|
قراءة نقدية في كتاب -فيمَ تحدّق العيون-
شهربان معدي
الحوار المتمدن-العدد: 8125 - 2024 / 10 / 9 - 21:56
المحور:
الادب والفن
للكاتبة الواعدة - نور حبيش -بقلم: شهربان معدّي.
أحيانًا نمرُّ بحالة اختناق شديدة فتعجز أقلامنا عن ترتيب الحروف، وتستعصي الكلمات على ألستنا، وتبقى لغة العيون هي اللّغة الوحيدة المُعبّرة عن حالنا.. لأنها لغة صادقة، عميقة، لا تعرف الكذب والنفاق ولا المجاملة، وثمّة عيون رغم اتساعها لا تبصر شيئًا وأخرى رغم انطفائها ترى كلّ شيء، وأخرى شجعة نهمة لا يملؤها سوى حفنة تراب..
وليس اللّسان وحده الذي يستطيع الكلام، فالعيون قادرة على الكلام في كثير من الظروف والأوقات ايضا، واذا كانت اللّغة التي يتحدث بها اللّسان مسموعة ومفهومة، فإن لغة العيون غير مسموعة ولكنها مؤثرة وبليغة في كل اوقاتها. وهكذا جلست نور العين في صومعتها تصوغ لنا الحكايات المنسوجة ببراعة، نتاج خيال واسع، واطّلاع عميق وقلم باهر، وثقافة عالية، وبصيرة نافدة، وفي ظلّ تربية صالحة، أصيلة، برعاية رموش عين والدة مثقّفة حكيمة، وبمساندة والدٌ فاضلٌ، داعمٌ، وعائلة كريمة، أتى للعالم مولودها الأول "فيمَ تُحدّق العيون؟" مع علامة استفهام لنهايات مفتوحة، في كلّ قصّة من قصصها المميّزة، وهذا سرّ الحكاية، وميزة الكتاب، وكأنها تسمح للمتلقي مشاركتها وجعها وبوحها، وسبر أغوار رسالتها السّامية، وتسأل نور: - كلّنا في طريق الزّوال، ففيمَ تحدّق العيون؟ ولما يتقاتل البشر وفي الكون متّسع للجميع، وبروحها الشّابة الأصيلة، تهمس لنا: ما زال النّسيم يحنو على الصباح وأرصفة الطرقات تزيّنها أزهار الليلك، وما زالت البلابل تغرّد لنا، وما زال في الدنيا خيرُ، فلماذا لا نمشي ببطء ونحظى بكلّ هذا الجمال، لما لا نغذي أرواحنا وعيوننا بهذا الجمال؟ لماذا نبحر كالمجانين في خضمّ هذه الحياة؟ في قصّتها الرائعة "شيء على الطريق" ص 53 كإناء لشرب العصافير تجرّعنا نصوص نور التي اتحفتنا بها بشغف ودهشة، فيها يشرب القارئ دون أن يرتوي، بلغتها الخاصّة، الاستثنائيّة التي لا تدركها سوى العيون البصيرة ، ورسالتها العميقة التي تسبر أغوار النفس البشريّة، وتكشف انكساراتها وضعفها، وحاجتها للتضحية والإيثار، حتى تصل بنا لعيش كريم يستحق وجودنا في هذه الكرة الزرقاء؛ تحدٍ كبيرٍ لكاتبة شابّة، يافعة، في زمن التّفاهة والانْحلال والميوعة، وزناخة الأنستغرام والمحتويات الفارغة المضمون على التيكْ توك، وفي ظل عالم الديجتال، الذي سيطرت فيه ثقافة العين والأذن، على ثقافة القراءة والبحث والمطالعة، وحوّلتنا لمجرّد أرقام، فضّلت نور العزلة الاختيارية لتعالج أمور المجتمع بكلّ رويّة وحكمة وفطنة وذكاء، وضعت الجراح وضمّدتها، بقفّازاتها الحريريّة ويدها الرحيمة، ووعيها النادر، كيف لا وهي تلميذة زكريا تامر والجاحظ والمتنبي وليلى العثمان ولانا ديل راي وروائع والت ديزني، وهي تشكر فضل هؤلاء السّادة الذين تتلمذت على يدهم كي تمسك بطرف الحكاية وتكتب بنور القلب. لتتحفنا بمجموعتها القصصية الأولى، الّتي تتسم بالرمزيّة والفلسفة الثرية بالفكر العميق والمشاعر الإنسانيّة، وإسقاطات وتأويلات متشعبة، شبّهتها بالبئر، ضيّق الفوّهة، عميق القرار.
