أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مالك ابوعليا - الانسان في فجر الحضارة















المزيد.....



الانسان في فجر الحضارة


مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)


الحوار المتمدن-العدد: 8125 - 2024 / 10 / 9 - 10:01
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مؤلفي المقال: فاديم ميخايلوفيتش ماسون*، ت. ب. كياتكينا**

ترجمة مالك أبوعليا

إن مستوطنة التين ديب Altyn-depe الواقعة بالقُرب من قرية مينا، الى الجنوب من مدينة تيجين في جمهورية تركمانستان السوفييتية، تُعطي انطباعاً للوهلة الأُولى بأنها عملاقٌ لا يُقهر. ويمتد هذا الموقع على مساحة 46 هكتار، أي حوالي نصف كيومتر مربّع أو 460 دونماً. ويصل ارتفاعها الى 22 متراً. ويمتلئ الموقع بشظايا الفخار المكسور وآثار أُخرى لنشاطات بشرية كثيفة. ويخطُرُ لنا عند التفكّر بالمساحة الواسعة لهذا الموقع، مدى محدودية قُدرات الأركيولوجيين الذين لا يعملون سوى بمجرفة وسكين صغير. ويُبيّن لنا أبعاد هذا الموقع القديم لوحده، أن أمامنا أثر تاريخي استثنائي. حتى نظرة خاطفة على المواد التي تُغطى سطح الموقع، والتي جرفتها المياه وتآكلت بفعل الرياح، يُمكنها أن تُشير الى قِدمه: قبل 4000 عام تقريباً. هذه السمات الخارجية الصرف، دفعتنا الى القول بأن أمامنا أطلال مدينةٍ ربما تكون الأقدم في الاتحاد السوفييتي.
لقد أثبتت الحفريات التي استمرت عشر سنوات، والتي استُخدَمَ خلالها-الى جانب المجرفة-أدوات وأجهزة مُختلفة لإزالة التُربة، صحة هذه الفرضية تماماً. فقد حافَظَ الموقع على بقايا ظلت سليمة، وفريدة من نوعها في كثيرٍ من النواحي، كانت تُميّز حالة المُجتمع والانسان نفسه في ذلك العصر البعيد الذي خطَت فيه عملية نشوء الحضارة أولى خطواتها.

