أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نجيب علي العطّار - في حضرةِ الحرب: اللَّيلُ.. هذا البَطيء















المزيد.....

في حضرةِ الحرب: اللَّيلُ.. هذا البَطيء


نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)


الحوار المتمدن-العدد: 8133 - 2024 / 10 / 17 - 22:11
المحور: الادب والفن
    


اللَّيلُ، في أدبيَّاتِنا، ذو سُمعةٍ سيِّئةٍ على العُموم؛ تُشبِهُ إلى حدٍّ بعيدٍ سُمعةَ المَقابرِ والمنازلِ المهجورة. حتَّى أنَّنا إذا أردْنا وصفَ مدينةٍ تَضِجُّ بالحياةِ، كبيروتَ مثلًا، فإنَّ أوَّلَ ما نُشيرُ إليه هو اللَّيلُ؛ ليلَها. سنقولُ ما مَفادُه: «ليلُها مُضاءٌ، كأنَّ الشَّمسَ أَنْهَتْ عملَها وذهبتْ إلى أحدِ مقاهي المدينةِ لتَرقُبَ الطَّريقَ». بل تتعدَّى العِلاقةُ بينهُما، اللَّيلَ والمقبرةَ، حدودَ الزَّمالَةِ في سُوءِ السُّمعةِ وترتقي إلى مُستوى التَّلازُمِ بينهما في الحكايا الشَّعبيَّةِ، وغير والشَّعبيَّةِ أيضًا.

المَقبرةُ في النَّهارِ غيرُها في اللَّيل! تزدادُ قُدرةً على إرهابِنا وإرعابِنا، أو هكذا يُخيَّلُ إلَيْنا. أغلَبُ الذينَ يخافونَ المَقابرَ في اللَّيلِ، أو يخافون اللَّيلَ في المقابرِ، لم يسبِقْ لهم أن خَبَروا اللَّيلَ هُناك، لكنَّهم يعتقدونَ أنَّ هذا الحَيِّزَ الزَّمكانيَّ، اللَّيلَ- المقبرةَ، مُخيفٌ دونَ الحاجةِ لاختبارِ ذلك. قد يتسرَّعُ البعضُ بإنزالِ حُكمٍ، صحيحٍ مبدئيًّا، مُؤدَّاهُ أنَّ المُخيفَ فعلًا هو التَّصوُّرُ الذي يحملُونَه في أذهانِهم عن هذا الحَيِّزِ الزَّمكانيِّ، إذْ أنَّ هذا التَّصوُّرَ نتيجةٌ لشبكةٍ مَهولةٍ من الغيبيَّاتِ والميثولوجيا التي رافقتِ الإنسانَ مُنذُ بداياتِه على هذه الأرض؛ الأشباحَ، الجِنَّ، الشَّياطينَ، الأرواحَ وما شاكَلَ ذلكَ ممَّا يُخيفُ فِعلًا إنْ صحَّ وجودُه. وبينَ الخوفِ مِنْ هذه الأشياء والخوفِ مِنْ وجودِها، بالصُّورةِ المُتعارفةِ لها، يرتَسِمُ أمامَنا أحدُ جوانبِ اللَّاعقلانيَّةِ التي تُسيطرُ على الكائنِ المُتَّهمِ بأنَّه العاقلُ والعاقلُ الوحيدُ في حُدود ما نعلم؛ الإنسانَ! فلَو سمَحْنا لأنفسِنا أنْ تُجري إحصاءً عقليًّا لعددِ الذين يُؤذِيهمُ الجِنُّ المسكينُ، أو لأولئكَ الذين تتركُ الأرواحُ عالَمَها مِن أجل أن تلبِسَ أجسادَهمُ الهَشَّةَ، ولعددِ الذين يَقتلُهُمُ الإنسانُ نفسُه لوَجدنا أنَّ مُنظَّمةَ الصِّحَّةِ العالميَّةِ مَعنيَّةٌ بإعلانِ المناطقِ المَسكونةِ بالإنسانِ مَناطِقَ موبوءةً، وبوضعِ الإنسانِ على لائحةِ المُفترِساتِ الأشدِّ فَتْكًا، إذْ أنَّه أكثرُ المَخلوقاتِ مَدعاةً للخوفِ منه؛ هو مُخيفٌ في اللَّيلِ كما في النَّهار، وليسَ في المقبرةِ وحدَها، بل في كُلِّ مكان! وتفاديًا للوقوعِ في جريمةِ التَّعميم، إنَّ الإنسانَ المُفترسَ هو الذي ليسَ له حدودٌ؛ الإنسانُ المُطلقُ اليَدَيْن والشَّهوة.

