغي إطلاق أسماء الأب و الأم و الابن و الابن و الأخ و الأخت عليهم. و لكن استعمال هذه التعابير في الواقع يناقض هذا الأمر. فإن الإيروكوي لا يسمي أولاده بالذات و حسب بأبنائه و بناته، بل أيضاً أولاد أخوته، و هؤلاء يسمونه بوالدهم. أما أولاد أخواته، فيسميهم بأبناء و بنات أخواته، و هؤلاء يسمونه بخالهم. و على العكس تسمي الإيروكوية أولاد أخواتها، مثل أولادها بالذات، بأبنائها و بناتها، و أولاد أخواتها يسمونها بأمهم. أما أولاد أخوتها، فتسميهم بأبناء و بنات أخوتها، و تسمى هي عمة. و أولاد الأخوة يسمون بعضهم بعضاً بالأخوة و الأخوات، شأنهم شأن أولاد الأخوات. و على العكس، يسمي أولاد المرأة و أولاد أخيها بعضهم بعضاً " بالأخوة و الأخوات من المرتبة الثانية" (أي بأبناء و بنات الخال و العمة) و ليست هذه مجرد أسماء لا معنى لها و لا أهمية، بل تعابير عن النظرات القائمة فعلاً إلى القرابة و البعد، و إلى المساواة وعدم المساواة في قرابة الدم، و هذه النظرات تشكل أساس نظام للقرابة موضوع بصورة كاملة، و بوسعه أن يعكس بضع مئات من مختلف علاقات القربى لدى فرد واحد. و فضلاً عن ذلك، لا يسري مفعول هذا النظام كلياً عند جميع الهنود الحمر الأميركيين و حسب ( و حتى الآن لم يظهر أي استثناء له) بل يسود أيضاً بدون تغيير تقريباً عند أقدم سكان الهند، أي عند قبائل ديكان الدرافيدية و قبائل غاوورا في هندوستان. إن أسماء القرابة عند قبائل تاميل في الهند الجنوبية و عند الإيروكوا من قبيلة سينيكا في ولاية نيويورك لا تزال حتى الآن متماثلة فيما يتعلق بأكثر من مائيتين من مختلف علاقات القرابة. و علاقات القرابة ، الناجمة من شكل العائلة القائم ، تناقض كذلك نظام القرابة سواء عند هذه القبائل الهندية أم عند جميع الهند الحمر الأميركيين.
فكيف نفسر هذا؟ نظراً للدور الحاسم الذي تضطلع به القرابة في النظام الاجتماعي عند جميع الشعوب المتوحشة و البربرية، لا يمكن بمجرد الجمل إزالة أهمية هذا النظام المنتشر هذا الانتشار الواسع. و أن نظاماً يسود في كل مكان من أميركا و يوجد كذلك في آسيا عند شعوب من عرق آخر تماماً، و يقوم بكثرة بأشكال معدلة إلى هذا الحد أو ذاك في كل مكان من إفريقيا و أوستراليا، إن نظاماً كهذا يتطلب تفسيراً تاريخياً، و لا يمكن التهرب منه بالكلمات، كما حاول أن يفعل ذلك، مثلاً، ماك-لينان (15). إن أسماء الأب و الولد و الأخ و الأخت، ليست مجرد ألقاب فخرية، بل تستتبع واجبات متبادلة محددة تماماً، و جدية جداً، يشكل مجموعها قسماً جوهرياً من النظام الاجتماعي عند هذه الشعوب. و قد وجد التفسير. ففي جزر السندويتش (هاواي)، كان لا يزال يوجد في النصف الأول من القرن الحالي، القرن التاسع عشر، شكل للعائلة يقوم فيه آباء و أمهات و أخوة و أخوات و أبناء و بنات و أخوال و خالات و أعمام و عمات و أبناء و بنات أخ أو أخت كالذين يقتضيهم نظام القرابة في أميركا و في الهند القديمة. و لكن، يا للغرابة! فإن نظام القرابة الساري المفعول في جزر هاواي لم يكن يتطابق هو أيضاً مع شكل العائلة الموجودة هناك فعلاً. فالواقع أن جميع أولاد الأخوة و الأخوات بلا استثناء يعتبرون هناك أخوة و أخوات و أولاد مشتركين لا لأمهم و أخواتها و حسب أو لوالدهم و أخوته، بل أيضاً لجميع أخوة و أخوات والديهم بلا تمييز. و لذا، إذا كان نظام القرابة الأميركي يفترض شكلاً للعائلة أكثر بدائية لم يعد له وجود في أميركا و لا نزال نجده بالفعل في جزر هاواي، فإن نظام القرابة الهاوايي يشير، من جهة أخرى، إلى شكل للعائلة أقدم عهداً من ذاك، لم يعد بإمكاننا في الوقت الحاضر، و الحق يقال، أن نجده في أي مكان، و لكنه كان من كل بد موجوداً و إلا لما كان من الممكن أن ينشأ نظام القرابة المناسب.
يقول مورغان:
"إن العائلة عنصر نشيط، فعال. فهي لا تبقى أبداً كما هي عليه بدون أي تغيير، بل تنتقل من شكل أدنى إلى شكل أعلى بقدر ما يتطور المجتمع من درجة دنيا إلى درجة عليا. أما أنظمة القرابة، فهي ، على العكس، خاملة، غير نشيطة. و هي لا تسجل، إلا بعد مرور حقبات طويلة من الزمن، ذلك التقدم الذي تحققه العائلة في خلال هذه الحقبات، و لا تطرأ عليها أي تغيرات جذرية إلا عندما تكون العائلة قد تغيرت بصورة جذرية" (16).
و يضيف ماركس قائلاً:
"كذلك هي الحال بالضبط فيما يتعلق بالأنظمة السياسية و الحقوقية و الدينية الفلسفية على العموم"(17).
فبينا العائلة تواصل تطورها، يتحجر نظام القرابة، و بينا هذا الأخير يظل قائماً بحكم العادة، تتجاوز العائلة حدوده. و لكن بنفس اليقين الذي استطاع كوفيه أن يستنتج به من عظام جرابية الشكل لهيكل حيوان وجدها في ضواحي باريس بأن هذا الهيكل هو هيكل حيوان جرابي و بأنه كانت تعيش هناك فيما مضى حيوانات جرابية انقرضت بعد ذاك،بنفس هذا اليقين نستطيع نحن أن نستنتج من نظام القرابة الذي وصل إلينا عبر التاريخ، أنه كان يوجد شكل للعائلة زال اليوم من الوجود و كان مناسباً له.
إن أنظمة القرابة و أشكال العائلة ، التي ذكرناها آنفاً، تختلف عن الأنظمة و الأشكال السائدة حالاً بوجود عدة آباء و أمهات للولد الواحد. فبموجب نظام القرابة الأميركي الذي تناسبه العائلة الهاوايية، لا يمكن للأخ و الأخت أن يكونا والد و أم الولد نفسه. و لكن نظام القرابة الهاوايي يفترض عائلة كان فيها ذلك، بالعكس، هو القاعدة. و هنا نواجه جملة من أشكال العائلة تناقض مباشرة الأشكال التي كانت تعتبر عادة حتى الآن الأشكال الوحيدة. إن المفهوم التقليدي لا يعرف غير الزواج الأحادي، إلى جانبه تعدد زوجات الرجل، و بالإضافة إليه عند اللزوم، تعدد أزواج المرأة، و لكنه، فضلاً عن ذلك، يلزم الصمت، كما يليق بالتافه الضيق الأفق الواعظ، حول أن الممارسة تتعدى الحدود التي يرسمها المجتمع الرسمي، و تتعداها خلسة، و لكن بدون تكلف. و على العكس، تبين لنا دراسة التاريخ البدائي ظروفاً يعيش فيها الرجال في حالة تعدد الزوجات و تعيش فيها زوجاتهن في الوقت نفسه في حالة تعدد الأزواج، و يعتبر فيها، لهذا السبب، أولاد هؤلاء و أولئك أولاداً مشتركين لهم جميعهم، ظروفاً طرأت عليها بدورها سلسلة كاملة من التغيرات قبل أن تندمج نهائياً في الزواج الأحادي. و هذه التغيرات هي على نحو بحيث أن الحلقة التي تشملها عرى الزواج المشتركة، و التي كانت في البدء واسعة جداً، أخذت تتقلص أكثر فأكثر إلى حد أنه لم يبق، في آخر المطاف، غير الزوج المتميز الذي يهيمن في الوقت الحاضر.
