|
الإبداع الشعري بين مساءلة الذات والمدى الرمزي
نورالدين الشريف الحراق
الحوار المتمدن-العدد: 1776 - 2006 / 12 / 26 - 09:08
المحور:
الادب والفن
في غضون قراءتي الأولية للنصوص الشعرية الواردة في دواوين «الجبل الأخضر» (مارس 1999) و«مرتيليات» (يوليوز 1999) و«النور» (غشت 1999) للشاعر والأستاذ المغربي أحمد هاشم الريسوني، منذ سنوات، اجتاحني زخم هائل من الانطباعات ومن الأسئلة ومن التداعيات غمرتني بنوع من الأرق الممتع الممزوج بالخلخلة اللطيفة. ولقد تشكلت في ذهني حينها، على المستوى الانفعالي والإدراكي، مجموعة من التمثلات حول احتمالاتها الدلالية، سرعان ما اتخذت شكل افتراضات حاولت الاستعانة بها حميميا للولوج إلى عالمها المشع بفرادته. ولما شرعت في الإعداد لقراءة نقدية لها، بعد مدة، بهدف الاحتفاء بمبدعها وتكريمه بمناسبة اليوم العالمي للشعر، تملكني في نفس الآن إحساس متناقض يمتزج فيه الشعور بالحماس والتهيب من طبيعة المغامرة، على اعتبار الكثافة التعبيرية والأسلوبية لتلك النصوص وغزارتها المدلولية وتعدد إحالاتها الجمالية. والحالة هاته، فقد باشرت نوعا من الاختزال المنهجي، في سبيل التأسيس لقراءة متماسكة بنيويا في خضم الإشعاعات الدلالية الوفيرة المتناثرة بين دفتي الدواوين الثلاثة، والحاملة لإمكانيات التحليل والتأويل، من زوايا عديدة، وفي إطار مختلف المشارب والاتجاهات النقدية. ولقد تبين لي منذ المراحل الأولى من محطات القراءة، وفق هذا المنظور الجديد، أن الحمولة الشعرية لتلك النصوص يستعصي التحاور معها وسبر مسالكها الدلالية، على أساس الاستهلاك المتسرع، وإنما يتعين مقاربتها على ضوء معايير مفاهيمية مضبوطة تدخل في إطار ما يقترحه المشروع النقدي لنظرية التلقي بحكم مساءلته لإشكالية المعنى باعتبارها عملية جدلية بين المبدع والمتلقي تباشَر على مستوى فينومولوجي صرف، في فعل القراءة ذاته. وبالاستناد إلى آليات الزمن المنطقي لفعل القراءة المتمعنة، في تلك النصوص الشعرية، حاولت « عدم استباق الزمن من أجل الفهم على لحظة النظر، وبالأحرى عدم استباق لحظة الاستخلاص على الزمن من أجل الفهم »، إلا أن تشكلت لدي تدريجيا، وبشكل حدسي، عناصر الموقع المفترض لاستقراء المعنى. وانطلاقا من ذلك الاستشعار الأولي للإمكانات الدلالية في تلك النصوص، باعتباره نقطة إرساء أولية، استطردت في محاصرة الشظايا المتولدة عن تدفقاتها الخامة إلى أن تبينت لي نجاعة المنظور اللاكاني في مقاربة ذلك الخطاب الحلُمي الذي تُباشِر من خلاله الذات مسرحة لغوية لسينوغرافيا استيهامية شديدة التعقيد تروم تحقيق الرغبة في موضوع مفقود. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مسارنا التحليلي يستثمر التفسير البنيوي في حقل الدراسات اللسانية والسيميائية ويروم إخراح النص الشعري من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، في أبعاده الدلالية والجمالية والرمزية، ضمن انسجام تأويلي بالإمكان اعتباره بمثابة تحقق إجرائي للإمكانيات الدلالية في تلك النصوص الشعرية. وبإمكاني القول إن ذلك المتن الشعري المرتبط بإشكالية الذات وملابسات كينونتها، قد فرض علي، منذ البداية، مسارا تأويليا أنطولوجيا ، ضمن توضيب سيميوطيقي، تتشكل معالمه الأساسية من ثلاث بؤر دلالية محورية ركزت عليها تطبيقيا، على اعتبار أنها تتقاطع فيما بينها وتتكامل، على مستوى الآليات الاستعارية والكنائية المشتغلة فيها، لتشكل شبكة السيميوزيس المستقرأة بين ثنايا تمفصلها الخطي، وهي على التوالي : الحقل الدلالي للقول / الحقل