|
عن مسلسل الجنة والنار
عباس منعثر
شاعر وكاتب مسرحي عراقي
(Abbas Amnathar)
الحوار المتمدن-العدد: 8129 - 2024 / 10 / 13 - 00:17
المحور:
الادب والفن
رغمَ الانتشارِ السريعِ غير القابلِ للتفسيرِ الفنيّ لمسلسل (الجنة والنار)، يبقى تقييمُ أيّ عملٍ إنسانيّ خاضعاً لوجهاتِ نظرٍ شخصية وذائقةٍ فردية، ولا يمكنُ عدّه حكماً نهائياً مطلقاً، فما يُعتبرُ تحفةً فنيةً عندَ بعضِهم؛ يراهُ آخرون فشلاً ذريعاً والعكس بالعكس.
التجنيس منذُ البداية، احتاجَ مسلسلُ (الجنة والنار) إلى وضوحِ التجنيس، فالتبسَ بين الفيلمِ القصير والتقرير والوثائقيّ والمسلسلِ الطويل. الأدواتُ المستخدمة تناسبُ إنتاجاً قصيراً محدودَ الأحداث؛ غير أن المسلسلَ أطنبَ في عددٍ كبيرٍ من الحلقات، مُفضياً إلى الترهلِ والتكرار، ابتداءً من ظهورِ المشكلةِ الأساسيةِ وحلّها في الحلقاتِ الأولى وانتهاءً بغيابِ النقلاتِ النوعيةِ على امتدادِ الجزءِ الثاني.
السيناريو والارتجال والواقعية خاضَ مسلسلُ (الجنة والنار) مغامرةً جريئةً باستبعادِ السيناريو التقليديّ لصالحِ التجريب، مخاطراً بأن يكونَ ذلك نقطةَ قوتِهِ أو سببَ تعثرِه. السيناريو هو العمودُ الفقريُّ لأيّ عمل، يُوجّهُ تطورَ الشخصياتِ ويضمنُ التناغم، كما يُشكّلُ مرجعاً للممثلينَ والفريقِ الفنيّ لضمانِ وحدةِ الرؤية. وبصرفِ النظرِ عن برامجِ الواقعِ والارتجالِ الكوميديّ، فإنَّ غيابَ التخطيطِ الدقيقِ في الأعمالِ المتفرعةِ كالمسلسلِ التلفزيوني يُفضي إلى ارتباكٍ خطيرٍ، إذ أنَّها مؤسساتٌ راسخةً لا تسمحُ بالتعاطي معها كقِدحةٍ شعريةٍ تولَدُ من لحظةِ إلهامٍ عفوية.
في فيلمِ (سارق الدراجة) لدي سيكا، ومع انطلاقِ الواقعيةِ في السينما، كان التشابهُ معَ الواقعِ معتمداً على استخدامِ ممثلينَ غير محترفين، وسلوكٍ إنسانيّ طبيعيّ، وتصويرٍ توثيقيّ. بالموازاة، طُلبَ من الممثلينَ، في مسلسلِ (الجنة والنار)، أن يكونوا على طبيعتِهم دونَ تمثيلٍ أو حوارٍ مكتوبٍ مسبقاً، مرتجلينَ الحواراتِ بناءً على فكرةِ المشهد للحصولِ على الواقعية. يطرحُ هذا النهجُ إشكالياتٍ معقدةً: هل يناسبُ التلفزيونَ أم هو أقربُ إلى المسرحِ والفيلمِ القصير؟ كيف سيؤثرُ ذلك على السياقِ الدراميّ وتوزيعِ الحوار؟ هل سيكونُ الارتجالُ متعادلاً بين الشخصيات، أم ستغلبُ النزعةُ التنافسيةُ على الأداء؟ وما هو أثرُ ذلك على تماسكِ الحبكة؟ إجمالاً، غابَ عن غرفةِ التأليفِ أنَّ الارتجالَ قد يؤدي إلى تقاطعٍ حكائيّ عشوائيّ واهتزازِ نطاقِ الشخصياتِ وغيابِ الدّقةِ في التفاصيل.
الإشكاليةُ تتفاقمُ نظراً لقلّةِ الخبرةِ بالارتجال، فيطغى الصياحُ والتوترُ على الأداء. خلقتْ المغالبةُ بين المؤدينَ للاستحواذِ على الكاميرا ضغطاً دفعَهُم لإعلاءِ الصوت، كونهُ الوسيلةَ الأسهلَ لجذبِ الانتباهِ وتقديمِ الصراعِ الدراميّ حسبَ الفهمِ الشرقيّ المبّسط. يستحيلُ الوضعُ أحياناً كثيرةً إلى فوضى بسببِ غيابِ مركزٍ يضبطُ الأداءَ وفقَ نظامٍ منسّقٍ بشكلٍ دقيق. في أحدِ المَشاهد، عندما يصيحُ (فرج) كعادَتِه أثناءَ البحثِ عن زينبَ المفقودةِ وسطَ جمعٍ من الناس، يغيبُ التناغمُ والتنظيمُ تماماً: يتجاوزُ مستوى الصوت عند الكومبارس على صوتِ (فرج) مما يربكُ المشهدَ ويغطي على الحوارِ المحوريّ. هذا الصداعُ الصوتي غيرُ المحسوبِ يكادُ يسيطرُ على الكثيرِ من مشاهدِ المسلسل. تكمنُ المشكلةُ المضافةُ في فقدانِ التوازنِ في توزيعِ الممثلين، حيث تميلُ الكتلُ لصالحِ جهةٍ على حسابِ أخرى. لقد دفع الارتجالُ وعدمُ تنظيمِ الحركةِ الجماعية إلى تكدّسِ الكادر في الجهةِ اليسرى أو اليمنى، مع تركِ فراغٍ في الجهةِ المقابلة. هذا الخللُ أثّرَ بشكلٍ واضحٍ على تكوينِ المشهدِ وأفسدَ الميزانسين في معظمِ اللقطات.
تجاربُ الارتجالِ في المسرحِ أو السينما قد تنجحُ عندما تكونُ محددةً بوضوح، كما في مشهدِ مارلون براندو في (آخرِ تانغو في باريس)، حيثُ ارتجلَ الممثلُ ضمنَ إطارٍ موّجهٍ من قبلِ مخرجٍ محنَك. أما في (الجنة والنار)، فإنَّ غيابَ هذا التوجيه، معَ العددِ الكبيرِ من الشخصياتِ والتفاوتِ في قدراتِ الممثلين، جعلَ الارتجالَ، بسببِ التشويشِ والصخب، عبئاً أكثرَ من كونهِ إضافةً فنية.
في سياقِ هذا الجدل، تبرزُ مشكلةٌ أخرى تتعلقُ بمفهومِ الواقعية. الافتراضُ القائلُ بأنَّ الشخصياتِ يمكنُ أن تكونَ هي نفسُها أمام الكاميرا هو تصورٌ بعيدٌ عن الصواب. حتى إن لم يلحظْ ذلك، وجودُ الكاميرا يُغيّرُ سلوكَ الفردِ بشكلٍ جذري، إذ يُدركُ أنّهُ مراقَبٌ، فيتصرّفُ بوعي أمام نظرةِ الآخرين، مُتفقاً مع فكرةِ سارتر عن الآخر باعتبارِهِ جحيماً. وعليه، تفرضُ الكاميرا على الشخصياتِ وجوداً جديداً يتطلّبُ تفاعلاً مختلفاً عن الحياةِ اليومية، خاصةً أنّ ذلك يحدثُ ضمنَ سياقٍ دراميّ (زمانيّ ومكانيّ) معين. هذا ما لم يُدركهُ العمل؛ فالطلبُ من الممثلينَ تجاهلَ تأثيرِ الكاميرا يوقعُهم في الحيرةِ بين حياتِهم الواقعيةِ وشخصيتِهم الاجتماعيةِ في المسلسل. نتيجةً لذلك، لم تُقدّم الشخصياتُ بوضوحٍ كذواتٍ دراميةٍ متكاملةٍ ولا كذواتٍ انسانيةٍ مستقلة؛ بل بدتْ ضائعةً، تفتقرُ إلى الهويةِ الدرامية.
