مقامة خريفية .

صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8123 - 2024 / 10 / 7 - 17:16
المحور: الادب والفن
    

مقامة خريفية :

حلَّ الخريفُ على الأَغصانِ , وانتثرت أوراقُهُ غيرَ ما يبقى على الحِقَبِ , كانتْ غلائلها خُضْراً , وقد صُبِغَتْ بصفرةٍ مثل لونِ الورس والذهب , واستطردَ القيظُ إذ ولّت عساكره, واستبردَ الظلُّ فاقدحْ جمرةَ العنب , واغنمْ بها العيشَ في تشرينَ منتهزاً, فالقيظُ في رحلةٍ والقرّ في الطلب.

الفيلسوف اليوناني أرسطو يقول : (( إن سنونوة واحدة لا تصنع صيفاً )) , وهذا يعني أن ظهور السنونو في الأجواء علامة على بداية فصول الصيف , فما علامات الخريف ؟ أهي الرياح الباردة , وغبش الضباب الصباحي وسقوط المطر, وانخفاض درجات الحرارة , وسقوط أوراق الشجر, وتساوي ساعات الليل والنهار, أم كل ذلك مجتمعاً ؟ عندما يأتي الخريف لا تبقي شجرة مثمرة , مثل الإنسان عندما تمر به فترة الخريف يتساقط منه الكثير, وانا لم يكن الربيع صديقي في يوم من الأيام , الخريف وحده هو الذي يشبهني, كما ان الورقة التي لم تسقط في فصل الخريف تعد خائنة في عيون أخواتها , ووفية في عين الشجرة , ومتمردة في عيون الفصول , فالكل يرى الموقف من زاويته, وقلة من يفهم أن جنون الربيع إنما هو وليد حزن الخريف , ورغم أن الموت/الخريف فيه ألم وقسوة , إلا أن تلك القسوة/الألم سيعقبها فرح وخصب ونماء.
تقول الأمثال : (( إن تخن الخَريــفْ أبشر بالرغيف)) : بمعنى إذا كانت أوراق شجرة الخَريف سميكة فأبشر بموسم قمح جيد ومميز , و(( الخَريف اللَيَّن من بشايره يبيَّن )) , أي كما نلاحظ في هذه الأيام الغيوم التي بدأت تظهر في السماء , وهذا يعتبر أول البشاير , و (( إن صلَّبت خرَّفت )) أي أنه عند وقوع الصليب يبدأ فصل الخريف وينتهي فصل الصيف.

ما اجمل الطبيعة وما اجمل خيراتها وما اجمل اجوائها عندما تريد اسعادنا بظروفِها الجوية, ما اجمل متغيرات المناخ عندما ينتهي الصيف وهو يودعنا برايته الحمراء الملتهبة والمستمدة قوتها من شعاع الشمس , ومع انخفاض درجات الحرارة وانتقالنا الى فصل الخريف الذي زادت من جماليته قطرات المطر وتلبد الغيوم في السماء , اليوم ومع تلبد الغيوم في السماء وتساقط قطرات الماء من السماء, مع رائحه المطر وهي تمتزج بتراب الارض لينبعث منها رائحة طيبة تشرح الصدور , وها انا ارمي بخطواتي في حديقة المنزل , وبقربي ذلك النبات من النعناع الاخضر ليكمل بعطره رائحة الارض.

تعلمنا من الخريف بعد ان سارت بنا سنين العمر, وعرفنا انه مرحلة في حياتنا وفيه تتساقط أوراقنا نحن بني البشر ايضاً بعد أن كنا أشجاراً نضرة بشباب العمر, وكذلك عرفنا منه مرحلة تساقط بعض الاصدقاء , وابتعادهم منا مثل اوراق الاشجار التي تتساقط من اغصانها وفروعها بعد ان رحل عنا الكثيرين منهم , قسمٌّ غيبته الحياة ومنهم من غاب بسبب متغيرات الحياة , أيامٌّ اصبحنا نشعر بتغييراتها الجوية وننتظرها بلهفة وكأننا لم نرى من قبلها شتاء او صيف او خريف او ربيع.

لا نعرف هل الحياة اصبحت قاسية علينا اكثر من قبل ام اننا وصلنا الى مرحلة الانكفاء الشخصي على انفسنا واصبح كل شيء يزعجنا فلا يعجبنا برد الشتاء ولاحرارة الصيف, انني أسال نفسي احيانا كيف كنا نعيش في سنوات الطفولة بعيدا عن خدمات العصرنة الحديثة وبعيدا عن كل وسائل الراحة الموجودة في وقتنا الحاضر فلا اجد الا جواب واحد ان كل انسان يستطيع التكيف مع اجواء الطبيعة التي يعيشها , مسكين أيها الخريف لا يرونك وسيماً كالصيف , ولا غزيراً كالشتاء , يعود أيلولُ الأصفر و فيه ميعادٌ بلونٍ لن يفارقنا, وإذا مر ّالخريف القلب تشحبُ فيه خشْخشةٌ , و يذبلُ ثمّ يهجره الحفيف, والحزن طيرٌ لا يهاجر ُ في الفصولِ, و لا يكُفٌ عن الرفيف و يبيض في قُرَنِ الفؤاد وفي شبابيكٍ تُطلُّ إلى المدى , وتبقى على الرصيف الحزين ذاكرةٌ مُعلقةٌ.

المطر الأول يغسل كلّ شيء عدا قلوب البشر , والزخّاتٌ المتتاليةٌ تجعل معطف الفزّاعة يبدو جديدًا , ومع أول زخّة مطرتصبح السّقيفة المنكوبة كوْمة خردة , نسمةٌ رقيقةٌ, يحملها إليكَ عطر أيلول , والمطرُ الأولُ تنتعشُ في قلّبي يمامةَ الرّوحِ , ما أجمل الحجلان وهي تتسكع بفرح تحت رشّات المطر , اتعقب نقنقتها مع صوت المطر لأسمع تراتيل صلاةٌ جهريةٌ , و البزّاقةُ الصّغيرةُ تزحفُ بسلام على الأعشاب الطرّيّة , لا يستفزّها الا وقاحة أسراب البطّ البري , وأقحوانة المرج تعانق النّور لأوْل مرّة , وفي الليل تحت عمودِ الإنارةِ خيوط المطر تتساقط كالبلور.

فاتني ان اقول أننا درسنا في الأبتدائية أن كلمة) (Autumn ألأنكليزية تعني الخريف , الا انني عندما كنت أذهب للمشاركة في ألأجتماعات الدورية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في منتصف أيلول من كل عام ,وجدتهم هناك يطلقون على الخريف كلمة Fall , وهي اكثر تعبيرا في المعنى .

#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات