أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سامح قاسم - الخيانة: من طير الوقواق والقردة إلى بني البشر















المزيد.....

الخيانة: من طير الوقواق والقردة إلى بني البشر


سامح قاسم

الحوار المتمدن-العدد: 8124 - 2024 / 10 / 8 - 22:12
المحور: الادب والفن
    


الخيانة، ذلك الشعور العميق بالانكسار والخذلان الذي يأتي حين يتلاشى الثقة بين الأفراد، ليست مجرد فكرة تنبع من تفاعلات الإنسان، بل هي مفهوم يظهر بشكل مدهش في عالم الحيوان. منذ العصور القديمة، حاول البشر فهم الخيانة عبر إسقاطها على أفعال الحيوانات، مثل طير الوقواق الذي يغش الطيور الأخرى ليربي صغاره، أو القردة التي تخون تحالفاتها من أجل القوة. ومع ذلك، تبقى الخيانة البشرية أكثر تعقيداً وتشابكاً، تجمع بين العاطفة، الثقة، والصراعات الداخلية التي تجعل منها ظاهرة فريدة وأليمة.


يُعتبر طير الوقواق من أكثر الحيوانات التي ارتبطت بالخيانة، وخاصة خيانة الأمومة. ففي حين تسعى معظم الطيور لبناء أعشاش آمنة لتربية صغارها، يلجأ طير الوقواق إلى استراتيجية أكثر مكرًا. تقوم أنثى الوقواق بوضع بيضها في أعشاش طيور أخرى، وتترك تلك الطيور لتربي صغار الوقواق كما لو كانوا صغارها. هذا السلوك يعتبر من أبرز الأمثلة على "الخيانة" في عالم الحيوان.

لكن هل يمكن أن نعتبر سلوك الوقواق خيانة بمفهومنا البشري؟ ربما ليس بالضرورة. فالأمر في نهاية المطاف يتعلق بغريزة البقاء. الوقواق لا يحمل قيمًا أخلاقية تجاه أفعاله؛ بل يتصرف بدافع الحفاظ على نوعه، وهي الغريزة التي تحكم جميع الكائنات الحية.

هذا السلوك يقدم لنا نظرة غير متوقعة إلى طبيعة الخيانة: "الخيانة" ليست دائمًا تصرفًا نابعًا من شر، بل قد تكون ببساطة وسيلة لتحقيق غايات بيولوجية أو تكيف مع الظروف المحيطة.

في مجتمعات القردة، وخاصة الشمبانزي، يمكننا أن نلاحظ سلوكيات تعكس مفاهيم "الخيانة" البشرية، ولكن في إطار يختلف تماماً. تعيش القردة في مجموعات هرمية حيث التحالفات بين الأفراد تعتبر أساسًا للبقاء والهيمنة. القردة تخون أحيانًا رفاقها، ليس بسبب مشاعر الكره أو الخداع المتعمد، بل لأنها تسعى إلى الحفاظ على مكانتها الاجتماعية أو تحسينها.

عالم القردة يكشف عن عمق الغرائز الاجتماعية الموجودة حتى في الحيوانات. فالتحالفات التي تتكون بين القردة قد تنقلب في لحظة إذا ما شعر أحدهم بفرصة للارتقاء في السلم الاجتماعي. هذا السلوك يتشابه بشكل كبير مع الخيانة السياسية التي نراها في المجتمعات البشرية؛ حيث تتغير التحالفات وتنكسر العلاقات من أجل تحقيق القوة أو الهيمنة.

الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز قال في هذا السياق: "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"؛ حيث عبّر عن فكرة أن البشر، مثل الحيوانات، يتصارعون من أجل البقاء والسيطرة. في عالم القردة، هذه القاعدة واضحة وضوح الشمس: البقاء للأقوى، ولو كان ذلك على حساب التحالفات والولاء.

بينما تبدو الخيانة في عالم الحيوان نتيجة طبيعية لغريزة البقاء، فإن الخيانة عند البشر تحمل أبعادًا أعمق بكثير. في العلاقات الإنسانية، تكون الثقة والولاء من أعمدة التواصل الاجتماعي والعاطفي، وعندما يحدث خرق لهذه الثقة، تكون الخيانة مؤلمة بشدة. من خلال تاريخ البشر، نجد الخيانة في سياقات مختلفة، بدءًا من العلاقات الشخصية إلى الخيانات السياسية والاجتماعية التي شكلت مصائر دول وأمم.

الخيانة بين البشر ليست فقط نتاج غريزة للبقاء أو الرغبة في تحقيق مصلحة شخصية، بل يمكن أن تكون تعبيرًا عن مشاعر معقدة مثل الغيرة، الكراهية، أو حتى الخوف. هنا، نجد أن الخيانة ليست فقط وسيلة لتحقيق هدف، بل قد تكون تعبيرًا عن ضعف إنساني عميق. كتب الشاعر الإنجليزي ويليام شكسبير عن الخيانة في مسرحيته الشهيرة يوليوس قيصر، عندما قال: "حتى أنت يا بروتوس؟" - هذه العبارة التي تجسد الصدمة والخيانة من أقرب الناس.

البشر، على عكس الحيوانات، يربطون أفعالهم بقيم وأخلاق. فعندما يخون الإنسان، سواء في علاقة شخصية أو في سياق سياسي، تترافق هذه الخيانة بمشاعر من الندم أو حتى الفخر في بعض الحالات. الخيانة البشرية معقدة لأنها لا تتعلق فقط بالفعل نفسه، بل أيضًا بالتأملات الداخلية التي تصاحبها.

