أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - -أموات في متحف الأحياء-.. ضياع -أثيكا- أم ضياع الإنسان















المزيد.....



-أموات في متحف الأحياء-.. ضياع -أثيكا- أم ضياع الإنسان


هاشم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 8119 - 2024 / 10 / 3 - 11:39
المحور: الادب والفن
    


في روايته الأخيرة، لحد الآن، "أموات في متحف الأحياء" الصادرة عن دار سطور في بغداد 2024 يؤكد الكاتب شاكر الأنباري نمطه الكتابي الروائي، الذي اختطه بعدد من الروايات، بما يشبه البحث واضعا خوارزمية شديدة التعقيد عن جدوى الاغتراب والهجرة. أما أسبابها فهي عقدية غاية بالغرابة فقد نعثر على ألف سبب وربما لا سبب أيضا!

كيف يتم ذلك؟
كعادته بالسرد وان اختلف قليلا، هنا، عن سابقة في أعمال أخرى، فأن سياق الحكايات ينتمي للمشغل الروائي للكاتب الراوي للأحداث كصفة تؤهله بالإمساك بالنص وتوجيهه كي لا يفلت وينتهي لمسارات أخرى قد يفقد سيطرته عليها، ويضمن ترك مفاتيح بلمعان ظاهر تعين قارئه على الإمساك بنوابض النص. وهنا أستطيع القول انه كاتب يعنى بالتخطيط المسبق للعمل الروائي وتبدو لي إرشاداتها العامة واضحة كأعمدة شفافة منح الكاتب لنفسه أحقية اختراقها. وهذه أول صفة تؤهل النص الى النجاح وتمنح القارئ الترقب والدهشة. قد يبدو العمل بأوله حكاية يرويها أي أحد، لكنه امتلك حقيقة سر (المتحف) الذي هو بصدده. فما أبطاله سوى كيانات زائدة إذا ما انتزع منها زمنيتها، برغم حركتها الجغرافية. فالمتحرك هنا هو الزمن بأشد تجلياته فتوة لا ينتظر من يناديه ويطلب منه التريث أو الانتظار. تلك ثيمة مانحة وكبيرة للأنباري رافقت نصه منذ البداية وحتى نهايته. وذا ما لازمنا تعاطف منذ الوهلة الأولى فان هناك مؤشرات انزياحية كثيرة في نص الأنباري سيما أنه ليس حدسي، بل ضامن للانقباضات الواجبة بتوفرها لبرهنة علة ما. وعليه يسير النص مخترقا وحارقا المسافات بصفة تغيير المناخات والمآلات الدلالية بحيث يقوم النص ذاته بفك انقباضاته. وهنا يقفز الى هذه المساحة سؤال روبرت همفري كتابه (تيار الوعي في الرواية الحديثة) «ما الذي يمكن تحقيقه من تقديم الشخصيات من زاوية وجودها النفسي؟ وكيف يغتني الفن القصصي من تصوير الحالات الداخلية؟». سيما أن شاكر يستخدم ترميزا واضحا كالنصب ونوافير الماء والكنائس وحتى المصادفات الثمينة التي وهبت نصه إيقاعا متسارعا نظن بأوله أنه وصل من دون مقدمات عن رحلة أو زيارة لصديق قديم. وبهذا المعنى يشي الكاتب بصفة (الراوي) الغالب عن خصيصة واضحة بذهنه بأن عمله مكملاً لأعماله السابقة وكأنه أمام تصميم هندسي معقد يكمل طوابقه ومرفقاته تباعا. غير انه ممعن بالتشطيبات الحسية لأي شخصية من أبطاله التي أخذت مساحتها بما أسميناه بالانقباض، فهي بمجملها قليلة البوح ومقفلة على ذاتها كمحار صامت، عدا العام من الحكاية، حتى يفاجئنا بحركة صادمة لنهاية ما. ذلك أن وعيا مكتملا كان يساور شخصياته، نفسية على وجه التحديد، محكومة بعدم الرضا واللا جدوى ما عدا الأولاد الذين سينتمون ويتأقلمون سريعا مع واقعهم الجديد. هذه المداخل ستعيننا على متابعة الرواية من حيث المبنى والسياقات لمقتضى التحولات الزمانية تحديدا، ليس لان الجغرافيا لا شأن لها كما أسلفنا، لكنها لن تُخلّف الكثير ولا ُتغّير من واقع الانزياح كما زمن الشخصية وساعتها البيولوجية كما سنرى.

يقوم الأنباري هنا واعتمادا على مدخلنا الآنف بمنح نفسه حق من ليس له حق، هكذا يبدو الأمر بأوله، أن ُيتم الحكاية/الحكايات من زاويته الخاصة التي مزج فيها فعل الراوي والكاتب نفسه بإشارات واضحة لا تقبل التأويل، فتدخل شخصيته بيسر في بنية نصية معقدة من حيث جوهر شخصياته. وبهذا فأن الراوي ليس هو الراوي الذي اعتدنا على حياديته وسلطته المطلقة على النص بالإضافة الى معرفته بصغائر الجزئيات إنما هو عنصرا أساسيا، أو لنقول لاعبا ماهرا، كبطل من أبطال الرواية. تلك هي إضافة روائية لشاكر الذي استطاع أن يصنع من شخصه ومهنته ككاتب ثم راويا للأحداث، عنصرا فاعلاً غير متأملٍ عن بعد لما يحدث، بل واحد من أبناء التجربة ذاتها. هذه التقنية التي أهلته الى اختصار المسافات/ الأدوار/ الزمن لا انفي خطورتها سيما إن لم يمنحنا الكاتب هامشا نستطيع من خلاله التأكد من أننا لم نُخدع بلعبة كتابية، بل تجريبية حاولت وفعلت على اختصار ما اعتقد أن تتمدد الى خمسمئة صفحة الى ما انجزه بروايته بأقل من مئتين صفحة. هذا إضافة الى صفة أخرى، والقارئ يعرف درجة إشباعه من أي نص يقوم بقراءته، بأن حالة من الانتشاء لا بد لها أن تسكنه وتسيطر عليه، ولذلك جاءت كلاسيكيات الأعمال الكبيرة على نحو من مجلدات أثرت فينا واستوعبت دهشتنا حتى تلك التي ذهبت الى السينما كأعمال خالدة فلم يمسك بتلابيبها إلا مخرج ذكي ومغامر، بحيث يصنع هامشه بنفسه. أما هنا مع رواية شاكر فإننا أمام عمل انزياحي يقوم بكل الإجراءات الكلاسيكية لكنه ممسك بلحظة آنيةٍ أجاد الكاتب حمايتها من المؤثرات التي تذهب بالنص الى تخوم التمدد ومن ثم القبول بأي مصير ونهاية لأحداثها. وإذا ما امعنا النظر بنص الأنباري، أو لنقل تأمله، من زوايا مختلفة نجد خصيصة مثيرة احتواها وأكدها العمل بأن أبطاله ليس بالمطلق هم من البشر فهناك كما اسلفنا النصب والرسوم ونوافير المياه والمشاهد الثابتة للجسور والطرق وواجهات البنيات ووسائط النقل وغيرها. ادخلها الكاتب كأبطال يرجع لها/ لهم على مدار روايته وحتى أنها أحيانا تمتثل الى نهاية ما. فيمكننا هنا قلب اسم الرواية من "أموات في متحف الأحياء" ككناية بشرية، الى عكسه (أحياء في متحف الأموات) لغير البشرية. ففي الحالين الثابت هو الموت، كما الولادة، والمتحول هو الحياة، وعلى ذلك تسير الأحداث على وقع زمنيتها وليس متغيرها الجغرافي كما أسلفنا.