من تبعاتِ ذلك أن تضاءلتْ أرضيةُ المسلسلِ السيكولوجية. ففي علمِ النفس، يُقالُ إنَّ كلَّ إنسانٍ هو جزيرةٌ فريدةٌ، بسماتِه ومواصفاتهِ الخاصةِ رغم اشتراكِه مع الآخرينَ بمزايا إنسانيةٍ معينة. في (الجنة والنار)، تبدو الشخصياتُ نسخاً متشابهةً في السلوكِ العصبيّ واللغةِ السوقيةِ وطريقةِ التعبيرِ الصاخبة، الأمرُ الذي أفقدَها التنوعَ البشريَّ المفتَرَض. تضاعفَ هذا الأمرُ مع الإفراطِ في استخدامِ زوايا تصويرٍ ضيقةٍ وكاميراتٍ محمولةٍ بمنظورٍ وثائقيّ، مما خلقَ جواً خانقاً ومحدودَ الرؤية. غابت عن التأليفِ فكرةُ أنَّ كلَّ مجتمع، بما في ذلك الناصرية، مليءٌ بتفاوتِ الشخصياتِ والتفاعلاتِ الإنسانيةِ المعقدة، فحتى بين القتلةِ والمجرمينَ توجدُ مشاعرُ إنسانية تثيرُ الدهشة. وعلى الرغمِ من وجودِ إشاراتٍ لهذا التنوّع بعددٍ محدودٍ جداً من الشخصيات؛ إلا أنها لم تُستثمرْ بشكلٍ كافٍ لتحقيقِ توازنٍ مع النمطيةِ التي هيمنتْ على المسلسل. حرمانُ الشخصياتِ من العمقِ النفسي أدَّى إلى انجرارِ اللقطاتِ إلى تسابقٍ بين الحناجرِ أكثرَ من كونِهِ تفاعلاً اجتماعياً حقيقياً، وهو أحدُ تبعاتِ غيابِ السيناريو.
انسيابية التمثيل بسببِ مجهوليةِ بدءِ المشهدِ وانتهائه، يتوّقفُ الممثلُ فجأةً ويبدأُ من الصفرِ في كلّ مرةٍ يحاولُ بناءَ سيكولوجيا الشخصية، مما يُزيدُ الشعورَ بالاغترابِ كأننا أمام عدّةِ شخصياتٍ متداخلةٍ في شخصيةٍ واحدة. مضطراً، لا يُتيحُ الممثلُ للشخصيةِ فرصةَ النموّ التدريجيّ؛ بل يُعيدُ نفسَهُ إلى البدايةِ وكأنه يعرضُها للمرةِ الأولى في كلّ مشهد. فالشخصيةٍ تحدثُ في لحظةٍ زمنيةٍ معينةٍ وتستمرُّ في تكرارِ نفسِها طوال ما تبقى من زمنِ المسلسل، بدلاً من أن تكشفَ عن ذاتِها رويداً رويداً عبر الحلقات، فينفضحُ الموضوعُ وينعزل المشهدُ عن السياقِ الأوسعِ للقصة، ومعه يبدو التمثيلُ كتابةً على الماء.
