|
1من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - فريدريك أنجلز-أصل العائلة و الملكية الخاصة والدولة
عبدالرحيم قروي
الحوار المتمدن-العدد: 8132 - 2024 / 10 / 16 - 20:57
المحور:
الارشيف الماركسي
أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة فريدريك أنجلز ترجمة: الياس شاهين الحلقة الأولى فهرس ----------------------------------------------------- مقدمة الطبعة الأولى عام 1884 3 مقدمة الطبعة الألمانية الرابعة لعام 1891 5 1 ـ أطوار ما قبل الحضارة 14 2 ـ العائلة 18 2/1 عائلة قربى الدم- الطور الأول من العائلة 24 2/2 العائلة البونالوانية 26 2/3 العائلة الثنائية 32 2/4 العائلة الأحادية 43 3 ـ عشيرة الإيروكوا 57 4 ـ العشيرة اليونانية 68 5 ـ ولادة الدولة الأثينية 76 6 ـ العشيرة والدولة في روما 83 7ـ العشيرة عند السلت والجرمان 91 8 ـ تكوّن الدولة عند الجرمان 101 9 ـ البربرية والحضارة 109 -------------------------------------------- مقدمة الطبعة الأولى عام 1884 الفصول الواردة أدناه هي، إلى حد ما، تنفيذ لوصية. فإن كارل ماركس بالذات هو الذي كان قد اعتزم أن يعرض نتائج أبحاث مورغان بالارتباط مع معطيات دراسته - و أستطيع أن أقول، ضمن حدود معينة، دراستنا- المادية للتاريخ و أن يوضح على هذا النحو و حسب كل أهميتها. ذلك أن مورغان قد اكتشف من جديد في أميركا و على طريقته المفهوم المادي عن التاريخ، الذي سبق و اكتشفه ماركس منذ أربعين سنة، و على هذا توصل، في النقاط الرئيسية، عند مقارنته البربرية و الحضارة، إلى نفس النتائج التي توصل إليها ماركس. و كما أن اقتصاديي ألمانيا الرسميين استنسخوا "رأس المال" بجهد يوازي عنادهم في لزوم الصمت حوله، كذلك بالضبط سلك ممثلو علم "ما قبل التاريخ" في إنجلترا حيال "المجتمع القديم" لمورغان* . و كل ما يستطيعه عملي، هو أن يعوض، بصورة ضعيفة، عما لم يكتب لصديقي الراحل القيام به. و لكنه توجد عندي في عداد ملخصاته المسهبة من مورغان (1) ملاحظات انتقادية أوردها هنا بقدر ما تتعلق بالموضوع. حسب المفهوم المادي، يشكل إنتاج و تجديد إنتاج الحياة المباشرة، في آخر تحليل، العامل الحاسم في التاريخ. و لكنه هو ذاته، مع ذلك، ذو طبيعة مزدوجة، فمن جهة، إنتاج وسائل الحياة: سلع التغذية، الألبسة، المسكن، و الأدوات الضرورية لهذا، و من جهة ثانية، إنتاج الإنسان نفسه، مواصلة النوع. و إن النظم الاجتماعية التي يعيش في ظلها أهل عهد تاريخي معين و بلد معين يشترطها مظهراً الإنتاج: درجة تطور العمل من جهة، و درجة تطور العائلة من جهة ثانية. فبقد ما يكون العمل أقل تطوراً و كمية منتوجاته، و بالتالي ثروة المجتمع، أضيق حدوداً، بقدر ما تتجلى تبعية النظام الاجتماعي للعلاقات العشائرية بمزيد من القوة. هذا مع العلم أن إنتاجية العمل تتطور أكثر فأكثر على الدوام في نطاق بنية المجتمع هذه، والقائمة على علاقات العشائرية، و معها تتطور الملكية الخاصة، و التبادل، و الفوارق في الممتلكات، و إمكانية الاستفادة من قوة عمل الغير، و يتطور بالتالي أساس التناقضات الطبقية: العناصر الاجتماعية الجديدة التي تحاول على مر الأجيال أن تكيف النظام الاجتماعي القديم للظروف الجديدة إلى أن يؤدي، في آخر الأمر، التنافر بين القديم و الجديد، إلى انقلاب تام. فإن المجتمع القديم، القائم على الاتحادات العشائرية، يتفجر بفعل اصطدام الطبقات الاجتماعية المتشكلة حديثاً، و مكانه يحل مجتمع جديد، يتشكل في دولة، و لم تبق الاتحادات العشائرية حلقاته الدنيا، بل أصبحتها الاتحادات الإقليمية، مجتمع يخضع فيه النظام العائلي كلياً لعلاقات الملكية، و تتطور فيه بكل حرية من الآن و صاعداً التناقضات الطبقية و النضال الطبقي التي تؤلف مضمون التاريخ المكتوب كله حتى أيامنا هذه. و مأثرة مورغان الكبرى أنه اكتشف هذا الأساس من قبل التاريخ لتاريخنا المكتوب و بعثه بخطوطه الكبرى، ووجد في العلاقات العشائرية للهنود الحمر في أميركا الشمالية المفتاح لفض أهم ألغاز التاريخ القديم، الإغريقي والروماني والجرماني، غير المفضوضة حتى الآن. ومؤلفه ليس عمل يوم واحد فقط. فقد درس مادته زهاء أربعين سنة إلى أن استوعبها تماماً. ولكن كتابه جاء بالمقابل واحداً من مؤلفات زمننا القليلة التي تشكل عهداً. و في العرض الوارد أدناه، من السهل تماماً و كلياً على القارئ أن يميز بين ما يخص مورغان و بين ما أضفته أنا. ففي القسمين التاريخيين عن اليونان و روما، لم أكتف بمعطيات مورغان، بل أضفت ما كان تحت تصرفي. أما القسمان عن السلت و الجرمان، فهما يخصاني أساساً، فإن مورغان كان يملك هنا مواد أخذا كلها تقريباً من مصادر أخرى، و لم يكن يملك عن الجرمان - باستثناء تاقيطس- إلا تزييفات اليد فريمان (2) الليبرالية الرديئة. و التعليلات الاقتصادية التي كانت كافية للأهداف التي ابتغاها مورغان، و غير كافية أبداً للأهداف التي ابتغيتها أنا، إنما أعدت صياغتها كلها من جديد. و أخيراً، بديهي أني مسؤول عن جميع الاستنتاجات التي عرضتها دون الرجوع مباشرة إلى مورغان. كتبت نحو 26 أيار 1884 في كتابF. Engles. " Der Ursprung der Familie, des Privateigenthums und des Staats" Hottingen-Zürich,1884تصدر حسب نص الطبعة الألمانية الرابعة. الهوامش: 1. المقصود هنا " ملخص كتاب لويس هـ.