على أيِّ حال، وأضربُ مثلًا عنِّي؛ أنا الذي أؤمنُ بأنَّنا لسنا وحدَنا في هذا الكون. أُسلِّمُ بوجودِ مخلوقاتٍ غيبيَّةٍ كالجِنِّ، مثلًا، لكنِّي لستُ ممَّن يُصدِّقونَ أنَّه سيتركُ عالَمَه، الذي أفترِضُ أنَّ الجِنَّ فيه يكونُ أكثرَ تحرُّرًا من القيودِ الفيزيائيَّةِ التي تُقيِّدُنا، ويأتي إلى أحدِ العابرينَ قريبًا من المقبرةِ كي يُخيفَه. الوجودُ ليسَ سخيفًا. قد يكونُ الجِنُّ قادرًا على رؤيتِنا دونَ أنْ تكونَ لنا قُدرةٌ مماثلةٌ لقُدرتِه، كعِلاقتِنا بالنَّمل مثلًا. وأفترضُ أيضًا أنَّ الجِنَّ ليسَ كائنًا سخيفًا لا شُغلَ له سوى إخافتِنا، اللَّهمَّ إلَّا أن يكونَ للجِنِّ أطفالٌ كأطفالِنا؛ يُحبُّونَ العبثَ بمُستعمراتِ النَّمل. ثمَّةَ ما يبعثُني على ترجيحِ أنَّ تربيةَ الجِنِّ لأطفالِهم أفضلُ، ورُبَّما أرحَمُ، مِنْ تربيتِنا لأطفالِنا. أمَّا المقبرةُ نفسُها، فقد أكونُ أحمقًا في بعضِ شؤونِ الحياةِ والموت، لكن ليسَ إلى الحدِّ الذي أُنكرُ فيه بديهةَ أنَّ الموتى لا يَخرُجونَ مِن قبورِهم. بعبارةٍ مُكَثِّفَةٍ لكُلِّ هذا «اللَّتِّ والعَجن»؛ المقبرةُ في اللَّيلِ هي نفسُها التي تكونُ في النَّهار. لها رهبةٌ طبعًا؛ رهبةٌ عندَ مَنْ يُقدِّرُ الحياةَ ويحتَرِمُ الموتَ! لكنِّي، رغمَ اقتناعي المبدئي بذلكَ، لستُ أُخطِّطُ في المُستقبلِ القريبِ، ولا البعيد حتَّى، لزيارةِ مَقبرةٍ في اللَّيل. رُبَّما لأنَّ التَّحرُّرَ من هذه الميثولوجيا التي رافقتْنا رَدْحًا طويلًا منَ الزَّمنِ يحتاجُ سِنًّا لم أبلُغْها بعدُ. أو لعلَّها حالةٌ من عدمِ اليقينِ بقناعتي. أقولُ ماذا لو صدقتْ أحاديثُ الجِنِّ والأشباح؟ إنَّها كارثيَّةُ النَّزعةِ التي تُريدُ «عقلَنَةَ كُلِّ شيء». أحاديثُ الجِنِّ مُمكنةٌ عقليًّا فهي لا تتنافى مع قوانين العقل الثَّلاثة. لذلكَ، يبقى السُّؤالُ بـ «ماذا لو» حاضرًا وقادرًا على الإخافةِ طالَما أنَّ موقفَنا منَ الجِنِّ مبنيٌّ على العقل بدلَ أن يُبنى على العقيدةِ، بغضِّ النَّظرِ إنْ كانتْ إيمانًا أو نَفيًا.

