|
امرأة من ذلك الزمان .. ! ( قصة قصيرة )
جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 8116 - 2024 / 9 / 30 - 10:54
المحور:
الادب والفن
فُتح الباب ودلفت منه امرأة جميلة ترتدي ثوباً أسوداً محتشماً أضفى عليها رغم صغر سنها طابعاً خاصاً من الهيبة والوقار .. سرت همهمات خافتة بين الحضور ، وما إن لمحها والد العريس حتى انتفض من مقعده واقفاً .. معلقاً على شفتيه ابتسامة واسعة ، ثم أقبل مرحباً بها بالإسم : — مدام بشرى .. أهلا وسهلا يا له من شرف عظيم أن تحضري عرس ولدنا .. تفضلي تفضلي .. فسح لها مجالاً مع انحناءة قصيرة لأن تجلس في صدر المائدة مع بقية أفراد الأسرة .. وما إن جلست حتى خف بعض النسوة لملاقاتها بالعناق والقُبل ، وهن يتفرسن في وجهها بأفواه فاغرة مفتونات بجمالها وأناقتها .. ألهب هذا المشهد فضول سيدتين تجلسان على مائدة مجاورة .. تسائلت هناء ، وهي تلكز صديقتها .. — كريمة .. من تكون هذه السيدة حتى تحظى بهذا الإستقبال الشرفي الحار .. ؟ استغربت كريمة السؤال وقالت : — غريبة .. ألا تعرفينها .. ؟ — ليس بالضبط .. كأني رأيتها في مكان ما .. — أَتذكرين بيت أبو يوسف .. ذلك الكوخ المتهالك المنسي بمحاذاة النهر .. ؟ — طبعاً أذكره .. ماله .. ؟ —- انها ( بهية ) ابنته الصغرى .. وأجمل بناته .. غمغمت هناء مذهولة كأنها تذكرت : — أحقيقة هذه أم خيال أن ما أراه أمامي الآن ليس سوى بهية .. الطفلة الصغيرة التي ياما رأيتها تلعب في الزقاق .. كيف حدث أن تحولت من طفلة رثة الثياب شعثاء الشعر ذابلة الوجه الى هذه الأيقونة الرائعة .. ؟! بعد برهة صمت تعود وتسأل : — طيب .. وما سر هذا التهافت عليها من نساء الحي .. ؟ — رغم ثرائها وثراء زوجها الفاحش وسطوته لم تتعالى على أحد بل كان بيتها مفتوحا لكل ذي حاجة من أهل الحي . كانت متمسكة بجذورها كتمسك الغصن بالجذر ، وما تلبيتها لدعوة العرس هذه لخير دليل على ذلك .. — كلي لهفة لسماع حكاية بهية .. تفضلي أرجوك قبل أن يبدأ الحفل .. بدأت كريمة بسرد حكاية بهية : — أسقطها القدر يوماً في طريق الباشا .. صبيةً جميلة رغم الشحوب .. تتفجر أنوثةً وحيوية .. مالت نفسه اليها ، فأرسل من يطلبها من والدها .. امتعض الأب في البداية ، ففارق السن شاسع بينهما ، لكن المغريات التي قدمها مبعوث الباشا لا يمكن لعاقل في مثل ظروف أبي يوسف أن يرفضها ، فبالاضافة الى المهر العالي والفيلا والسيارة مع سائقها ، أدخل اسم ابنه يوسف في بعثة الضباط البحريين الى انجلترا ، وعيّن أختها الكبرى خريجة الإبتدائية ممرضة ، وأسكنهم في بيت من بيوته ، ولم يعجبه اسمها فغيره الى بشرى .. كأن القدر قد هيأه لهم لينتشلهم من الفاقة التي هم فيها ، فولّت أيام الفقر الكئيبة دون رجعة .. ! عاشت بهية أو بشرى بعد الزواج في رغد .. وجدت من الهناء وثراء الحياة في عالمها الجديد ما أنساها مرارة السنين العجاف ، فنعِمت بالغذاء الجيد والكِساء الفاخر ، فأزدهر جمالها وأينع ، وتحولت الى وردة في باكورة تفتحها .. هام بها الباشا ، وأنزلها منزلة الزوجة الأثيرة .. لكن ما جمّعه الفقر فرّقه الغِنى .. تجهم فجأةً وجه الحياة ، وبدأ تيارها يأخذ مساراً آخر مختلف .. تبددت الأفراح كما تتبدد الفقاعة في الهواء ، وحلت مكانها المآسي واللوعات ، وكانت البداية بهروب شقيقتها الوسطى مع عشيقها مخافة أن يزوجها أبوها من كهل ثري كما فعل مع بهية ، وكانت فضيحة ضجّ بها سكان الحي ، وترددت حينها الشائعات ملطخةً اسم الفتاة وأسرتها .. ألم تسمعي بها ؟ — ربما سمعت .. لكني لا أهتم عادةً لمثل هذا اللغط .. — أما شقيقها يوسف ، فلم يرجع إلى الوطن بعد انتهاء فترة البعثة .. تزوج من انجليزية وتجنس بجنسيتها ، وبقي هناك الى يومنا هذا .. أُلزم الباشا باعتباره الكفيل على دفع ما خسرته الدولة عليه من مصاريف .. تصوري .. حتى بعد أن أبرقوا له بوفاة والدته بمرض الربو الذي لازمها طوال حياتها التعيسة الى أن أسلمها الى القبر .. لم يحضر جنازتها .. كأنه اقتلع جذوره وأرسلها عميقاً في أرض الإنجليز .. لكنّ الأكثر إيلاما ما حدث لشقيقها الأصغر ، وهو شاب دون العشرين .. كان كشاة ضلت