مورغان "المجتمع القديم"" الذي وضعه كارل ماركس. 2. المقصود كتاب E.A.Freeman,"Comparative Politics". London, 1873 (فريمان . "السياسة المقارنة". لندن، 1873). مقدمة الطبعة الألمانية الرابعة لعام 1891 مساهمة في تاريخ العائلة البدائية (باهوفن، ماك- لينان، مورغان) الطبعات السابقة من هذا الكتاب التي صدرت بأعداد كبيرة قد نفذت كلياً منذ حوالي نصف سنة، و من زمان ، طلب مني الناشر* أعداد طبعة جديدة. و حتى الآن حالت دوني و القيام بذلك أعمال عاجلة. و منذ صدور الطبعة الأولى، تصرمت سبع سنوات، و في هذه السنوات تحققت نجاحات كبيرة في دراسة الأشكال البدائية للعائلة . و لهذا كان من الضروري إدخال إصلاحات و إضافات دقيقة هنا خصوصاً و إن نية طبع النص الحالي نقلاً عن الكليشهات تحرمني لفترة من الوقت إمكانية إجراء التعديلات اللاحقة. و هكذا أعدت النظر في النص كله بدقة و انتباه، و أدخلت جملة من الإضافات أخذت فيها بالحسبان بقدر كاف، كما آمل، حالة العلم في الوقت الحاضر. ثم أني أورد أدناه، في هذه المقدمة، لمحة موجزة عن تطور النظرات إلى تاريخ العائلة، ابتداء من باهوفن حتى مورغان، و إني أفعل ذلك بصورة رئيسية لأن مدرسة التاريخ البدائي الإنجليزية ذات الميول الشوفينية تبذل كل ما في وسعها، كما من قبل، لكي تلزم الصمت حول الانقلاب الذي حققته اكتشافات مورغان في حقل النظرات إلى التاريخ البدائي، دون أن تستحي، مع ذلك، من أن تنسب لنفسها النتائج التي توصل إليها مورغان. ناهيك بأنهم هنا و هناك في البلدان الأخرى يتبعون هذا المثال الإنجليزي بفائق الحمية. لقد ترجم عملي إلى مختلف اللغات الأجنبية. بادئ ذي بدء إلى الإيطالية: "أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة"، ترجمة باسكواله مارتينييتي و مراجعة المؤلف، دار بينيفنتو، عام 1885. ثم إلى الرومانية: "أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة"، ترجمة يون نيد يجده، صدرت الترجمة في مجلة ياسي "Contemporanul" من أيلول 1885 إلى أيار 1886، ثم إلى الدانماركية: "أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة"،و قد أعد غرسون ترير الطبعة. كوبنهاغن، عام 1888، و الترجمة الفرنسية بقلم هنري رافه، نقلاً عن هذه الطبعة الألمانية، هي قيد الطبع. *** قبل بداية الستينيات، لم يكن من الممكن أن يتناول الكلام تاريخ العائلة. فإن علم التاريخ في هذا الميدان كان لا يزال بعد بكليته خاضعاً لتأثير أسفار موسى الخمسة (التوراة). فإن شكل العائلة البطريركي، الموضوف هناك بإسهاب أكثر مما في أي مكان آخر، لم يعتبروه قطعاً أقدم شكل و حسب، بل اعتبروه أيضاً مماثلاً تماماً- باستثناء تعد الزوجات- لشكل العائلة البرجوازية المعاصرة، و عليه لم يطرأ حقاً و فعلاً، حسب زعمهم، أي تطور تاريخي على العائلة. و أكثر ما أجازوه ، هو إمكان وجود مرحلة من العلاقات الجنسية غير المنظمة في الأزمنة البدائية.-صحيح أنهم كانوا يعرفون أيضاً، علاوة على شكل الزواج الأحادي، شكل تعدد الزوجات الشرقي و شكل تعدد الأزواج الهندي التيبتي، و لكنه كان من المستحيل وضع هذه الأشكال الثلاثة في تعاقب تاريخي، فظهرت بعضها إلى جانب بعض دون أي صلة متبادلة. أما أن النسب عند بعض شعوب العالم القديم، كما عند بعض الشعوب المتوحشة التي لا تزال موجودة، لم يكن إلى الأب بل إلى الأم، و أن خط الأم كان يعتبر بالتالي الخط الوحيد الذي له شأن ، و أن الزواج ممنوع عند كثير من الشعوب المعاصرة داخل جماعات معينة، كبيرة إلى هذا الحد أو ذلك، لم تتناولها الدراسة بعد بإسهاب و تفصيل، و إن هذه العادة لا تزال قائمة في جميع مناطق الدنيا، - فإن هذه الوقائع كان ، حقاً , فعلاً، معروفة، و كانت الأمثلة من هذا الطراز تتراكم أكثر فأكثر. و لكن أحداً لم يكن يعرف كيف يتناولها و يدرسها، بل إنها تظهر ببساطة، حتى في "أبحاث في تاريخ البشرية البدائي، الخ.." لمؤلفه أ.ب. تايلور 1865 (3)، بمثابة "عادات غريبة" إلى جانب تحريم بعض المتوحشين للمس حطبة مشتعلة بأداة حديدية، و غير ذلك من الترهات الدينية. إن دراسة تاريخ العائلة تبدأ منذ عام 1861، عندما صدر عمل باهوفن "حق الأم"(4). فقد تقدم المؤلف في هذا العمل بالموضوعات التالية: 1. في البدء كانت توجد عند البشر علاقات جنسية غير محدودة، أطلق عليها التعبير غير الموفق "الهيتيرية" ("Hétérisme"). 2. إن هذه العلاقات تنفي كل إمكانية لتقديم الدليل الأكيد على الأبوة، و لهذا لم يكن من الممكن تقرير النسب إلا حسب خط الأم- بموجب حق الأم،-كما كان الحال في البدء عند جميع شعوب الأزمنة الغابرة. 3. من جراء هذا، تمتعت النساء، بوصفهن أمهات، بوصفهن الوالدات الوحيدات المعروفات بكل ثقة و تأكيد للجيل الفتي، بقدر كبير من الاحترام و التقدير، بلغ، برأي باهوفن، حد سيادة النساء التامة("لجينيكوقراطية" Gynécocratie أي "حكم النساء"). 