وبسببِ شغورِ السيناريو، تاهتْ على الممثلِ فكرةُ التدرجِ الزمنيّ للأحداث، بحيث لا يعرفُ أين هو، فيبقى عالقاً في حالةٍ من عدمِ اليقينِ حول موقعِ المشهد في أيّ حلقة: هل هو قبل خطفِ زينب أو بعدها. عندما ترجعُ الشخصيةُ إلى بيتِها بعد (عركة)، لا يظهرُ أيُّ أثرٍ للشجارِ على مزاجِ الممثلِ ولا نفسيتهِ أو أدائه، فتجدهُ يمثلُ بشكلٍ عاديّ جداً، بلا آثارٍ سابقةٍ لحدثٍ سابق. ولأنَّ كلَّ لقطةٍ تبدو منفصلةً تماماً عن التي قبلها، تُفقدُ الاستمراريةُ في جريانِ الحوارِ والمشاعر أيضاً. هذا القطعُ الحادُّ في الانفعالاتِ يجعلُ من الصعبِ إدراكَ المخاضاتِ الخاصة بالشخصية. ومثلما تتقافزُ المَشاهد، يظهرُ الانفعالُ عند الممثلِ بشكلٍ مفاجئ، ثم يُقطع، ليعودَ مرةً أخرى وكأنَّ شيئاً لم يحدثْ من قبل. لذلك، حملتْ بعضُ المشاهدِ إشكاليةً أساسيةً تتمثلُ في العزلةِ والانقطاع. مثلاً، يظهرُ حوارٌ عبثيٌّ بين شخصيتين، حيث يقولُ شخصية1: (أنا محمد)، فيردُّ شخصية2: (أدري أن اسمك محمد، لكن ما اسمك؟)، ثمُّ يُعادُ الحوارُ نفسهُ، كما في مشهدِ السكرانِ الذي يتكررُ فيه قول (اضربك)، واختفاء (زينب) وغيرها كثير. يتساءلُ المشاهد: (لقد عَرَفَتِ الشخصيةَ الأمرَ، فلماذا الإطالةُ بعدها في موضوعٍ معلومٍ تمَّت مناقشتهُ بشكلٍ مستفيضٍ بلا أيّ تقدمٍ أو فائدة؟). ثانيةً، تكمنُ الإجابةُ في غيابِ السيناريو المكتوب.
تستفحلُ هذه الأزمةُ بالتضاربِ السرديّ الذي يربكُ سيرَ الأحداث. على سبيلِ المثال، لا نعلمُ مصدرَ تعرّفِ بعضِ الشبابِ الصغارِ على (فرج) وأبنائهِ مباشرةً من رؤيةٍ واحدةٍ دون أن يكونوا قد رأوْهُم من قبل، أو السببَ في التباينِ بينَ المَشاهد: في إحدى المشاجراتِ يحملُ الجميعُ البنادقَ، وفي مشاجرةٍ أخرى يحملونَ العصيَّ، وكأننا انتقلنا إلى زمنٍ مختلفٍ من دون سياقٍ مقنعٍ للسلوكِ الأولِ ولا للسلوكِ الثاني. هذه الثغراتُ تُثيرُ الحيرة وتُشيعُ إحساساً بالتخبطِ، لأنهُ ليسَ هناك سيناريو يضبطُ التفصيلاتِ الدقيقةِ في بناءٍ معقدٍ ومتماسك.