إن مورغان، و قد بعث على هذا النحو تاريخ العائلة بتسلسل معكوس، يخلص إلى القول، بالاتفاق مع غالبية زملائه، بأنه كان يوجد وضع بدائي كانت فيه العلاقات الجنسية غير المحدودة تسود داخل القبيلة بحيث إن كل امرأة كانت تخص كل رجل و بحيث إن كل رجل كان يخص كل امرأة. و منذ القرن الماضي، أخذوا يتحدثون عن هذا الوضع البدائي، و لكنهم كانوا يكتفون بالجمل و التعابير العامة، إلا أن باهوفن وحده- و هنا تقوم إحدى مآثره الكبيرة- نظر إلى هذه المسألة نظرة جدية و شرع يبحث عن آثار هذا الوضع في الحكايات التاريخية و الدينية (18). و نحن نعرف الآن أن هذه الآثار التي وجدها لا تعود بنا البتة إلى طور اجتماعي من علاقات جنسية غير منظمة، بل إلى شكل ظهر بعد ذلك بوقت كبير، إلى الزواج الجماعي. أما الطور الاجتماعي البدائي المنوه به هنا، هذا إذا كان قد وجد فعلاً، فإنه يعود إلى عهد بعيد عنا إلى حد أنه يستحيل علينا تقريباً أن تأمل بأننا سنجد بين الدفائن الاجتماعية، و بين المتوحشين المتخلفين، براهين مباشرة على وجوده فيما مضى. و مأثرة باهوفن تتلخص على وجه الضبط في كونه طرح بحث هذه المسألة في المرتبة الأولى*
و في الآونة الأخيرة، أصبح من الدارج إنكار هذا الأطوار الأولية من حياة الناس الجنسية. فالمقصود إنقاذ البشرية من هذا "العار". و لهذا الغرض، لا يستشهدون بعدم وجود أي برهان مباشر و حسب، بل يركزون أيضاً بوجه خاص على مثال بقية العالم الحيواني، و في هذا الميدان، جمع ليتورنو ("تطور الزواج و العائلة"، 1888) (19) وقائع كثيرة تبين أن العلاقات الجنسية غير المنظمة إطلاقاً تلازم، هنا أيضاً ، درجة دنيا من التطور. و لكن كل ما أستطيع استخلاصه من هذه الوقائع، هو أنها لا تثبت أي شيء على الإطلاق فيما يخص الإنسان و ظروف حياته البدائية. فإن المساكنة الزوجية الطويلة الأمد عند الفقاريات تفسرها بصورة كافية الأسباب الفيزيولوجية: فعند الطيور ، مثلاً، تفسرها حاجة الأنثى إلى المساعدة و الحماية في مرحلة حضانة البيض و الأفراخ، و أن أمثلة على متانة أحادية الزواج عند الطيور لا تثبت شيئاً فيا يتعلق بالناس لأن الناس لا يتحدرون من الطيور. و إذا كانت أحادية الزواج الصرف ذروة كل فضيلة، فإن قصب السبق في هذا لمجال يعود عن حق و استحقاق إلى الدودة الشريطية التي يوجد في كل من عقدها أو مفاصلها الـ 50 إلى 200، جهاز تناسلي كامل للذكر و الأنثى، و التي تقضي حياتها كلها في مضاجعة نفسها بنفسها في كل من عقدها هذه. أما إذا اقتصرنا على الضرعيات، فإننا نجد عندها جميع أشكال الحياة الجنسية: العلاقات غير المنظمة، و أشكالاً مماثلة للزواج الجماعي، و تعدد الزوجات، و الزواج الأحادي، و لا ينقص غير تعدد الأزواج، الذي لم يستطع أن يبلغه غير البشر. و حتى عند أقرب أقربائنا القرود، يظهر تجمع الذكور و الإناث بجميع الأشكال الممكنة، و إذا أخذنا نطاقاً أضيق، و إذا لم نأخذ بالحسبان غير الأنواع الأربعة من القرود الشبيهة بالإنسان، فإن كل ما يستطيع ليتورنو أن يقوله لنا في هذا الصدد، هو أننا نجد عندها أحادية الزواج تارة و طوراً تعدد الزوجات ، في حين أن سوسور يؤكد، بالاستناد إلى جيرو-طولون، أنها أحادية الزواج. ثم أن تأكيدات فسترمارك الحديثة ("تاريخ الزواج البشري"، لندن، 1891)(20) حول أحادية الزواج (21) عند القرود الشبيهة بالإنسان هي أيضاً أبعد من أن تشكل برهاناً و بكلمة ، إن المعطيات المتوفرة لعلى نحو بحيث أن الفاضل و النزيه ليتورنو يعترف بأنه:
"لا توجد أبداً، مع ذلك، عند الضرعيات، مطابقة دقيقة بين درجة التطور العقلي و شكل العلاقات الجنسية"(22).