الرحلة والاكتشاف
يقوم الكاتب بتقديم مفتاحا لنصه باختيار أزلي من ملحمة جلجامش يبدأها (إلى أين تسعى يا جلجامش…) وهو استخلاص مبكر عن الجدوى سيسعى الكاتب الى إثباته وكأن الرواية كلها بنيت على هذا المقطع الأثير من خمسة عشر سطرا أو عبارة. فكانت رحلة الكاتب الى صديقه مرتضى، الفنان الذي تعرف عليه في دمشق، تتعشق مع تلك السطور من أولها وكأنه وضع نصب عينيه حكمة رافيدنية أثيرة عن جدوى الحياة وما يثير فضوله قوله: «تأملاتي العميقة عن مغزى الوجود الإنساني…» حتى يكمل روايته بنص مكافئ في النهاية لـ «كفافيس»، الشاعر اليوناني/الإسكندري، عن معنى الإرادة، يمكننا إلحاقها بصورة "الياذية" عن العودة الى "أثيكا" كصورة من صور التحدي الإنساني المهيب.
تساؤل وجودي، عن المعنى، وضعه الكاتب ضمانة للاستطرادات السردية لاحقا للحد الذي يكشف لنا بنفسه عن صنعته ككاتب بأن مشاهداته ستفضي الى «مسارب حية ملونة، راعشة، متدفقة من دون انقطاع..» تنتمي بمجموعها الى المدخل الروائي ونهايته. وفي هذه المساحة سيتخذ الكاتب/الراوي من شغل صديقه الفنان عتبتين مهمتين هما الفعل الظاهري للمغامرة متمثلا بلوحة لإله البحر الإغريقي (بوسيدون) والثانية مشغله الرثائي للمرأة التي سيطرت على أعماله. وبالنسبة للوحة الأولى نرى التحول الدرامي لإله البحر من الإنقاذ الى الفتك بمن يحاول عبور البحر من دون استئذان. وهذا تحول خطير بالسيرة من حيث تدخل الكاتب في توظيف الفكرة ليقنع قارئه بأن الرحلة من أولها محكوم عليها بالفشل الذريع وإن سلم عابر البحر من فم بوسيدون اله البحر الغاضب فهناك الف فم سيبتلعه ويفتك بأحلامه، واذا ما تعلق الأمر بإله ما، فلِمَ يكون الأمر معقودا على الفشل منذ البداية؟. أما الثانية فهي سلسلة من تحولات المرأة عالجها صديقه الفنان بمراحل مختلفة لتنتهي حقيقة نهايتها الى خلع الأرحام من البطن/الأرض والامتثال للمصائر متمثلة بمقابلها في رواية الأنباري بشخصيتين هما لميس الزوجة الشابة لـ سام عازف الكيتار واختها نبال المطلقة.
اذن هي مساحة مقننة فرضت وجودها على الكاتب من أول صباح بعد إن قضى ليلته الأولى عند صديقه الفنان مرتضى. وفي هذه المساحة المدمجة يندفع نص الأنباري لمحو الفارق الزمني مفعلاً آنيته التي سيطرت على نصه فيما أبقى على ماضيها كخلفية خادمة لرؤيته التي اختلفت من هدفها السياحي الى تدوين يكمل مشروعه الروائي عن اللجوء والهجرة.

في جولته الأولى في المدينة البلجيكية لوفان حيثما سيزور صاحبه مرتضى يقوم الراوي-الكاتب بجولته الاستكشافية لوحده منذ بكور الصباح، وهذا ما أراه متعمدا لحرصه أن يرى ولادة المدينة الهادئة أصلا فيمنحها جلالا آخر هي نظرته المتأملة للمساحات والشواخص كجسور وكنائس وغابات ومرابع خضر.، أما حركة البشر فسيستوقفه مشهد التمثال العجيب بفكرته التي أولها الكاتب معرفيا، وهذا ما يتناسب مع رؤى الكاتب التي عبر عنها في مقالات وكتابات كثيرة اقتطف منها مساهمة له في استطلاع مع عدد من الكتاب في جريدة الصباح العراقية 31/7/2024. تحت عنوان "لماذا نكتب" قوله «يمكن القول إنها حاجة روحية لخلق التوازن الداخلي مع الخارج. ذلك الخارج المعادي، وغير المفهوم، والذي يصعب تغييره لأي فرد كان. وحده الكاتب يستطيع عبر رسم عالم مواز، أي عالم السرد، أن يخلق مادة ينتقيها بنفسه، ويفسّرها بنفسه، ويتلمّس جمالياتها وقبحها بعينين ثاقبتين...». وهذا مثير حقا بحيث نجد تطبيقاته في روايته التي نحن بصددها. وفي هذا المفصل بالذات نجد انزياحا تحويليا لفكرة التمثال الذي وصله وسط المدينة.

من المهم هنا ان نذكر بجملة اعتراضية طويلة هو -أن أي كاتب سيحاسب على أقواله حيث نرى الكثير من الكتاب يلهجون، للأسف، ويرددون عبارة (مشروعي في الكتابة) لكنك لم تتلمس زعمهم في نتاجهم. وهذا مؤسف حقا لأن المشاريع الكتابية وحدها التي تمتلك خاصية التغيير في البنية المجتمعية ولها قوة جامحة للتساؤل والانبهار، وبهذا هي الناقل النوعي للتراكم.