الإيقاع، أين هو؟ الإيقاعُ، كتتابعٍ منظمٍ للحركةِ والصوت، يلعبُ دوراً محورياً في خلقِ التوترِ وتطورِ الشخصيات، وتتجلّى أهميتُه في التوازنِ بين الصمتِ والحركة، والاضطراب والهدوء، والفعلِ والسكون. يختلُّ الإيقاعُ، إما بسرعتهِ المفرطةِ التي تثيرُ الارتباكَ وتُضعفُ التأثيرَ الدراميَّ، أو بالامتدادِ الزمنيّ الذي يوّلدُ الملل. على النقيض، التناوبُ بين الحركةِ السريعةِ والهدوءِ يجذبُ المشاهدينَ ويسندُ تواصلَهم مع تطورِ الأحداث. فكما فعلَ شكسبير، قبل أكثر من 400 سنة، ينبغي أن تُخفَّفَ بعضُ المشاهدِ من العبءِ لتجهيزِ الجمهورِ إلى تصاعدٍ دراميّ قادم. فهل وُفّقَ المسلسلُ في الحفاظِ على هذه الحساسيةِ الإيقاعية؟ (1) تعاملَ المسلسلُ مع الزمنِ التلفزيونيّ بسخاءٍ حاتميّ حيثُ يتمدّدُ الوقتُ بلا اكتراثٍ، مُثقِلاً السردَ بتفاصيلَ زائدةٍ لا تضيفُ شيئاً جوهريّاً للحبكة. وبدلاً من تكثيفِ الزمنِ واستغلالهِ بشكلٍ فعّال، تتوالى المَشاهدُ المستفيضةُ بلا ضرورة، وتبدو الحلقاتُ عائمةً في بحرٍ من الاستطالاتِ التي تقدّمُ القليلَ من المعلومات، رغمَ أنَّ الفنَّ يتطلبُ التعبيرَ بأقلّ الكلماتِ عن أكبرِ قدرٍ من الأفكار. مثالُ ذلك الإفراطُ العامُّ في إقحامِ الرموزِ الدينية، مثل القسم بـ(العباس أبو فاضل)، وغيرها مما أدّى إلى زياداتٍ غير مرغوبة. إهمالُ الزمنِ في المسلسلِ لا يقفُ عند حدودِ الحوارِ أو الحبكة، بل يمتدُّ ليؤثّرَ على إيقاعِ العملِ ككلّ، مما يجعلهُ مائِعاً بلا حدودٍ واضحة. (2) ينتقلُ التلقي، دونَ فتراتِ استراحة، بين صخبٍ وصراخٍ متواصلٍ بينما يعاني في الوقتِ ذاتهِ من الثباتِ والركود. فبدلاً من أن تُسهمَ المعاركُ الصاخبةُ في بناءِ صراعٍ دراميّ حقيقيّ، تبدو وكأنها مفروضةٌ من الخارج، قائمةٌ على الغضبِ والانفعالاتِ التمثيليةِ غير المنضبطةِ أكثرَ من كونها متجذرةً في بنيةِ المشهد. وفي الوقتِ الذي يجيدُ محترفونَ مثل (أسامة أنور عكاشة) رفعَ منسوبِ الترقبِ والتواصلِ مع الجمهورِ دون الحاجةِ إلى رفعِ الصوتِ؛ تعيشُ الشخصياتُ والمُشاهدُ في حالةٍ مستمرةٍ من الإرهاقِ الذهنيّ دونَ لحظاتٍ كافيةٍ من التأمّلِ والهدوء. (3) إضافة الى ذلك، عانى المسلسل من جرعةٍ زائدةٍ من التكرار في جميع عناصرِه الفنية. يعودُ التكرارُ إلى غيابِ المقدرةِ على دفعِ المشهدِ إلى الأمام. فبدلاً من أن يكونَ هناكَ تفاعلٌ حيٌّ ومثيرٌ بين الشخصيات، يجدُ المشاهدُ نفسَهُ محاطاً بحواراتٍ معادةٍ، بحيث يفقدُ المسلسلُ قدرتَهُ على الإضافةِ بمرورِ الوقت، لأنّ كلَّ جملةٍ هي صدى لما قبلها. هذا الأسلوبُ، بقدرِ ما يُطيلُ من الزمنِ الفعلي، يجعلُ الزمنَ النفسي يتعثرُ، فتُصبح المُشاهَدةُ مجرّدَ سلسلةٍ من اللحظاتِ المتوقعة. وما الانتقالُ الملحوظُ من الحماسِ في الجزءِ الأولِ إلى الفتورِ في الجزءِ الثاني، حتى بين المدافعينَ عن العمل، إلا تجسيد لمعرفةِ الجمهورِ بكلّ شيءٍ مبكراً من عمرِ المسلسل. في هذا السياق، لمْ يمارس العملُ لعبةَ الإخفاءِ والإظهارِ، تلك اللعبةُ التي تتيحُ تقديمَ المعلوماتِ تدريجياً بدلاً من كشفِها دفعةً واحدةً، مما يحافظُ على عنصرِ التشويقِ في القصة المعروضة. يتضحُ ذلك في إمكانيةِ الانتقالِ عشوائياً بين المَشاهدِ دونَ شعورٍ بفقدانِ أيّ شيءٍ مهم. والسبب: عدمُ قدرةِ المسلسلِ على ربطِ المشهدِ مع المشهدِ الذي يسبقه والذي يليه بطريقة منسجمة. (الكثيرُ ممن أفرطوا في إعجابِهم بالمسلسلِ لم يشاهدوه كاملاً، بل اكتفوا بمقاطعَ قصيرةٍ عبرَ الريلز، خاليةٍ من الإيقاعِ المتكامل، وتعاملوا معهُ كما لو كانَ سلسلةً من الفيديوهاتِ القصيرةِ المنتشرةِ على اليوتيوب).
الواقع أم الخيال؟ اضافةً إلى السلبيةِ الغالبةِ في تصويرِ المجتمعِ ومغازلةِ الوعيّ العامِ بالقضيةِ الحسينية، تَرَدَّدَ المسلسلُ بين الواقعِ والخيال، وبين الفيزيقيّ والميتافيزيقيّ، وبين المادي والمجرد. يُقدّمُ البطلُ (فرج) وكأنه يمتلكُ قدراتٍ سحريةً تتجاوزُ حدودَ المعقولية، مثل محوِ الصورِ من كلّ مكانٍ أو تجسّده بأشكالِ اشخاصٍ مختلفين، بتغايرٍ مع القواعد التي اقترحَها المسلسلُ لنفسِه. يحاولُ (الجنة والنار) أن يروي قصةً واقعية وأن يخلقَ بطلاً (أكبرَ من الحياة) في الوقتِ ذاته؛ لكنه يعجزُ عن التوفيقِ بين هذا الطموحِ وبين تطلعاتِ المُشاهدِ إلى المنطق. (حينما تحتجُّ على قدراتِ (فرج) الهائلةِ يُقالُ لكَ هذا فنٌّ والفنُّ خيالٌ وافتراض، وعندما تحتجُّ على تصويرِ المجتمعِ كهمجي وغاية في التخلّف تُذكرُ حجةٌ مناقضةٌ وهي أنَّ هذا هو الواقع). والاشكال الأكبر في ذلك هو: عندما تكونُ لديكَ فكرةٌ عامةٌ لعملٍ يمتدُّ لساعات، وتضعُ ممثلاً في فضاءٍ غيرِ مُرّتب، وتطلبُ منهُ الارتجال، ثم تقومُ بتصويرهِ بأسلوبٍ لا يناسبُ النوعَ الفنيَّ للعمل، وتتناولُ موضوعةً هجينةً لا تنتمي لا للخيال ولا للواقع، فإنَّ النتيجةَ الطبيعيةَ هي بناءٌ مشوشٌ تستحوذُ الفوضى على كلّ مفاصلِه.
الفنّ والجمال كلّ هذه الإشكالاتُ تقودُنا إلى طرحِ قضيةِ الفنّ والجمال. فلكي يتحققَ جمالُ الفنّ التلفزيونيّ، هناكَ عناصرُ ينبغي أن تتضافر لهدفٍ موّحد، والتي خرجتْ، في كثيرٍ من الأحيان، عن وظيفتِها الأساسية.