حضارةٌ في الصحراء
في الوقت الحاضر، تقع التين ديب على سهولٍ صحراوية تنبض بالحياة في الربيع، حيث تكتسي المنطقة بالأعشاب الخضراء، ولكن قصيرة العُمر. وخلال الصيف، لا يظهر في الأُفُق سوى سرابٌ عَرَضي فوق التُربة القَلَوية (تتكون من الطين والطحالب والأشنّة) والتي تُغيّر قليلاً من المنظر الرتيب. ومع ذلك، أظهَرَت الدراسات الجُغرافية القديمة التي أجرتها غوريسلافا ليسيتسينا أن الظروف الجُغرافية والمناخية في هذه المنطقة كانت ألطف بكثير قبل 4000 عام.
إن تحليل الفحم القديم من مستويات يرجع تاريخها الى ما بين الألف السادس والثاني قبل الميلاد، يُثبت أن غابات Tugay، أو المُسطّح العشبي المفتوح، كانت تُهيمن على هذه المنطقة، وكانت تتألف من أشجار الحور والقيقب والدردار (ويُسمّى الكاراغاش محلياً) وأشجار الرماد. وبالنظر الى العيّنات، يُثير اهتمامنا مُلاحظة أنه في الألف السادس الى الخامس، أو خلال المرحلة الأخيرة من العصر الحجري الحديث Aeneolithic، كانت أشجار الحورpoplars منتشرةً بكثرة. ومنذ ذلك الحين، وحتى نهاية الألف الثالث أو بداية الألف الثاني قبل الميلاد، احتفَت نباتات الكاراغاش karagach بشكلٍ عام. ربما تعرَّضَت هذه النباتات المُعمّرة خلال الفترة السابقة الى أنشطة الانسان المُدمّرة. وبالتالي، فإن وجود هذه الأشجار والنباتات يُشير الى مدى توافر المياه، بكثرة، بالمُقارنة مع أيامنا هذه، حيث كانت الجداول المائية، التي جفَّت الآن تقريباً، تروي الأرض وتضمن نمو التوغاي الكثيف.
إن انحفاض المورد المائي المُرتبط بزوال الغابات الجبلية، واضح في كُل مكان في سهول بيدمونت وجبال كوبيت داغ. وفي الوقت نفسه، تشهد الأدلة المُتمثلة ببقايا الحيوانات، بوضوح، على أن هذا الوضع الجُغرافي المُواتي نفسه، كان موجوداً كذلك في مناطق السهول والصحراء الواسعة. وتُثبت العظام التي عُثِرَ عليها في التين ديب، أن الطرائد التي اصطادها الانسان القديم، لم تشمل فقط على تلك الحيوانات التي تعيش في الجبال وحسب (مثل اروية غميلين mouflon والأرغل argali والوعل الفارسي Bezoar ibex)، بل شَمِلَت أيضاً الحيوانات التي كانت تتردد على سهوب الصحراء، مثل الحمار الآسيوي onager والغزلان وظباء السيغة Saiga antelope. تُشير هذه العظام الى الاستخدام المُستمر للحوم هذه الحيوانات.
كانت التوغاي تمتد على طول القنوات الرئيسية والجانبية لنهر أكمازارا Akmazara حتى مروحته المخروطية المُمتدة على أرجاءٍ من السهوب الصحراوية. كانت هذه هي البيئة المُباشرة لتلك الحُقبة عندما كانت أقدم الحضارات في الاتحاد السوفييتي في طور التشكّل.
إن مُصطلح "الحضارة" يعني منظومة الظواهر الاجتماعية والثقافية التي حققها مُجتمعٌ ما عند مُستوىً مُعيّن من التطور التاريخي. وحسب العصور القديمة كان هذا المُستوى بالذات، مُرتبطاً حتماً، بوجود المُجتمع الطبقي الباكر. وعند تحليل المواد الأركيولوجية التي تُشير الى بلوغ الحضارة، نجد أن السمات التالية ذات أهمية أساسية:
1- ظهور المدينة كنمط جديد من المناطق المأهولة بالسكّان، والتي تختلف نوعياً عن المُستوطنات القائمة سابقاً.
2- درجة رفيعة من التمايز في المُمتلكات
3- ظهور المباني الضخمة (الدينية والزمنية)
4- وجود علامات لُغة مكتوبة تُشير الى الانتقال الى مُستوىً جديدٍ نوعياً من حفظ الخبرات والمعلومات وتناقلها.
في التين ديب، نُلاحظ بوضوح، وجود السمات الثلاث الأُولى، لكننا غير مُتأكدين من وجود السمة الرابعة، وهي اللغة المكتوبة (والتي نتوقّع أن نجدها(أ)). ومع ذلك، فإن غياب إحدى السمات، هي ظاهرة مفهومة بشكلٍ كافٍ. الحال كذلك لأن الحضارة لا تتشكّل دُفعةً واحدة، ولا تظهر جميع عناصرها لدُن تشكّلها. يحدث التشكّل الكامل للحضارة في مرحلةٍ أعلى من التطور.
تُظهِر الحفريات المنهجية في التين ديب، بوضوح، أن هذا الموقع تشكَّلَ على أساس مُجتمع بَلَغَ مُستوىً رفيعاً من التطور، وتُظهِر هذه الحفريات كذلك، الحُدود المكانية والزمانية لهذا المُجتمع. احتلَّ الموقع وادياً من وديان بيدمونت العلوي في كوبيت داغ، حيث سمَحَ توفّر المياة المُتدفقة من الجداول الجبلية ببناء نظام ريٍّ فعّالٍ بدرجةٍ كافيةٍ لاستبقاء الزراعة المروية. بالاضافة الى التين ديب، احتلّت مُستوطنة كبيرة أُخرى، وهي نامازغا ديب Namazga depe، والتي تقع أطلالها الى الغرب من كاخكا، نفس منطقة بيدمونت. وتتطابق سلسلة من تقديرات الكربون المُشع التي أجرتها مُختبرات لينينغراد وبرلين (ألمانيا الديمقراطية) مع الحضارات المُؤرخة جيداً في العراق وايران والهند، وتسمح لنا بتأريخ هذا المُجتمع الطبقي الباكر بنحو 2100-1750 ق.م(1)(ب).
وفقاً للمُصطلحات الأركيولوجية، تُعرَف هذه الفترة بالعصر البرونزي. ومن بين المواد والأدوات المعدنية التي عُثِرَ عليها في التين ديب، انتَشَرَت على نطاقٍ واسعٍ سبائك النحاس والزرنيخ (من1.5-8%)، وتظهر سبائك النحاس والرصاص (من 7-12%) بشكلٍ أقل. ولم يُعثَر بعد على البرونز-القصدير أو البرونز الكلاسيكي، وهي حقيقة يُمكن أن نُفسرها من خلال المسافة الشاسعة لمصادر هذا الخام المعدني(2). كان تحضير الأدوات المعدنية، بدءاً من الأواني والمجارف، وصولاً الى الأختام المُزخرفة، ومُختَلَف أنوع الزينة، هو أحد أشكال الانتاج الحِرَفي القديم، جنباً الى جنب مع الزراعة المروية وريّ الماشي. هذا الانتاج، كان القاعدة الاقتصادية للمُجتمع.
كانت صناعة الفخّار حرفةً مُتخصصةً للغاية، وكانت يُخصص لها في ذلك الوقت أدوات تكنيكية كثيرة. إن العجلة الفخارية التي تدور بسُرعة، والأفران ذات الطابقين والتي كانت تشوي الفخار على درجة حرارة ثابتة تتراوح من 1000-1200 درجة مئوية، سمحت بان تُنتِج أوانٍ أنيقة ومُتقنة ذات أشكال موحّدة وجودة عالية على نطاقٍ واسع. وتُثبِت الحسابات التي أجرتها ايدي فيكتوروفنا سايكو Edi Viktorovna Saiko أنه كان يُمكن، في فرنٍ واحدٍ من أفران التين ديب، شواء 16000-20000 وعاء في السنة، وفي بعضها كان يُمكن شواء 50000 وعاء في السنة. من الواضح أن هذا الانتاج الضخم لم يَكُن مُخصصاً للاستخدام المحلّي فحسب (فمثل هذه الكمية ليست ضرورية لخمسة آلاف نسمة في التين ديب)، بل كان مُخصصاً للتبادل مع المُجتمعات المُجاورة. ومثل هذا الكم من الانتاج، هو دليلٌ واضحٌ على تقسيم العمل والدور الرئيسي للتبادل في هذا المُجتمع.
كانت تصل مساحة التين ديب الى 460 دونماً، أو حوالي 0.46 كيلومتراً مُربعاً، وكانت مركزاً سُكانياً كبيراً في هذه الفترة. وللمقارنة، نُلاحظ أن مساحة مدينة سومرية شهيرة مثل اور لم تتجاوز 200 دونماً، أو 0.2 كيلومتراً مُربعاً في بداية الألف الثالث ق.م.
توجد في التين بناء معماري ضخم. أثناء عملية التنقيب(3)، تم الكشف عن مركز ديني كبير هرمي مُكّون من 4 طوابق، بُنَيَ على غرار زقورة بلاد ما بين النهرين(4). وقد عُثِرَ بجانب هذا المبنى على قبرٍ لكاهن يحتوي على مجموعة من المواد الدينية، بما في ذلك رأس الثور الذهبي الذي يرمزُ الى اله القَمَر.
إن الوضع أكثر تعقيداً فيما يتعلق بأهم علامات الحضارة القديمة، الا وهي الكتابة. إن نظام العلامات المُتكررة على التماثيل الخارية التي تُمثّل آلهةً نسائيةً مُختلفة يُشبه الكتابة العيلامية البدائية والسومرية البدائية. وخلال أعمال التنقيب التي جَرَت عام 1975، تم الكشف عن ختمٍ عليه نقشٌ تصويري يُشبه الى حدٍّ كبير كتابة حضارة هارابا Harappa الهندية القديمة. ولهذه الأسباب يُمكننا أن نستنتج أن سُكّان التين ديب كانوا يعرفون نظاماً ما للكتابة، مُستفيدين في هذا المجال من مُنجزات الشعوب المُجاورة.
على أية حال، تسمح لنا البيانات المُتراكمة بأن نستنتج بلا شك، أن المُجتمع الذي تَرَكَ مواقع مثل التين ديب ونامازغا، هو مُجتمع حضاري (من الحضارة)، على الأقل حضارةً في مرحلة النشوء. كان العُنصر الرئيسي لهذه الحضارة، وسمتها الأساسية المُميزة، هو وجود مُستوطنات كبيرة، والتي يُمكن اعتبارها بحق المُدُن الأولى في التاريخ.

