أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - سقراط الجديد جبريل مارسيل















المزيد.....



سقراط الجديد جبريل مارسيل


حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق


الحوار المتمدن-العدد: 8132 - 2024 / 10 / 16 - 21:08
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"البشر مكتوب عليهم أن يعيشوا معاً وأن يتبادلوا المحبة وأن يتألموا وينطفئوا ويموتوا، جبريل مارسيل".
المقدمة:
يعد جبريل مارسيل من فلاسفة الوجودية المؤمنة، وقد كان فيلسوف وكاتب مسرحي وناقد ادبي حقق شهرة واسعة كفيلسوف من خلال تحليله العميق للتجربة الانسانية وظواهرها الوجودية وتأكيده على المشاركة بين الإنسان والحقيقة المتعالية، واتقن عدة لغات كما كان له دور هام في الادب المعاصر ليس في فرنسا فقط بل في اوربا ، إذ عالج الكثير من القضايا الخاصة بالأصالة الروحية فضلاً عن اسهامه الحقيقي في القاء الضوء على نطاق كامل للتجربة الإنسانية كالوفاء والأمل واليأس والشهادة والإيمان والموت والحرية، ولقد اهتم بتشكيل فلسفة عينية ملموسة تهدف إلى استعادة وتعميق التجربة الإنسانية بعيداً عن الفكر المجرد، ومن ثم جاءت فلسفته على شكل تأملات وفق لرؤيته الفلسفية التي تعبر عنه كفيلسوف دائم التساؤل.
أن هذا البحث هو عبارة عن تقديم صورة مبسطة عن فلسفة مارسيل والذي نرى أنه لم يأخذ حقه بالبحوث، وقد حاولنا تقديم اهم افكاره في الفلسفة الوجودية وسعينا إلى ايجاد اجابات واضحه للقارئ من خلال هذا البحث، و تحقيق مجموعة من الاهداف ومنها محاولة الإلمام وطرح جميع افكاره الرئيسية، والتعرف على طبيعة الوجودية عند مارسيل.
جبريل مارسيل سيرة وفكر:
حياته :
ولد جبريل مارسيل في السابع من شهر ديسمبر سنه( 1889 )في باريس، أبناً وحيداً لوالديه وكان ابوه موظفا كبيراً في الحكومة الفرنسية تقلب في عدة مناصب دبلوماسية وكان مستشاراً للدولة، ثم اصبح وزيراً عام 1898 ،وزيراً مفوضاً في ستوكهولم في السويد، وقد كانت اسرته تتمتع بالثراء والثقافة وكانت تربيته الأولى متحرره لم يلقى فيها تعاليم المسيحية، وكان على مارسيل أن يهتدي إلى الإيمان الديني بجهده الشخصي ولم يعتنق مارسيل المذهب الكاثوليكي إلى في سن متأخرة بعد أن كان قد درس مشكلة الإيمان واستطاع أن يثبت بنفسه من حقيقة العقيدة الدينية، وقد اظهر مارسيل نبوغاً مبكراً في ميدان الدراسة الثانوية، كما استطاع الحصول على درجة الأجر جاسون في الفلسفة ولم يتجاوز العشرين من عمره، ودخل السوربون وحصل على ليسانس الفلسفة وكان في الوقت نفسه يأخذ محاضرات هنري برجسون في الكوليج دي فرانس، ولما بلغ الثامنة عشر كتب رسالة للحصول على دبلوم الدراسات العليا بعنوان الافكار الميتافيزيقية عند كول بردج وعلاقتها بفلسفة شلينج، ولما قامت الحرب العالمية الأولى تبين أنه لا يصلح للخدمة العسكرية فالتحق بالصليب الأحمر الدولي، وهذا هيأ له أن يعاني الحرب من زاويتها الوجودية لا السياسية، من حيث تأثيرها في النظم الاخلاقية للإنسان واستقر في باريس نهائيا ابتداء من سنة (1962)، وقد اشتغل مارسيل بالتعليم مدة قصيره فعمل استاذاً بليسية فندوم لعدة شهور، كما مارس التدريس من بعد على فترات متباعدة من خلال الاعوام من عام 1914 إلى 1918 ثم من 1939 إلى 1940 ولكنه لم يستطيع أن يقتنع بمهنة التدريس خصوصا وأنه كان يشعر بأنه عليه رسالة أدبية.