أما إيسبيناس ("في المجتمعات الحيوانية"، 1877) فيقول صراحة:
"القطيع هو أعلى جماعة اجتماعية يمكننا أن نراقبها عند الحيوانات. و هي تتألف ، على ما يبدو، من عائلات، و لكن العائلة و القطيع في تناحر منذ بادئ بدء، و كل منهما يتطور باتجاه معاكس لتطور الآخر"(23).
و هكذا، كما يتبين مما قيل أعلاه، نحن لا نعرف تقريباً أي شيء دقيق عن الجماعات العائلية و غيرها من المجموعات العائشة معاً من القرود الشبيهة بالإنسان، و المعطيات المتوافرة يناقض بعضها بعضاً تماماً. و لا غرابة. فما أشد التناقض حتى بين المعطيات المتوافرة لنا عن القبائل البشرية في طور الوحشية و ما أكثر ما تحتاج إلى التحليل و الدراسة و الغربلة بعين نقادة! و الحال، أن مراقبة مجتمعات القرود أصعب بكثير من مراقبة المجتمعات البشرية. و لذا ينبغي لنا أن ننبذ كل استنتاج مستخلص من هذه المعطيات المشكوك فيها إطلاقاً ، طالما لم نحصل على معطيات أوضح و أوسع.
أما فكرة إيسبيناس التي استشهدنا بها آنفاً، فإنها، على العكس، تعطينا نقطة ارتكاز أمتن. فإن القطيع و العائلة عند الحيوانات العليا لا يكملان بعضهما بعضاً، بل يناقض بعضهما بعضاً. و يبين إيسبيناس جيداً جداً كيف تضعف غيرة الذكور، أثناء فترة الهيجان، لحمة القطيع أو تقضي عليها مؤقتاً. "حيث العائلة و ثيقة اللحمة، لا يتشكل القطيع إلا بصورة استثنائية جداً. و لكن القطيع يتشكل ، على العكس، من تلقاء نفسه تقريباً حيث تسود إما المجامعة الجنسية الحرة و إما تعدد الأزواج... و لكي يتشكل القطيع، كان لا بد أن تضعف الروابط العائلية و أن يستعيد الفرد حريته. و لهذا نادراً جداً ما نرى أسراباً منظمة عند الطيور ... أما عند الضرعيات، فإننا نجد ، على العكس، مجتمعات منظمة إلى درجة ما، و ذلك على وجه الضبط لأن الفرد هنا لا تبتلعه العائلة ... و لهذا لا يمكن أن يجابه الشعور بجماعية القطيع لدن نشوئه عدواً أكبر من الشعور بجماعية العائلة. و نقول صراحة: إذا كان قد قام و تطور شكل اجتماعي أعلى من العائلة، فإن ذلك لم يحدث إلا لأن هذا الشكل قد أذاب في داخله العائلات التي طرأت عليها تغيرات جذرية، مع العلم أنه ليس من المستبعد أن يكون ذلك على وجه الضبط ما أتاح فيما بعد للعائلات أن تتشكل من جديد في ظروف أكثر ملائمة إلى ما لا حد له". (إيسبيناس. المرجع المذكور. فقرة أوردها جيرو –طولون في مؤلفه "أصل الزواج و العائلة"، عام 1884).