مدينة الأحياء ومدينة الأموات
لا ينبغي أن نأخذ في الاعتبار حجم المُستوطنات القديمة فحسب (على الرُغم من أن هذه السمة بحد ذاتها هامة بشكلٍ أساسي)، ولكن يجب أيضاً أن نأخذ بالاعتبار بُنيتها، والتي تعكس مُستوى التطور الاجتماعي، وتُشكّل احد خصائصها الرئيسية. أظهَرَت الحفريات أن التين ديب في بداية الألف الثاني قبل الميلاد، كانت تتميز بالبناء المُزدحم، والاستخدام الأولي للأبنية العمودية أو مُتعددة الطوابق. يُمكننا أن نُحدد المناطق التالية داخل المدينة:
1- مركز عبادة ضخم ببرجٍ مُتعدد الطوابق ومقابر للكهنة.
2- مركز انتاج يتكون بالدرجة الأولى من منطقة لإنتاج الخَزَف بكميات كبيرة.
3- أحياء سكنية تتألف من ثلاثة أنواع مُختلفة من المباني.
وكونها أكثر تعقيداً من مُستوطنات العصر الحجري الحديث والحديث المتأخر، تعكس هذه المدينة (من العصر البرونزي)، البُنية الاجتماعية الأكثر تعقيداً: تُشير الأنواع الثلاثة للمباني المنزلية الى وجود ثلاث مجموعات اجتماعية على الأقل، كانت تُعبّر عن سمات واضحة للتباين في المُلكية.
يتألف النوع الأول من المباني المنزلية، من منازل مُتعددة الغُرَف تقع بالقُرب من مركز الانتاج. كانت أماكن سكن الحرفيين تقع بالقُرب من وِرَشِهم. يحتوي كُلٌّ من هذه المباني على فناءٍ منزلي مُشترك ومطبخ وغُرفة معيشة مُخصصة لعائلةٍ مُنفصلةٍ صغيرة. هذه المباني المنزلية كانت الشكل النموذجي للمشاعات العائلية، التي كانت مدعومةً باقتصادٍ منزليٍّ أكثر عموميةً. لم يكن مُستوى معيشتهم مُرتفعاً، كما يتضح من جودة هذه المباني الرديئة نسبياً، والتي لم تكن تتميّز بالتصميم السليم أو التزيين الدقيق. وما يُشير الى هذا المُستوى المُنخفض أيضاً هو ما كان يؤلف نظامهم الغذائي. يتألف نصف البقايا العظمية من عظام الحيوانات البرية (الوعل الفارسي والحمار الآسيوي والغزلان). ربما لم يكن الحِرَفيون القدامى يمتلكون قطعاناً كبيرة، وكان من الضروري استكمال نظامهم الغذائي بالصيد.
تميّزَت المباني المنزلية من النوع الثاني بجودة أفضل في تشطيباتها وتصميماً أكثر دقّة. لكن أكثر ما كان يُميّزها هو أنها كانت مُصممة لعائلة واحدة فردية لها مطبخها الخاص وفنائها الخاص وفُرن الخُبز. كان اللحم الذي يستهلكه سُكّان هذه المنازل، هو لحم الحيوانات المُدجّنة، وخاصةً الأغنام والماعز. نرى هُنا، أحياء المُواطنين "الميسورين" الذين يعتمدون على أنفسهم، والذين تتميّز بنمط حياة أفضل.
وأخيراً، يتألف النوع الثالث من المنازل الواسعة جداً، والتي تم تصميمها، كقاعدة عامة، على قاعدة مُربعة أو مستطيلة، وتشغل مساعة تتراوح بين 43-102 متراً مُربعاً. وتُشير جميع الأدلة الى أن أحد هذه المساكن كان لكاهنٍ أعظَم، ووُصِفَ بأنه مُجمّع للعبادة. في أحد المناطق السكنية في التين ديب، تم الكشف عن حي "النُخبة" والذي يتكون من منازل مُتشابهة. كانت الشوارع التي تفصل بين المنازل مُبلّطةً بالقِطع الفخارية لتجعل منها طُرُقاً مُريحةً للغاية، خاصةً أثناء هطول الأمطار الغزيرة. على طول هذه الشوارع، كان يُمكن للعربات التي تجرها الجِمال أن تتحرك بسهولة. عُثِرَ في هذا الحي على أكبر وأروع تماثيل طينية تُمثّل آلهةً انثوية، والعديد من الأختام البرونزية والفضية، بعضها كان يُصوّر حيواناتٍ خيالية، وعُثِرَ كذلك على زخارف برونزية وفضية مُختلفة. كانت عظام الأغنام تُهيمن تماماً على البقايا الحيوانية في هذه الأحياء السَكَنية.
وهكذا، تُظهِرُ الحفريات الأثرية في التين ديب، بوضوح، أن هذه لم تكن مُجرّد مُستوطنة للمُزارعين غير الرُحّل، او بأنها مُجرّد مُستوطنة احتوت على عدد مُعيّن من المنازل مع اختلافات ضئيلة في زخارفها ومُخططاتها. إن المُجمّع الديني الضخم، ومركز الانتاج الكبير، واختلاف أنواع المباني، تعكس جميعها المُستوى المُرتفع من التمايز الاجتماعي في المُلكية.
وقد تشكَّلَت السمات المذكورة أعلاه، من خلال الوظائف التي كانت المُستوطنات المدينية تؤديها في ذلك الوقت. والواقع، أن إحدى أقدم هذه الوظائف كان دورها كمركز تنظيمي للزراعة.
إن الوظائف التجارية والحرفية التي كانت تتمتع بها منطقية التين ديب تتجلّى بوضوح في تِلك المنتوجات الحِرَفية الراقية التي كَشَفَت عنها اللُقى الأثرية. وأخيراً، تنعكس وظيفة الزعامة الايديولوجية بوضوح، في المواد الأثرية المُتاحة. تعزَّزَ وجودها، وفقاُ لمعايير تلك الحُقبة، من خلال بناء مَعبَد مُخصص لإله سماوي (في ذلك الزَمن لم تكن المُستوطنات الصغيرة في نفس المنطقة من تركمانستان تحوي على مثل هذه المعابد). وكانت جميع هذه الوظائف، من السمات التي تُميِّز المرحلة الأولى من الحضارة والتمدين، عندما حَدَثَ تراكم كثيف للامكانات الاقتصادية والثقافية في المراكز الرئيسية(5).
ورُغمَ أن أماكن الدفن لم تكن تُشكِّل وحدةً بُنيويةً أساسية، الا أنها كانت تُشكِّلً جُزءاً أساسياً من تنظيم المدينة. وإننا لواجدون في عالم الأموات هذا، انعكاساً مُذهلاً لعالَم الأحياء.
هُناك نوعين من المدافن في التين ديب: قبور فردية تقع على حافة المدينة، عادةً ما حُفِرَت تحت أنقاض المنازل القديمة المُنهارة، وقبور جماعية-نوع من القبور العائلية، كانت تقع بجوار أماكن معيشة الأقارب الأثرياء. كانت عملية الدفن، في هذه المقابر الجماعية، تتم على مدار فتراتٍ طويلةٍ من الزمن، وكانت جُثث اولئك الذين ماتوا في وقتٍ سابق، تُدفع جانباً، وأحياناً لم تكُن المراسم تُقام من أجل الدفن الجديد. كانت تُوضَعُ الى جانب جُثة الشخص الميت في القبر، حُليه الشخصية، من خواتم وخرز وأساور، بل وحتى عطايا جنائزية في هيئة أواني تحتوي على طعامٍ ما، بما في ذلك جُثة كبشٍ حُفِظَت عظامه بطريقةٍ تشريحيةٍ مُناسبة. وفي بعض الأحيان، كانت تُوضعُ تماثيلٌ انثوية طينية صغيرة terra-cotta figurines لآلهاتٍ إناث، ومعها أوانٍ مُعينة داخل القبر أو خارج جُدرانه.
إن تشابه الطقوس، يعكس الى حدٍّ ما، الوحدة الاثنية للمُجتمع، ولكن التفاوت الطبقي الواضح في هذه الطقوس، يولّد انطباعاً اولياً بالتكرار الرتيب. فقد كانت مقابر الكهنة، قائمةً بذاتها، وكانت تؤلّف مكاناً خاصاً تحوي على دفنٍ مُتعاقبٍ لأشخاصٍ مُتعددين، ليس في مبنىً واحدٍ ضيّق، بل في مُجمّعٍ جنائزيٍ كامل. وكان يُصاحب دفن الميّت تأدية طُقوسٍ مُعقدة، حيث كانت بعض الجماجم تُفصَلُ عمداً وتوضعُ في محاريب في الجُدران.
إن انتشار الأغراض الجنائزية حسب القبور في مُختلف أنحاء المدينة، يرسم صورةً أكثر وضوحاً للتفاوت الاجتماعي. ففي حيّ الحِرَفيين، كانت القبور تقع على مقربةٍ من المنازل، ولم تكن هُناك زخارف ولا تماثيل صغيرة. ولم يكن هُناك سوى عددٍ قليلٍ من الأواني الفخارية التي تُرافق هؤلاء الحِرَفيين الى العالَم الآخر. وتظهرُ صورةٌ أُخرى في حي المواطنين "الميسورين". فهُنا، عُثِرَ على المزيد من الأواني ومجموعات مُتنوعة من الزخارف، بما في ذلك خرزاً مصنوعاً من البرونز والأحجار الكريمة والخواتم والأختام البرونزية. وفي حي "النُخبة"، ازداد تنوّع هذه الأغراض، وازدادت قيمتها الى حدٍ كبير. وقد تميَّزَت اللُقى الأثرية التي عُثِرَ عليها في مقابر الكَهنة المُتعددة الغُرَف، بثروتها الفريدة، حيث عُثِرَ هنا على مصوغاتٍ ذهبيةٍ وفضية وأحجارٍ كريمة، بما في ذلك رأسٌ ذهبي لثور مُرصع بالفيروز.
وهكذا، تنعكس في عادات الدَفن، صورةٌ مُعقدة للبُنية الاجتماعية لهذه المدينة الحضرية.
تظهرُ في المواد المُستخدمة في الدفن، المُستويات العُمرية التي تفصل الأطفال عن المُراهقين، والشباب اليافعين عن أعضاء المُجتمع الذين يتمتعون بحقوقٍ كاملة ومُتساوية. ففي المقابر الجماعية، كان الأطفال يوضعون مع البالغين، فقط بعد بلوغهم سن السادسة أو السابعة، أما قبل هذا العُمر، فقد كانوا يُدفَنون فُرادى في حُفَرٍ صغيرة أو في أوعيةٍ كبيرة. وفي بعض الأحيان، كان يوضع طفلين في حُفرةٍ واحدة أو وعاءٍ واحد. وكان حديثي الولادة حتى سن عام أو عامين، يُدفنون داخل المنازل تحت البلاط أو العتبة أو في الزوايا. وكانت حُقوق وامتيازات الوالدين تُورَّثُ للأطفال. وفي حي الحرفيين، كانت مدافن الأطفال تحوي على عظامٍ فقط، في حين كان الأطفال في مدافن حي الميسورين يُدفَنون غالباً وهم يرتدون قلادةً فارهة.
تحتوي المقابر القديمة والمدافن في التين ديب، على معلوماتٍ ليس فقط عن المُمتلكات والعلاقات الاجتماعية أو العادات والقوانين التي كانت تُنظِّم هذا المُجتمع، بل هي أيضاً قادرة على أن تُخبرنا الكثير عن الناس أنفسهم، خالقي هذه الثقافة الحضارية. إن الدراسة الدقيقة للبقايا العظمية-تم الكتشف عن أكثر من 200 مدفَن- تسمح لنا بطرح سلسلةٍ من الاستنتاجات المُثيرة للاهتمام.