عمل مارسيل في ميدان الصحافة، وأيضاً عمل ناقداً درامياً موسيقياً واديباً في عدد كبير من المجلات الشهيرة، ولم يلبث أن يشرع في التأليف الدرامي، فكانت أولى تمثيلياته المسرحية وهي النعمة أو اللطف عام(1911)،وقد لازمه طوال حياته اعجاب شديد بالرسم وشغف عظيم بالموسيقى، ورأى مارسيل بالدراما هي المجال الامثل لعرض مشكلاته الفلسفية، فقد كان يراها مواقف حيه ابطالها بشر من لحم ودم ولا يكون حلها بالتفكير المجرد والحوار الدرامي، فالمسرح هو الاداة المثلى لتقديم الإنسان في اطاره الاجتماعي والعائلي، ويسعى اغوار النفس البشرية وتكشف المواجهة المسرحية نسيج الوجود المفجع وقد زاد على ثلاثين مسرحية كتب وكان اجملها ( رجل الله والعالم المحطم )، والواقع أن مارسيل ليس مفكراً وفيلسوفاً فحسب، بل هو أيضاً موسيقياً وكاتب مسرحي وناقد أدبي، ومن هنا نجد في اعمال مارسيل الأدبية جزء لا يتجزأ من صميم رسالته الروحية، وكان مارسيل قد فطن إلى أن مشكلات الفلسفة مواقف حيه تواجهها بشرية من دم ولحم فلا سبيل إلى حلها بالفكر المجرد، بل لا بد من مضمار الحياة الواقعية نفسها. أما حياته الخاصة فقد تزوج مارسيل من جاكلين بوغنر في عام 1919 وانجبا ولدا وهو ( جان ) وفي عام ( 1947) توفيت جاكلين بطريقة مأساوية اثر مرض عضال وهذه الحادثة اثرت كثيرا بكل من جان ومارسيل وهذه الحادثة دفعته إلى العمل وخوض المعارك الفلسفية والوجودية بشكل أكبر وتوفي مارسيل في (8 اكتوبر) عام (1973 ) في مدينة باريس في فرنسا، وكان قد حصل على عدة جوائز منها جائزة الأدب الكبرى من الأكاديمية الفرنسية عام ( 1948) ، و جائزة السلام لتجارة الكتب الألمانية (1964)،و جائزة إيراسموس (1969) ، و وسام جوقة الشرف من رتبة فارس، كما حصل على وسام اللوجيون دونور وظفر بعضوية المعهد الفرنسي ابتداء من ( 1952)خلف لإميل برييه مؤرخ الفلسفة الشهير وخلف هنري برجسون بمقعده بأكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية.(1)
مؤلفاته:
من أهم الكتب التي تركها مارسيل في مجال الفلسفة نذكر منها يوميات ميتافيزيقية التي كتبها فيما بين 1913إلى 1922، ونشرت عام 1927، والوجود والملك 1935، ومن الآباء إلى النداء 1940، والإنسان الجوال 1944، وميتافيزيقا رويس 1945، وفلسفة الوجود1949، وسر الوجود 1950، والناس ضد النزعة الإنسانية 1951، وتدهور الحكمة 1954، والإنسان المشكل 1955، والخلفية والوجودية للكرامة الإنسانية 1963. وغير ذلك من البحوث والمقالات العميقة والقيمة وقد ترجم العديد من هذه الكتب والدراسات إلى الكثير من اللغات، ومنها الانجليزية وغيرها من لغات العالم الحية فاستطاع مارسيل من خلالها أن يكون سفيراً حقيقياً للفكر الفرنسي في ربوع العالم المتحضر شرقاً وغرباً، ومن مؤلفاته المسرحية التي لا تنفصل عن انتاجه الفلسفي، رجل الله، والعالم المكسور وطريق القمة، والفضل الإلهي ورباعية من مقام فادييز، والقلوب النهمة أو الظمأ ومصباح النعس، وروما لم تعد في روما، ومحطم الاصنام، وقلب الآخرين، والمنار ونحو مملكة جديدة.(2)
فلسفة جبريل مارسيل:
يعتقد الكثير أن مارسيل ينتمي إلى طائفة المفكرين والمتأملين أكثر من انتماءه إلى صفوف الفلاسفة، فهو لم يصدر في تفكيره إلا عن تجربة خاصة، ولم يهتم إلا بما اتصل بطبيعة عمله ووافق نفسه، وبذلك جعل تأملاته الفلسفية وليدة تجارب ذاتيه معينة وخلاصة مواقف نفسية صافيه، ويرى مارسيل أن الاسرار وحدها هي التي تهم الفلسفة، ولذلك فإن الفلسفة ينبغي أن تكون متعدية للموضوعية وشخصية درامية بل وتراجيدية، ويرى فؤاد كامل أن فلسفة مارسيل تعتمد على تجربة صوفية وتصدر من منبعين هما سقراط والمسيحية وعلى الرغم من مارسيل ينفر نفوراً شديداً من إدراجه تحت مذهب معين، ويرفض إدخاله في زمرة الوجوديين فإنه يؤثر إذا كان لا بد من تسمية فلسفته بالسمة الغالبة عليها، وأن يطلق عليها اسم السقراطية المسيحية أو السقراطية الجديدة ، وهنا يذكر زكريا ابراهيم أنه إذا كان سقراط اليونان قد انزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وامتد بها إلى البيوت أو الحوانيت أو الطرقات فإن سقراطنا الجديد قد أراد للفلسفة أن تهبط إلى معترك الخبرة لكي تستحيل إلى ( فلسفة واقعية)، هذا هو السبب في أننا لا نكاد نجد لدى مارسيل مذهباً بمعنى الكلمة، بل مجرد تأملات ويوميات ومحاضرات واحاديث متطرفة، وإذا كان مارسيل قد رفض من البداية أن يصوغ فلسفته على صورة نسق عقلي، وقد رأى أن المفكر الحي لا يمكن أن يصاغ في قوالب محكمه ومفاهيم متحجرة، وإذا كان سقراط قد دعانا إلى معرفة ذواتنا فإن سقراط الجديد يدعونا إلى تعميق تجربتنا من أجل الوقوف على الدلالة الروحية بشتى عواطفنا ونوازعنا واتجاهاتنا النفسية، ومارسيل استمد فلسفته من تجربته، ومن هنا فإن معظم القضايا الفكرية التي اهتم مارسيل بدراستها قد انبثقت من صميم تجربته الروحية العميقة، أو من طبيعة عمله الخاص اثناء الحرب العالمية الأولى والظاهر أن هذه التجربة قد تركت أثراً عميقاً في نفس مارسيل، فلذلك جانب كبير من اهتمامه قد دار حول مشكلة الاتصال بين الذوات ومشكلة الحب ومشكلة الوفاء والخيانة ومشكلة الأمل واليأس ومشكلة الموت والخلود ومشكلة التراسل الروحي واستحضار الارواح، وهنا نذكر أن معظم المؤرخين في الفلسفة المعاصرة يميلون إلى تسمية مارسيل باسم ( كيركجارد الجديد )، والواقع أن ثمة خصائص مشتركة عديدة تجمع بين كل من مارسيل و كيركجارد ، وأن كيركجارد أقرب إلى التصوف من مارسيل وليس معنى هذا أنه لا توجد عناصر صوفيه في فلسفة مارسيل، وإنما بقي مارسيل أقرب إلى التفكير الميتافيزيقي منه إلى التأملات الصوفية الخالصة وكانت لديه ثلاث اقطاب في فلسفته الميتافيزيقية وهي ( الوجود – الأنا – الانت ) ،وقد كان الهدف الاساسي لفلسفة مارسيل هو الاقتصار على وصف الوجود البشري والعمل على ادراك أو اكتشاف الوجود من حيث وجود والعمل الذي اراده مارسيل هو اعادة الثقل الأنطولوجي إلى تجربتنا البشرية، وبذلك يتجاوز مارسيل علم الظواهر ( الفينومينولوجيا )، الذي وضعه هوسرل، وانتجه هايدجر وسارتر، وإنما يريد أن ينفذ من هذه التجربة الشخصية إلى الانطولوجيا إلى سر الوجود، ومن ثم فإنه يهدف إلى أن يعيد للتجربة الإنسانية ثقلها الوجودي أو الانطولوجي، إذ الفلسفة عند مارسيل لا تكون فلسفة إلى بقدر ما تفضي إلى سر الوجود، وهنا تتميز عن العلوم التي تتكون فقط من مشكلات، وفرق مارسيل بين السر والمشكلة، فالمشكلة شيء اصادفه أمامي بينما السر شيء اشتبك فيه انا نفسي، والخطأ في الفلسفة ينحصر في أنها تنزل السر إلى مركبة المشكلة، والمشكلة شيء خارجي ومنفصلة عن الذات، أما السر فهو يوضع فيها وجودي كله موضع الاعتبار وينطوي على ذاتي، ولا يمكن أن اجعله موضوعاً للفكر، إلا إذا جعلت نفسي موضوع للفكر والوجود هو سر الاسرار، ولا حل له، لأنه ليس مشكلة وهو حاضر حضوراً دائما ونحن نشارك في هذا السر دون أن نمتلكه ونتعرف عليه ونشعر به دون أن نحيط بمعرفته أو نسبر غوره تماماً.