ذاتَ ليلٍ، جاءتْ إليَّ فكرةٌ تدَّعي أنَّ سُمعةَ اللَّيلِ السَّيِّئةَ مردُّها إلى أنَّه الوقتُ الذي كُنَّا نُمنَعُ فيه عنِ اللَّعبِ الذي كان غايتَنا الأسمى وهدفَنا الوجوديَّ الأوحَدَ يومَ كُنَّا أطفالًا نُكرَهُ على النَّومِ المُبكِر من أجل الاستيقاظِ إلى المدرسة التي ترتبطُ، في ذِهني، باللَّيلِ أكثرَ منَ ارتباطِها بالنَّهار الذي كُنتُ أتعلَّمُ في ساعاتِه الأولى. وبفضلِ مدارسِنا المُمتازةِ تشكَّلتْ عِندي ثلاثيَّةُ الرُّعب؛ اللَّيل- المقبرة- المدرسة! ثُلاثيَّةٌ سُرعان ما بدأتْ تتكسَّرُ حين انتقلتُ إلى الثَّانويَّة. ومع نهايةِ السَّنةِ الأخيرةِ بدأت تتحوَّلُ المدرسةُ إلى مكانٍ أُحبِّهُ، أو بصورةٍ أدقَّ تحوَّلتْ إلى مكانٍ لا أُحبُّ أنْ أُغادرَه. وأظنُّ أنَّ السَّببَ الأساسيَّ في هذا التَّحوُّلِ هو أنِّي كُنتُ على وشكِ مُغادرتِها فعلًا! أمَّا المقبرةُ فمنَ السَّهلِ تفادي الخوفِ منها بعدمِ زيارتِها ليلًا. وأمَّا اللَّيلُ فلا يُغادَرُ ولا يُبتَعَدُ عنه! لا سبيلَ إلى قتلِ الخوفِ منه إلَّا بالاقترابِ منه؛ بأنْ نتافهمَ معه حتَّى نُصبِحَ منْ أهلِه. وهكذا كان.

بدأتُ عِلاقتي باللَّيل تتحسَّنُ يومَ كُنتُ مُقبِلًا على عامي السَّابع عشر. بدأتْ تتحسَّنُ تدريجيًّا كمُذنبٍ يتوبُ عن ذنبِه على مَهلٍ، واللَّيلُ كان كإلهٍ ودودٍ؛ كُلَّما عُدتُ إلى ذنبي أظهرَ لي حلاوةَ التَّوبةِ، فاعودُ إلى السَّهرِ مُستغفِرًا وأرجِعُ منه مَغفورًا لي. أذكرُ أنَّ أوَّل ما أذاقَنِيه اللَّيلُ منَ السِّحرِ هو الكِتابةُ وصوتُ أُمِّ كلثوم التي لو قُدِّرَ لي أن أبعثَ أحدًا ممَّنْ عاشَ في المئةِ سنةٍ الأخيرة من عُمرِ «الأمَّة العربيَّة» لم أكنْ لأتردَّدَ في إحيائها، مع فريق عملِها طبعًا. الأمرُ شخصيٌّ بالنِّسبة إليَّ. وثمَّةَ سطرٌ لا بُدَّ فيه من اعترافٍ وامتنانٍ عميقَيْن لعبد الباسطِ عبد الصَّمد الذي لولاه لما كُنتُ سأتذوَّقُ أُمَّ كلثوم بهذا الشَّغف. الأمرُ شخصيٌّ هذه المرَّةَ أيضًا. بدأتُ بمَلْءِ دفاتري بنصوصٍ أظنُّ أنِّي سأحتفظُ بها لنفسي، ولِمَنْ ترتضيه نفسي، كطِفلٍ أحبَّ أن يحتفظَ بخطواتِه الأولى لنفسِه فكانَ له ذلك! كلَّفتْني هذه العِلاقةُ المُحدَثةُ باللَّيلِ سنةً كاملةً اقتطعتُها على حساب العام الدِّراسيِّ الأوَّلِ لي في الجماعة. في العام الذي وَلَى ذاكَ العام كِدْتُ أَزِلُّ وأكفرُ باللَّيلِ، لكنَّه ظلَّ كإلهٍ ودودٍ. خبرتُه معَ السَّهارى طويلةٌ جدًّا، مُعمَّرةٌ بعُمرِ السَّهَر. بعثَ إليَّ رسولًا هذه المرَّة. في الواقع كانت رسولَةً. رُسُلُ اللَّيلِ كُلُّهُنَّ نِساء، ودعوتُهُنَّ واحدةٌ على مدى الدَّهر؛ حيَّ على السَّهر. لا أجدُ حاجةً في نفسي إلى شرحِ أنَّ رسولتَه إليَّ ليستْ كالنِّساء، بل ليست كالبشر أصلًا. أمرٌ قد يكونُ شخصيًّا أيضًا، رغمَ أنِّي لا أظنُّه كذلك. وليسَ مِنْ بابِ المُبالغةِ الأدبيَّةِ إذا قُلتُ أنَّ صوتَ أُمِّ كلثوم صارَ أحلى! سقطتْ ثُلاثيَّةُ الخوفِ وبقيَ اللَّيلُ في خُماسيَّةِ الحُبِّ؛ هي- أنا- أُمُّ كلثوم- قلمي- اللَّيل!