أُناس العصر البرونزي
كيف كان يبدو السُكّان في التين ديب؟ تُتيح لنا المواد العظمية الموجودة، إمكانية تحديد طول ووزن الأشخاص في ذلك الزمن، باستخدام سلسلة من المُعادلات والصِيَغ الرياضية التي اقترحها الانثروبولوجيين السوفييت فيكتور فاليريانوفيتش بوناك Viktor Valerianovich Bunak وغريغوري فرانتسيفيتش ديبيتس Georgii Frantsevich Debets، والبيولوجي والرياضياتي الانجليزي كارل بيرسون Karl Pearson.
لقد عُثِرَ في التين ديب، على ستة هياكل عظمية كاملة، ثلاثة رجال وثلاثة نساء. تراوحَ طول الرجال من 166-177 سم (وفقاً لمُعادلة بوناك وديبيتس)، وتم احتساب أطوال الرجال، في حالة عدم اكتمال الهياكل العظمية، عن طريق قياس عظامٍ مُنفردة. وباستخدام صيغة بيرسون، تراوَحَ طولهم ضمن حدودٍ أوسع بكثير: 161-185 سم. وبالتالي، يُمكننا أن نؤكّد بثقة، أن غالبية الرجال الذين عاشوا في هذه المدينة القديمة، كانوا أطوَلَ من المتوسط (بالمُقارنة مع أطوال البشرية جمعاء)، على الرُغم من أن اقليةً كبيرة كانت متوسطة الحجم.
تراوَحَ طول النساء ذوات الهايكل العظمية الكاملة من 154-168 سم، في حين تراوَحَ طول النساء ذوات الهياكل العظمية غير الكاملة من 151-164 سم. وبالتالي، يُمكن اعتبار النساء، وفقاً للفئات المذكورة، متوسطات الحجم.
وفقاً لبيانات عالِم الانثروبولوجيا السوفييتي ليف فاسيلييفيتش اوشانين Lev Vasilyevich Oshanin، يبلَغ طول التُركمان الذكور المُعاصرين من 166.6-170.5 سم. أي أنهم مجموعة من الأفراد طويلي القامة الى متوسطي القامة. وبشكلٍ عام، يُمكننا القول، أن قامة التُركمان المُعاصرين، قريبةً جداً من قامة الناس الذين عاشوا قبل 4000 عام في التين ديب.
أما بالنسبة الى أوزان الرجال والنساء في هذه المدينة القديمة، فما نعرفه عنها هو أقل مما نعرفه عن أطوالهم. تم حساب أوزان الذكور الثلاثة عند 70، 76، 78 كغم، وأوزان النساء الثلاثة 60، 64، 70. وعلى الرُغم من احتمالات وجود عدم دقّة ما، الا أنه من الواضح أن حُصص الطعام في المدينة القديمة كانت كافية.
لا شكَّ أن سُكّان التين ديب-كما كان الحال بالنسبة ليكُذان آسيا الوسطى في العصور القديمة- ينتمون الى العِرق الأوروبي الرئيسي.
إن الزخارف التي وُجِدَت في القبور، وتصفيفات الشعر المرسومة على التماثيل الطينية، والتي قام الناس بتصوير أنفسهم عليها، تسمح لنا بالقول، أن النساء كُنَّ عادةً يربطن شعرهن على شكل ضفائر سميكة وثقيلة تتدلَّى على ظهورهن. وباستخدام مُستحضرات التجميل المُختلفة، كُنَّ يُحددن حواجبهن الكثيفة. كُنَّ يرتدين قلاداتٍ مُتعددة الخيوط، وكانت تلك الخيوط مصنوعةً من عقيق لحميٍ احمر أو عقيقٍ أبيض تظهر علاماتٍ باهتة من اللون الأصفر، والتي كانت رائجة بكثرة. كانت النساء يرتدين خواتم فضية وذهبية وبرونزية في أصابعهن. وكانت النساء الثريات كذلك يرتدين أحزمةً تتألف من صفوفٍ من الخرزِ على أفخاذهن. وبشكلٍ عام، أولَت النساء اهتماماً كبيراً بمظهرن الجسدي. ففي أحد قبور الأثرياء، وُضِعَت مجموعة كاملة من أدوات التجميل تألفت من إناءٍ مصنوعٍ من الرُخام، وأنواع مُختلفة من دبابيس الشعر الفضية، ومرآة فضية موضوعة على منصة صغيرة بالقُرب من رأس المرأة المدفونة. ربما كان بوسع هذه المرأة من التين ديب، أن تتأكد من جمالها بالنظر الى المرآة.
كان الرجال الأقوياء طوال القامة، والنساء الجميلات ذوات الشعر الأنيق، يملأون شوارع وساحات التين ديب. (كما ذكرنا سابقاً، كان عدد سكان التين ديب، وفقاً لتقديراتنا، حوالي 5000 نسمة). لكن كانت مظاهر الرفاه الخارجي هذه، تُخفي مصاعب حياتية كبيرة تكشَّفَت لنا الى حدٍّ كبيرٍ في المدافن.