يتخذ شاكر من النصب الذي وصله مصادفة، أو على أكثر تقدير حسب خارطة صديقه الفنان مرتضى للمدينة، ما يشبه شاخصة زمنية وليست جغرافية فالمدينة بلغت من الصغر ما يستطيع أي طفل بوعي صغير أن يعرفها. وكما قلنا آنفا إن المهمة اختلفت من سياحيتها الى معرفية ستحظى بعقدية على يد عائلة سورية التقاها مصادفة أيضا عند التمثال ذاته. وعلى ما يبدو أن الراوي مهيأ أو هَيءَ نفسه للاحتمالات فيقول على مستوى التقديم لشخصه «اأنا أعشق الضيـاع في المـدن. وكـون المدينـة مـدورة، لم اجد أي خـوف في داخلـي مـن الضيـاع في شـوارعها». وهذا مثير جدا بحيث يتخذ الكاتب من المصادفات ما يؤهل نصه للانفتاح. ولعل في الخصيصة الكونية الفيزيائية ما يشحذ فكر الكاتب للانفتاح الأكبر سيما أن الكاتب/ الراوي يبدو يقظا جدا مع مشاهداته، بل مبهورا بكل ما تقع عليه عيناه وكأنه طفل ولد للتو بإدراك راشد تبهره «ألوان الضــوء الباهــر وهـو يتقافـز مـن إفريز الى أيقونة، ثـم الى زخـرف ذهبـي في قّبـة لبنايــة عاليــة، وينعكــس عــلى وجــوه المــارة والجالسيــن في المقاهــي». مع الكثير من الايحاءات التي تضمن له أحقية التصرف مع نصه قياسيا حسب خصيصة الوقت الذي سيحمل له دهشة أخرى سيحاول تأويلها لتنتظم وتتساوق كحبكة الى سرد عاطفي متأمل. ومع عثوره على كنزه، تمثال، «يمســك بيــده اليمنــى كأساً ضخمــة يصــب منهــا المــاء في جمجمتــه المفتوحــة، بينــما تمســك يـده اليسـرى بكتـاب يطالعـه بتركيـز شـديد» يكون التأويل قد اخذ في ذهن الكاتب تجسيرا مهما بين تساؤلاته الشخصية المعرفية وبين رؤية الفنان صانع التمثال عن المعرفة ذاتها وهي «لن تنتهي يوما مادام الإنسان حيا».

غير ان فضولا ليس كأي فضول، وهو مفصل رواية الأنباري الأساسي سماعه لهجة محببة الى قلبه أعادته الى استرجاعات عاطفية لأصحاب اللهجة وموطنها، المكان الذي يبدو أن الكاتب قد قضى فيه ردحا من حياته. غير أن المنتخب من الاسترجاع ذاته كان على نحو مآسٍ وأحزان حذفتهم الى البحار والأقاص البعيدة، تحدوهم فكرة النجاة من واقع الموت في بلدهم الأم متخطين سبل وطرق الغربة الملغمة سبقهم الكاتب واهل بلاده إليها، وسؤال خفي يتكرر من دون كشف: ماذا بعد، فأين هي الجائزة؟
وطالما أن المهاجر غالبا ما يكون مكشوفَ النوايا وبلا أسرار كما العاشق المتيم، ويتسم قرار هجرته بالتحدي، حتى لو كان ما سيواجهه موتا أكيدا، فأن تفضيلات الكاتب بوضعهم في لوحة صديقه الأثيرة لـ بوسيدون إله البحر الغاضب كان محقا. فهم من رحم عذابات الحروب والأحقاد التي هبطت بحملها كغيمة حبلى بالقنابل والغارات وانقسام الطوائف والاثنيات في لوحة سياسية معقدة التركيب في سوريا. وعلى نفس الإيقاع من السرعة تكشّفت له أسرار العائلة المكونة من أب عازف كيتار وأم مازالت مفتونة بصباها ممشوقة القوام تدفع بصدرها الناهد الى أمام كطليعة مهيبة وكأنها تمعن بتمرد بإظهار فارق العمر بينها وبين زوجها الفنان، واخت تكبرها ببضعة سنين تبدو أن الحياة قد تعسرت بها فأقفلت على نفسها كقوقعة محدوبة وتبدو غير مهتمة بما يدور حولها. يصطحبون صبيّان وطفل عرف بسرعة أيضا إن الأصغرين هما ابنا سام الفنان ولميس، أما الأكبر فهو ابن أختها، وسرعان ما خطط لهم الكاتب مستقبلهم بحركات رشيقة بأن قصة الهجرة ستنتهي سريعا الى مألات مرسومة مسبقا يمر بسراطها الجميع حتى النهاية لشيخوخة الكبار، من دون هدف واضح، يستذكرون الوطن ورغبتم بالعودة وتمرد الصغار واختيارهم الأنسب لواقعهم الجديد.