4. إن الانتقال إلى الزواج الأحادي الذي تخص المرأة بموجبه رجلاً واجداً لا غير كان ينطوي على مخالفة لوصية دينية متقادمة العهد (أي على مخالفة عملية لحق الرجال الآخرين المزمن في هذه المرأة)، مخالفة كان ينبغي التكفير عنها أو كانت تجاز بشرط التعويض عنها، أي أنه كان ينبغي على المرأة في خلال فترة معينة أن تضاجع غير زوجها من الرجال. و الأدلة على هذه الموضوعات يجدها باهوفن في استشهادات عديدة، مجموعة بفائق الدقة و العناية، من أدب الأزمنة الغابرة الكلاسيكي. و أن التطور من "الهيتيرية" إلى أحادية الزواج، و من حق الأم إلى حق الأب يجري، برأيه، - و لا سيما عند الإغريق،- أثر تطور التصورات الدينية المطرد، أثر تنصيب آلهة جدد، يمثلون المفاهيم الجديدة، في مجموعة الآلهة التقليدية التي تمثل المفاهيم القديمة، الأمر الذي يؤدي إلى زحزحة هذه المفاهيم القديمة أكثر فأكثر إلى المؤخرة من قبل المفاهيم الجديدة. و عليه، ليس تطور الظروف الفعلية لحياة الناس، بل الانعكاس الديني لهذه الظروف في رؤوس هؤلاء الناس بالذات هو الذي أفضى، برأي باهوفن، إلى التغيرات التاريخية في وضع الرجل و المرأة الاجتماعي المتبادل. و تبعاً لذلك، يفسر باهوفن ثلاثية "أوريستية" المسرحية لإسخيلوس على إنها تصور درامي للصراع بين حق الأم الهالك و حق الأب الذي انبثق في العهد البطولي و انتصر. فإن كليتمنسترا، إرضاء لعشيقها إيغيست ، قد قتلت زوجها أغممنون بعد عودته من حرب طروادة، و لكن أوريست، ابنها و ابن أغممنون، يقتل أمه انتقاماً لمقتل أبيه. و نظراً لذلك، تطارده الإيرينيات (Erinnyes) الحاميات الشيطانيات لحق الأم، الذي يعتبر قتل الأم أفدح جريمة، و جريمة لا تغتفر. و لكن أبولون الذي أقنع أوريست، بوسيط الوحي باقتراف هذا العمل، و أثينا التي يدعونها للقضاء في هذه المسألة ، - و هذا الإله و هذه الآلهة يمثلان كلاهما هنا النظام الجديد القائم على حق الأب، -يحميان أوريست، و تستمع أثينا إلى الطرفين. إن كل موضوع النزاع وارد بإيجاز في المناقشات التي تجري بين أوريست و الإيرينيات. فإن أوريست يستند إلى كون كليتمنسترا قد ارتكبت إثماً مزدوجاً بقتلها زوجها هي و والده هو في الوقت نفسه. فلماذا تلاحقه إذن الإيرينيات و لم يلاحقنها هي المذنبة أكثر منه بكثير؟ الجواب مذهل: "لم تكن مع الزوج الذي قتلته في قرابة الدم"** إن قتل امرئ لا تربطه بالقاتل رابطة الدم، حتى و إن كان زوج المرأة التي قتلته، تمكن فديته، و لا علاقة أبداً للإيرينيات بهذا الأمر. فشأنهن ألا يلاحقن جريمة القتل إلا عندما تقع وسطع الأقرباء بالدم، و جريمة قتل الأم هي، في هذه الحال، بموجب حق الأم، أفدح جريمة لا يمكن افتداؤها بشيء. و لكن هاهو ذا بولون يأخذ جانب الدفاع عن أوريست ، و تطرح أثينا المسألة على التصويت أمام أعضاء "الأريوباغ"- أي أمام المحلفين الأثينيين، فانقسمت الأصوات قسمين متعادلين، قسم يؤيد التبرير و قسم يؤيد المعاقبة، آنذاك صوتت أثينا بوصفها رئيسة المحكمة في صالح أوريست و أعلنت براءته. و هكذا انتصر حق الأب على حق الأم ، و تغلب "آلهة الجيل الأصغر"، كما تسميهم الإيرينيات ذاتهن، على الإيرينيات، و في آخر المطاف، تنتقل الإيرينيات أيضاً إلى خدمة النظام الجديد آخذات على أنفسهن واجبات جديدة. إن هذا التفسير الجديد ، و لكن الصحيح تماماً لثلاثية "أوريستية" المسرحية هو من أروع و أحسن الأماكن في كل كتاب باهوفن، و لكنه يثبت في الوقت نفسه أن باهوفن يؤمن على الأقل بالإيرينيات و أبولون و أثينا كما كان يؤمن بهم إسخيلوس في زمنه أي أنه يؤمن بأنهم اجترحوا معجزة في العهد البطولي الإغريقي: فقد دكوا الحق الأمي و أحلوا محله الحق الأبوي. و واضح أن هذا المفهوم الذي يقول أن الدين يقوم بالدور الفاصل في تاريخ العالم يؤدي في آخر المطاف إلى الصوفية الصرف. و لهذا كانت دراسة كتاب باهوفن- و هو عبارة عن مجلد ضخم كبير القطع- عملاً صعباً و أبعد من أن يكون دائماً مثمراً. و لكن هذا لا يقلل من منزلة باهوفن بوصفه بحاثة شق سبيلاً جديداً. فهو أول من نبذ الكلام الفارغ عن الحالة البدائية المجهولة المرفقة بعلاقات جنسية شاذة، و قدم البرهان على وجود شواهد كثيرة في الأدب الكلاسيكي القديم تؤكد أن الإغريق و الشعوب الآسيوية قد عرفت بالفعل قبل الزواج الأحادي حالة لم يكن فيها الرجال و حسب يدخلون في علاقات جنسية مع بضع نساء بل كانت فيها النساء أيضاً يدخلن في علاقات جنسية مع بضعة رجال، دون أن يشكل ذلك مخالفة للعادة، سواء من جانب الرجل أو المرأة. وأثبت أن هذه العادة قد خلف زوالها أثراً تجلى في واجب المرأة، المحصور ضمن إطار معين، بافتداء حقها في الزواج الأحادي بمضاجعة رجال آخرين، و أنه، لهذا السبب، لم يكن من الممكن في البداية حساب الأصل إلا تبعاً للخط النسائي ، أي من أم إلى أم، و إن أهمية الخط النسائي الاستثنائية هذه قد بقيت زمناً طويلاً حتى في مرحلة الزواج الأحادي، عندما أصبحت الأبوة ثابتة أو عندما صارت، على كل حال، تلقى اعترافاً، و أثبت أخيراً أن وضع الأمهات الأولي هذا بوصفهن الوالدات الوحيدات الأكيدات لأولادهن قد كفل لهن، و للنساء على العموم في الوقت نفسه، منزلة اجتماعية عالية لم يشغلنها قط مذ ذاك. صحيح أن باهوفن لم يضع هذه الموضوعات بمثل هذا الوضوح، فقد أعاقته عن ذلك نظرته الصوفية إلى العالم. و لكنه قدم البرهان عليها، و كان هذا في عام 1861 بمثابة ثورة كاملة. كتب باهوفن كتابه الضخم باللغة الألمانية أي بلغة أمة كانت في ذلك الحين تهتم ، أقل ما تهتم ، بما قبل تاريخ العائلة الحديثة. و لهذا بقي الكتاب مجهولاً. بل أن أقرب وريث لباهوفن تناول الموضوع ذاته في عام 1865 لم يسمع به. هذا الوريث كان ج.