الحياة القصيرة لسكُّان المدينة الأوائل
يُمكن أن نُقسِّمَ الأشخاص المدفونين في القبور والمقابر الجماعية الى فئاتٍ عُمريةٍ حسب البيانات التالية:
الأطفال:
عدد الأشخاص بين أعمار 0-7 سنوات: 22 شخص، ونسبتهم من المجموع 16.7%
عدد الأشخاص بين أعمار7-13 سنوات: 9 أشخاص، ونسبتهم من المجموع 6.8%

المُراهقين:
عدد الأشخاص بين أعمار13-20 سنة: 17 شخص، ونسبتهم من المجموع 12.9%

الشباب الصغار:
عدد الأشخاص بين أعمار20-35 سنة: 56 شخص، ونسبتهم من المجموع 42%

الشباب مُتوسطي العُمر:
عدد الأشخاص بين أعمار35-55 سنة: 25 شخص ونسبتهم من المجموع 19%

كبار السن:
عدد الأشخاص فوق 55 سنة: 3أشخاص ونسبتهم من المجموع 2.2%

مجموع جميع الأشخاص: 132 شخص

ما هو المُلفت في هذه البيانات؟ أولاً، العدد الكبير من الأطفال الذين لم يبلغوا سن 13 عاماً. هذه المجموعة تُمثّل ما يقرب من رُبع المجموع الكامل. بعبارةٍ أُخرى، يوجد 22 طفل ميت من أصل 100 شخص. ويتضح مدى قسوة هذه الصورة، عندما نرى بأن نسبة الأطفال الذين ماتوا قبل السابعة من العُمر هي الأكثر، كان 9 منهم، من الأطفال الرُضَّع، حيث دُفِنوا في الأيام الأولى من حياتهم.
ومن بين الأفراد المُراهقين في الفئة العُمرية 13-20 عاماً، هُناك فرق واضح حسب الجنس: فمن بين الـ14 فرداً (لم يتسنَّ تحديد جنس سوى 14 فرداً من بين الـ17 في هذه الفئة) كان 11 منهم من الإناث، أي ما يقرُبُ من 80%. ولكن ما الذي يُفسّر هذا المُعدَّل المُرتفع من الموت المُبكر؟ يُمكننا بالتأكيد أن نربط هذا المُعدّل المُرتفع من حالات دفن الفتيات اليافعات ببلوغهن سن الإنجاب، ومُختَلَف المُضاعفات الناجمة عن الحمل، وعملية الولادة. ويُمكن ربط العدد الكبير من موت الأطفال الرُضَّع، بِصِغَر سن الأُم، لأن حالات ولادة الجنين ميتاً، هي أكثر شيوعاً بين الفتيات المُراهقات، مُقارنة بالنساء في مُنتصف العُمر. وعلى أية حال، لوحِظَ ارتفاع معدل الوفيات بين الأطفال الرُضَّع، وبين النساء الشابات بين سكان التين ديب، ونحن نفترض أن هاتين الحقيقتين مُرتبطتين.
تُظهِر البيانات التالية الفرق الجنسي في المدافن:
الشباب الصغار:
عدد الأشخاص بين أعمار20-35 سنة: 56 شخصاً، ونسبتهم من المجموع 66.7%، عدد الذكور: 28، عدد الإناث: 28