تأثر مارسيل بالمثالية الألمانية، ثم انصرف عنها تحت تأثير برجسون وأخذ يركز تأمله على الظواهر الشاذة التي تهرب منها النزعة العقلية، أو تنصرف عنها بشكل متفاوت الوضوح، من أجل نسيجها التصوري مثل: الإحساس ـ اتحاد النفس والبدن ـ وقائع علم النفس فوق المعتادة، ويرى مارسيل إن نمط الفلسفة الذي ينتمي إليه فكره لا يسمح بوجود نتائج جاهزة يمكن أن يحملها المرء ويمضي في طريقه، ذلك أن المذهب شيء نمتلكه، شيء يطيب لنا أن نطوف به وأن نقيم فيه، أما الفيلسوف بالمعنى الذي يفهمه مارسيل، فهو على نقيض الملك إذ هو إنسان يجتهد في المشاركة على نحو أكثر وعياً في حياة تعلو على حياته الشخصية، وأنا موجود تلك هي المقولة التي يبدأ منها جبريل مارسيل، والوجود في جسد، يجعل الإنسان يخوض الحياة في علاقة مع الواقع، وفي عملية بحث عن الذات، في أعماق الذات نفسها وفي العالم، أي أن البحث عن الوجود في العالم محور من محاور فلسفته الأساسية، وينطلق مارسيل في فهمه للفلسفة من التجربة المنقولة في الفكر، وهي أدراك بقدر المستطاع من الوضوح، فالتقدم الفلسفي يكمن في مجموعة الخطوات المتتالية التي بها تتجسد الحرية، والتي كانت تدرك على أنها مجرد قدرة على قول نعم أو لا، وعمل الفلسفة يكمن قبل كل شيء في التعمق ببعض المواقف الروحية، والفلسفة تنكر إمكانية بلوغ شيء آخر غير ما نطلق عليه حالاتي النفسية، فالمظاهر ليس سوى شكل من أشكال الكبرياء والتعلق بالذات، والفلسفة لا تدرس المشكلات، بل نحن نحياها، والفلسفة هي التي تعطي معنى لتاريخ الفلسفة، وقد سعى مارسيل لوضع فلسفة ملموسة تنطلق من الوجود الإنساني الجسمي، وهذه الفلسفة تمثل فلسفة الفكر العاقل، ويرى عبدالرحمن بدوي أن مارسيل يستمد فلسفته من تجاربه الذاتية الباطنة، ولهذا اتخذت تأملاته صورة اليوميات ولا نجد له أثراً فلسفياً على هيئة كتاب، إنما كل انتاجه يوميات أو مقالات، ولهذا يصعب على المرء، بل يستحيل عليه، أن يستخلص من مؤلفاته مذهباً محكم الاجزاء معماري البناء، شأن الفلاسفة وحتى الفلاسفة الذين كتبوا يوميات مثل كيركجارد ومين دي بيران، قد كتبوا إلى جانبها كتباً مؤلفة تأليفاً يمكن من العرض المذهبي المتصل السابغ، أما مارسيل فصاحب خواطر وشذرات، ولهذا جاءت فلسفته غير تامة، وفي تقدم مستمر، ينقطع ولا تكتمل، ومن هنا لا يمكن عرضها إلا في تقريبات وكمناظر جانبية من مجموعها تتألف صورة.(3)
نظرة مارسيل للمسرح:
أولع مارسيل بالمسرح منذ صباه الباكر، وكتب أول مسرحية له وهو في الخامسة عشر، وتعد الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الأولى منذ 1919 إلى 1923 فترة انتاجه المسرحي الغزير، ومسرح مارسيل، هو مسرح فلسفي ذهني بحت، يستطيع أن يضعنا أمام حقيقة تجمع بين عمق المسرح الذهني وقوة المسرح الدرامي الذي تشع منه الحركة، ولكن بأسلوب يختلف عن المعالجات المليئة بالأحداث، تلك التي نراها في المسرحيات الغنية بهذا اللون من الفعل المسرحي الظاهر، وإن الحركة في مسرح مارسيل عميقة وداخلية، وهي في الوقت ذاته تنتقل إلى جمهور المتفرجين من خلال انعقاد الخيوط وتشابكها، في مرحلة التأزم التي تواجهها الشخصية على المسرح، منذ بداية حوادث المسرحية، والمسرح الناجح عند مارسيل هو الذي يجيب على مطلب ميتافيزيقي و ينبع من ذلك الدافع الخلاق الذي يوجد عند أصل كل ما هو حي حقاً، ووراء مثل هذا المسرح ثمة رؤية أو عقيدة، غير قابلة للصياغة، تكمن عند جذور العمل الدرامي الحي، فالمسألة ليست مسألة أفكار تنثرها هنا وهناك، وهذه سمة المسرح الذهني، بل مسألة تيار خفي مستتر يحث المؤلف على التعبير والإبداع، وإيمان بالأمل الذي يستطيع وحده أن ينقذنا من سحر التكنيك.(4)
الوجودية المؤمنة عند مارسيل:
يفهم مارسيل من الوجود الإنساني هو اسبق من الماهية، فالماهية هي الشي الذي هو داخل نطاق الوعي أي الافكار العامة التي نفكر بواسطتها، ويؤمن مارسيل أن الفرد الإنساني هو الذي يقرر مصيره بنفسه ، ويبدع ماهيته الفردية، ووجودنا نفسه هو الذي ينطلق نحو الاحسن بحركة داخليه به ونحن لا ندرك هذا الاحسن ما لم نحققه، وبذلك الوجود عند مارسيل ليس حقيقة أو واقعه بقدر ما هو عمل واكتساب، والوجود الكامل هو تلك الدرجة السامية من الذاتية حين يكون بوسع الإنسان أن يخلق نفسه بنفسه وأن يتقبل المسؤولية المترتبة على كل افعاله، بحيث يبقى دائماً في محاولته للعلو على نفسه، ويطمح مارسيل إلى اقامة فلسفة للوجود الفردي أكثر من ما يطمح في اقامة فلسفة للوجود العام ، فيرى أن الوجود بشكل عام ممكن أن لا تكون نظريته في الوجود، فالذي يتحكم من البداية إلى النهاية هو التجربة الوجودية وهذه التجربة غير محدودة علمياً سواء من ناحية الامتداد أو من ناحية العمق، وينبغي على الوجودية أن ترحب بكل ما تحمله الحياة الاجتماعية والملاحظة وتأمل التجربة التي نعيشها في اشد ما فيها من عنصر شخصي، وعليها أن ترحب بكل ما يمكن أن يحمله ذلك من طابع اصيل، بل بكل ما كان علامه على البحث أو قلق حتى في الخطأ والانحرافات الشائعة، ويجب أن نسلم بأن الخطوة الأولى للبحث تكون من الناحية الصورية موجهة إلى تكوين فلسفة عينيه ولا بد من التحرر من سلطان النزعة العقلية المثالية، فلا بد من اندماج التجربة الذاتية من حيث هي تجربتي انا في نسق معقول على نحو فعال وذلك مع احتفاظها بسماتها الفردية، بل بقائها أيضاً، إذ الوجود هو المجال الرئيسي في الميتافيزيقا والعالم يضرب بجذوره في الوجود، إذ بالتجارب الوجودية ندرك الوجود في حقيقته العينية المباشرة ونشعر بتأكيدنا اياه في آن واحد، وهنا يكون العقل والفكر شيء واحد، وبذلك أن مارسيل لا يتساءل عن الوجود كما يسأل المرء عن واقعه، أو شيء يملكه، بل هو يريد أن ينتقل بالتساؤل من دائرة الملك إلى دائرة الوجود أو من مجال المشكلة إلى مجال السر، فالوجود هو السر الأكبر أو سر الاسرار ولا حل له، لأنه ليس مشكلة وهو حاضر حضوراً دائماً، ونحن نشارك في هذا السر دون أن نمتلكه ونشعر به دون أن نحيط بمعرفته أو نصبر غوره تماماً، ويعتقد مارسيل أن الادراك الوجودي يتم من خلال الفعل وهو ما يسميه ( باليقين الوجودي ) ،ولذلك يعتقد أن الوجود لا يؤكد ولكنه يؤكد نفسه، وعلى هذا الاساس أن التجربة الأولى والأساسية هي تجربة وجوديه، وهذا الواقع الذي يجب البدء به منه فلا واقع للوجود العام، إذا أنه يعتقد لا يمكن ادراك الكلي إلا بالتعمق الجزئي، وأن العالم بحاجة إلى الوجود الإنساني ،وهنا يتضح أن هدف مارسيل هو استعادة أو اعادة اكتشاف الخبرة الإنسانية التي تنبع من الوجود الإنساني تحقيقا لوجوده الفعال، لذا ذهب البعض بشرح فلسفة مارسيل على أن الهدف الاساسي لفلسفته ليس هو الاقتصار على الوجود الإنساني، بل العمل على ادراك أو اكتشاف الوجود من حيث هو وجود، ومعنى هذا أن الجهد الأكبر الذي قام به مارسيل هو العمل على اعادة الثقل الانطولوجي إلى تجربتنا الإنسانية، ويعتبر مارسيل الوجود أولاً، أي عكس قول ديكارت القائل أنا أفكر إذن أنا موجود، وبذلك يتم الانتصار على المعارضة بين الذات والموضوع، وبين الواقعية والمثالية، فالحقيقة الإنسانية تكشف نفسها لتظهر أنها الإنسان المتنقل، أي الموجود الذي يتحول ويصير دواماً، ويرى مارسيل أن كل فلسفة تتجاهل هذه الحقيقة وتدعي تفسير الإنسان عن طريق نظام فلسفي، مثل هذه الفلسفة تكون غير قادرة على فهم الإنسان، وأن الذي يسمح بفهم الموجود الإنساني أكثر وأكثر هو دراسة العلاقات الإنسانية ودراسة الحقيقة التي تقابل احكام المخاطب، أي تلك الخاصة بأنت، والأنت الإنساني يمكن أن يتموضع أو يصبح موضوعاً، فندركه باعتباره هو. ويقول مارسيل:" حين أفكر فإني أتراجع بالنسبة إلى نفسي، وأبعث نفسي كغير، ثم انبثق بعد ذلك كموجود". وهذا يتعارض مع المثالية التي تحدد الأنا بواسطة الشعور بالذات، وبذلك الوجودية عند مارسيل هو أنها تتحدد من خلال الآخر". ويؤكد مارسيل في هذا المعنى بقوله:" أنني أوكد نفسي كشخص بالقدر الذي به اعتقد فعلاً وجود الغير، وبالقدر الذي به هذا الاعتقاد ينحو إلى تشكيل سلوكي". وبذلك يقوم الوجود على اساس علاقة تجمع بين الأنا والأنت.(5)
المسيحية:
المسيحية عند مارسيل هي من تمنح الطمأنينة وتعطي للفكر صيغة نسقية، فالمسيحية التي يعتنقها في اخلاص تام تبعده بكل تأكيد عن النظريات التي تقول بالعبث، ولكنه لا يعتقد أن المسيحية ترغمه على العودة إلى النزعة العقلية ،وهنا يرى أن الفلسفة و المسيحية متطابقتان، فالأثنان تسعيان إلى القضاء على سر الوجود ويرمي مارسيل القضاء على تلك الفكرة العقلية التي ترمي إلى اقامة مذهب من تأكيد وجود قضايا صادقة للفكر بوجه عام، ولذلك اعتقد أن الفلسفة لا تكون فلسفة إلا باعتناقها مع المسيحية والتي تشكل للفلسفة عاملاً جوهرياً. المشاركة:
يعتقد مارسيل أن أول لقاء يتم بيننا وبين سر الوجود، إنما يتحقق عبر المشاركة الحية، وأن فكرة المشاركة ليس بالمعنى العقلي المتواجدة عند افلاطون، بل أن المشاركة عند مارسيل تستند على دعامة وجدانية أو الشعور بالإحساس، وبذلك يحاول في اكثر من موضوع ايضاح أن الوجدان هو اسلوبنا البشري في المشاركة فنراه يضرب لنا مثلا بالرابطة الوجدانية العميقة التي تنشأ بين الفلاح والأرض أو بين البحار والبحر ،وبذلك يعني بهذه الأمثلة أن هنالك رابط وجداني يتعدى كل مصلحة وهناك اتحاد وتطابق وجودي يتحقق بين الفلاح وارضه بحيث أن أي قطيعة تحدث بينه وبين تلك الأرض لابد من أن تنطوي بالنسبة إليه على فقدان حقيقي لذاتيته، وهذه الرابطة العميقة تتحقق عبر المشاركة، وهي حالة يمكن لكل من الأفراد أن يدركوا فيها الذاتية لبعضهم البعض.(6)
الله في فلسفة مارسيل:
يذهب مارسيل إلى أننا محتاجون الله في كثير من المواقف ونقوم بدعاء مرسل من أعماق فاقتي، ويفترض هذا الدعاء تواضعاً جذرياً عند الذات وتواضعاً تستقطبه المفارقة نفسها للذي يتضرع إليه، والحياة الخاصة هي وحدها التي تقدم المرآة حيث يأتي لينعكس اللامتناهي، وأن البحث في الماورائيات هو تأمل في فعل الإيمان المنظور إليه في صفاته وفي الشروط التي تسمح له بالبقاء، ومع ذلك يرى مارسيل المحاولة للوصول إلى الله هي محاولة يائسة، وأن البرهان لا يمكنه أن يحل محل الإيمان، وأن واقع الإيمان هو أتصال بين الذات وبين الغير، ولا يمكن أن يتم إلا على أساس وضع ملموس معين، ونحصل عن طريق الإيمان على نوع من الكشف المتعلق بالله الذي يصبح بالنسبة لي شخصاً، إذ الإنسان لا يستطيع أن يفسر نفسه لنفسه، أو أن يفهم نفسه إلا إذا انفتح على علو، ويعتقد مارسيل أننا نتوجه تلقائياً نحو إدراك الكيان المطلق الذي يشكل سر بالنسبة للعقل، ولا سبيل إلى اكتشاف هذا السر إلا عن طريق الاختبار المعاش، وأنه لكي نجيب على التساؤلات الخاصة بوجود الإله، علينا قبل ذلك أن نحدد على نحو دقيق مفهوم الوجود ذاته، ومع ذلك لا يمكن البرهنة على وجود الإله عن طريق الوسائل العقلانية، إنما يلتقي الإنسان بالإله على نفس المستوى الذي يلتقي فيه بالآخر، أي مستوى(الأنت) في إطار المحبة والعبادة، ويكون هذا اللقاء نوعاً من المشاركة في الوجود الحق، والحب هو الطريق إلى الله، وهنا ينتهج مارسيل المنهج الصوفي، ويرى أنه لا يمكن أن يكون ثمة حب حقيقي إلا في الله ومن خلاله، والانسان لا يستطيع أن يفسر نفسه بنفسه أو أن يفهم نفسه إلا إذا انفتح على علو ويتضح ذلك في سلوكين وهما الوفاء والامل.(7)
الوفاء:
يعتقد مارسيل أن الوفاء من الصعب تعريفه من الناحية النظرية، لأنه في صميم نطاق الإشكالية الميتافيزيقية وبهذا المعنى هو المحافظة على أولوية الوجود والقيم التي يعبر عنها، فالوجود هو سر من حيث هو وجود، والوفاء هو الاستمرار الفعال للوجود، و هو الذي يضفي الاستمرارية على الوجود ويضاعف ويعمق هذا الوجود، إذ الوفاء تجربة تكشف عن معنى الوجود الذاتي، و يجعلنا في حالة ابداع خلاق يتجلى من خلاله هذا الوجود، وبناء على ما سبق، فالوفاء هو شهادة الوجود إذ أنه لا يتأثر بالغياب أو الموت ويكون ممكناً فقط في مستوى معين من العلو في الوجود، وبذلك الوفاء ليس مجرد فعل من افعال الإرادة يرغمني بواسطة ديالكتيكية هو ومقتضياته الجوهرية على الارتفاع شيئا فشيئا حتى اصل إلى المطلق، بل هو نداء الله باعتباره شاهدا وكفيلاً، والوفاء الحقيقي للغير هو الذي يصعد بنا إلى الله، لأن الله هو الانت الذي يبادلنا الوفاء دائماً ولا يتخلى ابداً عن الإنسان ولا يمكن أن يغدر به، و هو نداء إلى الله لكي يشهد على وفاءنا ،و يكون دائما مطلقاً، وبلا أي تحفظات أو شروط، لأن الوفاء المكبل بالشروط والقيود ليس وفاء، بل ارتياباً وشكاً.
