|
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثامن والثلاثون)
أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 8122 - 2024 / 10 / 6 - 09:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
هكذا إذن، يصبح عند هايدجر تاريخ الفكر الغربي بأكمله تأكيدا على "أن الوجود يقدر لنا، لكن بطريقة تجعله ينسحب في نفس الوقت إلى جوهره". هذا اللغز للكينونة الذي قاربه هيراقليطس وساءله هايدجر، هو أن الانعطاء لا يكون إلا بالانسحاب. الوجود في اختباره الأصلي هو Phúsis - لاتحجب منبثق عن التحجب، تدبير مصدره الانسحاب، الذي سنحاول القيام بتطويره من خلال تقديم العلاقة بين الوجود والحقيقة في ما يلي. وبما أن الحقيقة الإسنادية قد تم تجاهلها، وتحديها من قبل هايدجر، فإن العلاقة سوف تأخذ في الحسبان فقط الحقيقة الأنطيقية والحقيقة الأنطولوجية. يتحدث هايدجر بلا كلل في عدة نصوص عن "انسحاب الوجود"، عن "لغز الوجود"، لكن هل يمكن فهم هذا اللغز للوجود؟ لقد رأينا للتو أن الوجود لا هو قابل للإدراك ولا هو ملموس ما دام أنه يظهر ماهيته وهو لا ينعطي إلا من خلال الانسحاب. من خلال انعطائه، كما نعلم، يستقر في الحضور. في الحضور ينكشف كما هو، ويستقر في الحقيقة. عندما انسحب، إلى أين لجأ؟ لقد لجأ إلى العدم. هذا هو المكان بالذات الذي يفسر عدم قابلية لغز الوجود للإدراك. وهذان التعبيران: (أ) الاستقرار في الحضور، و(ب) اللجوء إلى العدم سوف بسترعيان انتباهنا قليلاً. لكن، قبل ذلك، ارى أنه من المفيد إيراد هامشين كتبهما بيليدور لتوضيح أمرين: اللغز والماهية. وهكذا يحدد الكاتب أن اللغز لا يكتسب هنا الدلالة الدينية التي تعطى له في أغلب الأحيان؛ لكنه يعبر عن تجربة الأليثيا باعتبارها لاتحجبا ولا إخفاء للوجود في ماهيته التي نفكر فيها هنا. أما المشكلة المتعلقة بالماهية، عند هايدجر، فلها دائما وجهان. في نفس الوقت الذي تذكر ما يتعلق بالماهية، فإنها تتضمن أيضا تعيين حدود ذلك الذي لا يندرج تحتها. تحديد الماهية ليس واضحا بذاته أبدا. بالنسبة إلى هايدجر، فالجوهر ليس طبيعة موجودة دائما في أفق معرفتنا. بل على العكس من ذلك، فهي مخفية في الأصل ولا يتم اكتشافها إلا من خلال جهد الفكر الذي اختار أن يذهب إلى ما هو أبعد من اليقينيات المباشرة للحس المشترك والممارسة العملية. لنبدأ بالتساؤل باختصار شديد عن الكلمة الأكثر هشاشة؛ ألا وهي العدم، ما دام للحضور خاصية مسالمة. قلنا أعلاه أن الوجود قام بالانسحاب، انسحب إلى العدم. هذه الكلمة، كونها الأكثر هشاشة، سنستمر في استخدام هشاشتها للتأكيد على أن كل موجود بما هو موجود يأتي من العدم. ماذا يعني هذا التأكيد؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، نلتزم بأن نعلن أننا لن نقدم خطاباً مفصلاً، مسهبا أو مطورا حول ذلك العدم كما فعل هايدجر، ولكن بما أن هذه الدراسة تتناول ماهية الحقيقة وأظهرنا، تماشيا مع هايدجر، أن الحقيقة في جوهرها تحمل معها اللاحقيقة، نرى أنه من الضروري أيضا، في تقديم الوجود في جوهره، أن نقول كلمة قصيرة عن الجانب الآخر من الوجود، خاصة وأن هايدجر يتحدث عن انسحاب الوجود. عندما نقول أن كل موجود بما هو موجود يأتي من العدم، فإننا نعني بذلك أنه لا ينبغي البحث عن أساس الموجود انطلاقا من الموجود المعطى كما هو معطى في الموجود ككل المتضمن في الموجودية بشكل عام أو في كل الموجود. تشخص هذه النقطة قفزة من معنى الموجود في مجموعه الذي اعتبرته الميتافيزيقا التقليدية كلية "العالم" نحو تصور جديد للموجود في مجمله الذي يتعين البحث عنه في ما بكون الآخر لكل موجود. وهذا الآخر هو الذي نسميه العدم، والذي ليس خاصية محدودة لموجود بالنظر إلى آخر، بل هو بلغة هايدجر ما يجعل الكشف يكون كذلك بالنسبة إلى الدازاين. لنتذكر دائما أن هايدجر يتساءل عن الوجود، الذي نعرف معناه بعد كل ما قلناه عن الphúsis. "الوجود الخالص" الذي بحث عنه هايدجر يكمن في بعد مختلف تماما عن جميع المحددات الوقائعية الممكنة أو حتى تلك الواقعية للموجود. لذلك، وهو يسعى جاهدا إلى إقامة هذا "الوجود الخالص" "لذاته" على نمط "التجريد" الخالص، يصادف الفكر "العدم" باعتباره "التحديد" الوحيد لهذا الوجود. الكينونة، الوجود الخالص، بدون أي تحديد، في فوريته اللامحددة (كما يقول هيجل)، لا يساوي إلا نفسه، دون أن يكون غير متساوٍ مع أي شيء آخر: فهو مجرد من كل اختلاف سواء تعلق بداخله أو تعلق بالخارج. بالمثل، العدم، العدم الخالص هو المساواة البسيطة مع الذات، الفراغ التام، غياب التحديد والمحتوى؛ اللاتخالف في صلب الذات. قالها هيدجر قبلا: الوجود لا هو قابل للإدراك ولا هو ملموس. الوجود في كل مكان، في كل لحظة، المعتبر والمفهوم في "est"، هذا “الوجود" لم يكن أبدا وفي أي مكان حاضرا كما هو. بمجرد ما ينسحب "الوجود الخالص" إلا وينتقل إلى "العدم"، بشرط أن نفهم بالطبع أن العدم لا يعني هنا حرمانا أو افتقارا إلى الوجود. وهذا لا يعني، مثلا، أن "الوجود" غير موجود، ولكن يجب أن نفهم أنه عندما يكون، يكون الوجود موجودا دائما و"ماضيا" من قبل. "الوجود" لا يكون الموجود موجودا إلا عندما يمر إلى العدم. بالنتيجة، يجب أن يُدرج العدم دائما في "الوجود" بشكل إيجابي. يدرج الدازاين باعتباره سلبية "الوجود الخالص"، أي باعتباره موجودا محددا. إنه ليس الوجود باختصار، لكن من خلال إظهار جوهره، يقدم نفسه في الدازاين (الوجود-هنا)، مكانه الوضاء ويمحي في ما يضيء. إذا كنا الآن نغامر بتقريب بين الدازاين عند هيجل والدازاين الهيدجري، يمكننا أن نستحضر العبارة التالية: الإنسان (الدازاين) هو راعي أو مضيء الوجود؛ ويجب أن يُفهم هذا بمعنى أن الإنسان، في التأمل، يصبح واعيًا بكونه في الجوهر الكائن الموجود في الظهور الأبدي والبسيط والمجاني للكينونة من خلال أدنى مظهر، حتى مظهر زهرة برية على جنبات طريق قروي: لأن "البسيط يحفظ بلغز ما يبقى". في كلتا الحالتين إنما "تظهر" الكينونة في الوجود-هنا. (يتبع) نفس المرجع .
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إنكار الآخر سرطان يفتك بالمجتمع، فكيف السبيل إلى علاجه؟
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
ارتفاع ثمن برميل النفط مباشرة بعد تصريح بايدن بتخطيط بلاده ل
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
صديقي يلغي الاستراتيجية الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر ال
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
فيلم -أمل: روح حرة- للمخرج البلجيكي المغربي جواد غالب دعوة ق
...
-
حزب الله يؤكد مقتل زعيمه على يد الجيش الإسرائيلي
-
الهيئة المغربية لحقوق الإنسان تعي جيدا بأن حرمانها من الوصل
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
برشيد: مستشفى الرازي للطب النفسي يعاني من خصاص في الأطر ونقص
...
-
النقابة الوطنية للصحافة المغربية تناضل من أجل تجويد البيئة ا
...
-
النقابة الوطنية للإعلام/كدش تدعو الحكومة إلى حل ما يسمى -الل
...
-
الطيران الإسرائيلي يقصف لبنان مجددا وحزب الله يستهدف قلب إسر
...
-
المنظمة الديمقراطية للشغل تطالب الشركة الوطنية للإذاعة والتل
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
الفقيه بن صالح: كونفدراليو قطاع الفوسفاط يؤكدون استعدادهم لل
...
-
قطاع الفواكه الحمراء بالمغرب: زيادة في الصادرات ومقاومة للتح
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
الخروج الإعلامي لفاطمة الزهراء المنصوري بصدد -الهروب الكبير-
...
المزيد.....
-
بيونسيه حققت فوزاً تاريخياً.. أبرز لحظات حفل جوائز غرامي 202
...
-
إطلالات خطفت الأنظار في حفل جوائز غرامي 2025
-
ماسك: ترامب وافق على إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية
...
-
ألق نظرة على الصور الفائزة بجائزة مصور السفر لعام 2024
-
بيسكوف: روسيا ستواصل الحوار مع السلطات السورية بشأن جميع الق
...
-
الشرع يؤدي مناسك العمرة في مكة المكرمة (صور)
-
لبنان.. -اللقاء الديمقراطي- يدعو لتسهيل مهمة رئيس الحكومة ال
...
-
إنقاذ الحديد الجريح
-
مذيعة سورية تجهش بالبكاء وتناشد الشرع الكشف عن مصير أخيها (ف
...
-
كيف يمكن استخدام اليوغا كعلاج نفسي لتحسين صحتك العقلية؟
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|