الشباب مُتوسطي العُمر:
عدد الأشخاص بين أعمار35-55 سنة: 3 أشخاص، ونسبتهم من المجموع 92.7%، عدد الذكور: 16، عدد الإناث: 9

كبار السن:
عدد الأشخاص فوق 55 سنة: 3 أشخاص، ونسبتهم من المجموع 3.6%، عدد الذكور: 1، عدد الإناث: 2

المجموع: 84 فرداً: عدد الذكور: 45، عدد الاناث: 39

من بين 84 فرداً بلغوا سن العشرين، فقط 3 منهم (امرأتان ورجل واحد) عاشوا حتى سن الستين. 81 شخصاً، أي 97% لم يصلوا سن الـ55. كان مُعدل الوفيات أعلى بين الشباب، حيث لم يصل ثُلثا البالغين الى سن الخامسة والثلاثين. وكان مُعدل الوفيات بين كبار السن أقل، لسبب بسيط، هو أن نسبة أقل من السُكان وصَلَت الى هذا العُمر. ولم يعش سوى عدد قليل جداً من السُكان حتى سن الشيخوخة.
يُمكننا أن نُلقي نظرةً سريعةً على البيانات التالية:

المُراهقين الذكور:
عدد الأشخاص 3، ونسبتهم من المجموع 6.2%

عدد المُراهقين الإناث:
عدد الأشخاص 11، ونسبتهم من المجموع 22%

الشباب الصغار من الذكور:
عدد الأشخاص 28، ونسبتهم من المجموع 58.3%

الشباب الصغار من الإناث:
عدد الأشخاص 28، نسبتهم من المجموع 56%

الشباب مُتوسطي العُمر من الذكور:
عدد الأشخاص 16، ونسبتهم من المجموع 33.3%

الشباب مُتوسطي العُمر من الاناث:
عدد الأشخاص 9، ونسبتهم من المجموع 18%

كبار السن من الذكور:
عدد الأشخاص 1، نسبتهم من المجموع 2.2%

كبار السن من الاناث:
عدد الأشخاص 2، نسبتهم من المجموع 4%

العدد الكُلّي: 98 شخص

إن نظرةً سريعةً على هذه البيانات، تكفي لنقتنع بوجود اختلاف في مُعدلات الوفيات بين الرجال والنساء. فإذا قسّمنا هذه البيانات الى شقّين، فإن الشق العلوي، الذي يتألف من الشباب: 13-35 عاماً، يُظهر عدداً كبيراً من النساء في المدافن (78%)، وعدداً أقل من الرجال (64%. ومن ناحيةٍ أُخرى، يحتوي الشق السُفلي على عددٍ أكبر من الرجال (36%) وعددٍ أقل من النساء (22%). وبعبارةٍ أُخرى، كان مُتوسط العُمر المُتوقع للنساء أقل بكثير من متوسط العمر المتوقع للرجال. وتُظهِرُ حساباتنا أن متوسط العمر المُتوقع في التين ديب كان 22.6 عاماً. تُعطينا المواقع الأُخرى التي يرجع تاريخها الى هذه الفترة من العصر البرونزي، رقماً مُماثلاً. على سبيل المثال، كان متوسط العُمر، في موقع سابالي ديب Sapalli-Depe الى الشرق من التين ديب، في أوزباكستان المُعاصرة، حوالي 22.9 عاماً، وفقاً لبيانات ت. خودجاييف.
وبما أن العديد من المواقع لا تُسجِّل سوى السُكان البالغين (نظراً لحقيقة أن عظام الأطفال غالباً ما تكون محفوظةً بشكلٍ سيءٍ في الأرض)، فقد حسبنا أيضاً مُتوسط العُمر المتوقع للبالغين في التين ديب، حيث كان الرقم 35.7 عاماً.
تُظهِر البيانات التالية مُتوسط العُمر المُتوقع للبالغين، في مواقع أثرية مُختلفة يرجع تاريخها الى الألف الثالث والثاني قبل الميلاد (حصلنا على هذه البيانات من أعمال تتعلق بمواقع أثرية مُختلفة).

مقابر موقع Khryashchevka في روسيا:
متوسّط العُمر: 30.2 عاماً، عدد الأشخاص 36

مقبرة فيخفاتينسكي Vykhvatinsky في مولدوفا:
مُتوسط العُمر: 44.3 عاماً، عدد الأشخاص 21

مقبرة بالانوفسكي Balanovsky في روسيا:
مُتوسط العُمر: 31.7 عاماً، عدد الأشخاص 31

التين ديب في تركمانستان:
مُتوسط العُمر: 35.7 عاماً، عدد الأشخاص 84

كوكتشا 3 Kokcha في اوزباكستان:
مُتوسط العُمر: 35.4، عدد الأشخاص 24(جـ)

وتُشير البيانات الى الاختلافات في مُتوسط العُمر بين الرجال والنساء بشكلٍ عام، حيث كان مُعدل الوفيات بين النساء أعلى من الرجال، وكان مُتوسط عُمرهن أقل في مواقع العصر البرونزي المُختلفة (ما عدا كوكتشا وبالانوفسكي).
ولعل أحد الأسباب التي أدت الى انخفاض عدد الأشخاص الذين بلغوا مُنتصف العُمر، العدد الكبير من الأمراض التي كانت موجودةً في ظل ظروف حياة مُدُن العصر البرونزي المُزدحمة. ورُغم أن المواد الانثروبولودجية من التين ديب لم تخضع لتحليلٍ مُفصَّل لدراسة أمراض العظام، فقد تم أخذ مُلاحظات مُنفصلة في شكل تحليلٍ أولي. كانت هُناك أثار عديدة لتسوس الأسنان، وفي بعض الأحيان تسوساً بعد النخر الكامل للتاج. أدت التسوسات الى مزيدٍ من نخر اللُب، وصولاً الى عظام الفك العُلوي نفسه. هناك كُسورٌ عظمية عديدة، وخاصةً في عظم الخذ، والتي شُفِيَت أثناء حياة الفرد. كما سُجِّلَت اصاباتٌ في الجُمجمة، بما في ذلك إحدى حالات ثقب جُمجمة أحد الأفراد والذي ربما كان على قيد الحياة(د).