الأمل:
الأمل في تصور مارسيل هو فلسفة حقيقية، وفلسفة للتقدم والفعل، والأمل هو تحقيق ووسيلة لتأكيد انفسنا والمحرك في هذا السلوك هو اقبال معين على الحياة وحماس يأبى الاذعان، والأمل وحده يستطيع أن يتيح لنا أن ندرك معنى المحنة ( الألم والموت ) وقيمتها، إذا الأمل ذو طابع انطولوجي، لأنه شعور محرر نعترف معه بأن ثمة سراً، وأن هذا السر هو الكفيل وحده بتحقيق انطلاقنا، فالأمل فعل من افعال إرادة الإنسان ويستند على الإيمان ويتسم بطابع تنبئي وهو متأصل في الوجود وله صلة وثيقه بالإرادة ،والأمل يعني التضامن الشامل في سبيل التقدم نحو المثل الاعلى، وهو تأهب مرتبطة في تجربة المشاركة، لإنجاز فعل متعال في الإرادة والمعرفة، والأمل الذي يستند إلى الإيمان نوعاً من البرهان على وجود العلو، و يقتضي منا مساعدة الغير وتأييد جهودهم في سيرها قدماً إلى الأمام نحو المثل الاعلى المشترك، وهنا يؤكد مارسيل أن الأمل هو الطريق للوصول إلى الله، وهو التأهب للدخول في تجربة المشاركة والتعاطف والحب.(8)
الإيمان:
الإيمان عند مارسيل هو الإيمان (الانت) أي الإيمان بوجودك المفصول عن وجودي، وهو ليس مجرد ايمان بالإطلاق , بل هو ايمان ( بالأنت) الحاضر حضوراً مستقل عن دائرة الانا التي تعيقه وتحده، وهو يصاحب كل مجهود انساني حقيقي يدل دلالة واضحة على أنه بالنسبة إلى الإنسان الذي يشقى ويناضل ويوجد معنى الكون , إذا الإيمان قوة وفضيلة وليس ضعف وعجز، وميزته أنه يجعل المرء يدرك أنه ليس مجرد وليس عالم مجرد، بل يجتمع الذات والموضوع في فعل الإيمان , والإيمان يمنح الحياة معناها وينير طريق صاحبه، و هو معطى فكري، وتأتي الأنا لتمارس عليه التفكير، والإيمان لا يتناول فقط الكائن، إنما هو من الكائن، وهو عمق الأنا، ويدخل الإيمان للفحص الضميري، ويكتشف في السلوك، و يصاحب كل مجهود إنساني حقيقي يدل دلالة واضحة على أنه بالنسبة إلى الإنسان الذي يشقى ويناضل يوجد معنى للكون، و بالضد من أولئك الذين يرونه شكل من أشكال السذاجة والضعف، أذ الإيمان فضيلة وقوة وليس ضعف وعجز، وأن الواقع موضوع الإيمان ليس من تلك الموضوعات التي يمكن أن تتحقق من صدقها وأن تحكم فيها، وذلك لأن هذا الموضوع ليس شيئاً خارجياً يفرض وجوده، على مستوى الحقيقة الموضوعية، وإنما هو حقيقة أبعد عمقاً مما أنا عليه بالنسبة إلى نفسي، ويبين مارسيل أن موضوع الإيمان يعرض على وجه الدقة بوصفه متعالياً بالنسبة إلى الشروط التي تقتضيها كل تجربة، وعلى هذا يجب أن نعترف بأنه كلما أستخلص الإيمان نفسه بكل نقائه انتصر على النزعة الشكية التي لا يمكن أن تضع قيمته موضع التساؤل، إلا لأنها تبدأ بتكوين فكره عنه تشوه طبيعته، ويضيف مارسيل إلى أنه كلما اقتربت النفس من الإيمان ازدادت اقتناعاً بأنها عاجزة تمام العجز عن إيجاده، أذا ينبغي أن نتفق على أن الإيمان لا يمكن إلا أن يكون تسليماً، أو هو بتعبير أدق لا يمكن إلا أن يكون كشفاً وشهادة مستمرة، والفكرة الرئيسية في فلسفة مارسيل هي أن الإيمان ليست حالة من حالات الفكر بوجه عام، وهو لا ينتسب إلى العقل بأي حال من الأحوال، وإنما هو واقعة من وقائع الذات الفردية المتجسدة.(9)
الحرية:
يبين مارسيل أن فلسفة الوجود أيضاً فلسفة الحرية، والحرية تنكشف لنا في مجال السر لا في مجال المشكلة، والحرية تنكشف لنا في اللحظة التي تتجه فيها الذات نحو الداخل لكي تدرك ما لديها من مقدره على الالتزام أو الخيانة، فالحرية وثيقة الصلة بالأفعال الذاتية، وهنا أيضاً يرى مارسيل أن الذات ليست واقعة أو موضوعاً بل هي حرية أو كسب، والحرية لا يمكن أن تفهم في نطاق التأليف بين الذوات، لكنها قائمة على التفاهم والحب والاحترام مع الاخر، فالحرية هي ما تحقق كل ذلك، ويرى مارسيل أن على الانسان أن يجعل من نفسه حراً وأن عليه أن يستفيد من الظروف التركيبية التي تمكنه من الضفر بحريته، أي أن الحرية يضفر بها وليست قائمة بطبعها، فالحرية بالاكتساب وبالسعي لا بالفطرة والطبيعة (10)
الحب:
يعتقد مارسيل أن الحب سر من اسرار الوجود وهو مرتبط بكل وجود الإنسان وكيانه وهو يكشف عن الوجود ويفتح التواصل مع الاخر في اكثر اشكاله عمقاً واكتمالاً، وهو الرفض الفعال للاقتصار على الذات وهو نقطة البدء لفهم سر العلاقة بين النفس والجسم، و نكون به قادرين على مواجهة الوجود دون احالته إلى ملك أو إلى موضوع، ومعنى ذلك أن الحب يصبح تجربة خالية من المعنى أن لم يتضمن التزاماً ما لا يأتي من الخارج وإنما ينبثق من اعماق وجودي.