ف. ماك –لينان، النقيض المباشر السافر لسلفه. فعوضاً عن الصوفي العبقري، نجد أمامنا حقوقياً جافاً، و عوضاً عن الخيال الشعري الجامح ، نجد مطالعات محام أمام المحكمة مبنية و موزونة بدقة و إمعان. فإن ماك-لينان يجد عند كثير من الشعوب المتوحشة و البربرية و حتى المتمدنة في الزمن القديم و الجديد شكلاً لعقد الزواج كان يترتب بموجبه على العريس أن يتصرف كأنما يخطف بالقوة، هو وحده أو مع أصدقائه، العروس من عند أهلها. و هذه العادة ، على ما يبدو، هي بقية عادة أقدم عهداً، كان بموجبها رجال إحدى القبائل يخطفون فعلاً بالقوة لأنفسهم الزوجات من خارج قبيلتهم، من عند القبائل الأخرى. فكيف ظهر إذن هذا "الزواج – الخطف"؟ طالما كان في مستطاع الرجال أن يجدوا ما يكفي من النساء في قبيلتهم بالذات، لم يكن ثمة داع لمثل هذا الزواج. و لكننا نجد في عدد كبير مماثل من الحالات أنه توجد عند الشعوب غير المتطورة جماعات معينة (في عام 1865 كانوا لا يزالون يعتبرونها في أحيان كثيرة من عداد القبائل) كان الزواج في داخلها ممنوعاً، و لذا كان الرجال مضطرين إلى أخذ نساء لهم، و النساء مضطرات إلى أخذ رجال لهن، من خارج الجماعة المعنية، ناهيك بأنه توجد عند شعوب أخرى عادة تقضي بألا يأخذ الرجال من جماعة معينة نساء لهم إلا من داخل جماعتهم بالذات. و يسمي ماك – لينان الجماعات الأولى بجماعات "الزواج الخارجي" Exogamos و الجماعات الثانية بجماعات "الزواج الداخلي" Endogamos، و لكنه سرعان ما يشير ، بدون أي تعليل، إلى التناقض الحاد بين "قبائل" الزواج الخارجي و "قبائل" الزواج الداخلي. و رغم أن دراسته الخاصة بالذات للزواج الخارجي تقوده إلى الاصطدام رأساً بالواقع التالي، و هو أن هذا التناقض لا يوجد في كثير من الحالات ، أن لم يكن في أغلبيتها أو حتى في جميعها ، إلا في مخيلته، فإنه يبني مع ذلك كل نظريته على أساسه. و حسب نظريته، لا يستطيع رجال قبائل الزواج الخارجي أن يأخذوا زوجات لهم إلا من القبائل الأخرى، و هذا لم يكن من الممكن تحقيقه في حالة الحرب الدائمة بين القبائل في مرحلة الوحشية إلا عن طريق الخطف. و بعد هذا، يتساءل ماك-لينان: من أين جاءت عادة الزواج الخارجي هذه؟ إن التصورات بصدد القرابة بالدم و الاختلاط بالدم لا تمت إلى ذلك بأي صلة، فهما عبارة عن ظاهرات لم تظهر و تتطور إلا بعد حقبة كبيرة. أما عادة قتل الأولاد من الإناث فور ولادتهن- و هي عادة واسعة الانتشار بين المتوحشين- فهي مسألة أخرى. فمن جراء هذه العادة، يظهر في كل قبيلة بمفردها فيض من الرجال تكون عاقبته الأولى، بصورة لا ندحة عنها، تشارك بضعة رجال في امتلاك زوجة واحدة، أي شكل تعدد الأزواج. و من هنا، برأي ماك-لينان، ينجم أن أم الولد كانت معروفة بينا كان أبوه غير معروف ، و لهذا لم يكن يجري حساب القرابة إلا بموجب الخط النسائي، لا بموجب الخط الرجالي. و هذا ما كانه الحق الأمي. أما العاقبة الثانية لنقص النساء داخل القبيلة- و هو نقص يخفف منه تعدد الأزواج و لكنه لا يزيله- فقد كانها خطف نساء القبائل الأخرى بالقوة باستمرار. "و بما أن الزواج الخارجي و تعدد الأزواج يظهران بفعل السبب الواحد نفسه- أي عدم تساوي الجنسين عددياً- فإنه ينبغي لنا أن نقر بأن تعدد الأزواج كان موجوداً في البدء عند جميع العروق ذات الزواج الخارجي... و لذا يجب أن نعتبر مما لا جدال فيه أن أول نظام للقرابة بين العروق ذات الزواج الخارجي كان ذلك النظام الذي لم يعرف علاقات الدم إلا من جانب الأم" (ماك-لينان "دراسات في التاريخ القديم"، الزواج البدائي").(5) و مأثرة ماك-لينان أنه أشار إلى الأهمية الكبيرة لما أسماه هو بالزواج الخارجي و إلى انتشاره في كل مكان. أنه لم يكتشف على الإطلاق واقع وجود جماعات الزواج الخارجي ، و هو ، على كل حال، لم يفهمه. و فضلاً عن مختلف الملاحظات التي أدلى بها قبل ذلك كثيرون من المراقبين- و هم بالذات الذين كانوا مصادر ماك-لينان- وصف ليتام ("الإتنولوجيا الوصفية"، هام 1859)(6) بصورة دقيقة وصحيحة هذه المؤسسة عند الماغار الهنود و أعرب عن رأي مفاده أن هذه المؤسسة منتشرة في كل مكان و أنها موجودة في جميع مناطق العالم- و هذا ما يستشهد به ماك لينان نفسه. ثم أن صاحبنا مورغان ذاته سبق له في عام 1847 في رسائله عن الإيروكوا (المنشورة في "أميريكان ريفيو"- "المجلة الأمريكية" –("American Review") و في عام 1851 في عمله "عصبة الإيروكوا" (7) أن قدم الدليل على وجود مؤسسة مماثلة عند هذه المجموعة من القبائل و أعطى وصفاً صحيحاً عنها، في حين أن عقل المحامي عند ماك-لينان، كما سنرى ، قد أدخل هنا من التشوش أكثر بكثير مما أدخله الخيال الصوفي عند باهوفن في ميدان الحق الأمي. و مأثرة ماك-لينان الأخرى أنه اعتبر نظام الأصل حسب الحق الأمي هو الأول، رغم أنه اعترف بنفسه فيما بعد بأن باهوفن قد سبقه في هذا الصدد. و لكننا نجد هنا أيضاً بعض الغموض عنده، فهو يتكلم على الدوام عن "القرابة حسب الخط النسائي وحده"(Kinship through female only)، و يستخدم دائماً هذا التعبير الصحيح، بالنسبة لدرجات أبكر، كذلك لدرجات لاحقة في سلم التطور، عندما كان الأصل و حق الوراثة لا يزالان يحسبان بموجب الخط النسائي بوجه الحصر، بينما كانت القرابة تحدد و يعترف بها بموجب الخط الرجالي أيضاً. و هذه محدودية الحقوقي الذي يخلق لنفسه تعبيراً حقوقياً ثابتاً و يواصل استعماله بشكل لا يتغير و يطبقه على ظروف لم يعد يلصح لتطبيقه عليها. و لكن نظرية ماك-لينان، رغم كل متانتها و رسوخها، بدت لصاحبها نفسه، على ما يظهر ، غير معللة تعليلاً كافياً. و هو ذاته، على كل حال، لفت الانتباه إلى: "ذلك الواقع الواسع الدلالة و هو أن الشكل الأوضح تعبيراً لخطف النساء"(الظاهري)"منتشر على وجه الدقة عند الشعوب التي تسود بينها القرابة الرجالية"(أي الأصل حسب الخط الرجالي). ثم قال: "من الغريب أن قتل الأولاد ، بقدر ما نعرف ، لا يمارس أبداً بدأب و انتظام حيث يوجد جنباً إلى جنب الزواج الخارجي و أقدم شكل للقرابة". هذان الواقعان يتناقضان بكل لجلاء مع طريقة تفسيره بالذات ، فلا يسعه أن يعارضهما إلا بفرضيات جديدة، أكثر غموضاً و تشوشاً. و مع ذلك حظيت نظريته في بريطانيا بحار التحبيذ و واسع الصدى، و كان الجميع هنا يعتبرونه مؤسس تاريخ العائلة و الحجة الأولى في هذا الميدان. و إن معارضته "قبائل" الزواج الخارجي بـ "قبائل" الزواج الداخلي قد بقيت، رغم ثبوت بعض الاستثناءات و التغيرات، أساساً معترفاً به من الجميع للمفاهيم السائدة، و تحولت إلى غمامة حالت دون أي دراسة غير متحيزة للميدان المدروس ، و حالت بالتالي دون أي خطوة حازمة إلى الأمام. و خلافاً لاستعظام مآثر ماك-لينان في بريطانيا، و كذلك في بلدان أخرى اقتداء ببريطانيا، تجدر الإشارة إلى أنه، بمعارضته "قبائل" الزواج الخارجي بـ"قبائل" الزواج الداخلي، الناجمة عن مجرد سوء فهم، قد أحدث من الضرر أكثر مما جلب من النفع بدراساته. و لكنه سرعان ما أخذت تتكشف أكثر فأكثر وقائع لا تتوضع في إطارات نظريته الأنيق الضيق. ذلك أن ماك –لينان لم يعرف سوى ثلاثة أشكال للزواج: تعدد الزوجات، و تعدد الأزواج، و الزواج الأحادي. و لكن بما أن الانتباه قد وجه إلى هذه الناحية، فقد شرعوا يجدون أكثر فأكثر من الأدلة على أنه كانت توجد عند الشعوب المتخلفة أشكال للزواج كان بضعة رجال في ظلها يملكون بضع نساء بصورة مشتركة. و قد أقر ليبوك ("أصل الحضارة"، عام 1870)(8) بهذا الزواج الجماعي (Communal marriage) كواقع تاريخي.- و بعد ذلك، أي في عام 1871، تقدم مورغان بمادة جديدة و فاصلة في كثير من النواحي. فقد اقتنع بأن، نظام القرابة الطريف الساري المفعول عند الإيروكوا كان ملازماً لجميع السكان الأصليين في الولايات المتحدة و بأنه كان بالتالي منتشراً في عموم القارة، رغم أنه كان يناقض مباشرة درجات القرابة ، النابعة عملياً من نظام الزواج المعمول به هناك. و قد دفع مورغان الحكومة الاتحادية الأميركية إلى جمع المعلومات عن أنظمة القرابة عند مختلف الشعوب حسب الجداول و مجموعة الأسئلة التي وضعها بنفسه، فتبين له من الأجوبة : 1. أن نظام القرابة المعمول به عند الهنود الحمر في أميركا موجود كذلك عند عدد كبير من القبائل في آسيا، و بشكل مختلف نوعاً في أفريقيا و أوستراليا. 2. إن هذا النظام يحدد تفسيراً كاملاً له في ذلك الشكل من الزواج الجماعي، الذي هو على وجه الدقة في طور الاضمحلال في جزر هاواي و في الجزر الأوسترالية الأخرى. 3. إنه يوجد مع ذلك، إلى جانب هذا الشكل من الزواج، و في الجزر نفسها، نظام آخر للقرابة لا يمكن تفسيره إلا بشكل أقدم للزواج الجماعي لم يبق له وجود في الوقت الحاضر. و قد نشر مورغان المعلومات المجموعة مع استنتاجاته منها في مؤلفه "أنظمة القرابة و النسب"، الصادر في عام 1871(9)، و بذلك نقل النقاش إلى مجال أرحب بما لا يقاس. و على أساس أنظمة القرابة، بعث ما يناسبها من أشكال العائلة ، و بذلك فتح طريقاً جديداً أمام البحث، و وفر إمكانية النظر بمزيد من التعمق إلى ما قبل تاريخ البشرية. إن انتصار هذه الطريقة كان من شأنه أن يبدد تلفيقات ماك-لينان البديعة هباء. و لهذا هب ماك-لينان إلى الدفاع عن نظريته في الطبعة الثانية لمؤلفه "الزواج البدائي"("دراسات في التاريخ القديم"،عام 1876). و هو يبني تاريخ العائلة بصورة مصطنعة إلى أقصى حد، معتمداً على الفرضيات و حسب، و يتطلب في الوقت نفسه من ليبوك و مورغان لا البراهين على كل من أقوالهما و حسب، بل أيضاً براهين دامغة قاطعة كالتي لا يقبل غيرها في المحكمة الإسكوتلندية. هكذا بالذات يسلك ذلك الرجل الذي يستند إلى