و من هنا نرى أن للمجتمعات الحيوانية قيمة ما بالنسبة للاستنتاجات التي يجب استخلاصها منها بصدد المجتمعات البشرية، و لكن هذه القيمة سلبية فقط. فعند الفقاريات العليا، حسبما نعرف، لا يوجد غير شكلين من العائلة: تعدد الزوجات، و المعايشة أزواجاً منفردة، و كل من الشكلين لا يجيز سوى ذكر راشد واحد، سوى زوج واحد. إن غيرة الذكر التي تشد عرى العائلة الحيوانية و تحدها في آن واحد تجعل العائلة مضادة للقطيع. و إذا القطيع، هو شكل أعلى للمعاشرة، يزول أحياناً بسبب هذه الغيرة و أحياناً يفقد لحمته أو ينحل أثناء فترة اليهجان، أو يتوقف تطوره، في أفضل الأحوال. و هذا وحده يكفي لتقديم البرهان على أن العائلة الحيوانية و المجتمع البشري البدائي شيئان لا يتفقان، و أن الناس البدائيين الذين تخلصوا من الحالة الحيوانية (بفضل العمل)، إما أنهم لم يعرفوا العائلة على الإطلاق و إما أنهم، في أفضل الأحوال، عرفوا عائلة غير موجودة عند الحيوانات. فإن الحيوان غير المسلح، كما كان عليه الإنسان بسبيل التكون، كان بوسعه ، أغلب الظن، أن يبقى بعدد غير كبير حتى في حالة العزلة التي كان أعلى شكل للمعاشرة فيها هو شكل المعايشة أزواجاً كالذي تعيش فيه ، على حد قول فسترمارك بالاستناد إلى حكايات لصيادين، قرود الغوريللا و الشمبانزي. و لكن لأجل الخروج في سياق التطور من الحالة الحيوانية لأجل تحقيق التقدم الأكبر الذي تعرفه الطبيعة، كان لا بد من عنصر آخر: كان ينبغي إحلال قوة القطيع الموحدة و أعماله الجماعية محل نقص قدرة الفرد على الدفاع. و أنه ليستحيل إعطاء تفسير للانتقال من هذه الظروف التي تعيش فيها حالياً القرود الشبيهة بالإنسان إلى الحالة البشرية. فإن هذه القرود تظهر بالأحرى بمظهر خطوط جانبية منحرفة محكوم عليها بالاندثار تدرجياً و بسبيل الانحطاط و الزوال على كل حال. و هذا وحده يكفي للامتناع عن إجراء أي مقارنات بين أشكل العائلة عندها و عند الإنسان البدائي. ذلك أن التساهل المتبادل بين الذكور الراشدين و انعدام الغيرة كانا الشرط الأول لنشوء جماعات أكثر اتساعاً و أطول عمراً لم يكن من الممكن أن يتحقق تحول الحيوان إلى إنسان إلا في وسطها. و بالفعل ، أي شيء نجده بوصفه أقدم و أبكر شكل للعائلة، بوصفه الشكل الذي نقدم الدليل المفحم على وجوده في التاريخ و الذي يمكننا أن ندسه في الوقت الحاضر أيضاً هنا و هناك؟ الزواج جماعات جماعات (الزواج الجماعي) ، شكل الزواج الذي كانت بموجبه جماعات كاملة من الرجال و جماعات كاملة من النساء تخص بعضها بعضاً بصورة متبادلة و الذين كان يترك مجالاً صغيراً جداً للغيرة. و فيما بعد، في درجة لاحقة من التطور، نجد شكلاً استثنائياً كما هو عليه شكل تعدد الأزواج الرجال الذي يناقض، تناقضاً صارخاً، بالتأكيد، كل شعور بالغيرة، و الذي هو بالتالي غير معروف عند الحيوانات. و لكن الأشكال التي نعرفها من الزواج الجماعي تقترن بشروط متشابكة و معقدة إلى حد أنها تشير بالضرورة إلى أشكال للمعاشرة الجنسية أبكر عهداً و أكثر بساطة، و تشير في الوقت نفسه، في آخر المطاف، إلى مرحلة من العلاقات الجنسية غير المنظمة تناسب الانتقال من الحالة الحيوانية إلى الحالة البشرية، و لهذا تعود بنا الاستشهادات بأشكال الزواج عند الحيوانات إلى نفس النقطة التي كان يجب أن تبعدنا عنها مرة واحدة و إلى الأبد.