أولاً: الإضاءة في الفنّ التلفزيونيّ، تظلُّ مهمةُ الإضاءةِ هي الكشف والوضوح كأهمّ وظيفة بين جميعِ الوظائفِ الأخرى. يجبُ أن تكشفَ أولاً، ثم يمكنكَ أن تجرّبَ ما تشاءُ بعد ذلك. قد يتقبّلُ المُشاهدُ بعضَ التحويرِ في الإضاءةِ لمشهدٍ أو مشهدينَ لأسبابٍ رمزيةٍ أو لرفعِ الترقب؛ لكنْ من غيرِ الممكنِ أن يتحمّلَ مسلسلاً كاملاً يتجاوزُ على أبسطِ العلاقاتِ الخاصةِ بالضوء. معظمُ الأحداثِ تجري في ظلامٍ كثيف، مما يجعلُ من الصعبِ على المشاهدِ تمييزَ تفاصيلِ المشهدِ أو قراءةَ تعابيرِ الممثلينَ بوضوح، ناهيكَ عن فقدانِ الشعورِ بالحميميةِ مع الأماكن. ورغمَ أنَّ هذا الأسلوبَ يبدو متعمداً ضمنَ إطارٍ فني، إلا أنهُ يواجهُ تحديينِ رئيسيين: الأولُ هو الابتعادُ عن الجمالياتِ الفنية، والثاني أنّهُ مرهقٌ للعين.
ثانياً: الصوت يكفي أن نشيرَ إلى أنَّ المُشاهدَ عادةً ما يَسألُ رفيقَهُ عما قالتْهُ الشخصيةُ (س) وسطَ الضجيج، أو يُضطرُّ إلى استخدامِ الريموتِ كنترول لضبطِ مستوى الصوتِ بشكلٍ متكررٍ صعوداً ونزولاً، نتيجةً لعدمِ العنايةِ الكافيةِ بتوازنِ درجاتِ الصوتِ ووضوحِه. ورغمَ أنَّ الضروراتِ الدراميةَ قد تَستدعي أحياناً تصعيدَ الصوتِ لتجسيدِ حالاتٍ بشريةٍ متنوعةٍ بينَ الصياحِ والهمسِ، إلا أن هناك فرقاً بينَ الصياحِ الفنيّ والصراخ. يجب أن تكونَ هناك حلولٌ فنيةٌ للتعبيرِ عن الانفعالاتِ الشديدةِ، خاصةً وأنَّ الحياةَ ليست توتراً مستمراً كما يصوّرها المسلسل.
ثالثاً: التصوير في الأربعينيات، قدَّم أورسون ويلز درساً لا يُنسى في فيلمه (المواطن كين) حيثُ ينبثقُ المعنى من أدقّ مكونٍ من مكوناتِ الصورة؛ لكن في مسلسل (الجنة والنار) نجدُ أنَّ اللقطاتِ لا تُراعي العمقَ أو الوضوحَ، ولا مسقطَ الضوء، ولا كميةَ الإضاءةِ المطلوبةِ للكشفِ والإظهار، ولا قيمةَ الشخصيةِ في الحدثِ الدراميّ. وعلى العكس من ذلك، نلحظُ أنّ أكثرَ المَشاهدِ خواءً في مسلسل (باب الحارة) هي بؤرةٌ من الاستمتاع بسببِ اندماجِ العناصرِ المشاركةِ بشكلٍ جماليّ. فزوايا التصويرِ وتصميمُ الإضاءةِ وهندسةُ الصوتِ والموسيقى تلعبُ دوراً جوهرياً بجانبِ القدراتِ التمثيليةِ في خلقِ المتعةِ المطلوبة.
ورغمَ بعضِ مشاهدِ الجموعِ الفوضوية، والمبالغات الارتجالية، والانقطاع في الشخصيات بين المَشاهد؛ تميَّزَ التمثيلُ في المسلسلِ بمستوياتٍ مقبولة. الاعتمادُ على ممثلي الناصرية، باستثناءاتٍ قليلة، كشفَ عن عددٍ لا بأسَ به من المواهبِ التمثيليةِ الواعدةِ التي يمكنُ استثمارُها في مشاريعَ مستقبلية. هذا الاعتمادُ لم يكن مجردَ اختيارٍ فنيّ؛ بل هو أحدُ الأسبابِ الرئيسيةِ وراءَ الانتشارِ الواسعِ والجماهيريةِ العاطفيةِ التي دعمتْ المسلسل. لقد ثبتَ أنَّ مدينةَ الناصريةِ تزخرُ بالطاقاتِ التمثيلية، مما يفتحُ آفاقاً جديدةً لصناعةِ الفنّ هناك. ومع ذلك، يبقى من الضروريّ تحسينُ الجوانبِ الفنيةِ الأخرى، مثل الإضاءةِ والصوتِ والخطاطةِ السردية، لتحقيقِ توازنٍ بين الأداءِ والمعاييرِ التقنيةِ المطلوبةِ لضمانِ تقديمِ عملٍ فنيّ متكامل.
