|
بين الظلم التاريخي وإعادة الاعتبار: إشكالية قراءة أفكار السفسطائيين
أحمد زكرد
الحوار المتمدن-العدد: 8127 - 2024 / 10 / 11 - 20:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في بداية تطور الفلسفة الإغريقية، كان اهتمام الفلاسفة موجّهًا نحو الكون والطبيعة. هؤلاء الفلاسفة، الذين يُطلق عليهم "الفلاسفة الكوسمولوجيون"، مثل طاليس، وأناكسيمندريس، وأناكسيمينس، وجّهوا أسئلتهم نحو البحث عن المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الكون. كانوا يسعون إلى تفسير الظواهر الطبيعية بعيدًا عن الأساطير التقليدية، وركّزوا على ما يُعرف بـ"الأرخي" (العنصر الأولي) الذي يتكون منه كل شيء. على سبيل المثال، اعتبر طاليس أن الماء هو الأصل الأول لكل الوجود، بينما رأى أناكسيمينس أن الهواء هو هذا المبدأ الأساسي. تلك المرحلة من الفكر الفلسفي كان يغلب عليها التفكير التجريدي والبحث في قوانين الطبيعة والتكوينات المادية التي تُفسر وجود الكون. كان الفلاسفة الكوسمولوجيون يسعون للوصول إلى نظام منطقي يُفسر الظواهر من حولهم، متجاهلين إلى حد كبير الجانب الإنساني والاجتماعي. هذه الفلسفة، رغم عمقها، كانت تتعامل مع العالم الخارجي دون أن تغوص في العالم الداخلي للإنسان والمجتمع.
لكن مع التحولات الاجتماعية والسياسية الكبيرة في المجتمع الأثيني في القرن الخامس قبل الميلاد، تغيرت أولويات الفلاسفة. أثينا، باعتبارها مدينة ديمقراطية نشطة، أصبحت ساحة للمناقشات السياسية والجدل حول مفاهيم العدالة، والقانون، والفضيلة. في هذا السياق الجديد، ظهر السفسطائيون الذين حولوا الفلسفة من الأسئلة المتعلقة بالكون والطبيعة إلى الأسئلة المتعلقة بالإنسان نفسه، بسلوكياته وقيمه.
السفسطائيون، مثل بروتاغوراس وجورجياس، رأوا أن الإنسان هو المركز الذي يجب أن تدور حوله الفلسفة، وليس الكون المادي. كان اهتمامهم الأكبر منصبًا على تعليم فنون الخطابة والجدل، حيث أصبح الإقناع في الحوارات العامة والسياسية ضرورة اجتماعية وسياسية في ذلك الوقت. كانوا يُعلّمون الشباب الأثيني كيف يسيطرون على النقاشات ويفوزون بالحجج، بغض النظر عن الحقيقة المطلقة. هذا التحول الفلسفي يطرح عدة أسئلة إشكالية حول السفسطائيين ودورهم في تطور الفلسفة: هل كان السفسطائيون يبحثون عن الحقيقة أم أنهم اكتفوا باستخدام مهاراتهم في الإقناع لتحقيق مكاسب شخصية؟ إلى أي مدى أسهم السفسطائيون في تعميق الوعي الفلسفي، خاصة في ما يتعلق بالمسائل الأخلاقية والسياسية؟ هل كان رفضهم لفكرة الحقيقة المطلقة يمثل انفتاحًا جديدًا على التفكير النسبي والنقدي، أم كان مجرد خطوة إلى الوراء في الفلسفة التي أسسها سقراط وأفلاطون؟ كيف أثرت نظرتهم النسبية للمعرفة على مفهوم العدالة والقيم الأخلاقية في المجتمع الأثيني؟ هل كانت السفسطائية تُشجع على الفوضى الفكرية التي قد تقوض أسس النظام الاجتماعي والسياسي القائم، أم أنها كانت تعبيرًا عن تحول ضروري في التفكير لتلائم واقع الديمقراطية الأثينية؟
المدرسة السفسطائية (Sophism) هي إحدى المدارس الفلسفية التي ظهرت في اليونان القديمة خلال القرن الخامس قبل الميلاد. وقد ارتبطت السفسطائية بشكل وثيق بتطور الفكر الفلسفي والتعليم في أثينا. كانت هذه المدرسة تقوم على تقنيات الجدل والخطابة والإقناع، واهتم أعضاؤها بتعليم الشباب الأثيني فنون الخطابة والبلاغة، وهي مهارات أساسية في الحياة العامة والسياسية في تلك الحقبة.
أصل السفسطائيين وتاريخهم: كلمة "سفسطائي" مشتقة من الكلمة اليونانية "Sophistēs"، والتي تعني "الحكيم" أو "المعلم". في البداية، كانت الكلمة تستخدم للإشارة إلى أي شخص يتمتع بحكمة ومعرفة كبيرة، لكن مع تطور استخداماتها، أصبحت تشير إلى مجموعة من المعلمين المتجولين الذين قاموا بتدريس الشباب فنون الخطابة والإقناع. أبرز السفسطائيين هم بروتاغوراس، جورجياس، هيبياس، وبروديكوس. هؤلاء الفلاسفة قدموا خدماتهم التعليمية مقابل أجر، وهو ما أثار بعض الانتقادات في أوساط المجتمع الأثيني آنذاك، حيث كان يُنظر إلى العلم والفلسفة كأنشطة لا ينبغي أن يتم ربطها بالمال.
