|
اتهام موروثنا الأسطوري ومساءلة وعينا التاريخي : العبرة والاعتبار
ثامر عباس
الحوار المتمدن-العدد: 8111 - 2024 / 9 / 25 - 12:24
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من تسنح له فرصة مطالعة موسوعات المؤرخ الفرنسي الكبير (فرنان برودويل) ، ويسعفه الوعي بالوقوف على مبلغ ما استهلكته تلك الموسوعات من أوقات وجهود ، وهو يبحث وينقب في تضاريس الجغرافيا وشعاب التاريخ ومجاهل الوعي للمجتمع الفرنسي ، لابد أن يصيبه الذهول وتعتريه الدهشة إزاء القدرة الجبارة لهذا الإنسان الشغوف بتفاصيل الماضي والمتتبع لمسارات التاريخ . للحدّ الذي أفنى ما يقارب ثلثي عمره الزمني حتى يتمكن من انجاز تلك الموسوعات الباذخة في تفاصيلها ومعلوماتها والتي يمكن عدها مفخرة للأمة الفرنسية بامتياز ، ليس فقط بالنسبة لموسوعته العلمية المكثفة حول ؛ البحر المتوسط والعالم المتوسطي في عهد الملك فيليب الثاني التي استغرقت كتابتها (26) سنة ، وموسوعته الموسومة ؛ الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية التي استغرق انجازها (37) سنة ، وموسوعته المعنونة ؛ هوية فرنسا التي استغرق إكمالها (24) سنة . هذا بالإضافة الى انجازه كتب أخرى لا تقل أهمية من حيث القيمة المعرفية والمنهجية والتاريخية التي تتضمنها من مثل ؛ قواعد لغة الحضارات ، على سبيل المثال لا الحصر . والحال لسنا هنا في وارد الحديث عن انجازات هذا المؤرخ العبقري والإشادة بجهوده العلمية وفتوحاته المعرفية في مجال السرد التاريخي ، فهو – على أية حال – أشهر من نار على علم وفي غنى عن كل ما يقال عنه ويشار إليه في خطابات المديح والتقريظ ، بقدر ما نروم اتخاذ مواقفه النوعية وتصوراته المبتكرة حيال ماضي بلده (فرنسا) وأحداث تاريخها وسيرورة حضارتها ، كدليل على ضرورة التجمّل بالأساليب العلمية والطرائق المعرفية والرؤى الإنسانية ، حين يتعلق الأمر باستنطاق مواريث الماضي واستقراء أحداث التاريخ لأي تجربة خاضها المجتمع العراقي بمختلف مكوناته وجماعاته ، وتباين ثقافاته وسردياته ، واختلاف محطاته وانعطافاته . لا بل أكاد أجزم ان إشكاليات ماضينا وملابسات تاريخنا وعثرات حضارتنا ، لا يمكن معرفتها والإحاطة بها ، ناهيك عن الزعم بحلها وتجاوز تعقيداتها المستعصية ، دون الاستعانة بالتحليلات والمنهجيات التي اعتمدها هذا المؤرخ الفريد ، لسبر أغوار ماضينا الغامض وتاريخ الملتبس. وعلى الرغم من ولع العراقيين المفرط – خاصتهم وعامتهم - في التغني بأمجاد الماضي الزائل والتبجح بانجازات التاريخ الآفل ، إلاّ أنه قلما نظر أحدهم الى تلك الأمجاد والانجازات الواقعية والمتخيلة بعين الفحص والتدقيق ، لاستجلاء ما نسج حولها من خرافات وأساطير واستنطاق ما لفق عنها من أكاذيب وادعاءات . إذ ما أن يقع نظر الإنسان العراقي سواء أكان دارسا"أو باحثا"أو مهتما"على نص / سرد يتعلق بالماضي أو بالتاريخ ، حتى تفيض قريحته بمشاعر الفخر والاعتزاز عما حملته تلك المتون من أحداث ووقائع فائضة بالبطولات ومتخمة بالمناقبيات ، دون أن يراع احتمال أن تكون هذه الأخيرة مختلقة أو ملفقة بحكم تدوينها من قبل كيانات أو مؤسسات ! . لا بل ان هناك من يسعى متعمدا"الى طمس وتغييب أية حقيقة تاريخية أو واقعة حضارية أو أزمة سياسية ، لا يرى فيها ما يتوافق مع قناعاته الذاتية المؤسطرة ومسلماته الشخصية المؤمثلة ، التي طالما رسختها في ذاكرته عقود من البيداغوجيات المنمطة والإيديولوجيات المسيسة . والحال ، كيف يتاح لنا الخروج من عنق هذا الخانق التاريخي الذي لم يبرح يحول دوننا وإعادة النظر بأنماط تصوراتنا وأساليب تفكيرنا ومضامين تمثلاتنا ؟! ، لاسيما وان معظم مشاكلنا وجلّ إشكالياتنا التي لا تزال ناشطة وفاعلة في معيش علاقاتنا في الوقت الحاضر ، ما هي إلاّ نتاج تراكمات جغرافية انتهكت حرمتها وقطعت أوصالها لأكثر من مرة ، وتاريخ تم العبث بوقائعه والتلاعب بأحداثه من قبل أكثر من جهة ، وذاكرة تم نسخها ومسخها من قبل غزاة طامعين وحكام عابثين لأكثر من جماعة . ولذلك ينبغي علينا الشروع – كمدخل وتمهيد – بدلا"من دوامنا على كيل (الاتهامات) جزافيا"الى مواريثنا الماضية الغامضة ، و(مساءلة) وعينا التاريخي الملتبس ، من منطلق كونهما يتحملان وزر ما نعاني منه ونكابده حاليا". ينبغي أن نعمد الى فتح كل ما له علاقة بملفات الماضي وسرديات التاريخ وأرشيفات الذاكرة ، ليس لمجرد استعراض مضامينها التقليدية المكررة – كما حصل يحصل لحد الآن – تحت يافطة (إعادة كتابة) التاريخ ، وإنما لإجراء عمليات تفكيك وتحليل ونقد شاملة وعميقة – قد تستغرق عقود من البحث والتنقيب - لمجمل ما حملته سيرورات التاريخ الوطني ؛ سواء على صعيد (التدوين) ، أو (الأرخنة) ، أو (التمرحل) ، أو(المنهج) . مع الأخذ بنظر الاعتبار أن عمليات من هذا النوع لن يتم حصاد جهودها بنجاح ، دون أن يصار الى تخطي حواجز وموانع ما يسمى ب(المحرمات) الدينية و(الممنوعات) السياسية و(الممانعات) الاجتماعية من جهة ، وعلى أن تتوج تلك الأنشطة والفعاليات بامتلاك (وعي) تاريخي ناضج من النمط الذي ينظر الى وقوع الحدث أو حصول الواقعة ، كحصيلة بنيوية - جدلية مركبة لمعطيات الجغرافية والتاريخ والدين والحضارة والثقافة والنفسية من جهة أخرى . وهنا يقتضينا القول ؛ انه لكي يتم حصاد دراساتنا المتكاثرة وبحوثنا المتناسلة – التي نادرا"ما تكون ذات جدوى - عن الأحداث والوقائع المتعلقة بالماضي والمرتبطة بالتاريخ ، لا يكفي البحث عن أصولها وخلفياتها في هذا العامل الطبيعي أو ذاك ، هذا العنصر الإنساني أو ذاك . كما لا يجدي تقطيع سيروراتها وتفكيك سياقاتها وتعطيل جدلياتها بحجة نشدان الإيجاز في الكتابة والسهولة في العرض ، وإنما تقتضي الضرورة العلمية والمنهجية التعاطي الدؤوب والصبور مع كل حدث أو أية واقعة ؛ من منطلق كونهما نتاج نسيج متشابك ومترابط ومتخادم من العوامل الطبيعية والعناصر الإنسانية ، التي لا ينفك بعضها يؤثر ويتأثر في البعض الأخر على نحو دائم ومستمر . ولعل من أولى الخطوات الواجب مراعاتها والتقيد بشروطها من لدن جمهرة المؤرخين والباحثين في مواريث الماضي ، هي ان إحراز أي تقدم في هذا المجال السوسيولوجي والمعرفي الوعر والشائك ، مرهون – قطعا"وفرضا"- بامتلاك الحدّ الأدنى من فضائل (الوعي التاريخي) الذي من دون حيازة ابجدياته المسبقة ، لا تعدو البحوث والدراسات سوى ضربا"من العبث الفكري والسفسطة الخطابية . ذلك لأن من خصائص هذا النمط من الوعي الحيلولة دون تأطير رؤى الفاعل الاجتماعي وتحديد تفكيره بمعطيات الراهن الزماني والمعيش المكاني وحسب ، بحيث يميل الى موضعة الحدث و / أو الواقعة ضمن نطاق بعد واحد معزول ومفصول ، مجردا"إياهما من أية رابطة أو علاقة ببقية الأبعاد الأخرى التي تمنح للظاهرة قيد الدراسة خصوصيتها ومكانتها . أخيرا"، انظروا الى موسوعات المؤرخ العملاق (فرنان برودويل) وتعلموا كيف تسرد مفاعيل التاريخ وتجرد تفاصيل المجتمع .
#ثامر_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انثروبولوجيا المكان بين الأصول الريفية والميول الحضرية : روا
...
-
التاريخ والمؤرخ والوثيقة التاريخية : تفاعل لا تفاضل
-
أخلاق الثقافة وثقافة الأخلاق
-
الخطاب الثقافي والأجيال البينية : قراءة في اجتهادات أستاذ ال
...
-
حدود البنية (اللوجستية) في صيرورة الهوية الوطنية
-
مرض عضال الثقافة العراقية : ظاهرة التكاره بين المثقفين !
-
المؤرخ وتبعات انبهاره بالتاريخ
-
(المثقف) حين يمتهن التجارة !
-
بمناسبة الذكرى (150) لميلاد الصحافة العراقية - نقابة الصحفيي
...
-
العشائر والشعائر : الفزعة القبلية والنزعة الاستعلائية !
-
الانثروبولوجيا الماركسية وتمرحل أنماط الانتاج
-
دعائم الليبرالية وتمائم البطريركية (مقاربة للحالة العراقية)
-
عوائق الليبرالية في المجتمعات البطريركية
-
الذاكرة التاريخية .. مفهوم واحد ودلالات متعددة
-
مفهوم الجدارة السياسية بين براغماتية الحاكم ودوغمائية المحكو
...
-
الاستدعاء النقدي للتاريخ : قراءة في الأصول المنسية
-
الاقطاع السياسي : نمط فوضوي لتفكيك الدولة واغتصاب سلطتها
-
الطبقة الوسطى العراقية وأوهام وعيها الطبقي
-
الثقافة في حضرة التاريخ : حفريات في ذاكرة الثقافة العراقية
-
ثيمة الماضي في المتخيل الجمعي
المزيد.....
-
من هم الأكثر عرضة للنوبات القلبية؟
-
اختفاء طائرة ركاب فوق ألاسكا
-
إدارة ترامب تلغي وحدة -مكافحة التدخل الأجنبي- في الانتخابات
...
-
لا تصدقوا ما يقوله ترامب عن غزة
-
اكتشاف تأثير التأمل على مركز العواطف في الدماغ
-
اليد الحمراء.. منظمة سرية دموية رعتها المخابرات الفرنسية بعل
...
-
حكم فرنسي لصالح مؤثر تسبب في أزمة بين الجزائر وباريس
-
مخطط ترامب لغزة.. بين التهجير القسري والرفض العربي
-
رئيس بنما ينفي السماح للسفن الأميركية باستخدام القناة مجانا
...
-
ترامب يصعد تحركاته تجاه غزة.. هل نشهد سيناريو جديدا؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|