وجود صلة وثيقة بين أخ الأم و ابن الأخت عند الجرمان (تاقيطس، "جرمانيا"، الفصل 20) و إلى حكاية قيصر القائلة أن لكل عشرة رجال أو اثني عشر جلاً من البريطانيين (Bretons) زوجات مشتركات و إلى حكايات الكتاب القدامى الأخرى عن شيوعية النساء عند البرابرة، فيستنتج ، دون أي تردد، أن تعدد الزواج هو الذي كان سائداً عند جميع هذه الشعوب! يخيل للمرء أنه يسمع مدعياً عاماً مستعداً لأن يسمح لنفسه بالتصرف على هواه عند توجيه التهمة، و لكنه يطالب جهة الدفاع بأن تقدم برهاناً قاطعاً على كل كلمة له قوة البرهان القانوني. إن الزواج الجماعي مجرد تلفيق. هكذا يقول ماك-لينان، فيبدو بالتالي بعيداً وراء باهوفن. و برأي ماك- لينان أن نظام القرابة عند مورغان هو عبارة عن قواعد بسيطة للتهذيب الاجتماعي، و هذا ما يثبته الواقع التالي و هو أن الهنود الحمر يخاطبون الغرباء أيضاً- أي البيض – بكلمة: أخ أو والد. و هذا يعني كما لو أن أحداً يحاول أن يزعم أن أسماء الأم و الأم و أخ و الأخت هي مجرد أشكال للمخاطبة لا تعني شيئاً، لأن رجال الدين الكاثوليك و رئيسات الأديرة الكاثوليكية يسمونهم بالآباء و الأمهات، و لأن الرهبان و الراهبات و حتى الماسونيين و أعضاء الجمعيات الحرفية البريطانية يخاطبون بعضهم بعضاً في الجلسات الاحتفالية بكلمتي: أخ و أخت. و هكذا كان دفاع ماك- لينان في أقصى الضعف. و لكنه بقيت هناك نقطة كان فيها منيعاً لا يطال. فإن التضاد بين "قبائل" الزواج الخارجي و "قبائل" الزواج الداخلي، الذي ارتكز عليه كل نظامه، لم يتزعزع، و ليس هذا و حسب، بل حتى أنه اعتبر أيضاً في كل مكان حجر الزاوية في كل تاريخ العائلة . صحيح إنهم قالوا أن التفسير الذي حاول ماك-لينان أن يعطيه عن هذا التضاد غير مقنع كفاية، و أنه يناقض الوقائع التي أوردها بنفسه. و لكن هذا التضاد ذاته ، أي وجود نوعين ينفي أحدهما الآخر من قبائل منعزلة و مستقلة كانت قبائل أحد النوعين تأخذ لنفسها زوجات من داخل القبيلة، بينما كان ذلك ممنوعاً منعاً باتاً على قبائل النوع الثاني،كان يعتبر بمثابة حقيقة إنجيلية لا تدحض. قارن، مثلاً، جيرو طولون، "أصل العائلة"(1874)و حتى ليبوك،"أصل الحضارة"(الطبعة الرابعة،1882)(10). و ضد هذه النقطة، وجه مورغان مؤلفه الرئيسي "المجتمع القديم"(1877)(11)- و هذا المؤلف اتخذناه أساساً لعملنا هذا. فإن ما حزره مورغان بغموض و حسب في عام 1871، معروض هنا الآن بوضوح تام. فإن الزواج الخارجي و الزواج الداخلي لا يشكلان أبداً تضاداً ، و وجود "قبائل " الزواج الخارجي لم يعط عنه حتى الآن البرهان في أي مكان كان. و لكن عندما كان الزواج الجماعي لا يزال سائداً- كانت القبيلة منقسمة إلى جملة من جماعات و عشائر مرتبطة بعضها ببعضها بقرابة الدم حسب خط الأم- و الزواج في داخلها ممنوع منعاً باتاً، و لذا كان الرجال من عشيرة معينة يستطيعون أن يأخذوا زوجات لهم من داخل القبيلة، و كانا على العموم يفعلون ذلك، و لكنه كان يتعين عليهم أن يأخذوهن من خارج عشيرتهم. و عليه، إذا كانت العشيرة خاضعة تماماً لنظام الزواج الخارجي، فإن القبيلة التي تشمل مجمل العشائر كانت هي أيضاً خاضعة تماماً لنظام الزواج الداخلي. و هذا ما دحض نهائياً آخر بقية من تلفيقات ماك-لينان المصطنعة. بيد أن مورغان لم يكتف بهذا. فإن عشيرة الهنود الحمر الأميركيين أعطته فيما بعد أساساً للقيام بالخطوة الحاسمة الثانية إلى الأمام في الميدان الذي يدرسه. ففي هذه العشيرة المنظمة حسب الحق الأمي، اكتشف الشكل الأولي الذي نشأت منه و تطورت فيما بعد العشيرة المنظمة حسب الحق الأبوي- أي تلك العشيرة التي نجدها عند الشعوب المتحضرة في الزمن القديم. فإن العشيرة اليونانية و الرومانية التي كانت قبل ذاك لغزاً على جميع المؤرخين، قد وجدت تفسيراً لها في عشيرة الهنود الحمر، و وجد بالتالي أساس جديد لكل التاريخ البدائي. إن هذا الاكتشاف الجديد للعشيرة الأولية، المرتكزة على الحق الأمي، بوصفها مرحلة سبقت العشيرة المرتكزة على الحق الأبوي عند الشعوب المتحضرة، يتسم بالنسبة للتاريخ البدائي بنفس القدر من الأهمية الذي تتسم به نظرية داروين حول النشوء و الارتقاء بالنسبة للبيولوجيا و الذي تتسم به نظرية ماركس حول القيمة الزائدة بالنسبة للاقتصاد السياسي. و قد أتاح هذا الاكتشاف لمورغان أن يرسم للمرة الأولى لوحة عن تاريخ العائلة كانت تحتوي، بقدر ما سمحت المادة المعروفة حتى الآن، الخطوط الكبرى لدرجات التطور، المثبتة مسبقاً، الكلاسيكية على الأقل. و واضح لكل امرئ أن عهداً جديداً في دراسة التاريخ البدائي ينفتح بذلك. فإن العشيرة المرتكزة على الحق الأمي أصبحت ذلك المحور الذي يدور حوله كل هذا العلم، و منذ اكتشافها، صار مفهوماً في أي اتجاه يجب توجيه الدراسة و ما تنبغي دراسته و كيف يتعين تصنيف النتائج الحاصلة. و تبعاً لذلك، يحرزون الآن النجاحات في هذا الميدان بصورة أسرع بكثير مما قبل صدور كتاب مورغان. و في بريطانيا أيضاً اعترف الآن جميع مؤرخي المجتمع البدائي باكتشافات مورغان أو، بالأصح، استأثروا بها. و لكننا لا نجد عند أي منهم تقريباً