الانا والأنت:
يعتقد مارسيل أن أول لقاء يتم في ما اطلق عليه سر الوجود يتحقق عبر المشاركة الحيه، أما البحث عن الوجود الحق عند مارسيل يقود نحو الوجود المتبادل بين الذوات الفردية والحوار الخلاق بين الانا والانت، وهذا الوجود لا يظهر إلا حين اكف عن النظر إلى الاخر بوصفه موضوعاً أو أداة في خدمة اهدافي وابدأ في النظر إليه على أنه غاية في ذاته، وأن له قيمته الخاصة التي تعادل قيمتي، وأن الاتصال الحقيقي بين الذوات لا يكاد يحدث إلى في لحظات التلاقي الوجودي، وهذا التلاقي الحقيقي هو الذي تنكشف لنا فيه الذات الاخرى بوصفها انت أي مركزاً شخصيا للذاتية ،والانا كما يرى مارسيل توجد بقدر ايجاد الأخر وكلما نجح الإنسان في تحرير نفسه من سجن التمركز الذاتي تزايد وجوده في الواقع الفعلي، إذا العلاقة بين الانا والانت سر من اسرار الوجود، إذ اننا نتمكن من فهم انفسنا من خلال البدء من الأخر، وذلك لأن وجودي يتضمن وجود الاخرين، فالأنت يعزز وجودي، وادرك وجودي من خلال الاخر، ومعنى هذا أن الأخر هو الذي يمنحني فكرتي الأولية عن الوجود وبمقدار ما اعتقد في وجود الأخر فأنني اؤكد وجودي، وبالتالي فإنني لا يمكن أن احقق وجودي والعلو في الوجود إلا من خلال علو الأخر ووجوده، إذا الانت هو الحضور المباشر، والواقع أن الحضور يبدأ من الانا وينتهي إلى الانت المطلق الله، وذلك في سلسلة متماسكة من الاتصالات.(11)
الإنسان:
في رأي مارسيل أن قيمة الإنسان تنحدر انحداراً شديداً عندما يتحول إلى مجرد مجموعة من الوظائف الحيوية والاجتماعية، فيصبح فرداً ذا بعد واحد شبيهاً بالآلة، والديمقراطية في نظرة الايديولوجية التي تبرر هذه الاعذار من الناحية النظرية، وهي دولة المبني المجهول، التي يتحكم فيها المجرد ولا شخصي والرأي العام، الذي لا يستند إلى أية تجربة، ويرفض مارسيل التعاون الضار الذي يقوم بين الاتجاهات والتكنوقراطية العلمية والقوى الحاكمة الشمولية، كما يرفض التزاوج المزعوم بين الدعوى إلى القومية والثورة الصناعية، فالإنسان في ظل هذا التزاوج يستحيل إلى مجرد عنصر ومجرد ترس في الآلة الكبرى الشمولية آلة الدولة، ويصبح لا وجود له إلا في خدمة هذا الواقع الشمولي.(12)
الجسم:
كان سقراط يرى في المفهوم البشري كائناً ناطقاً، أما مارسيل يؤكد أن الإنسان بدن أو ذات متجسده قبل أن يكون شيء اخر، وهو ظاهره في كل تفكير ثانوي، واليقين الوجودي ماثل في الخبرة التي احصلها عن جسمي على نحو ما هو حي بالفعل وأن الجسم هو حلقة الاتصال بين الذات المفكرة والعالم الخارجي، وهنا يختلف مع ديكارت الذي يرى أنه يدرك نفسه باعتباره فكراً محضاً، بل يدرك نفسه باعتباره متجسداً في بدن، والشي الموجود هو قابل للاتصال بجسمي والتأثير عليه سواء كان بطريقة مباشره أو غير مباشره، بيد أن مارسيل لا يوافق الماديين على اعتبار أن الجسم آلة نمتلكها أو اداة نتصرف بها، بل أن للجسم مساراً وجودياً هو الذي يجعل اصداء العالم الخارجي تتردد في صميم حياتنا النفسية، ومن هنا يرى مارسيل أن الذات متفتحة للعالم من خلال الجسد الذي لا نكاد ننفصل عنه ولا يكاد ينفصل عنها.(13)
الموت:
يبين لنا مارسيل أن الموت لا يصبح شكلاً أليماً، إلا حينما نكون بصدد موت الحبيب، ومعنى هذا أن الموت لا يقلقنا بإزاء واقعة الفناء، وانما حينما نكون بصدد الشخص الذي نحبه، ولكن الوفاء يتحدى كل غياب ويشعرنا بأن المحبوب لا يمكن أن يموت، وأن الحب نفسه اقوى من الموت، وقد كان مارسيل عانى بسبب فقدان أمه ثم زوجته ويحاول أن يبين أنه توجد صلة روحية بين الاحياء والموتى، وأن الموت ليس بمثابة موضوعات أو افكار، بل هم شخصيات مرتبطة بوجودنا الشخصي وتبقى هناك علاقة تجمع بيننا وبينهم.(14)
الهوامش:
1_ ينظر عبد الرحمن بدوي : دراسات في الفلسفة الوجودية , المؤسسة العربية للدراسات والنشر , بيروت ط1 , 1980 , ص 240_241. وينظر أيضاً فؤاد كامل : اعلام الفكر الفلسفي المعاصر دار الجبل , بيروت , ط1 ,1993 ,ص224_225_226. وينظر أيضاً زكريا ابراهيم : دراسات في الفلسفة المعاصرة , مكتبة مصر , ص 454_455. وينظر أيضاً عبد المنعم الحفني : موسوعة الفلسفة والفلاسفة , ج 2 , مكتبة مدبولي , ص1203. وينظر أيضاً جورج طرابيشي : معجم الفلاسفة , دار الطليعة , بيروت ,ط3 , 2006 , ص632.