وبعد قراءة وافية وجادّة في مجموعة نور، أجدها تقدّم لنا لوحات انسانيّة، شفّافة، نقيّة كروحها الصّافية، دون رتوش ومساحيق، ودون تهكم واستخفاف وإن كان الأسلوب يميل إلى الفكاهة، والضحك، فهي تدرك بعينها الثاقبة أنّ شرّ البليّة ما يُضحك، وهذا ما حاولت معالجته في قصّتها الأولى: فيمَ تحدّق العيون؟ البطل الوهميّ الذي خلقته نور على هيئة حرامي، يؤرق أهل حارة المصاطيب، ويقلبها رأسًا على عقب، وقد شرع رجال الحارة ببناء جدار وهميّ يقيهم هذا السارق الشريف الذي لم يسرق سوى ثلاثة كتب وترك وراءه كلّ شيء سوى عيون نساء الفارغة، الشجعة، التي تشعلها الغيرة والحسد؛ حيث يُجبرن الرجال على بناء جدار واقٍ وترميم البيوت ودهن الجدران وتغيير الأثاث، بسبب هذا العدو الوهميّ الذي سرق من عيونهم النوم ومن أيامهم هداة البال، حشرهم في زوايا الحاضر المؤقت، وفي قمقم المادة والمقتنيات والقيل والقال وبما سيقوله عنّا الناس في ص 22 حيث جلست إم نجيب تلطم وتولول خوفًا مما ستقوله جاراتها عن سجادتها الحمراء العتيقة وأثاثها البالي، وتطالب زوجها بتحديث كلّ البيت، قبل مجيء جاراتها ومجيء الحرامي الذي لن يجد شيئًا يستحق السرقة! وهكذا حال مجتمعنا للأسف الشّديد يؤمن بالعين والحسد أكثر من أيمانه بالله عزّ وجلّ ويخاف من حكي الناس أكثر من خوفه من خالق الناس. وأجمل ما لفت نظري الحوار الذي دار بين إم نجيب وابنتها ص 22 حين دخلت ابنتها الصالة وهي تحمل صندوقًا مليء بالكتب وطلبت منها مساعدتها في تخبئة الكتب خوفًا من الحرامي حيث انّتهرتها والدتها قائلة: "أما صحيح أنّك بلهاء، من يهتم بكتبك التافهة؟ أو أقول لك ضعيها أمام الباب كي يسرقها ويريحنا منها" وهي إشارة موفّقة من نور الغالية بجهل مجتمع بأكمله بقيمة الكتب، وقيمة هذه الكنوز الثمينة التي استبدلها الناس بسلع فانية وأغراض زائلة، ولكن في آخر القصّة توفّق نور في إرسال رسالة مبطّنة للقارئ؛ حيث لا يأخذ هذا السّارق الشريف معه شيئًا، سوى ثلاثة كتب واحد يسقط معه وهو يتسلق الجدار وهكذا تخبرنا نور أنّه كلّ من يريد أن يلحق بركب الحضارة يجب أن يتسلح بالعلم والتّعليم ويوثق الكتب، لأنها الإرث الوحيد الذي تبقيه الشعوب الحاضرة للأجيال القادمة. وهو الوقود الحقيقيّ لثقافة الشعوب والنّهوض بها لأعلى المستويات.
وفي ص 49 لفتت نظري قصّة " وجعل بينكم مودّة" في طريقة غير مباشرة بحنكة وذكاء تخبرنا نور عن كلّ الإسقاطات والإنكسارات التي تخلّفها النزاعات العائليّة بين الزوج والزّوجة تحفر ندوبًا عميقة في وجه سليم وقلبه، كما الخدوش التي تحدثها على الاسمنت الطري، لا تزول ولا تضمحل رغم مرور الزّمان، وهي صرخة مدوّية في وجه الأهل: ارحموا أولادكم كي يرحمكم الله عزّ وجلّ، انظروا كيف شوّهت الخلافات جمال سليم وقتلت روحه الفتيّة، وأحدثت شقوقًا وانكسارات وصدوعًا في قلبه الغضّ.