بالطبع، لا يغفلُ ما أدرجناهُ من نقاطٍ نقدية، قد نكونُ فيها مخطئين، ما حقّقهُ المسلسلُ من انتشارٍ واسعٍ بعيداً عن توجهاتِ الإعجابِ المفرطِ أو الرفضِ المَرَضيّ. لكنّكَ في كلّ الأحوال، كما يقولُ المثلُ الإنجليزيّ: (لا تستطيعُ أن تجادلَ النجاح). ففي معرضِ انتقادِ أحدِهم لممثلٍ سينمائيّ بأنّ وجهَهُ خالٍ من التعبير، وجسدهُ متصلبٌ، ومشاعرهُ بلا ملامحَ عند التمثيل، أجابهُ ناقدٌ آخرُ بأنه ناجحٌ وشهيرٌ ويتمتعُ بجماهيريةٍ كاسحة، وأنت لا تستطيعُ أن تجادلَ النجاح. ثمةَ نجاحٌ وشهرةٌ لمسلسلِ (الجنة والنار) لن يُقلّلَ في اتساعِها أيُّ تشخيصٍ فنيّ. فقد استطاعَ هذا العملُ أن يثيرَ الجدلَ والقراءاتِ النقدية، وهذا يُحسَبُ للذين غامروا وخلقوا فضاءً درامياً اقتحمَ مساحةً كبيرةً من التلقي وبأدواتٍ متواضعة. ومن هنا، ينطلقُ الترّقبُ للتجربةِ القادمةِ بأمل أن ما حدثَ لم يكن صدفةً أو ضربةَ حظٍّ؛ بل هي رؤيةٌ رصينةٌ ومدروسةٌ قد شهدنا حلقاتِها الأولى في مسلسل (الجنة والنار).
#عباس_منعثر (هاشتاغ)
Abbas_Amnathar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفنان عباس كاظم رحيمه
-
وسائل الطبقة السياسية العراقية في الخداع
-
القائد العظيم صدام حسين!
-
تحولات صورة الحشد الشعبي من القداسة إلى الدناسة
-
بين العجم والروم بلوة ابتلينا!
-
بين غاندي وجيفارا، أيكون الحل مستحيلاً في العراق إلا باستخدا
...
-
أين ما عشناه في العراق بعد 2003 مما حلمنا به؟
-
هل تُلدغ المليشيات العراقية من الجحر نفسه مرتين؟
-
هل إيران حليف حقيقي أم مصاص دماء؟
-
التصحر في العراق والموقف الشخصي والحزبي
-
هل عمار الحكيم هو الضد النوعي المناسب لمقتدى الصدر؟
-
كيف يُهدد الصّراعُ بين الشّيعة الأمنَ العراقي؟
-
إخلاء المنطقة الخضراء من الميليشيات
-
مقتدى الصدر هو أمل الولايات المتحدة الأفضل
-
تصويت لا يؤدي الى مكان: لماذا لا يحتاج العراق إلى انتخابات م
...
-
خلاف طهران والصدر يؤجج عدم الاستقرار في العراق/ ج2
-
خلاف طهران والصدر يؤجج عدم الاستقرار في العراق
-
عدمُ اكتراثِ بايدن سلّمَ العراقَ لإيران
-
النزاع المستعر في العراق والخشية من اندلاع العنف من جديد
-
الانقلابان في العراق، وكيف تستجيب الولايات المتحدة لهما
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|