على أيِّ حال، كان هذا قبل هذه الحربِ التي ما إنْ اندلعتْ حتَّى عادَتْ عِلاقتي باللَّيلِ إلى عِلاقةِ الإنسانِ الأوَّل به. عِلاقةٌ مُثخنةٌ بالخوف والقلق. بقيتُ أنا، وبقيَ اللَّيلُ وقلمي. وعادتْ ثُنائيَّةُ اللَّيلِ- المقبرة مِن جديد. عادَ هذا الحيِّزُ الزَّمكانيُّ المُرعبُ مع فارقٍ بسيطٍ في الكلماتِ مُخيفٍ في الكلوم؛ لقد صارَ البلدُ كُلُّه مقبرةً، بل قبرًا واحدًا! صحيحٌ أنَّه كبيرٌ يتِّسِعُ لكُلِّ قاطِنيه، لكنَّه ضيِّقٌ. هكذا هو القبرُ؛ أكبرُ منَ المدفونِ فيه، لكنَّه ضيِّقٌ عندَ ردِّ التُّراب. ضاقَ البلدُ بأهلِه حتَّى أدركتُ، بالتَّجرِبة الحِسِّيَّةِ، بلاغةَ القُرآن في قولِه: «حتَّى إذا ضاقَتْ علَيْهِمُ الأرضُ بما رَحُبَتْ».

أذكرُ أنِّي سألتُها ذاتَ ليلٍ: «كيف اللَّيل معِك؟». كان جوابُها أنَّ اللَّيلَ جيِّدٌ دائمًا، لكنَّ السُّؤالَ الذي يُسألُ هَهُنا هو؛ «كيفِك مع اللَّيل؟». صحيحٌ! ليسَ لِلَّيْلِ أن يكونَ إلَّا هكذا، لكن كان مُمكِنًا لنا، نحنُ، ألَّا نكونَ هكذا.

«هكذا»، في قواعدِ العربيَّة، اسمٌ للإشارة. لكن ما الذي أُشيرُ إليه بـ «هكذا»؟ بكلمةٍ واحدةٍ؛ هي الحرب. هذا الجواب يبعثُ نفسي على الاعتقادِ أنَّ اللُّغةَ، رغمَ ضرورتِها، جُزءٌ مِن دراما النَّفس البشريَّة وإحدى أقسى مآسي الإنسان الدَّائمة في هذا العالَم. اللُّغةُ قيدٌ، تمامًا كالزَّمان والمكان. والسُّؤالُ هُنا ليسَ «كيف يُمكن أن تختَصرَ كلمةُ "حرب" كُلَّ شيء؟»، بل هو «كيفَ يُمكنُ لكُلِّ شيءٍ أن يُختَصَرَ بكلمةِ "حرب"؟». كيف لِمَنْ لم يَخْبُرِ الحربَ أن يفهمَ ما هي هذه الكلمة؟ وأين؟! في عالَمٍ باتتْ فيه كلمةُ «حرب» مُبتذلةً من كَثرةِ تداولِها بينَ النَّاس! إنَّها أشياء لا تُدركُ إلَّا بالتَّجربةِ الشَّخصيَّة. ليسَ في لُغاتِ العالَم ما يؤدِّي حقَّ المعنى في عبارةِ «اللَّيلُ في الحرب». ليسَ لاتِّساعِ المعنى، على حدِّ تعبير الصُّوفيَّةِ، وإنَّما لأنَّه يتعلَّقُ بمشاعرَ تخصُّ خابِريها وحدَهم؛ مشاعرَ كالخوف، الألم، القلق والحزن.