وتستحق قصّة "تسعة شهور" وقفة طويلة، وتفكير عميق، قصّة رمزيّة، عميقة المعاني، تكشف النقاب عن وعي كاتبتها وإلْمامها بأمور الحياة، قصّة استثنائيّة، عن أم حملت ابنها تسع سنوات، وهو يرفض أن يخرج للعالم، احتضنته في أحشاءها وقدّمت له كلّ ما يجب أن تقدّمه كأم، دورات سباحة وقصص وموسيقى جميلة ولكنها رفضت أن تلده في ظلّ هذه الحياة القاسية، خوفًا عليه من البؤس والظلم والقتل والعنف وويلات الحروب، كي ينعم بحياة هادئة، آمنة في رحمها. ص 73 "ذهبت تخاطب جنينها وتخبره؛ أنّه في أمان، وأنها رضيت أن تشاهده من بطنها فقط، وتطمئن عليه من خلال جهاز الكشف، وكفّت عن المحاولة في ولادته"
في ظلّ زمن أغبر عصيب، تغلّبت فيه ثقافة الموت على ثقافة الحياة، ولغة الحرب على لغة الحب، نجحت نور في إيصال الرسالة وتوظيف الحرف، باستراتيجيّات مختلفة وذكاء فذّ، بعيدٌ عن الوعظ والإرشاد؛ حيث ارتأت طريق الرّمزية المكثّفة والإبهام وجعلت القارئ الشريك الحقيقيّ في حسم النهايات وتفكيك الرسالة عن طريق التفكير العميق والإبحار في رحلة ابداعيّة فكريّة انسانيّة، ابتعدت فيها عن المباشرة والتقريرية. فكّت شيفرة اللغة، بلغة العين ونور القلب، وقالت لنا ما لا نستطيع قوله بلغة الكلام، فطوبى للعين التي لا تبصر سوى الجمال والقلب الذي ينشد سوى الحب. وفي الأخير، دمت استثنائيّة، ومبدعة يا نور، وقط لن تبرح مخيلتي نور الصّغيرة، الفتاة الفائقة الجمال التي فكّت الحرف قبل أترابها وحفظت الأناشيد المدّرسية قبل دخولها للمدرسة، قط لن انسى أدائك المميّز في قراءة الشعر وحضورك الأثير، ولغتك المحكيّة السّليمة منذ نعومة أظافرك، وكنت متيقنة أنّني أقف أمام موهبة فريدة وقامة عالية سيكون لها تأثيرها ودورها في إثراء المشهد الأدبيّ العام ولكن بشرط أن تنتقلي يا نور من المحليّ إلى العالميّ الشموليّ، ومن دائرة مجتمعنا الضيّقة، إلى دائرة العالم الرحب، الذي يفتح لك ذراعيه، وأنت لها يا نور العين. *الكتاب إصدار دار الحديث للإعلام والنشر -2023
#شهربان_معدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
باقة هايكو من سحر الخريف.
-
*هدهدة..
-
*كان يمكنها سماعي..
-
عندما تُزهر ضفاف النهر..
-
* ابن العازة -عُكّازة-؟
-
* نمّلية ستّي؛ صيّدلية لكلّ العائلة.
-
ولادة كتاب جديد - جود يحلّق في الفضاء بقلم: شهربان معدّي.
-
لروح -المغنّي- الأديب الكبير، المرحوم الأستاذ إبراهيم يوسف.
...
-
*حُطّي ابنك في كُمّك ولا تعيريه لأمك!
-
ليست مجرّد لمّة زيتون وزعتر..
-
لمن تركت آلاء وعدن؟ للناقد والأديب المرحوم شاكر فريد حسن
-
كتاب -حارة السلام- طرح جديد يُعزّز قيمة الجيرة الحسنة وقبول
...
-
لروحك السلام يا سنديانة الزابود وفتى الحقول.. لروحك السلام أ
...
-
نوافذ الحُزن لا يفتحها غير العُظماء.. نثرية متواضعة، مهداة ل
...
-
باقة هايكوهات ربيعيّة بمناسبة عيد الأُم.
-
أُمنيَةٌ صغيرةٌ
-
الأنسنة في القصة القصيرة (حفنة حظ) للكاتبة شهربان معدي. بقلم
...
-
النهار ملْكَ يدي..؟
-
بوح في زمنٍ منكود
-
-البوّابات الخمس... بالعربية والإنجليزية وميثاق البقاء في جن
...
المزيد.....
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|