التين ديب، في منظومة الحضارات القديمة
ان المواد الأركيولوجية والأنثروبولوجية لا تسمح لنا بإعادة تشكيل الصورة العامة للحضارة في التين ديب وحسب، بل تسمح لنا أيضاً بتحديد مكانتها في شبكة الثقافات القديمة الأُخرى.
لقد أظهَرَت التنقيبات أن قاعدة التين ديب تحوي على أنقاض قرية صغيرة من المُزارعين الأوائل، والتي يُمكن تأريخها الى نهاية الألف الخامس، وبداية الألف الرابع قبل الميلاد. قام هؤلاء المُزارعون الأوائل بصُنع أوانٍ فُخارية يدوية خشنة نسبياً ومُزخرفة بتصاميم هندسية بسيطة. يجب علينا أن نتذكر بأن مثل هذه القُرى الزراعية الباكرة، كانت تقع في قاعدة مُدن سومرية معروفة جيداً، مثل ايريدو Eridu وأوروك Uruk ونيبور Nippur ولَجش Lagash.
لقد حدَثَت فترة النمو الكبير في التين ديب في بداية الألف الثالث قبل الميلاد. كان الموقع يشغلُ مساحةً لا تقل عن 0.2 كم مُربّع، أي 200 دونماً، وصارَ من أكبر مراكز القبائل الزراعية الباكرة في جنوب تركمانستان. كما رأينا، انطلاقاً من هذا الزمن فصاعداً، لا يظهر أي انقطاعٍ في المواد الأركيولوجية التي تُشير الى تغير السكان. وتؤكد البيانات الأنثروبولجية هذه الصورة: عاشَ هُنا في الألف الرابع والثالث قبل الميلاد، قوقازيون يتشابهون في مظهرهم الجسدي مع التركمان المُعاصرين.
لم تكن التين ديب،ـ بأي حال، كياناً مُنعزلاً. من الواضح تماماً، وفقاً للبيانات المُتاحة، أن الموقع كان يتمتع بعلاقةٍ مُستمرةٍ مع جيرانه، واستفادَ من المُنجزات الثقافية في المراكز المدينية الأُخرى. استوردَت التين ديب العاج من وادي السند. غالباً ما كانت هذه المواد العاجية موجودةً في منازل "حي النُخبة"، أو في المقابر الغنية. ربما تم استيراد بعض المواد الخزفية والمعدنية من وادي السند، لأن العديد من المواد التي صنعها حِرَفيو التين، تُمثّل نماذج هندية بوضوح.
كانت هُناك علاقة وثيقة مع بلاد ما بين النهرين، وهي واضحة في المعمار (في مبدأ تشييد بُرج هرمي مُتعدد الطوابق-الزقورة)، وفي الفن (خاصةً في اسلوب صناعة رأس الثور الذهبي الذي وُجِدَ في قبر الكهنة)، وفي العلامات المنقوشة على تماثيل الآلهات الاناث الطينية، وفي عدد آخر من سمات الثقافة المادية.
كانت حضارة التين ديب، تقع على أطراف المُحيط الشمالي الشرقي للمراكز التاريخية العالمية في الشرق الأدنى. ومع ذلك، حافَظَت على اتصالات وثيقة مع هذه المراكز. لقد أظهَرَت الدراسات الجديدة أن سلسلةً من مُدُن العصر البرونزي تطوَّرَت في النصف الثاني من الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد، في المنطقة الواسعة التي تقع بين مركزي التاريخ العالميين المُتمثلة في بلاد ما بين النهرين من جهة، وحضارة هارابان Harappan في وادي السند من جهةٍ أُخرى، وكان من بين تلك المراكز المدينية، مُدُن تركمانستان.
وهكذا، فإن عملية التمدين الأولى في الشرقين الأدنى والأوسط، والتي كانت تتوسع باستمرار، تركت بصماتها بوضوح على جميع جوانب تطور المُجتمع والانسانية على العموم.

* فاديم ميخايلوفيتش ماسون 1929-2010 انثروبولوجي ماركسي ودكتور في العلوم التاريخية ورئيس معهد تاريخ الثقافة المادية في أكاديمية العلوم السوفييتية-الروسية 1982-1998.
تخرّج من القسم الاركيولوجي لمعهد التاريخ في جامعة وسط آسيا الحكومية. دافَعَ عام 1954 عن اطروحته في الدكتوراه المُعنونة (الثقافة القديمة لداغستان- مسائل تاريخية وأركيولوجية). وفي عام 1962 دافع عن اطروحة الدكتوراة بعنوان (التاريخ القديم لوسط آسيا-منذ نشوء الزراعة وحتى حملات اسكندر الأعظم)، بعد هذا عمِلَ في القسم القوقازي لمعهد تاريخ الثقافة المادية السوفييتي وصار رئيساً لهذا القسم عام 1968. ألّفَ ماسون لوحده أو بالتعاون مع علماء آخرين أكثر من 32 كتاباً و500 مقالة نُشِرَت في الاتحاد السوفييتي وبريطانيا وألمانيا الديمقراطية والغربية واليابان وايطاليا. ومن أعماله: (وسط آسيا والشرق القديم) 1964، (دولة الألف مدينة) 1966، (وسط آسيا في العصرين الحديدي والبرونزي) 1966، (نشوء وتطور الزراعة) 1967، (ثقافة شعوب الشرق: المواد والبحث) 1976، (أولى الحضارات) 1989.