اعتبارا من هذه اللحظة الكتابية يبدو أن الكاتب كان شديد الترتيب ومتمسك برسمه الهندسي لمسار روايته، غير انني أظن أن اختياره بتسريع النص نابع من ظنه أن أبطاله سيأخذون منه المبادرة فيما سيتنحى هو جانبا ككاتب أولا وكراوٍ للحدث ثانيا، وهذا ما سيضر بما نطلق عليه بـ (الوحدة الكتابية) الخاصة بالتصميم مع المهارات التي يتوخى الكاتب وضعها وإسنادها لبطل من أبطاله وهنا هو الراوي/الكاتب. لذلك آثر شاكر الأنباري الامتثال الى تصميمه الأساسي الخاص بتقديم رواية من زاوية أخرى غير مبنية على السياق الفردي للشخصيات فمنح نفسه دورا مميزا يمكننا وصفه بالاختزالي الواضح. ذلك لأن تكرار قصص المآسي واللجوء قد يستنفذ طاقته المنتجة لنص مانح بسبب كثرته حتى بواقعيته الإخبارية، فاختار نوعا من الإخبار يمنحه نفحة التجديد مع الإبقاء على ليونة الأحداث التي ستروى على نحو رسائل برقية عن الأمكنة خصوصا، ومن ثم التفاصيل الخادمة فقط. وهذا ما سيفعله على مدار الرواية فنستطيع بيسر أن نكتشف، وهذا ما منحه الكاتب عمدا بمقولة تتردد: إن الكاتب يكشف عن شخصه بنصه، وهو صحيح لحد بعيد، غير أن شاكر يقدم ذلك بتأكيد مثير وكأنه يقول خذوا عدتي الكتابية وتأملوا التجربة من دون زوايا معتمة فهذا أنا وهؤلاء أبطالي ينحون ويتأثرون بتصميمي الموديل الكتابي الذي وضعته. لذلك نرى الحالة التأملية اشد ضرواة من الحدث الواقعي ذاته لأنها مخزون لتجربة استهلك فيها الكاتب وأبطاله جل عمرهم، وهنا تكمن الحالة العاطفية من حيث التأثير. أما عن الحكاية ذاتها فهي معقودة بطيات يسعى الكاتب الى فتحها بلا اجتهاد يذكر، وعمومها وضعها الكاتب في تركيبية استعادية فقط من اجل حماية النص من السهام الطائشة. فهنا لا يستطيع أي ناقد أو قارئ تحديد هدف معين غير النوابض الحسية لتجربة الغربة وأظن أن الكاتب فعلها بنجاح يثنى عليه.
ربما من يسأل كيف تتكون علاقة عابرة عند تمثال لبضعة دقائق لتدخل في بنية حياة وأسرة شرقية مع سائح عابر؟ وهذا هو واحد من الأقواس اللئيمة التي تجرح النص، غير أن شاكر اشتغل على روايته بواقعية المهاجر الذي يمكن أن يسعى لمصاحبة كلب أو قط في لحظة تأملية عشناها واقعا جميعا، فما بالك بإنسان يشاركك ذات المصير؟ سيما أن الأنباري عالج هذه الفكرة على مدار رواياته المهجرية خصوصا بتجربته الواقعية عن الصداقات التي ما زال يتمسك بها، مع العلم ان أصحابها ليسوا بكتاب وبعضهم غير متعلم أصلا. فما زلنا جميعا نحس وُنحنّ للرفقة الأولى وذلك النضح الشفيف لتك الفترة. أظن لا بد أن أكرر قولي بطريقة أخرى إن عاطفة اللاجئ/ المهاجر اشد فتكا من عاطفة العاشق بتمسكه بمحبوبه. وعلى هذا يقوم الكاتب بضرب خفيف ليحك مقابله جلده الذي بقعته الأمكنة؛ الشموس والبرد وملح البحر والمسافات التي لن تنتهي، محاصر بالجوع وضنك العيش مع حلم الهروب لأي مكان. وعلى ما يبدو أن سام عازف الكيتار قد امتثل لضربات الكاتب الرشيقة التي تناغمت مع ضربات أوتار كيتاره وسكنته طوال الوقت فهو لا يمتلك غيرها من موهبة او صنعة فانتهى الى حالة صوفية كمن يحكي حكايته لنفسه. حكى للكاتب محطات رحلته بين دمشق والقاهرة وتركيا التي عزف بشوارعها ألحانه مستجديا ما يمكّنه من إعالة عائلة من بضعة أشخاص من بينهم أخت زوجته التي شغل صمتها الكاتب وتوشحت بطبقاته عدا بعض النظرات القلقة التي فهم الكاتب محمولها «بأن وجودهـا عـلى الأغلـب خطـأ في هـذا المـكان، لكنهـا مجبـرة عـلى قبولـه. لكـن أين زوجهـا؟». وبذلك يدفع الكاتب باحتمالات توسع النص من جهة واقعيته بينما يحافظ على رؤاه الوجودية وحتى أسئلته الفلسفية من زاوية تعشيق مثمر مع جانب الحكاية (عديمة الجدوى)، أو هكذا يبدو الأمر من جهة تساؤلاته الكونية. وبذلك يفرد الكاتب لنفسه هامشا مؤثرا في نمو النص بحيث يكشف عن مصدريته من دون إبطاء قوله: «ذاك مــا كان يعطــي لنصــوصي، وحتــى شــخصي، مســارب حيــة ملونــة، نابضــة، راعشــة، متدفقــة مــن دون انقطــاع، بحيــث يشــمها القارئ، ويراهــا، ويســمع إشاراتها الخافتــة». ونحن أمام تبادلين الأول الحكاية ذاتها والثاني معرفية الكاتب فكيف يمكننا ضبط إيقاعهما؟

الإيقاع
على ما يبدو أن شاكر أو لنقل الكاتب، كتحديد، متلصص محترف سيما أن زيارته لصديقه الفنان مرتضى «تندرج في هذا الإطار جاء ليرى تحولات رسومه ليرى السأم والوحشة. ربما وجد فيه بعض الغرابة لكنه ارتضاه لسبب أنه وجد فيه تناغما خفيا في مرتكزات الرواية الثلاث وهي: الكاتب ومرتضى والعائلة السورية ستضاف لها قصص أخرى تدعم هذا النهج عن صديقه نصير كما سنرى. فلو سار أي فرع او حكاية حسب هوى أبطالها سيصاب نص الأنباري بالتفكك والضمور ناهيك عن الامتثال لإعادة أقاصيص مكررة. فيما سيفقد النص اهم عناصره وهو أواصره المدمجة وترابطها العام، أو اننا لم نعد بحاجة الى دور الراوي/الكاتب فهو سيروي حكايته وينتهي، فما شأنه بحكاية سام وزوجته لميس التي هجرته في نهاية المطاف، وحتى مرتضى من جانب تحولاته الشخصية ومعالجاته الصورية لغياب الرضا في رسوم نسائه، سيما انه ادخل نفسه ليس كراوٍ محايد. لذلك نرى في نص الأنباري وعلى مدار نصه قفزا محسوبا كتنقلات ضامنة لتوثيق الآصرة بين فروع الرواية، وهنا لا تأتي التنقلات على نحو من السردية العامة كفصل من الفصول، ولكن تقع في ضمنية كلامية معشقة مع الحالة. ولذلك أيضا نرى حضورا للعناصر الثلاث في أي صفحة أو مقتطف من الكتاب.

يأتي الإيقاع السردي لدى شاكر في شغله عموما وفي روايته هذه على نحو يخلو من التوترات الباهظة. ومن الملاحظ أن تنقلاته محسوبة الى الحد الذي يتحسس فيه كثافة الجرعة وكميتها، وهي صفة تشريحية يستدل بمشرطها بتأن على العقد ومساربها، وهذا ما له علاقة بما ذكرناه آنفا عن التخطيط والإلمام شبه المتكامل لشكل الحدث. فيما يبقي من جانب آخر على هامشه الشخصي بعدد من العناصر كاللغة والجماليات ولثم التصدع وضبط المبالغة والتعشيق بين الفروع الثلاثة التي ذكرناها. وهذا واحد من عناصر الكتابة المحدثة التي تناسب العصر وسرعته من حيث المبنى.
أما الجوهر فقد اعتمد في روايته على المؤشرات أو التفضيلات الدالة، الكافية والوافية، التي تمنحه صورة تتفوق على السرد الثابت، طالما « أن المحتوى أو المعنى غالبا ما يكون مشتركا بين الناس» حسب الباحثة د. طانية حطاب منشورها الصورة الشعرية في تصور الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني (جسور المعرفة العدد العاشر)37. وعموما فأن الكثافة التصويرية حزمت عدتها من الشعر لتلقيها في النثر فأن عددا كبيرا من المشكلات السردية رافق ذلك، وهذا ما مثّل نوع من الظاهرية الصوتية المفخمة في الكثير من الروايات. لذلك كان للعناية بضبط الإيقاع دورا، بالنسبة للكاتب، مساهما في عدم تسليم النص لآلة الاستعارية برغم أهميتها لكنها ضارة بإكثارها في النصوص السردية وخصوصا الروائية منها. إن نوعا من الطغيان يرافق ذلك وهذا ما يتوجب على الكاتب الروائي تحسسه. ثم أن الإيقاع في الشعر هو غيره في الرواية ومن جانب آخر يتوجب تنظيم الإيقاع بين الراوي الكاتب من جهة وأحداث الرواية وشخوصها من جهة أخرى. وبهذا المعنى نستطيع القول إن شاكر كان متيقظا بدرجة حسية كافية مكنته من المرور بين فخاخ الكتابة وأنواعها، برغم استغراقه جماليا وقت حاجته لفرصة تأمل.