فماذا يعني تعبير: العلاقات الجنسية غير المنظمة؟ إنه يعني إن القيود المانعة السارية المفعول في زمننا أو في زمن أسبق لم تكن سارية المفعول آنذاك. و قد سبق لنا و رأينا سقوط القيد الذي تشترطه الغيرة. و من الثابت أن الغيرة شعور تطور في مرحلة لاحقة نسبياً. و يمكن قول الشيء نفسه بصدد مفهوم سفاح القربى. فإن الأخ و الأخت كانا في المرحلة البدائية زوجاً و زوجة، و ليس هذا و حسب، بل أن شعوباً كثيرة لا تزال في الوقت الحاضر تجيز العلاقة الجنسية بين الآباء و الأولاد. و يشهد بانكروفت ("العروق الأصلية في ساحل المحيط الهادئ من أميركا الشمالية"، عام 1875، المجلد الأول (24)) على وجود مثل هذه العلاقات عند الكافياك المقيمين عند سواحل مضيق بيرينغ و عند سكان جزيرة كادياك في جوار ألاسكا و عند التينّه المقيمين في القسم الداخلي من أميركا الشمالية البريطانية، و يعطي ليتورنو موجزاً لمثل هذه الوقائع عند الهنود الحمر الشيبيوي و عند الكوكوس في التشيلي، و عند الكاراييب و عند الكارين في شبه جزيرة الهند الصينية، هذا بالإضافة إلى حكايات قدماء اليونانيين و الرومانيين عن البارثيين و الفرس و السقيتيين و الهون و غيرهم. و قبل اكتشاف سفاح القربى (و هذا اكتشاف حقاً و فعلاً، بل هو اكتشاف فائق القيمة) ، لم يكن من المكن أن تثير العلاقة الجنسية بين الآباء و الأولاد نفوراً أكبر من ذاك الذي تثيره العلاقة الجنسية بين أشخاص آخرين ينتمون إلى أجيال مختلفة، و الحال، لا يزال يحدث هذا الآن في أكثر البلدان تفاهة و ابتذالاً دون أن يثير شديد الاشمئزاز، فحتى "الآنسات" العوانس ممن تجاوزن الستين من العمر يتزوجن أحياناً، إذا كن غنيات، من شبان في الثلاثين من العمر. أما إذا طرحنا عن أبكر أشكال العائلة، التي نعرفها، مفاهيم سفاح القربى المقرونة بها – و هي مفاهيم تختلف تماماً عن مفاهيمنا، و تناقضها كلياً أحياناً كثيرة- لوجدنا شكلاً من العلاقات الجنسية لا يمكن نعته إلا بأنه غير منظم. غير منظم، لأن القيود التي فرضها العرف و العادة فيما بعد لم تكن قد ظهرت بعد. و لكنه لا ينجم أبداً من هنا أن التشوش التام في ممارسة هذه العلاقات يومياً كان أمراً محتماً. فإن المعايشة المؤقتة بين بعض الأزواج لم تكن أبداً مستبعدة إذ أن حالاتها غدت الآن أغلبية الحالات حتى في ظل الزواج الجماعي. و إذا كان فسترمارك، و هو أحدث البحاثة الذين ينكرون مثل هذا الوضع البدائي، ينعت بالزواج كل حالة يبقى فيها الجنسان (الرجل و المرأة ) متحدين في مساكنة زوجية حتى ولادة نسل منهما، فإنه ينبغي القول أنه كان من الممكن أن يقوم مثل هذا النوع من الزواج في ظل العلاقات الجنسية غير المنظمة، دون أن يناقض أبداً حالة انعدام التنظيم، أي حالة انعدام القيود التي يفرضها العرف و العادة على العلاقات الجنسية. صحيح أن فسترمارك ينطلق من النظرة القائلة أن:
"انعدام التنظيم يفترض خنق الميول الفردية"، و لذلك "كان البغاء (25) أصح أشكاله".
أما أنا، فيخيل إلي، على العكس، أنه يستحيل فهم الظروف البدائية طالما ينظرون إليها حسب مفهوم بيوت الدعارة. و سنعود إلى هذه المسألة عند دراسة الزواج الجماعي.
الهوامش:
(15)استخدم إنجلس، عند إعداد الطبعة الأولى من مؤلفه، كتابي ماك-لينان التاليين: "Primitive Marriage. An Inquiry into the Origin of the Form of Capture in Marriage Ceremonies" Edinburgh, 1865 "Studies in Ancient History comprising a Re-print- of "Primitive Marriage. An Inquiry into the Origin of the Form of Capture in Marriage Ceremonies"". London 1876 و فيما بعد، أخذ إنجلس كذلك بالحسبان، عند إعداد الطبعة الرابعة من كتابه (عام 1891)، الطبعة الجديدة لكتاب ماك- لينان الأخير الصادرة في لندن و نيويورك عام 1886.
(16)L. H. Morgan . "Ancient Society". London,1877. (ل. هـ. مورغان. "المجتمع القديم" لندن، 1877).
(17)كارل ماركس. "ملخص كتاب لويس هـ. مورغان "المجتمع القديم"".