اللَّيلُ في الحربِ ليسَ أن تخافَ منْ زيارة المقبرةن بل أن تخافَ حيثُ أنتَ؛ أنْ تتحوَّلَ نفسُكَ إلى مقبرةٍ لكَ؛ لأحلامِكَ التي تدفنُها حتَّى إشعارٍ آخر؛ لمشاريعِكَ التي تُصبِحُ مشروعًا واحدًا فقط؛ أن تنجو! والأكثرُ إيلامًا في مشروعِكَ هذا هو أنَّكَ لا تأثيرَ لكَ فيه! ليسَ لكَ أنْ تُقرِّرَ إنْ كُنتَ ستنجو أم ستُقتَلُ، كأنَّ ذلكَ شيءٌ لا يعنيكَ.

اللَّيلُ في الحربِ ليسَ أنْ تخافَ منَ الجِنِّ، لأنَّه لن يكونَ شيئًا مُخيفًا حينَها. بل سيكونُ شيئًا مُضحكًا أن يفرَّ الجِنُّ من صوتِ الموتِ النَّازلِ منَ السَّماء. سيَفِرُّ الجِنُّ ويتركُكَ تُفكِّرُ؛ أركضُ خارجَ البيتِ أم أقفُ عندَ إحدى زواياه؟ أبقى واقفًا أم أستلقي على الأرض؟ أم أجلِسُ القُرفُصاء لأنَّ خيرَ الأمورِ أوسطُها؟ هل ثمَّةَ جدوى من كُلِّ هذا أصلًا؟ لا يبدو. وبعدَ سيلٍ من هذه الأسئلةِ التي تُراودُكَ في الفترةِ الفاصلةِ بينَ إطلاقِ الصَّاروخِ منَ الطَّائرةِ وانفجارِه؛ بعدَ أن يهدأَ جريانُ الدَّمِ في جسدِكَ تختارُ أن تنامَ و«تسيبْها على الله»، بتعبير المصريِّين. اللَّيلُ في الحرب ليسَ أنْ تُكْرَهَ على النَّومِ من أجل المدرسة، بل هو ألَّا تنام أصلًا! هو أنْ تنتظرَ مُرورَ الوقتِ المُفترضِ لحدوث الغاراتِ، المُكتَسبِ بالتَّجربةِ أيضًا، قبل أنْ تُقرِّرَ الاستسلامَ في معركتِكَ مع السَّهر. هو أنْ تستيقظَ على صوتِ غاراتٍ جاءتْ في وقتٍ غيرِ مُعتادٍ؛ تستيقظَ لتسألَ نفسَكَ الأسئلةَ أعلاه ثُمَّ تعودُ إلى نومِكَ بعدَ ساعةٍ تُحاولُ فيها أنْ تُقنِعَ نفسِكَ بنصيحةِ أحدِ الخابرين القُدامى للنَّوم أثناء الحرب: «إذا سمعتَ الصَّوتَ واستيقظتَ فعلى الأرجحِ أنَّكَ قد نجوتَ». اللَّيلُ في الحرب هو أن تُدركَ أنَّ عبارةَ «وابتدى اللِّيل يبقى أطوَل مِن ساعتو»، لأُمِّ كلثوم، لها معنًى آخر غيرَ التَّعبير عن الشَّوق.