إشارات مع الإيقاع أيضا
ما يؤشر عليه شاكر تُضمنه مواصفات أبطاله فـ «نبــال امــرأة مليئـة بالأسرار» ولا تفارقها السيجارة ومرتضى «لا يحتـاج إلى الـكلام كـي يعبــر عــن نفســه، لوحاتــه هــي حديثــه، تكشــف رغباتــه، وحنينـه، وحساسـيته تجـاه الوجـود». أما لميس فتبدو الزوجة التي تشعر بفارق العمر في وقت الحرية. وهي مفصل مهم تابعه الكاتب حتى انتهاء مصير علاقتها مع زوجها سام.
وما ساهم بسيطرة الكاتب على إيقاع الرواية هو خطته الكتابية التي سيتخذ من عمومية مرجعيتها إشارات حثته وساعدته على تنمية حاضرها. أما قديمها فقد جاء على نحو إرضاء للقارئ في فضوله لمعرفة بعض التفاصيل، إضافة الى أن هناك من يهتم الى أصل القصص. ومن هنا نكتشف أن شاكر تهمه آنية الحدث وتطوره أكثر من معالجته التفاصيل التي أدت لوصول شخصياته الى المغترب/ المهجر. ولذلك جاء الإيقاع على نحو متلازم مع حالة القلق الذي يحاصر به المهاجر وهو إيقاع يتأثر بانغلاق الحدث بسبب أن هناك مستوى آخر من النمو لا يقرره اللاجئ كأسباب للوجود والإقامة والقوانين وغيرها، وهذا ما كان أصلا بذهن الكاتب كمهاجر وكاتب كتب عن التجربة عددا من الروايات.
ما اعتقده أن هذه التقنية قد لا توفر للقارئ دسما للإشباع لكننا سنسعى من الآن أن نهيئ أنفسنا، بل طريقة استقبالنا، للنصوص المحدثة كموازاة لتجريدات العصر وانتخابيته وقلقه وسرعة تطوره. سيما وحسب ظني أن ما كتب عن الهجرة قد يعود علينا بالتكرار وهذا ما انتبه له شكر بداً باختياره عنوان الكتاب سبقه بعنوان قبله لرواية عن الهجرة بعنوان (نشيدنا الحزين) فيأتي اسم كتابه الحاضر كإسقاط يفك نواياه. من حيث الشكل هو نشيد يتكرر على مدار الأزمان وكأنه الثابت الوحيد، ثم كمضاف إليه (الحزن) في عمله الحالي، لمعرفته أن التجربة لن تفضي إلا لذلك الشقاء بالنسبة للراشد الذي يحمل قلقه من جهة وماضيه من جهة أخرى. وعلى أية حال كان هناك ما يشغله كفضول روائي أن يكشف عن ملابسات شخصياته وعقديتها ومن ثم مصائرها المثقلة بالانكسار وحتى الفواجع بالموت.

وشاح الشخصيات
في هذا المبحث نرى أن شخصيات شاكر اتسمت بالتلقائية لكنه عرف مبكرا أن خلف تلك البساطة تختفي اسباب انتوى بأدواته المهجرية سبرها كونه مّر بذات التجربة مع الاختلاف قوله: «قصــة العائلة لا تختلــف عــن التجربـة التـي مـررت بهـا أنا، الاختـلاف في التفاصيـل لكـن الجوهــر واحــد»، ليلاحقها بذات اليسر التي تميزت به حركتهم. فما أن يلتقي عائلة سام حتى تسلم الأسرة مفاتيحها لسائح مهاجر عند نصب الماء (تمثال المعرفة) مع استرجاعات معرفية للكتاب عن أسباب الوجود الإنساني والتساؤلات المضنية وقت وحدته وتأملاته المدينة بنصبها والقـوارب الراســية، وأشجار التــلال العاليــة وخرير المياه والكثير من مشاهداته التي شكلت على مدار وجوده المهجري شخصية مرافقة له تعنى بمراجعة جزئيات حياته بماضيها عموما. بمجموعها وحضورها تشكل هضبية للنص plateaus سننتظر بعدها رشقة أخرى من السرد التفاعلي لأحداث الرواية.
لكن ما شاغله لكشف وشاح الشخصيات بات ينظم لفضوله أسباب أخرى حفزها ذلك النوع من المعارف التي تستحث وتغري عقلك الداخلي على مدار حياتك كأسئلة لم ننتظر لها جوابا إنما هي فعل لا إرادي لتلتقط منها بعض الأجوبة. ومع هذا الفيض التساؤلي للكاتب يبدأ بفك الالتحام قوله: «لـن يكـون الشـخص نفسـه بعـد مغـادرة المـرء للوطـن». ولذلك، وتدريجيا، تصبح الحياة من دون هوامش إضافية ماضوية. أما تحايلك على كشف لثام الشخصيات تصبح خطوة لا معنى لها فالكل سيعرب عنها لسبب او لغيره بنقر طفيف. انهم الآن جميعا، نحن أيضا، أمام مراضاة جعلت من سام بطل رواية شاكر ومرافقيه، مقاسمةً، ان يصبحوا في وضع لن يسمح لهم بالتخلي عن حريتهم حتى وان قادتهم الى مصير محتوم. سرد سام للكاتب قصته، على مراحل، يبدو كمن يتخلص من عبء ثقيل، بعضها لهاثا فيزيائيا في سيره، متنقلا بين الشام ومصر وتركيا متخذا فيها من آلته الموسيقية مصدر عيش شحيح. فيما أسدى الى كل من نبال، وصديقه مرتضى الرسام حالة التشاؤم؛ نبال، المطلقة وثلاثة أبناء بصحبة زوجها -اسـتعجل والداهـا تزويجهـا للخـلاص مـن همّ البنـات كـما كان أبوها يــردد. فلم تجد في حياتها ما يوفر لها غير سأم مضاف تدخن السكائر وتنفث حياتها من خلال رئتيها حتى موتها متأثرة بذلك. وفي إفصاحها المثير عن رحلتها تقول بتلخيص للكاتب كـ: «مناجـاة طويلـة مـع أبنائها. تحاورهـم، تضحـك معهـم، تحاججهـم حـول قرارهـا بهجــرة البلــد، تعدهــم بمســتقبل أفضل فيــما لــو وصلــت الى أوروبا» مع حلم لم شملهم.
مثلما مرتضى صديقه الفنان الذي التقاه وتعرف إليه في "صالة الأتاسي" في دمشق، يعبّر عن ذلك بالرسم وكأنه يضع خطوة بالاتجاه الذي سينهي حياته مع كل لوحة يرسمها: «توصلــت إلى أن الحكمــة مــن وجــودي اليــوم هــو الاســتقرار، وربــما المــوت بهــدوء في هــذه الأرض. والأرض متشــابهة عندما يموت الإنسان». سبقه صديقه نصير الذي آثر الرجوع الى بلده، بعد هجرة طويلة امتدت لخمسـة وعشريـن عامـًا، وهو مؤمن أن لا حياة تنتظره هناك «فقتل على طريق محمد القاسم في بغداد». وضع الكاتب في نصير شخصية المتحدي والمؤمن بالنظرية ومن ثم نقلة دراماتيكية لا فائدة ترتجى منها وهو يعرف مسبقا ان حياته لن تؤول الى أكثر من رقم، وربما بلا رقم لكثرة المقتولين. «اعلــم أننــي قــد أكون هدفاً لقتلـة لا أعرفهـم ولا أظنهـم يبغـون ثأراً شـخصي» مع إنصات داخلي لإنهاء هجرته، فلم تورثه الغربة غير السأم مؤثرا العودة على البقاء في دوامة الأسئلة الضاغطة.
أما لميس زوجة سام عازف الكيتار الذي أمن سلامة العائلة فقد انطوى وشاحها على أكثر من ردة فعل لحالة الاسترخاء والحرية وها هي «تتـوق إلى تأكيد ذاتهـا في بيئتها الجديـدة» و«باحثــة عــن مغامــرة غــير منتظــرة» بإضافة سبب آخر يتعلق بفارق العمر. وهي صورة حال عن الكثير جدا من قصص اللاجئين وهم يقعون تحت التأثير الشكلي للمكان الجديد، خصوصا بضمان حرية المرأة التي لا يخلو دعمها بسبب الاستهلاك الاستدامي لمجتمعات الغرب بالتشجيع المفرط على الانفصال والطلاق.