الدلالي للجرح / الحقل الدلالي للسفر. تنتظم الشبكة الدلالية، في الوحدات المعتبرة، عند مستوى الانتقاء المعجمي للمحور التعاقبي / التركيبي - التعبيري (محور اللغة)، عبر العديد من البدائل الكنائية التي يستند تسلسلها المنطقي إلى علاقة التجاور. وتتوزع تلك البدائل الكنائية بدورها، عند المستوى الترتيبي للمحور التزامني / الاستبدالي (محور الكلام)، في نسق تكثيف استعاري يستند إلى شبكة من التماثل تشكل تداعيات الذات بؤرتها. وتتمظهر تلك التكثيفات الاستعارية مدلوليا، في تلك الوحدات، حسب التيمات التالية : الجسد / الكون / الآخر. ومن الملاحظ أن تلك البدائل الكنائية ترتبط دلاليا، عبر التجاور والإبدال، مع تلك التيمات الاستعارية الثلاث، على نمط علاقة الجزء بالكل، لدرجة يصير معها بالإمكان القيام بفرز تناظري داخل حقولها المعجمية، لاستخراج جزيئاتها المتشظية، على اعتبار تمظهرها، عند مستوى المدلولات، في حالة تكثيف تماثلي مع التمظهرات العرَضية لإشكالية الذات مع كينونتها. لقد وقع اختياري على الحقول الدلالية للقول والجرح والسفر لكونها بمثابة أعراض استعارية لانشطار الذات، في الدواوين الثلاثة، ولخضوع حقيقة رغبتها الجذري لنسق الخطاب الذي يحدد بامتياز علاقة «الكائن الكلامي» الانسلابية بسلسلة الدوال (لاكان). فالذات الشاعرة ليس بإمكانها التكلم (الحقل الدلالي للقول)، في تلك النصوص، عن حقيقة كينونتها (الحقل الدلالي للجرح)، سوى لكونها مُقنَّعة حيال نفسها، في حقيقة رغبتها (الحقل الدلالي للسفر)، من خلال البعد اللغوي. كما أنني عمدت إلى مساءلة الإشكال الدلالي، في تلك النصوص الشعرية، بالإحالة إلى منظومة عناصر دالة مماثلة للعناصر الدالة للغة، على اعتبار أن مبدأ استكشاف حقيقة الذات مرتبط على الدوام بسلسلات من التداعيات التي لا تعدو أن تكون سوى سلسلات من الأفكار التي تردُّنا بإلحاح وبلا انقطاع إلى سلسلات من الكلام. وهو تدبير يروم إيجاد آليات تأويلية من شأنها إضفاء طابع نسقي على مجموع العناصر الدالة المعتبَرة، في التركيبة اللغوية، واستثمارها بغية توفير مفتاح الشفرة الكفيل بفك إرسالية الخطاب الشعري للذات في تلك النصوص. ومن هذه الزاوية، فإن رغبة الذات التي تُفرض عليها وساطة اللغة ليس لها من منفذ سوى أن تصير كلاما (القول/الجسد)، ويتعين عليها الاندراج على أرضية مواضيع استبدالية عن الموضوع المفقود (الجرح/الكون)، من خلال تمظهرها على شكل طلب(السفر/الآخر). إلا أن الرغبة، لما تصير طلبا، ليس بإمكانها سوى أن تُفتقد أكثر فأكثر في سلسلة دوال الخطاب لأنها لا تعدو أن تكون سوى انعكاسا لذاتها لما تصير لغة. وبالفعل، بالإمكان القول إن رغبة الذات، في تلك النصوص الشعرية، تحيل دائما، من نص لآخر، إلى سلسلة لا متناهية من البدائل، وتحيل في الوقت نفسه إلى سلسلة لا متناهية من الدوال التي تُرمِّز تلك المواضيع الاستبدالية. ومن ثم، فإن رغبة الذات تبقى دائما في حالة عدم إشباع من ضرورة صيرورتها كلاما. والحالة هاته، فإنها تتولد من جديد وبشكل مستمر، مع توالي النصوص الشعرية، لكونها دائما في حيز مفارق جوهريا للموضوع الذي ترومه أو للدال الذي من شأنه ترميز ذلك الموضوع. وبعبارة أخرى، فإن رغبة الذات، في تلك النصوص الشعرية، تسلك درب الكناية، عبر خطابها المنظوم (القول/الآخر) وتضطر إلى اعتبار الجزء (الجسد) محل الكل (الكون)، وتستمر في تعيين الرغبة في الكل (الموضوع المفقود/ الجرح)، عبر التعبير عن الرغبة في الجزء (الموضوع الاستبدالي/ السفر). وعليه، بالإمكان القول إن التركيبة