اعترافاً صريحاً بأنهم مدينون لمورغان بالذات بهذه الثورة في النظرات. و في بريطانيا يلزمون الصمت المطبق قدر الإمكان حول كتابه، و لكنهم يتخلصون منه بمجرد مديح متعال على أعماله السابقة، و ينقبون ببالغ الجهد في مختلف تفاصيل عرضه، و لكنهم يلزمون الصمت بعناد حول اكتشافاته الكبيرة حقاً و فعلاً. لقد نفدت الطبعة الأولى من كتابه "المجتمع القديم"، أما في أميركا، فإن أمثال هذه الأشياء لا تجد ما يليق بها من التصريف، و في بريطانيا، تجاهلوا على الدوام هذا الكتاب، حسبما يبدو، و الطبعة الوحيدة التي لا تزال قيد البيع لهذا لمؤلف الذي يشكل دهراً، هي ترجمة ألمانية. فأين يكمن سبب هذا التحفظ الذي يصعب عدم استشفاف مؤامرة الصمت فيه، خصوصاً إذا لم يغب عن البال ما يبرقش مؤلفات خبرائنا المعترف بهم في التاريخ البدائي من استشهادات عديدة يوردونها بدافع اللطف و التهذيب و من أدلة أخرى على احترام الزملاء؟ ألا يكمن في أن مورغان أميركي و أنه من غير المستطاب أبداً لمؤرخي المجتمع البدائي البريطانيين أنهم، رغم كل ما بذلوه من جهود تستحق كل تقدير من أجل جمع المواد، قد اضطروا إلى الاقتباس من أجنبيين عبقريين هما باهوفن و مورغان عندما تعلق الأمر بالموضوعات الأساسية العامة الضرورية لأجل تصنيف و تبويب هذه المواد، أي بإيجاز، عندما تعلق الأمر بالأفكار الضرورية لهم؟ لقد كان من الممكن القبول بالألماني، أما بالأميركي! فحيال الأميركي، يصبح كل بريطاني وطنياً متحمساً، و لقد رأيت في الولايات المتحدة أمثلة مضحكة عن ذلك. ناهيك بأن ماك-لينان كان، كما يقال، معترفاً به رسمياً مؤسساً و رئيساً لمدرسة التاريخ البدائي البريطانية. و في هذا الميدان، أصبح من المستحسن نوعاً التكلم فقط بأعظم الإجلال عن بنائه التاريخي المصطنع، الذي يؤدي من قتل الأولاد عبر تعدد الأزواج و الزواج – الخطف إلى العائلة المرتكزة على الحق الأمي، و كانوا يعتبرون أقل شك في وجود "قبائل" الزواج الخارجي و "قبائل" الزواج الداخلي التي تنفي بعضها بعضاً بصورة مطلقة ، ضرباً من الهرطقة الوقحة، و على هذا لنحو، اقترف مورغان، بتبديده كالدخان جميع هذه العقائد المقدسة، ضرباً من التدنيس و التنجيس للقدسيات. ناهيك بأنه بددها بحجج كان حسبه أن يدلي بها حتى تصبح على الفور جلية للجميع، و هكذا كان لا بد لمداحي ماك- لينان العاجزين حتى الآن عن الخلاص من التناقض بين الزواج الخارجي و الزواج الداخلي، من أن يلطموا جباههم أو يكاد يهتفوا: كيف أمكننا أن نكون أغبياء إلى حد أننا لم نكتشف هذا بأنفسنا من زمان بعيد! و إذا كانت حتى هذه الجرائم غير كافية لكي تقف المدرسة الرسمية من مورغان موقفاً غير موقف الانصراف عنه ببرودة و جفاء، فقد جعل الكأس يطفح بكونه لم يقتصر على انتقاد الحضارة- أن مجتمع الإنتاج البضاعي، الشكل الأساسي لمجتمعنا المعاصر- انتقاداً يحمل على تذكر فوريه، بل تحدث أيضاً عن التحولات المقبلة التي ستطرأ على هذا المجتمع بتعابير كان من الممكن أن يلجأ إليها كارل ماركس. و لهذا نال مورغان ما يستحقه عندما لامه ماك-لينان بسخط على "نفوره التام من الطريقة التاريخية" و عندما أكد البروفسور السيد جيرو-طولون من جينيف هذا اللوم في عام 1884 أيضاً. مع أنه سبق لهذا السيد جيرو –طولون نفسه أن ضل في 1874 ("أصل العائلة") ، عاجزاً، ضعيفاً، في متاهات الزواج الخارجي الماك-ليناني التي لم يخرجه منها إلا مورغان! و لا داعي إلى البحث هنا في النجاحات الأخرى التي يدين بها التاريخ البدائي لمورغان، فكل ما يلزم بهذا الصدد يمكن إيجاده في الأماكن المناسبة من كتابي. ثم أن السنوات الأربع عشرة التي تصرمت منذ صدور عمل مورغان الرئيسي، قد أغنت كثيراً ما لدينا من مواد في تاريخ المجتمعات البشرية البدائية ، فإلى الانتروبولوجيين و الرحالة و مؤرخي المجتمع البدائي المحترفين انضم الحقوقيون الذين يهتمون بالحق المقارن و الذين أعطوا جزئياً مادة جديدة و تقدموا جزئياً بوجهات نظر جديدة. و هذا ما أدى إلى زعزعة بعض من فرضيات مورغان و حتى إلى دحضها. و لكن المادة المجموعة حديثاً لم تؤد في أي مكان إلى ضرورة الاستعاضة عن موضوعاته الجوهرية بموضوعات ما أخرى. إن النظام الذي حمله إلى التاريخ البدائي لا يزال حتى الآن يحتفظ بقوته من حيث خطوطه الكبرى. بل أنه يمكن القول أنه يظفر أكثر فأكثر بالاعتراف العام، و ذلك بنفسن القدر الذي يحاولون به أن يخفوا أنه هو واضع الحجر الأساسي لهذا التقدم العظيم*** . لندن، في 16 حزيران 1891 فريدريك إنجلس صدرت في مجلة "Die Neue Zeit" ("دي نويه زايت") المجلد 2، العدد 41، 1890-1891 و في كتاب Friedrich Engles. " Der Ursprung der Familie, des Privateigenthums und des Staats", Stuttgart, 1891 .