قصص ونساء
هنا تختفي القصص لدى شاكر فيما يبقي على مؤثراتها وما سينجم عنها ملحقا ذلك بأسباب الهجرة السورية على وجه التحديد وكيف تتحول الحياة في المهجر الى رماد مثلما تحولها الى جحيم في الوطن. أما أوشحة الوجوه فقد انتهت الى ما قال عنها «وجدتني كما لو اجلس وسط أشباح تطل من الماضي البعيد».
أما قصة العائلة مع أماكن الهجرة وقصصها وبالرغم من قساوتها وكفاح سام ونبال تحديدا فقد أصبحت أصداء يرجع لها الكاتب إرضاءً لفضول القارئ حسب، فمهما بلغت من حيفها فأن هناك آلاف القصص التي ستتفوق عليها بمغامرتها وتراجيديتها. ومع ذلك غذاها الكاتب من زاوية نفسية كمفصل اعتمده على مدار روايته بتعشيق مثير للحدث حتى يُتم قوله عن اضطراب اللاجئ المهاجر وضياعه انه: «يتحــول بمــرور الزمــن إلى خليــة مشـدودة متوتـرة قابلـة للانفجار».

إن اشتغال شاكر على الحالة النفسية للمهاجر هو من أهم ميزات نصوصه عموما، ولكننا نرى في عمله هنا كمن يضع تلخيصات عن سعي مجتهد في عدد من الروايات، لا اقول عنها نهائية، ولكنها شافية بفتق حجاب صدرها لتصرخ. قصة نبال بتفاصيلها اعتمدها الكاتب لكشف ملابسات المرأة المهاجرة التي تنوي الخلاص. ولكن لا خلاص من دون أن تمر بمستويات بالغة العتمة. العمل العبودي والاستغلال البشري والجسدي الذي ينتهي غالبا الى الضياع والسقوط في مستنقع الدعارة. اشتغله شاكر على نحو رسائل مرسلة باحتراس من نبال وهي تسرد له قصتها، وعليه هو ذاته تقع مهمة الإبلاغ عنها إنسانيا وحضاريا إضافة الى عشرات الأصداء الخفية التي جعلت منه إنسانا يندفع بمجساته المعرفية ليقول ما عنده عن خصوبة الألم وحتى الموت كمتحف للأحياء. عليه أن يروي ويفك عقد ما لم تقله نبال صراحة، وهذا بوح مؤجل لأية امرأة شرقية، ولعل هذا ما يبحث عنه الكاتب لتأجيج النار في خطابه، لكن كان لشاكر شكلا آخرا في التعامل مع تلك الفراغات. فهل عليها، نبال، أن تقول أكثر من إنها بعثت له برسائل مشفرة؟ هل عليها ان تكشف له عن جسدها المطعون بضربات الفحولة؟ هل عليها أن تخبره أن سبل اضطرارها لجمع المال من اجل سعادة أبنائها؟ وهكذا العشرات من الأسئلة المحصنة بالنوازع الوحشية وبخس المرأة مع صراخ المآذن في تلك البلدان. مع اننا نلاحظ هنا في قصة نبال كشفا مثيرا بأن من ساعدها في رحلتها هم من النساء اللاتي التقتهم في معسكرات الهجرة من النشطاء الإنسانيين، وبهذا يظهر تفوقا وربما انحيازا واضحا لشاكر كمحاباة وإنصاف للنساء وتحسسهن لمشاكل وهموم المرأة التي تنوي تغيير حياتها، ذلك ان تخطيها لأصعب مراحل الهجرة جاء في هذا السياق.