السيميوطيقية للإمكانات الدلالية في النصوص الشعرية لدواوين «الجبل الأخضر» و«مارتيليات» و«النور»، للأستاذ الشاعر أحمد هاشم الريسوني، تندرج إبيستيمولوجيا ضمن ثالوث الواقع والمخيال والرمزية، على اعتبار أن إشكالياتها ذات طابع محايث بالقياس إلى صيرورتها. وإلى جانب هذا المحتوى الدلالي المرتبط بتداعيات الذات المبدعة، في تلك النصوص الشعرية، انتبهنا كذلك إلى أن المستو البويطيقي المخترق لسلسلاتها الدلالية، من خلال الصور الفنية والتركيبات الإيقاعية والصوتية، هو في حد ذاته منتج للأثر الجمالي. فعلى مستوى آليات اشتغال المجهود التساموي للكينونة المتشظية بين ثنايا تلك النصوص تصير البنى التعبيرية والأسلوبية ذات طابع إجرائي في تدعيم المعنى، على اعتبار أن مضامينها اللاوعية لا تعبأ بالمقولات المنطقية للأنساق الصورية، بقدر ما هي معنية بالاستمرار في البحث عن مخرج يزاوج بين لحظة الجنون وشطحات العرفان، عبر تفرد لغوي ينهل من معين الخصوصيات المحلية للثرات اللساني المشترك. وعند هذا المستوى تبين لي أن الإيطوس الخفي الذي باشر تأثيره الجمالي على كياني في غضون قراءتي الأولية لتلك النصوص الشعرية، منذ سنوات، وغمرني بذلك النوع من الأرق الممتع الممزوج بالخلخلة اللطيفة يحيل سيمنطيقيا إلى مرجعية اللوغوس بصيغتها الأفلوطينية، حيث ليس بإمكان الذات الإفلات من وهم الإنعكاس المتشظي للفيض النوراني في جواهر الكائنات المنغمسة في السبات العميق للكينونة سوى عبر استجماع شتات المعنى في الاتجاه المعاكس لانبثاق نور الخلق وضد التيار الجارف للتكثيف المتزايد للظلمات في أكوان المادة والإنصات لصدى قطع الفسيفساء المشكلة لشبكات الدلالة في نص العالم من خلال لغة الوجود. بمعنى أن الهيكلة الجمالية التي أفضيت إليها من خلال مساءلتي لآليات الاشتغال الدلالي في تلك النصوص الشعرية تحمل بعدا رمزيا له ارتباط وثيق بالحمولة المعرفية الباطنية والغنوصية للذات المبدعة، إذ تنفتح نصوصها الشعرية على الخبرات الوجودية للقارىء المشاكس الذي يتجاوز المدى الخطي لتداعياتها ويتماهى مع ذات المنطوق لامتلاك عناصر الشفرة المدلولية المتناثرة بين شبكات سلسلة الدوال. وعليه، فإنني من خلال مساري التأويلي للدواوين الثلاثة أكون قد استجمعت العناصر الأساسية من إرسالية خطابها الموجَّه لذات الرغبة التائهة في موضوع العالم ضمن إرهاصات التيقظ حيال مرسل اللوغوس في غضون أحلام إنسانية متصارعة مع إكراهات المادة ومستلهمة من قبسات الروح. وفي الأخير، لا يسعني إلا أن أتقدم بالتهاني الحارة للأستاذ الشاعر أحمد هاشم الريسوني بمناسبة اليوم العالمي للشعر متمنيا له التوفيق والنجاح والاستمرارية في مسيرته الإبداعية، لأنه حقا من طينة الشعراء الأفذاذ الذين ارتقوا إلى العالمية. فانغماسه في ملحمة التأمل الفرداني العميق منحه شهادة ميلاد من رحم مخاض التسامي على الشرط البشري، إذ ولد من جديد، عند الضفة الأخرى، حيث قيم العشيرة تتلاشى وحيث الارتباط بأخلاق الإنسانية، بصمت الفيلسوف. يقول الشاعر :
( سَلامًا أَيَّتُهَا الْعِيسُ، إِنِّي سَلِيلُ كِنَايَةٍ وَرَفِيقُ بَلاغَةِ رِيح )
#نورالدين_الشريف_الحراق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جدلية الديني والسياسي ... المغرب نموذجا
-
التصادم الإسلاموي / الليبيرالي أو المأزق المزدوج
-
زخات من زمن الرصاص
-
بين الحقيقة والإنصاف ... حالة إفلاس
-
رهانات الإصلاح الدستوري في المغرب
-
العولمة والمسألة الديموقراطية
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|