|
زينب
عبدالإلاه خالي
(Abdelilah Khali)
الحوار المتمدن-العدد: 8131 - 2024 / 10 / 15 - 00:47
المحور:
الادب والفن
صِرْتُ أذرع من الصباح إلى المساء ساحة بوجلود. أتسكع في مقاهيها الشعبية. أخرج من ركن لأرتاد ركنا آخر ضاربا عرض الحائط بكل الدنيا العاقة. كل رواد الساحة يعرفونني. الناشرون أجسادهم المتهالكة فوق الكراسي. النمّامون الغارقون حتى الأذنين في لعبة التيرسي(1). في الماضي كان ممكنا أنْ أصْبِحَ إلاها، أما اليوم فقد صِرْتُ مجردا لا أتعدى رقما على بطاقة. تَمَلّكَني انقباض فتنازلت عن مجلسي بسور الجوطية(2) الذي أتقاسمه مع العاطلين المتخلفين ومضيت متشرذما بين الأزقة والدروب باحثا عن شيء أبدّد به غربتي. لفت نظري بمدخل جنان السبيل جمْعٌ من القطط يتقاتلون على قطة لبدت بينهم متيقظة كيتيم ينتظر كفيلا. تذكرت زينب فكذلك كانت حين تعرفتُ عليها قبل سنوات.. ترى ماذا فعلت بها الأيام؟.. انقطعَتْ صلتي بها منذ أن التحقتُ بالجماعة وأصبحتُ أحد خدام التنظيم. في حانة الملّاح سألتُ عنها النادلة. أخبرتني أنها انتقلت إلى دار دْبيبغ حيث صارت تدير محلا كبيرا للحلاقة النسوية.. لم تمرّ ساعة حتى كنت بباب الصالون.. محل فاره وضخامته تثير انتباه كل من يعبر شارع محمد الخامس.. بالداخل يجلس نساء ورجال على كراسي جذابة تاركين رؤوسهم تصففها أوتقصها حسناوات يرتدين لباسا موحدا كاشفا جزءا من أفخاذهن. تقدمتُ وسألتُ إحداهن. أجلستني في قاعة الانتظار وغابت في أحد الأروقة. بعد هنيهة رأيتُ زينب قادمة. تبدَّت لي في الضوء الساطع أنيقة وقورة رغم اكتناز جسمها الطويل. وقع نظرها عليّ فاعتلت محياها دهشة. اقتربَتْ مني وهمسَتْ: - ‹‹ ادريس !.. ›› ثم بشيء من الارتباك مشيرة برأسها: - ‹‹ تعال معي! ›› نهضتُ ومشيتُ خلفها. دخلنا غرفة مكتبية فسارعَتْ بالقول: - ‹‹ ماذا فعلتَ بلحيتك؟ ›› - ‹‹ تركتُها لأهل اللِّحي. ›› ابتسمَتْ وبسرعة تجدَّدَ الالتئام. قالت بنظرة ماكرة: - ‹‹ حسِبتُكَ نسيتني! ›› - ‹‹ أنتِ عصِيّة على النسيان، وحبي لكِ لاهوتي لا يكسره الزمن ›› انتشت لجوابي فقالت وكأنها تذكرت شيئا ما: - ‹‹ نذهب إلى البيت، ما رأيك؟ ›› - ‹‹ فليكن! ›› ارتدت معطفها وأخذت حقيبتها. خرجنا من باب خلفي. اشترت علبة "مارلبورو" بدكان محادي وقادتني نحو سيارتها. سألتني إن كنت ما أزال مقاطعا للتدخين. داخل السيارة أشعلت سيجارة وانطلقت. لم تسر طويلا وتوقفت بجانب فيلا أنيقة. الفيلا مزينة بالقرميد، تتسورها أشجار التفاح وأزهار الياسمين.. في جدار البهو الداخلي صورة منحوتة مرصعة بماء الذهب وأحجار كريمة.. لاحظَتْ اهتمامي بالصورة فجاءني صوتها: - ‹‹ صورة المرحومة! ››. تقصد والدتها. أثاث البيت كلاسيكي وجهاز التهوية كهربائي. هتفتُ بإعجاب: - ‹‹ ما تزالين مُسرفة! ›› جلسنا تحت نافذة كبيرة تطل على هضبة سايس الخضراء وبيننا استقرت زجاجة ويسكي ووعاء ثلج فوق منضدة من خشب الكرز. قالت وهي تفرغ لي كأسا: ـ ‹‹ رأيتكَ مرات في الشارع ولم أقْوَ على مخاطبتك، كان منظرك يُفزعني، لحية كثة وجلباب قديم.. ›› ثم بسخرية خفيفة: - ‹‹ كنتَ تبدو كعجوز يعيش آخر أيامه! ›› - ‹‹ كنتُ جاهلا، تصورتُ أنني سأصلح العالم وسأقود البشرية إلى الفلاح! ›› تساءلَتْ في قلق: - ‹‹ لقد كثر الملتحون هذه الأيام!؟ ›› - ‹‹ كلهم غافلون، أغنام يقودها شيوخ انتهازيون وصوليون.. ›› قالت وابتسامة غريبة ترتجف على ثغرها: - ‹‹ حذار يا ادريس، فالتعميم المطلق خطأ! ›› أدهشني الرد. إذ لم أتصور أنها ستقول ما قالته في أناس يَدْعُون إلى نحر أمثالها. قلت متسائلا: - ‹‹ ماذا تعنين؟ ›› ملأَتْ كأسها من جديد وأسندَتْ جسمها إلى المقعد. نظرَتْ بعيدا عبر النافذة. أطالتْ وأمعنَتْ النظر ثم قالت: - ‹‹ إن خالي كان من أشهر الدعاة بالمدينة. ولقد كان مثالا في الزهد والاستقامة، لا كما تقول أنت.. ››. - ‹‹ زينب! لو خبرتِ هذه التنظيمات من الداخل لوقفتِ على ما أقول. إنهم يجيدون فن القول. يبدأون من وسط الناس بشعارات العدل والحرية، وبعدما يبلغون مرتبة يتحولون إلى مستبدين يمتطون السيارات الفارهة وينزلون في فنادق خمس نجوم حَوْلَهم الأحشام والخدم ››. ثم استدركْت: ˗ ‹‹ ما اسم الداعية خالك؟ ›› ردت بسرعة: ˗ ‹‹ الشيخ الزيتوني. ›› صعقني الجواب، فالرجل بالفعل كان ورعا من أهل التقوى، أحببتُه وأنا صغير واحترمته وأنا كبير.. جيَّش له الحسن جيشا فقتل أتباعه واعتقله، ومِن ثَم انقطعت أخباره.. شعرتُ بخطإ التعميم، فقلتُ على الفور: ˗ ‹‹ لم أكن أعلم أنه خالك، صحيح أنه كان مخلصا ومثالا يحتذى ››. قالت بلهجة مرحة: - ‹‹ لِندَع هذا الحديث جانبا! ›› ثم وهي تدني وجهها من وجهي: - ‹‹ أتدري طالت غيبتك ›› التقَتْ عينانا لحظات فقلتُ برقة: - ‹‹ أنا بين يديك، يمكننا تعويض ما فات.. ›› انفرجتْ أسارير وجهها وضحكَتْ. قبّلتُها فعانقتني. لثمَتْ شفتي ثم نهضَتْ في أنوثة شهوانية. قالت وهي تمضي مهتمة بتعديل ثوبها: - ‹‹ اذهب إلى غرفة النوم، سآتي حالا! ›› قمت قاصدا الغرفة وكل خلايا جسدي في انتظار هذه التي لا تأتي إلا ونارها تشتعل. بعد لحظات جاءت كأبهى ما يكون. وكانت غاوية، حارقة بغوايتها.. هذه هي زينب وكلّ حديث عن زينب ذو شجون.. استيقظتُ مبكرا بعد نوم ساعات معدودات. فتحتُ النافذة فأنعشتني نسائم الصباح. كانت زينب مستغرقة في النوم. أيقظتها بقبلة على الجبين فجلسَتْ في الفراش ناعسة العينين. فتَحَتْهُما بصعوبة في ساعة معلقة أمامها على الحائط وقالت: - ‹‹ لَم تنَمْ كثيرا! ›› - ‹‹ لَم أعُدْ أطيق هذه الحياة الكاذبة. ›› قالت وهي تعود لاحتضان الفراش: - ‹‹ أدركتُ هذه الحقيقة قبلك بكثير. فأنا لم أعرف يوما للحياة معنى ولذلك لا أبالي شيئا. ›› قلتُ: - ‹‹ أنا ذاهب. ›› هتفَتْ: ˗ ‹‹ متى ستعود؟.. ››
هوامش: (1) لعبة ورق معروفة في المغرب. (2) سوق تباع فيه الأشياء المستعملة والمهملة، والكلمة دارجة مغربية أصلها الفعل الفرنسي "جوطي" ويعني رمى.
#عبدالإلاه_خالي (هاشتاغ)
Abdelilah_Khali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رُقيَّة
-
العرب وذات الفخذين
-
ربيعة وحكام العرب
-
-تفكرت ولاد الناس- أبناء الأصول من أهل السودان
-
-دوماج- قصيدة تختزل معاناة صديقي براء
-
نادية في -رهائن العبث- -7-
-
نادية في -رهائن العبث- 6
-
نادية في -رهائن العبث- -5-
-
نادية في -رهائن العبث- -4-
-
من -رهائن العبث- 3
-
من -رهائن العبث- 2
-
من -رهائن العبث-
-
وداعا سيد القمني.. يا مُعَلِّم المسلمين..
-
-عبدالعلي حامي الدين- وتقديس النص القرآني
-
أخطاء القرآن وأثرها في تحريف ترجماته -ترجمة بيرغ نموذجا- الج
...
-
أخطاء القرآن وأثرها في تحريف ترجماته -ترجمة بيرغ نموذجا- الج
...
-
أخطاء القرآن وأثرها في ترجمته إلى اللغات الأجنبية -ترجمة بير
...
-
أخطاء القرآن وأثرها في ترجمته إلى اللغات الأجنبية -ترجمة بير
...
-
أخطاء القرآن وأثرها في ترجمته إلى اللغات الأجنبية -ترجمة بير
...
-
أخطاء القرآن وأثرها في ترجمته إلى اللغات الأجنبية -ترجمة بير
...
المزيد.....
-
الثقافة السورية توافق على تعيين لجنة تسيير أعمال نقابة الفنا
...
-
طيران الاحتلال الاسرائيلي يقصف دوار السينما في مدينة جنين با
...
-
الاحتلال يقصف محيط دوار السينما في جنين
-
فيلم وثائقي جديد يثير هوية المُلتقط الفعلي لصورة -فتاة الناب
...
-
افتتاح فعاليات مهرجان السنة الصينية الجديدة في موسكو ـ فيديو
...
-
ماكرون يعلن عن عملية تجديد تستغرق عدة سنوات لتحديث متحف اللو
...
-
محمد الأثري.. فارس اللغة
-
الممثلان التركيان خالد أرغنتش ورضا كوجا أوغلو يواجهان تهمة -
...
-
فنانو وكتاب سوريا يتوافدون على وطنهم.. الناطور ورضوان معا في
...
-
” إنقاذ غازي ” عرض مسلسل عثمان الحلقة 178 كاملة ومترجمة بالع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|