في العلاقات الشخصية، تعتبر الخيانة العاطفية من أكثر الأفعال التي تترك أثرًا نفسيًا عميقًا. الخيانة بين الشركاء ليست فقط كسرًا للثقة، بل تدميرًا للرابط الذي بُني على الحب والاحترام. يقول الكاتب المصري نجيب محفوظ في روايته الحب تحت المطر: "الخيانة لا تنجح أبدًا، فهي إن نجحت أسقطت الروح وإن فشلت قتلت القلب".
هنا تتجلى معاناة الخيانة في العلاقات الشخصية، حيث لا تكون الأضرار مادية فقط، بل تمس الروح والنفس بشكل يجعل التعافي منها صعبًا للغاية.

على مر التاريخ، كانت الخيانة السياسية واحدة من أكثر الأمور المثيرة للجدل. في الحروب والتحالفات، لعبت الخيانة دورًا حاسمًا في تغيير مصائر الدول والشعوب. من يهوذا الذي خان المسيح بقبلة، إلى خيانات معاصرة في السياسة العالمية، يبقى الشعور بالخيانة حاضرًا في الصراعات الكبرى.
يرى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أن الخيانة ليست فقط فعلاً يقوم به الفرد، بل هي انعكاس لصراع داخلي بين الفرد والمجتمع. فالبعض قد يلجأ إلى الخيانة كوسيلة لتحرير نفسه من القوانين أو القيود الاجتماعية.

في عصرنا الحالي، قد تتمثل الخيانة أيضًا في التخلي عن القيم والمبادئ التي تربينا عليها أو تلك التي تحكم مجتمعنا. يُعد التخلي عن المبادئ أو الأفكار التي تؤمن بها نوعًا آخر من الخيانة، ليس فقط للنفس ولكن للمجتمع بأسره. هذه الخيانة تفتح المجال لصراعات داخلية وتجعل الإنسان يواجه أسئلة صعبة عن هويته وقيمه.


الخيانة، سواء في عالم الحيوان أو البشر، تظل سلوكًا معقدًا يثير التساؤلات عن طبيعة الكائنات الحية وطرق تعاملها مع التحديات. في النهاية، يمكننا القول إن الخيانة لدى الحيوانات تعتمد بشكل أساسي على غريزة البقاء والتكيف، بينما لدى البشر، تتعقد الأمور بسبب وجود القيم والأخلاق والعواطف.

من طير الوقواق الذي يخدع الطيور الأخرى، إلى القردة التي تخون تحالفاتها من أجل الهيمنة، وصولًا إلى بني البشر الذين يختارون أحيانًا الخيانة رغم معرفة العواقب، تبقى الخيانة جزءًا من الطبيعة البشرية وغير البشرية. ولكن بينما ندرسها ونتفكر فيها، نكتشف أكثر عن أنفسنا وعن الدوافع العميقة التي تجعلنا نخون أو نختار الوفاء.



#سامح_قاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المُطبعون أشد إفكا ونفاقاً
- الألم.. محبتي لك أيها المعلم العظيم
- موجز تاريخ الشقاء
- صوت المقاومة يتحدى الصمت
- ما الذي حل بالكرامة العربية؟
- تسقط إسرائيل.. تحيا المقاومة
- بيروت.. وجه الله في مرآة البحر
- عواقب الخذلان العربي للمقاومة في غزة ولبنان
- المثقف والمقاومة وجهان لعملة واحدة
- الخيانة ليست وجهة نظر
- المقاومة فوق القوة
- المثقفون المرتزقة: من تحريف الحقيقة إلى تشويه الثقافة
- مثقفو الهامش: بين الاستبعاد والخروج عن المألوف
- في وصف الخذلان
- تاريخ الكذب: من الفلسفة إلى الواقع
- مجنون ليلى عند المتصوفة: تجليات العشق وصولا إلى العرفان
- السلطة والجنون: تجليات التأثير والمصير
- فلسفة الجمال عند العرب: تأملات في الوجود والحُسن
- حذاري أن تُحبوا من أعماق قلوبكم
- تاريخ الأفكار: مسيرة العقل في مواجهة السلطة عبر العصور


المزيد.....




- زاخاروفا تعلق لـ RT على فضيحة كبرى هزت أمريكا والعالم بطلها ...
- عاصي الحلاني ووائل جسار يعتذران لمهرجان الموسيقى العربية بسب ...
- بسبب الأوضاع في لبنان.. عاصي الحلاني ووائل جسار يعتذران عن ا ...
- رحيل فخري قعوار.. الأديب الأردني العروبي المفتون بقضية التقد ...
- إنييستا.. اعتزال فنان لا ماسيا الخجول وقاتل دفاعات الخصوم
- -تحت الركام-.. فيلم يحكي مأساة مستشفى كمال عدوان وصمود طاقمه ...
- مسلسل عن محمد عبده وفيلم -كابتن ماجد-.. هذا ما كشفه تركي آل ...
- الدنماركي توماس فينتربيرغ رئيسا للجنة تحكيم مهرجان الفيلم في ...
- شموع وصلوات وموسيقى في إسرائيل لإحياء ذكرى 7 أكتوبر
- أقوى إشارة وجودة HD … تردد قناة بطوط كيدز الجديد 2024 على ال ...


المزيد.....

- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري
- هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ / آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
- توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ / وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
- مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي ... / د. ياسر جابر الجمال
- الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال ... / إيـــمـــان جــبــــــارى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سامح قاسم - الخيانة: من طير الوقواق والقردة إلى بني البشر