2_ينظر فؤاد كامل : اعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ص226_227.
3_ينظر جبريل مارسيل : الخطوط الاولى لفلسفة ملموسة , ترجمة قزحيا خوري : منشورات عويدات , بيروت , ط1 , 1988 ص21. وينظر أيضاً عبد الرحمن بدوي : دراسات في الفلسفة الوجودية , ص242. وينظر أيضاً فؤاد كامل : اعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ص224_227. وينظر أيضاً بوشنسكي : فلسفة المعاصرة في اوربا , ترجمة عزت قرني , عالم المعرفة ( 165) ,الكويت , ص 241. وينظر أيضاً زكريا ابراهيم : دراسات في الفلسفة المعاصرة، 457_458_459.
4_ينظر فؤاد كامل : اعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ص225.
5_ينظر بوشنسكي : فلسفة المعاصرة في اوربا، ص241_242. وينظر أيضاً عبد الرحمن بدوي : دراسات في الفلسفة الوجودية , ص249_250. وينظر أيضاً مجموعة مؤلفين : معنى الوجودية , مكتبة الحياة, بيروت , ص104-105. وينظر أيضاً سعيد العشماوي : تاريخ الوجودية في الفكر البشري , دار الوطن العربي , بيروت ,ط3 ,1984 ,ص124. وينظر أيضاً زكريا ابراهيم : دراسات في الفلسفة المعاصرة، ص474_475.
6_ينظر زكريا ابراهيم : دراسات في الفلسفة المعاصرة، ص467.
7_ينظر ريجيس جوليفيه : المذاهب الوجودية , ترجمة فؤاد كامل , دار الآداب , بيروت , ط1 ,1988، ص251. وينظر أيضاً بوشنسكي : فلسفة المعاصرة في اوربا، ص240. وينظر أيضاً مجموعة مؤلفين : معنى الوجودية , ص105. وينظر أيضاً فؤاد كامل : اعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ص231.
8_ينظر ريجيس جوليفيه : المذاهب الوجودية , ص246.
9_ينظر جبريل مارسيل من الرأي الى الايمان , ترجمة قزحية خوري , منشورات عويدات , بيروت , ط1 ,1988 ,ص31-32. وينظر أيضاً عبد الرحمن بدوي : دراسات في الفلسفة الوجودية , ص245_246. وينظر أيضاً مجموعة مؤلفين : معنى الوجودية , ص105_106. وينظر أيضاً فؤاد كامل : اعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ص227.
10_ ينظر زكريا ابراهيم : دراسات في الفلسفة المعاصرة، ص471_472. وينظر أيضاً عبد الرحمن بدوي : دراسات في الفلسفة الوجودية , ص258_259.
11_ينظر فؤاد كامل : اعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ص230. وينظر أيضاً زكريا ابراهيم : دراسات في الفلسفة المعاصرة، ص468. وينظر أيضاً بوشنسكي : فلسفة المعاصرة في اوربا، ص242.
12_ ينظر فؤاد كامل : اعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ص228_229.
13_ ينظر زكريا ابراهيم : دراسات في الفلسفة المعاصرة , ص 464 – 465. وينظر ايضاً عبد الرحمن بدوي : دراسات في الفلسفة الوجودية , ص246- 247.وينظر ايضاً جبريل مارسيل : الخطوط الاولى لفلسفة ملموسة , ص32 – 33.
14_ ينظر زكريا ابراهيم : دراسات في الفلسفة المعاصرة , ص 470.



#حيدر_جواد_السهلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرجل الثاني في الإسلام وصوت العدالة الإنسانية، أمير المؤمني ...
- مفهوم الميتافيزيقا
- الظاهرة العبثية الإلحاد
- الاقتصاد في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر
- النظام الاجتماعي في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر
- العالم الذي قهر الإعاقة ستيفن هوكينج
- مفهوم الهوية في فكر عبدالجبار الرفاعي
- فرسان العراق في حرب 6أكتوبر
- مفهوم الولاء في فلسفة جوزايا رويس الأخلاقية
- المعوقات الاجتماعية لمشاركة المرأة العربية في صنع القرار الإ ...
- الدين والتدين في فكر عبدالجبار الرفاعي
- موقف عبدالجبار الرفاعي من التربية
- موقف عبدالجبار الرفاعي من الاستبداد
- الدولة في فكر عبدالجبار الرفاعي
- عبدالجبار الرفاعي سيرة وفكر
- البرلمان في فلسفة جون ستيوارت مل السياسية
- مفكر بعقل فقيه، ماجد الغرباوي
- بيل جيتس
- فلسفة الثورة عند سيد الشهداء الحسين بن علي(ع)
- الطبيب الثائر، جيفارا


المزيد.....




- أول لاجئة سورية بالعالم تحصل على رخصة قيادة الطائرات.. ما قص ...
- دول عربية يكشفها تقرير بقائمة الأكثر استيرادا للأسلحة الأمري ...
- استمع لما قاله أمين مجلس التعاون بالقمة الخليجية الأوروبية
- -تدمير ميركافا بطاقمها-.. حزب الله يكشف عن نتائج ضرباته ضد أ ...
- تحذير أممي يطال أكثر من مليار شخص في العالم
- هل يمكن تصور لبنان دون ميليشيا حزب الله؟
- المعارضة الأرجنتينية تطالب بإقالة وزيرة الخارجية
- أنقرة ترد على أنباء متداولة حول وقوع هجوم على تركيا من داخل ...
- مكتب الأمن القومي البولندي يدعو إلى إنشاء ترسانة من الذخائر ...
- صفارات الإنذار تدوي في أكثر من 60 مدينة وبلدة شمال إسرائيل


المزيد.....

- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - سقراط الجديد جبريل مارسيل