واللَّيلُ في الحرب هو أن تسهرَ أيضًا، وتتجاذبَ أطرافَ الحديث مع غيرِكَ من ساكِني البيت الذي قد يُدمَّرُ على رأسكَ ورؤوسِهم: فُلانٌ قرَّر ألَّا ينامَ وأن ينتظرَ صوتَ الطَّائراتِ الحربيَّةِ أو المُسيَّرة التي توحي بغاراتٍ وشيكةٍ كي يوقظَ النَّائمين من أجل الخروجِ منَ البيت، ليسَ إلى الملجأ طبعًا وإنَّما إلى أرضِ الله الواسعة، أو الضَّيِّقة حتَّى. فُلانٌ ثانٍ قرَّرَ أن يسهرَ مع الأوَّل للتَّناوُبِ على كُرسيِّ «المُراقبة»، تحتَ إحد الأشجار غالبًا. طبعًا هذه حالُ المُترفين الذين لم تزل بيوتُهم بيوتًا بأسقفٍ وجُدران. فلانٌ ثالثٌ يرى أنَّ الصَّاروخَ إذا نزلَ بأهل البيت فلن يشعرَ أحدٌ بالألم، الكُلُّ سيَنْعَمُ بموتٍ لحظيٍّ ولن يبقى منهم مَنْ يحزَنُ على البقيَّةِ غيرِ الباقية، وهذا ما يُعطيه، بحسبِ زَعْمِهِ، حدًّا أدنًى من الاطمئنان كافيًا لأن يُمكِّنَه منَ النَّوم. وآخرُ يُفضِّلُ أن يموتَ نائمًا على أن يموتَ مُستيقظًا. وآخرُ لا يعنيه شيءٌ من كُلِّ هذا، كأنَّه لا حربٌ ولا مَنْ يُقتَلونَ ويُقتَلون. في نهايةِ الأمرِ الكُلُّ خائفٌ والكُلُّ ينام، لكنَّ الكُلَّ قد لا يستيقظُ أحيانًا. الكُلُّ عندَه يقينٌ أنَّه قد لا يستيقظُ، كانَّنا جيشٌ في الخطوط الأماميَّة. جيشٌ أعزلٌ! بل كأنَّنا سواترُ ترابيَّةٌ تُرمى حينَ تتضرَّرُ ويُستبدَلُ بها غيرُها. اللَّيلُ في الحرب هو ما تسمَعُه لا ما تراه. للصَّوتِ في اللَّيلِ حكايةٌ أُخرى. إنَّه ليسَ موجاتٍ فيزيائيَّةً! إنَّه علاماتٌ على اقترابِ الموتِ وابتعادِه؛ أماراتٌ مِن أماراتِ النَّجاة. للصَّوتِ في اللَّيل حكايةٌ أُخرى.

أحاوِلُ أنْ أنامَ أيضًا. عِلاقتي بالنَّوم سيِّئةٌ منذُ خمسِ سنينَ. مثلًا، أكرهُ الاستيقاظَ بعُنفٍ فأسهرُ حتَّى أُثخَنَ بالإرهاق فأنام. أُحاوِلُ بذلكَ أن أضمنَ عدمَ الاستيقاظِ إلَّا على الغاراتِ الأشدِّ عُنفًا والأقربِ مسافةً منِّي. خُطَّةٌ فاشلةٌ طبعًا، كمُحاولات التَّوصُّلِ لوقفٍ "فوريٍّ" لإطلاق النَّار. أكتبُ هذا النَّصَّ بسُرعةٍ على وقعِ صوتِ الطَّائراتِ المُسيَّرةِ التي تزيدُ اللَّيلَ رهبةً. إهتزَّ البيتُ قبلَ قليلٍ من غارتَيْن قريبتَيْن نسبيًّا. ليتَ غاراتِ اللَّيلِ ككلامِه الذي يمحوه النَّهار. صوتُ الهواءِ مُخيفٌ أيضًا، يُشبِه صوتَ الصَّاروخ قبل أن ينفجرَ على الأرض.