(18)المقصود هنا كتاب J.J.Bachofen. "Das Mutterrecht.Eine Untersuchung über die Gynaikokratie der alten Welt nach ihrer religiösen und rechtlichen Natur". Stuttgart, 1861. (باهوفن. "حق الأم. بحث في حكم النساء في العالم القديم على أساس طبيعته الدينية و الحقوقية". شتوتغارت، 1861).
(19)Ch. Letourneau. "L évolution du mariage et de la famille". Paris, 1888 (ش. ليتورنو. "تطور الزواج و العائلة". باريس، 1888).
(20)E.Westermarck. "The History of Human Marriage". London and New York 1891. (فستر مارك. "تاريخ الزواج البشري" لندن و نيويورك ، 1891).
(21)رأي سوسور هذا ورد في كتاب. A. Girard- Teulon . "Les origines du mariage et de la famille" Genève, Paris, 1884. (جيرو-تولون. "أصل الزواج و العائلة". جينيف و باريس 1884.
(22)Ch. Letourneau. "L évolution du mariage et de la famille". Paris, 1888 (ش. ليتورنو. "تطور الزواج و العائلة". باريس، 1888).
(23)A.Espinas. "Des sociétés animales". Paris, 1877 ( أ. إيسبيناس. "في المجتمعات الحيوانية" باريس، 1877 ). يستشهد إنجلس بإيسبيناس نقلاً عن الصفحة 518 من كتاب جيرو طولون (الملاحظة رقم 20) الذي ورد فيه مقطع من هذا البحث كملحق.
(24)H.H. Bancroft. "The Native Races of the Pacific States of North America" Vol I-V, New York, 1875. (هـ. هـ. بانكروفت. "العروق الأصلية في ساحل المحيط الهادي من أميركا الشمالية" المجلدات1-5، نيويورك، 1875).
(25)E.Westermarck. "The History of Human Marriage". London and New York 1891. (فستر مارك. "تاريخ الزواج البشري" لندن و نيويورك ، 1891).
يتبع



#عبدالرحيم_قروي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - فريدريك أنجلز-أصل العائلة و ال ...
- 1من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - فريدريك أنجلز-أصل العائلة و ا ...
- فيسبوكيات 5
- في الحياة ما يستحق الذكرى 15
- مسؤولية المثقف في التطور الحضاري
- بين حركة التحرر وحق الشعوب في تقرير مصيرها
- مساهمة المثقف العضوي في التغيير
- ليس للسارق انسب من اطفاء كل الاضواء لنهب ما حلو له
- في الحياة ما يستحق الذكرى 14
- تذكير برد مستفز عن بدايات وضعنا اليساري المأزوم
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل ...
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل ...
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل ...
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل ...
- في الحياة ما يستحق الذكرى12
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل ...
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل ...
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل ...
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل ...
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل ...


المزيد.....




- محلية الناصرية للحزب الشيوعي العراقي : لا لخلط الأوراق.. لا ...
- جبهة البوليساريو تعبر عن رفضها التام لمقترح مبعوث الأمم المت ...
- رجال الإنقاذ ينتشلون جثة سائق من سيارة انزلقت على الطريق في ...
- -لمعالجة النفايات-.. هل تنجح بغداد ببناء مطامر صحية لحماية ا ...
- مبعوث أممي يقترح تقسيم الصحراء الغربية بين المغرب والبوليسار ...
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 574
- مبعوث أممي يقترح تقسيم الصحراء الغربية بين المغرب والبوليسار ...
- م.م.ن.ص// متابعة الرفيقة سميرة قاسمي في حالة اعتقال وايداعها ...
- اقرا الاشتراكي
- رغم معاناتهن.. السودانيات الأجدر بالمقاومة سلمًا وحربًا


المزيد.....

- مقدمة في -المخطوطات الرياضية- لكارل ماركس / حسين علوان حسين
- العصبوية والوسطية والأممية الرابعة / ليون تروتسكي
- تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)* / رشيد غويلب
- مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق ... / علي أسعد وطفة
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين / عبدالرحيم قروي
- علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري ... / علي أسعد وطفة
- إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك ... / دلير زنكنة
- عاشت غرّة ماي / جوزيف ستالين
- ثلاثة مفاهيم للثورة / ليون تروتسكي
- النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج / محمد عادل زكى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - عبدالرحيم قروي - من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - فريدريك أنجلز-أصل العائلة و الملكية الخاصة والدولة3