** من المؤسف أنني لم استطع أن أجد الاسم الكامل لهذه العالِمة (T. P. Kiiatkina)، ولا أي بياناتٍ حولها.

أ- يبدو أن العُلماء اكتشفوا نُقوشاً مكتوبة في موقع حضارة أوكسوس Oxus civilisation القريبة من التين ديب، العائدة الى العصر البرونزي. لقد عاشت كلتا الحضارتين على نفس مُستوى تطور قُوى الانتاج في نفس الفترة التاريخية وفي منطقة جُغرافية قريبة من بعضهما. وفي مقال للباحث اليشر شيدولاييف، في عام 2021، يتحدث المؤلف حول النقوش الكتابية لحضارة اوكسوس، وبأنها كانت على تواصل مع مدينة التين ديب:
https://archeorient.hypotheses.org/15625
وبالتالي، لا بُدَّ من وجود لُغة مكتوبة في التين ديب كذلك لم تُكتَشَف بعد.
1- لم تعد التين ديب موجودةً في القرن السابع عشر قبل الميلاد. وفي الوقت نفسه، هُجِرَت نامازغا ديب أيضاً. ولا نعرف ما الذي أدّى الى هجران هذه المراكز الزراعية الباكرة الضخمة آنذاك في جنوب تركمانستان.
ب- حسب نتائج التقصّي البسيط الذي قُمت به، يفترض بعض الباحثين أن تغيّر المناخ والافراط في استغلال التربة، والانخفاض الحاد في مستوى المياه أدى الى هجرة الناس من نامازغا والتين ديب، وأنهم اتجهوا الى الشرق باتجاه بحيرة ميرف Merv Oasis، وانتشر آخرون أكثر الى الشرق باتجاه التيار الأوسط لنهر آموداريا:
https://turkmenistan.gov.tm/index.php/en/post/9796/altyn-depe-the-centre-of-developed-craft-production-and-temple-complex
http://ahalsiyakhat.com/turkmenistan/ahal-region/altyn-depe/
ولكن برأيي، أن الحضارة القوية قادرة تماماً على تحمّل ضغط البيئة. ربما كانت السُلطة السياسية، لأسباب مُعينة، ضعيفةً آنذاك، عندها صار تغيّر المناخ قاتلاً بالنسبة لها.
2- يبدو أن الجيولوجيين السوفييت اكتشفوا مؤخراً رواسب ضخمة من القصدير غرب أفغانستان على طول الحدود الايرانية شمال حوض هلمند بالاضافة الى عددٍ من المواقع الأثرية (أخبرني ايغور دياكونوف بهذا الأمر من خلال تواصلٍ شخصيٍ معه). يُمكن لهذا الاكتشاف، الذي لم يُنشَر بعد، المُشكلة المُحيّرة المُتمثلة بتحديد مصادر القصدير في الشرق الأدنى القديم.
المُترجم: يُمكن أن يكون الرابط التالي مُفيداً في هذا الصدد.
https://www.ancientportsantiques.com/wp-content/uploads/Documents/AUTHORS/TinOrigin-Cuenod2015.pdf
3- Concerning the excavations of Altyn-depe, also see Prircda, 1973, no. 3, p. 114 1975, no. 3, pp. 107-10
4- الزقوة هي مبانٍ دينية بُنيَت من طوب طيني، وُجِدَ في عدة مواقع في بلاد ما بين النهرين، وهو على شكل بُرج هرمي مُتوازي الأضلاع.
5- See L. B. Kogan and F. M. Listengurt, "Urbanizatsiia i prircda," Prircda, 1975, no. 3
جـ- حتى المقالات الأحدث، تطرح أرقاماً قريبةً من الأرقام التي يوردها ماسون وكياتكينا: فعلى سبيل المثال، يقول يوسي نجار، أن متوسط العُمر المُتوقع في موقع العصر البرونزي عين الأساور Ein Asawir في فلسطين، للسكان جميعاً، من ضمنهم الرُضّع: 25 عاماً، أما في التين ديب، حسب هذه المقالة: 22.6 عاماً.
https://www.researchgate.net/figure/Life-expectancy-in-selected-Bronze-Age-sites_tbl1_289872000
د- تُسجّل المقالات الحديثة، وجود هشاشة العظام في مُدن العصر البرونزي:
https://naturalhistory.si.edu/sites/default/files/media/file/2010-andrada-poster.pdf
هُناك مقالات علمية تتحدث عن حدوث طاعونٍ في العصر البرونزي في أوروبا، والذي كانت اصوله نابعة من آسيا الوسطى:
https://projects.research-and-innovation.ec.europa.eu/en/horizon-magazine/how-did-plague-reshape-bronze-age-europe
https://www.nature.com/articles/nature.2015.18633

ترجمة مُختَصَرة لمقال:
V. M. Masson & T. P. Kiiatkina (1981) Man at the Dawn of Civilization, Soviet Anthropology and Archeology, 19:1-2, 107-134



#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)       Malik_Abu_Alia#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ...
- المعايير العالمية لمُجتمعات الصيد واللقاط
- الطبيعة والمُجتمع البدائي
- التشكيلة الاجتماعية-الاقتصادية العبودية
- تعليق ايغور دياكونوف على مقال هنري كلايسِن (الديناميكيات الد ...
- المشاعات الزراعية في الشرق الأدنى القديم
- الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية والمسائل الجديدة
- الدفن الانساني الطقوسي الواعي: العصر الحجري القديم الأوسط، ب ...
- حول مسألة دراسة تاريخ المُجتمعات البدائية انطلاقاً من الاثنو ...
- مسألة المُلكية الخاصة البدائية في الاثنوغرافيا الأمريكية الم ...
- المراكز المدينية في المُجتمع الطبقي الباكر
- تاريخ الري الزراعي في جنوب تركمانستان
- الشروط الايكولوجية لنشوء الزراعة في جنوب تركمانستان
- سوسيولوجيا الدين الانجلو أمريكية المُعاصرة: مُشكلاتها واتجاه ...
- الرد الثاني لسيرجي توكاريف على ستيفن دَن
- بعض الأفكار في طُرُق دراسة الدين البدائي- رد على سيرجي توكار ...
- الرد الأول لسيرجي توكاريف الأول على مُراجعة ستيفن دن لكتابيه ...
- مراجعة ستيفن بورتر دن لكُتب سيرجي توكاريف
- مبادئ تصنيف الأديان 2
- مسألة أصل ثقافة العصر البرونزي الباكر في جنوب تركمانستان


المزيد.....




- -هربوا وتركوني وحدي في المنزل-
- عملية طعن شمال تل أبيب تُخلّف ستة جرحى، اثنان منهم بحالة حرج ...
- مقتل شخصين في كريات شمونة إثر سقوط صواريخ أطلقت من لبنان
- الرئاسة العراقية ترفض المساس بالمرجعية الدينية: هذا التعدي س ...
- هاريس تكيل الإهانات لأوربان وشي جين بينغ وكيم جونغ أون وتصفه ...
- سياسي تركي يوضح كيف سينتهي الصراع في أوكرانيا بالنسبة للولاي ...
- مصدر دبلوماسي: اجتماع -رامشتاين- سيعقد 17 أكتوبر المقبل
- الجيش الروسي يحرر مركزين سكنيين في كورسك
- بوتين يقلد لوكاشينكو وسام القديس الرسول أندراوس
- قطار ألماني يتعرض لإطلاق نار


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مالك ابوعليا - الانسان في فجر الحضارة