أفكار السفسطائيين: النسبية الأخلاقية والمعرفية:من أشهر الأفكار التي روج لها السفسطائيون، وخاصة بروتاغوراس، هي أن "الإنسان هو مقياس كل شيء"، أي أن الحقيقة نسبية وتختلف من شخص لآخر. هذه الفكرة أثارت جدلًا كبيرًا في الأوساط الفلسفية اليونانية، لأنها تتعارض مع فكرة الحقيقة المطلقة التي كان يدافع عنها سقراط وأفلاطون. البلاغة والخطابة:السفسطائيون كانوا يركزون على أهمية الإقناع في الحياة العامة والسياسية. فن الخطابة كان بالنسبة لهم فنًا يمكن استخدامه لتشكيل آراء الناس، سواء كانت تلك الآراء صحيحة أو خاطئة. هذا ما دفع أفلاطون إلى اتهامهم بالتلاعب بالخطاب واستخدامه لأغراض شخصية بدلًا من البحث عن الحقيقة. الشك والتفكيك:السفسطائيون، وخاصة جورجياس، ذهبوا إلى أبعد من ذلك في تبني الشك، حيث أنكر إمكانية معرفة الحقيقة على الإطلاق. جورجياس، على سبيل المثال، قال إن "لا شيء موجود، وإذا كان هناك شيء، فلا يمكن معرفته، وإذا أمكن معرفته، فلا يمكن نقله إلى الآخرين". نقد السفسطائيين: كان سقراط و أفلاطون وأرسطو من أبرز منتقدي السفسطائيين. أفلاطون في حواراته، ولا سيما في "الجمهورية" و"جورجياس"، قدم السفسطائيين بصورة سلبية، متهمًا إياهم بالتلاعب بالحقائق واستخدام الخطابة لخداع الناس بدلاً من تعليمهم البحث عن الحقيقة. أفلاطون رأى أن السفسطائيين يركزون على "الدّوكسا" (الرأي الشائع) بدلاً من "الإبستيمي" (المعرفة الحقيقية). واعتبر أن هدفهم هو الفوز في الجدالات، وليس السعي وراء الحقيقة. هذه الانتقادات ساهمت في رسم صورة سلبية عن السفسطائيين، والتي استمرت عبر القرون. أرسطو أيضًا انتقد السفسطائيين في كتاباته عن البلاغة والمنطق، حيث اتهمهم باستخدام "السفسطة" كحيل جدلية لا تعتمد على منطق سليم، وإنما على استغلال ضعف الخصم في المناقشة.
إعادة النظر في المدرسة السفسطائية: في العصر الحديث، هناك محاولات لإعادة تقييم دور السفسطائيين في تاريخ الفلسفة. فبعض الباحثين يرون أن السفسطائيين كانوا جزءًا مهمًا من الحراك الثقافي والفكري في اليونان القديمة. فهم لم يكونوا مجرد مخادعين، بل كانوا يسهمون في تعليم الناس وتطوير مهاراتهم الجدلية، وقد ساهموا في إشاعة الروح النقدية في المجتمع الأثيني. بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول إن السفسطائيين، من خلال تركيزهم على النسبية والشك، أسهموا في تمهيد الطريق لتطور الفكر النقدي والفلسفة الحديثة، حيث تُعد الشكوك حول إمكانية الوصول إلى الحقيقة المطلقة من السمات الأساسية للفلسفات المعاصرة.
يمكن القول إن المدرسة السفسطائية قد تعرضت بالفعل لظلم تاريخي نتيجة النقد الحاد الذي وجهه لها أفلاطون وأرسطو، حيث تم تصوير السفسطائيين على أنهم مخادعون وأصحاب حجج غير مقنعة. لكن هذا التصور ينطوي على اختزال لفكرهم الحقيقي. فقد لعب السفسطائيون دورًا رياديًا في نشر التعليم والمهارات البلاغية بين مختلف طبقات المجتمع الأثيني. لقد كان هدفهم الرئيسي هو تمكين الأفراد من التفكير المستقل والدفاع عن وجهات نظرهم، بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو مدى تعليمهم. إن إسهامات السفسطائيين في تطوير النسبية المعرفية كانت خطوة ثورية في تاريخ الفلسفة. لقد شككوا في وجود حقائق مطلقة، معتبرين أن المعرفة نسبية وتعتمد على السياق والموقف الذي يوجد فيه الفرد. هذا التشكيك لم يكن محاولة لتدمير الحقيقة بقدر ما كان وسيلة لتوسيع أفق التفكير، والاعتراف بأن الواقع يمكن أن يُنظر إليه من زوايا متعددة. كما لا يمكن إنكار أن السفسطائيين ساهموا في تطوير فنون الخطابة والمناظرة، مما أسهم بشكل كبير في تشكيل أدوات التعبير والإقناع التي نستخدمها حتى اليوم. بناءً على ذلك، يمكن النظر إلى السفسطائيين ليس كمفسدين أو مخادعين، بل كمفكرين حرروا الفلسفة من قيود الأحكام المسبقة، وفتحوا الباب أمام التفكير النقدي والمرونة الفكرية.
#أحمد_زكرد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النقاب كظاهرة ثقافية: تحليل فلسفي واجتماعي في السياق المغربي
-
الناسخ والمنسوخ والمفقود والمرفوع
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|