طريقها ، فالأموال التي أخذت تتدفق عليه من شقيقته قد أفسدته ، وجعلته يوغل في السكر والعربدة ، وتحول من شاب هاديء متزن الى عابث .. يخرج مساء ، ولا يعود إلا عند الفجر ثملاً يتعثر في خطواته .. وذات ليلة تورط في شجار عنيف في أحد الملاهي ، فاجتمع عليه ثلةً من الأوغاد .. ألقوه أرضاً وراحوا يكيلون له الضربات والركلات حتى كاد أن يهلك بين أيديهم ، وحينما عاد الى البيت تدهورت حالته .. كل ما كان يأكله يقذفه .. شخّص الاطباء حالته بالعجز شبه التام في عمل الكليتين ، وبمرور الأيام بدأ جسده ينكمش حتى أصبح بحجم طفل . كان والده يحمله كما كان يحمله حين كان طفلاً صغيراً .. امتص المرض منه تدريجياً ماء الحياة حتى أسلم آخر أنفاسه .. ! — آسفة .. شيء محزن حقاً .. وماذا عن زوجها الباشا .. ؟ — لقد كان شيخاً طاعناً أنهكته السمنة .. قبل أشهر لا أعرف بالضبط هوى فجأةً على الأرض ، وهو في طريقه الى مكتبه وفارق الحياة بالسكتة ، وبعد مشاكل مع أولاده أخذت بشرى حصتها من التركة أموالا وعقارات وأطيان تغنيها مدى الحياة وتزيد .. وهي كما ترين لا تزال حسناء في نظارة العمر رغم مسحة الحزن التي تكسو وجهها .. يقولون كانت تردد نادبةً حياتها : — لم يبقى شيء لم يحدث لنا .. كيف أصبحنا فجأةً ضائعين .. مشتتين .. يتربص بنا الموت في أحب الناس الينا .. وتفرقنا المسافات .. ! ثم يرتج جسدها في نوبة من البكاء .. قالت هناء منهيةً الحديث : — أتصور .. بعد تلاشي شخصية بهية الفقيرة المنكسرة الى الأبد ، وإحلال شخصية بشرى الثرية القوية محلها .. لا أعتقد بأنها - إن أرادت إعادة تجربة الزواج - أن تتنازل وتقبل بأقل من مستوى حياتها الحالية .. — مؤكد .. أتفق معكِ .. من يعتاد على الحياة الباذخة المنعمة ويدمنها يصعب عليه أن يقتنع بأقل منها .. ثم بدأت الحركة تدب في القاعة .. عُزفت الموسيقى ، واشتد الصخب وأصبح الجو حاراً خانقاً ، لم تمر سوى نصف ساعة حتى راحت بشرى تتململ في مقعدها .. نظرت إلى ساعتها .. فتحت حافظة نقودها ، وأخرجت منها مظروفاً صغيراً .. تبسمت .. أعطته لوالد العريس .. هبَّت واقفة .. شدّت قامتها وأصلحت من هيئتها ، ثم استأذنت وأنصرفت محاطةً بنفس الحفاوة التي أستُقبلت بها .. ظلت السيدتان تتبعانها بنظرات متفحصة مسحورات بالتغيير الهائل الذي حدث لها .. إلى أن توارت وراء الباب . ( تمت )
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خرجتْ ولم تعد .. ! ( قصة قصيرة )
-
المخاض .. ! ( قصة قصيرة )
-
لعنة الموبايل .. ! ( قصة قصيرة )
-
المال حين يتكلم .. ! ( قصة قصيرة )
-
سرّي الدفين .. ! ( قصة قصيرة )
-
هَمْ البنات للممات .. ! ( قصة قصيرة )
-
راشيل .. ! ( قصة قصيرة )
-
يد القدر الثقيلة .. ! ( قصة قصيرة )
-
عامل الزمن .. ! ( قصة قصيرة )
-
لا حياة مع زوج خائن .. ! ( قصة قصيرة )
-
في حياتنا رجل .. ! ( قصة قصيرة )
-
رغبات مكبوتة .. ! ( قصة قصيرة )
-
شجاعة نسوان أيام زمان .. ! ( قصة قصيرة )
-
أنا .. وأمي الخائنة .. ! ( قصة قصيرة )
-
لعنة عناق .. ! ( قصة قصيرة )
-
نحن مسلمون .. ! ( قصة قصيرة )
-
البحث عن مكان في الحياة .. ! ( قصة قصيرة )
-
عودة الغائب .. ! ( قصة قصيرة )
-
راوية .. ! ( قصة قصيرة )
-
دردشة على عَتبة الدار .. ! ( قصة قصيرة )
المزيد.....
-
الفنان جمال سليمان يوجه دعوة للسوريين ويعلق على أنباء نيته ا
...
-
الأمم المتحدة: نطالب الدول بعدم التعاطي مع الروايات الإسرائي
...
-
-تسجيلات- بولص آدم.. تاريخ جيل عراقي بين مدينتين
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
السكك الحديدية الأوكرانية تزيل اللغة الروسية من تذاكر القطار
...
-
مهرجان -بين ثقافتين- .. انعكاس لجلسة محمد بن سلمان والسوداني
...
-
تردد قناة عمو يزيد الجديد 2025 بعد اخر تحديث من ادارة القناة
...
-
“Siyah Kalp“ مسلسل قلب اسود الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة
...
-
اللسان والإنسان.. دعوة لتيسير تعلم العربية عبر الذكاء الاصطن
...
-
والت ديزني... قصة مبدع أحبه أطفال العالم
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|