تصدر حسب نص الكتاب بعد مقارنته بنص المجلة. تمت الترجمة نقلاً عن الألمانية. الهوامش: (3) E.B.Tylor "Research into the Early History of Manking and the Development of Civilization". London, 1865 (تايلور. "أبحاث في تاريخ البشرية البدائي و نشوء الحضارة". لندن، 1865). (4) J.J.Bachofen. "Das Mutterrecht.Eine Untersuchung über die Gynaikokratie der alten Welt nach ihrer religiösen und rechtlichen Natur". Stuttgart, 1861. (باهوفن. "حق الأم. بحث في حكم النساء في العالم القديم على أساس طبيعته الدينية و الحقوقية". شتوتغارت، 1861). (5) J.F.Mac-Lennan "Studies in Ancient History comprising a Re-print- of "Primitive Marriage. An Inquiry into the Origin of the Form of Capture in Marriage Ceremonies"". London and Newyork, 1886. (ماك-لينان "دراسات في التاريخ القديم تشمل إعادة طبع "الزواج البدائي. بحث في أصل طقس الخطف في حفلات الزواج". لندن و نيويورك، 1886). (6) R.G.Latham "De-script-ive Ethnology". Vol I-II, London,1859. (ليتام "الإثنولوجيا الوصفية". المجلدان الأول و الثاني. لندن، 1859). (7) L. H. Morgan "Leage of the Ho-dé-no-sau-nee´-or-Iroquois". Rochester, 1851. (مورغان. "عصبة هو-دي-نو-سي-ني أو الإيروكوا" روتشستر، 1851). (8) J. Lubbock. "The Origin of Civilization and the Primative Condition of Man. Mental and Social Condition of Savages". London 1870. (ليبوك. "أصل الحضارة و حالة الإنسان البدائية. أوضاع المتوحشين الفكرية و الاجتماعية". لندن، 1870). (9) L. H. Morgan "Systems of Consanguinity and Affinity of the Human Family". Washington, 1871. (ل. هـ. مورغان. "أنظمة القرابة بالعصب و المصاهرة في العائلة البشرية". واشنطن، 1871). (10) A. Girard- Teulon . "Les origines de la famille" Genève, Paris, 1874. J. Lubbock. "The Origin of Civilization and the Primative Condition of Man. Mental and Social Condition of Savages". 4th Ed . London 1882. (جيرو-تولون. "أصل العائلة". جينيف و باريس 1874. ليبوك. " أصل الحضارة و حالة الإنسان البدائية. أوضاع المتوحشين الفكرية و الاجتماعية". الطبعة الرابعة، لندن، 1882). (11) L. H. Morgan . "Ancient Society,´-or-Researches in the Lines of Human Progress from Savagery through Barbarism to Civilization" . London,1877. (ل. هـ. مورغان. "المجتمع القديم، أو البحث في خطوط التقدم البشري من الوحشية عبر البربرية إلى الحضارة" . لندن، 1877). يتبع
#عبدالرحيم_قروي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيسبوكيات 5
-
في الحياة ما يستحق الذكرى 15
-
مسؤولية المثقف في التطور الحضاري
-
بين حركة التحرر وحق الشعوب في تقرير مصيرها
-
مساهمة المثقف العضوي في التغيير
-
ليس للسارق انسب من اطفاء كل الاضواء لنهب ما حلو له
-
في الحياة ما يستحق الذكرى 14
-
تذكير برد مستفز عن بدايات وضعنا اليساري المأزوم
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل
...
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل
...
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل
...
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل
...
-
في الحياة ما يستحق الذكرى12
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل
...
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل
...
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل
...
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل
...
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل
...
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى لل
...
-
في الحياة ما يستحق الذكر11
المزيد.....
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
-
شولتس أم بيستوريوس ـ من سيكون مرشح -الاشتراكي- للمستشارية؟
-
الأكراد يواصلون التظاهر في ألمانيا للمطالبة بالإفراج عن أوجل
...
-
العدد 580 من جريدة النهج الديمقراطي
-
الجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد تُعلِن استعدادها
...
-
روسيا تعيد دفن رفات أكثر من 700 ضحية قتلوا في معسكر اعتقال ن
...
-
بيان المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي
-
بلاغ صحفي حول الاجتماع الدوري للمكتب السياسي لحزب التقدم وال
...
-
لحظة القبض على مواطن ألماني متورط بتفجير محطة غاز في كالينين
...
-
الأمن الروسي يعتقل مواطنا ألمانيا قام بتفجير محطة لتوزيع الغ
...
المزيد.....
-
مقدمة في -المخطوطات الرياضية- لكارل ماركس
/ حسين علوان حسين
-
العصبوية والوسطية والأممية الرابعة
/ ليون تروتسكي
-
تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)*
/ رشيد غويلب
-
مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق
...
/ علي أسعد وطفة
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين
/ عبدالرحيم قروي
-
علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري
...
/ علي أسعد وطفة
-
إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك
...
/ دلير زنكنة
-
عاشت غرّة ماي
/ جوزيف ستالين
-
ثلاثة مفاهيم للثورة
/ ليون تروتسكي
-
النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج
/ محمد عادل زكى
المزيد.....
|