إن السلعة التي قايض بها الكاتب البوح المعلن لم تأت على نحو معلومات وأحداث كجرم مشهود، انما سلعة استلها من نبال نفسها «قطعــة جحيــم لكنهــا لم تجرهـا عـلى الالتفـات إلى الخلـف أبـدا». والسؤال كيف ستلتفت الى عذاباتها؟ ففي وقت يكون فيه كل شيء خاضع للمساومة والمقايضة، فلِمَ يكون جسدها الانثوي مستثنى من ذلك؟ هذا الأمر جعل الكاتب يغيّر قليلا من خطته الكتابية ورسمه التخطيطي، ذلك أن ما سيسرده يقع خارج المنظومة العامة من الإرشادات المعتمدة. آثر أن يلاحق الحدث بمعنى الإنصات على نحو لا تعنيه ما اسماه (مجهريته) نسبة لدقة المجهر برؤية التفاصيل انما برؤية قال عنها وكأنه يكشف سر لعبته مع النص قوله: «وهنـاك الرؤيـة التلسـكوبية التـي لا تعــير كثــير أهمية للتفاصيــل، بــل تخفــي، وتختصــر، وتكثّــف الأحـداث في الزمـان والمـكان».
إذن ليس لدى شاكر ما يخفيه ليواجهنا به لاحقا كفوز بلعبة ابتكارية فنية لحدث مفاجئ. فهو يلعب لعبته الكتابية على وفق من الانسجام التام مع التفضيل، ذلك لسبب أن هذه التقنية ستفرد له مساحة من القول معرفيا، فله أن يعلن عن استحقاقات أفكار تكدست في بطانة عقله الداخلي بدءا من تمثال المعرفة الذي هو أول ما رآه في المدينة ليستحثه على التساؤل وصولا الى عقد الشخصيات التي تطلبت مستوى آخر من النظر.
أظن هنا أن شاكر اصطدم بارتدادات نصه في واقع الكتابة لكنه لم يمتثل للتوسع الذي سيضر بالبناء الذي اعتمده. وعموما اشتغل كما أسلفنا على نحو تكفيه اشاراته فهي ضافية، ليحتفظ بسيطرته على نصه. بما في ذلك رواية لميس لقصة هجرتها، وهي تجربة لا بد لها ان تحصل كمرافقة لزوجها في محطات اللجوء او لنقل محطاته قبل الوصول الى لوفان.
الحقَ شاكر بهذا المبنى رسوم صديقه مرتضى. ففي معاينته له بعد حين مقارنا بين حجم المتغيرات الصامتة والصادمة لصديقه وبين منتجه التشكيلي، راح يؤول مناخ لوحاته عن المرأة الى ضياع نبال. فهي كما يبدو شغلت بشخصيتها وقصتها الكاتب فاستحثه أمرها ليرى وجوه شخصيتها بكل المرامي الصعبة عن بدايات الهجرة والتحولات، وعن أهوال ركوب البحر وإلاهه الغاضب يوسيدون بلوحة واحدة لصديقه الرسام مرتضى في أول الأمر ثم الى عدد من اللوحات.

الكاتب الراوي
أما نفسه الكاتب الراوي فقد منحه حق التداعي، بل الكثير الذي يقع خارج النص خصوصا حينما تلهمه تلك التداعيات استرجاعات راحت تقدح في ذهنه، بعد رشد التجربة، لتتحول الى أسئلة واستغراق وتأمل، يقول عنها: «ظلــت تتوالــد، وتنمــو، وتندغــم، طــوال أزمان لا تحســب بالســنين، بل بمقــدار الألم الــذي جلبتــه إلى الضمائر» ثم يتساءل: «هــل كان ذلــك حــدس بمغامــرة قادمــة سأعيشها»؟ حتى نجد في استطراداته المتخلية والكابوسية نوعا من تشيئ مستقبل شخصياته وخلق مصائر لهم غارقة بالعتمة، ذلك لشدة صدق تجربة الكاتب وعمق أسئلته.
من جانب آخر نستطيع القول إن شاكر اعتمد على ثلاثة مستويات في روايته هي: أبطال الرواية بواقعيتها، ثم هو ذاته كمهاجر/لاجئ وثالثها ذهنية متقدة أهلته لسياقات مهمة في روايته. وحال اندماجها بين واقع وكابوس تنضج ثمار شاكر لتنز عن قطرات الوجع الإنساني فلا يخفي مشاغلة عقله بحوار لذاته: «هنـاك كثـير مـن الفنانـن، والكتـاب، والمصلحيـن، بـل حتـى العباقـرة، يصلـون إلى زاويـة ميتـة مثـل هـذه. اللاجدوى. الفـراغ. اليأس».

ومن الآن اعتبارا من ربع الكتاب الأخير سيقوم الكاتب بمراجعة ما كتبه على نحو معشق بمعرفية عن الجدوى عموما وكل ما تمخض عن الرحلة على نحو خاص، بما فيها معالم المدينة التي رآها هذه المرة بعين صديقه الرسام، مع تشغيل لمستوى آخر عن حياة مرتضى الخاصة وهروبه من الحرب في بلاده، وهو المتخرج حديثا من كلية الفنون ليرسم «جثــث وأشلاء وأسـلاك شائكة»، لينتهي بلوفان كرسام لحرية المرأة لدرجة تماهيه مع درجة اضطهادها. فيما كان لاستعادة قصة صديقهما المشترك مرتضى بتفاصيلها (الوطنية) بعد عودته الى بلده نقطة الشد والتوتر لفتح سلة آلام البلاد واتجاهها نحو المجهول برغم كل الآمال التي عقدها المتنورون أمثال نصير المسكون بهاجس الوطن والثقافة. وهذا ما حفز شاكر ان يعلن عن وجدانه وشخصيته بفصل مثير وغاضب أيضا. وهذا ما ولـّد لدى الكاتب عددا من الأسئلة الجديدة وهي تنتمي بمجملها الى معرفية جديدة أيضا ربما ستقوده الى رواية جديدة.