أخافُ منَ الموتِ طبعًا، رغمَ إيماني بأنَّ «هُناك» أفضلَ مِن «هُنا». عندي رغبةٌ حقيقيَّةٌ في أنْ أعرفَ أكثرَ عن هذه الـ «هُنا» قبل أنْ أنتقلَ إلى الـ «هُناك» الأفضل. على ذِمَّةِ علي شريعتي مُخاطِبًا الله: علِّمني كيف أعيش، أمَّا كيفَ أموتُ فسأعرفُ ذلك! لا أُخفي أنِّي، رغمَ خوفي هذا، أشعرُ بيني وبينَ نفسي أنِّي لن أُقتلَ في هذه الحرب. لستُ أدري مبعثَ هذا الشُّعور رغمَ أنِّي أعيشُ في مناطقَ مُستهدفةٍ بشكلٍ يوميٍّ تقريبًا؛ رُبَّما لأنَّ الإنسانَ في حضرةِ الموت يُفكِّرُ في النَّجاة. ورُبَّما هو الخوفُ نفسُه الذي يدفعُني إلى الأملِ بأنَّ النَّجاةَ لم تزلْ مُمكنة. ورُبَّما هي أسبابٌ أُخرى لم أعرفْها بعدُ. لكنِّي أعرفُ أنِّي أُحبُّ أنْ أشهدَ نهايةَ هذه الحرب كما شهِدتُ بدايتَها؛ أحبُّ أنْ أُعيدَ ترميم عِلاقتي باللَّيل بعدَ أن نتعافى قدرَ المُستطاع من ليل الحروب وويلِها. أريدُ للمقبرةِ المُقامَةِ عندَ أطراف قريتي أن تكونَ المكان الوحيدَ الذي أخافُه في اللَّيل، أو أخافُ اللَّيلَ فيه. أريدُ أن يعودَ صوتُ أُمِّ كلثوم أحلى ممَّا هو عليه الآن، وأنْ يمُرَّ اللَّيلُ سريعًا معَ صوتِها حينَ تقولُ: «وابتدى اللِّيل يبقى أطوَل مِن ساعاتو». أُريدُ أن أسمعَ ذلكَ وليسَ في نفسي إلَّا معنًى واحد؛ الشَّوقُ لا الموتُ؛ الحُبُّ لا الحرب؛ مكتبَتي لا مقبرَتي!



#نجيب_علي_العطّار (هاشتاغ)       Najib_Ali_Al_Attar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في حضرةِ الحرب: إعادةُ تعريف الذَّات
- في شُؤونِ الإله وشُجُونِه
- أنا السَّاخرَ مِنْ أَنَاهُ
- بَينَ الوَهْمِ والحُلْمِ
- على أيِّ سَبيلٍ نَطغى؟!
- جريمةُ أنْ نَعتاد
- اللهُ يَكفرُ بنفسِه
- قتيلٌ يَرثي نفسَه
- مَثالبُ الحَياةِ في حضرةِ القَتل
- مَوْتانِ وحياةٌ واحدة
- «آيديولوجيا الغَد» عندَ علي شريعتي
- تَفجير 4 آب: بين الذِّكرى والقَضيَّة
- عُذرًا حُسَيْنُ
- الكتابةُ: بينَ الكَباريْه والدَّبكة
- قُرآنُ السَّيْفِ أم سَيْفُ القُرآن؟ (1)
- ما لم تَسمعْه ليلى
- عائدٌ إلى «الضَّاحية»
- أديانُ الإسلام
- دِيكتاتورِيَّةُ البُؤس
- مِفصليَّةُ الإعلان عن الإندماج النُّووي


المزيد.....




- إعلان الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشر ...
- روسيا.. العثور على آثار كنائس كاثوليكية في القرم تعود إلى ال ...
- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- -الأخ-.. يدخل الممثل المغربي يونس بواب عالم الإخراج السينمائ ...
- عودة كاميرون دياز إلى السينما بعد 11 عاما من الاعتزال -لاستع ...
- تهديد الفنانة هالة صدقي بفيديوهات غير لائقة.. والنيابة تصدر ...
- المغني الروسي شامان بصدد تسجيل العلامة التجارية -أنا روسي-
- عن تنابز السّاحات واستنزاف الذّات.. معاركنا التي يحبها العدو ...
- الشارقة تختار أحلام مستغانمي شخصية العام الثقافية
- مثل -مشاهد الأفلام-.. دراسة تكشف أن أدمغتنا تقسم التجارب الي ...


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نجيب علي العطّار - في حضرةِ الحرب: اللَّيلُ.. هذا البَطيء