أما أسئلة المنفى الجديدة من جهة أخرى فقد وضع تفضيلاتها على لسان سام وكأنه لم يسمعها الا هذه اللحظة متأثرا ليس بالأحداث حسب فهي كثيرة لحد الشبع، ولكن جرسها كان مدويا عن رحلة عذاب السوريين المهاجرين بصوت سام الذي ركب الأهوال لينجو من اجل عائلته. نعم نجا سام وتم لم شمل أسرته، غير أن نزف الكاتب لن ينتهي بانتهاء المشهد والركون الى مصائر جديدة. بين مزدوجين (...) عليّ أن أبيّن للقارئ إنني استخدم كلمة (كاتب) مرة وأخرى (شاكر) و(الراوي) أحيانا تمييزا للحالة المعاشة وطريقة سرد الكاتب.
هنا آثر الكاتب على استعادة أو استكمال قصص أبطاله بعد نضوج النص معشقا إياه برؤيته الذاتية لتجاربهم وكأن كلا منهم مشروع مصمم لنهاية محزنة سلفا مع غياب أحلامهم في بلاد الحرية التي لم يستطيعوا التآلف معها متخذا من صديقه نصير وهجرته المعاكسة لوطنه قناعة أكيدة بأن لا جدوى حتى من التغيير الذي طال بلاده، وما مشاريعه الثقافية إلا محض حلم سيؤدي الى موته أو اغتياله هناك في بلده الأم. مشروعه في إقامة صرح (برج الثقافة) عن رموز الثقافة العراقية الذين قضوا حيواتهم في المهجر وماتوا هناك سيكون مسمارا أبديا في نعش الوطن. فيما تستمر الرحلات المعاكسة للمهاجرين «فهنـاك مـن يهجـر بلـده مثـل لميـس ونبـال وسـام (وشاكر)، وهنـاك مـن يعـود إليه كحالـة نصـير». فيما يكون مآل الأوطان واحدا وما وجود البشر على أرضه سوى محض أحجار يحركها واقع عبثي المظهر ممسوك من رقبته جاهز للذبح! ولكن من قبل من؟
وهكذا يشتد وقع الأسئلة على الكاتب فيلازمه لآخر صفحات كتابه. ففي وقت تكون فيه الشعوب، خصوصا بلدان المهجر، مشغولة بالرفاه يخترق قول شاكر الراوي والكاتب قلب الحقيقة إن: (شــعوبنا، مــا زالــت تحلــم بالاســتقرار والأمـان. كـم دفعـت مـن الضحايـا؟ وكـم وأدت مـن أحلام؟ كم فرّقت علاقات حب وزواج وصداقة؟ ونخلة يتيمة في بيت مرتضى جعلت تشاغله كأثر لوطن يغيب، بل أوطان تغيب «نخلـة تقضـي حياتهـا في تربـة غريبـة»!

ومع ختام الكاتب لهذه الرحلة بقصيدة لكفافيس مثلما بدأها بنص شعري آخر من ملحمة كلكامش يكون شاكر قد أرقته الهجرة والهجرة المعاكسة والبحث ليس عن وطن، بل عن سراب وطن! وما الأرض سوى كرة تدور، ولكن للأسف تتقاذفها أمواج إله البحر الغاضب بوسيدون كما في ملحمة الإلياذة لهوميروس وبطلها أوديسيوس/أوليس الذي أغاض إله البحر فعاقبه في رحلة عودته الى إيثاكا وما زالت زوجته بينيلوب تنتظره منذ عشرين عاماً. والسؤال هو ذلك التحدي لإله البحر الغاضب، فهل سيستطيع الأنسان الانتصار؟ ذلك هو سؤال الماضي والحاضر والمستقبل، بل سؤال عذاباته وثمن تحديه.
انتهت رواية شاكر كصفحات، ولكنها لم تنتهِ كاستثمار للألم وحتمية الخسارات، وحتى الانتصارات البسيطة ستكون معلقة على مشجب الألبسة التي لبسها المهاجرون اللاجئون في رحلة مضنية وخسارة فادحة للأوطان. فيما ستكون الروح لائبة باشتياقٍ صُدمنا به جميعا حينما عدنا فرأينا الخراب فحزمنا أمتعتنا مجددا بنجوى مُرة لرياح بوسيدون إله البحر الغاضب لتحدي الإنسان. مع حكمة مغايرة لكافيس تقول:
إذا ما شددت الرحال إلى إيثاكا فلتتمنّ أن يكون الطريق طويلاً حافلاً بالمغامرات، مليئاً بالمعارف. لا تخش الغيلان والمردة وإله البحر الغاضب، فإنك لن تلقاها في طريقك ما دام فكرك سامياً، والعاطفة الخالصة تقود روحك وجسدك. لن تقابل الغيلان والمردة وإله البحر الغاضب ما لم تكن قد جلبتها معك في أعماقك، وما لم تكن روحك قد أقامتها أمامك (...) لتكن إيتاكا في فكرك دائماً والوصول إليها مقصدك.



#هاشم_مطر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- - اليوم بالذات لسنا بحاجة لنيرانك- / الأثيري والأرضي في مجمو ...
- العتابي وتحولات المكان -هل الفُل عراقي-؟ نعم (الحزن) عراقي و ...
- خليل - خالد * -وأمانه يا دنيا أمانه تاخذينه للفرح أمانه..-
- عتاق يوم آخر
- - الهند أم العجائب- في عيد الحب
- كيف اكتب بعد غياب!
- بصرة - اورشليم
- -من ذاكرة الصور- صبا مطر بين حربين
- اشتقاقات الغياب - قراءة شعرية في نصوص محدثة
- كوپه-ديناري
- حبيبا الساحةِ
- -قافل-
- -شو بدي بالبلاد الله يخلي لأولاد-
- لنْ نخذلكَ في الخامسِ والعشرين
- سنغنيكَ لأنك غيرتَ العالمَ! حبيبي...
- وشمٌ على خصرِكَ أيلول - الى وليد وإبراهيم وكلِّهم
- هوية / سبع دقائق قبل الموت
- بطنها المأوى / دنى غالي: التركيب الخاص والسلوك الظاهر
- عادل مراد/ موقف انساني باسل «شيء يشبه الحكايات»
- عبد الحليم المدني، سيرة في سيرة السيد عبد الكريم المدني


المزيد.....




- الجزائر.. قضية الفنانة جميلة وسلاح -المادة 87 مكرر-
- بمشاركة قطرية.. افتتاح منتدى BRICS+ Fashion Summit الدولي لل ...
- معرض الرياض للكتاب يناقش إشكالات المؤلفين وهمومهم
- الرئيس الايراني: نأمل ان نشهد تعزيز العلاقات الثقافية والسيا ...
- -الآداب المرتحلة- في الرباط بمشاركة 40 كاتبا من 16 دولة
- جوامع الجزائر.. فن معماري وإرث ديني خالد
- -قيامة ليّام تقترب-.. الصور الأولى من الفيلم السعودي -هوبال- ...
- الدوحة.. إسدال الستار على ملتقى السرد الخليجي الخامس وتكريم ...
- فنانون عرب يطلقون مبادرات لدعم اللبنانيين المتضررين من العدو ...
- عمرو دياب يعلن اعتزال الغناء في الأفراح بعد أشهر من واقعة -ا ...


المزيد.....

- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري
- هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ / آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
- توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ / وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
- مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي ... / د. ياسر جابر الجمال
- الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال ... / إيـــمـــان جــبــــــارى
- ظروف استثنائية / عبد الباقي يوسف
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل ... / رانيا سحنون - بسمة زريق


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - -أموات في متحف الأحياء-.. ضياع -أثيكا- أم ضياع الإنسان