|
عن العرب والإسلام والتخلف
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8108 - 2024 / 9 / 22 - 22:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الحياة في أغلب بلدان ما يسمى اليوم بالعالم العربي ـ الإسلامي، هي حياة أقرب إلى الجحيم منها إلى الحياة في الجنة الموعودة، أما في فلسطين ولبنان والسودان فهي الحجيم بذاته. ولا داعي لوصف هذا الجحيم، فالجميع يعلم بالتفاصيل، القصف والقتل والإغتيال والتدمير، ثم الفقر المادي، والتعاسة، والقهر، ثم الطغيان، والسجون، والجهل، والجوع، والعطش، بالإضافة إلى مختلف الأمراض الجسدية والعقلية والنفسية التي يعاني منها الإنسان فردا وجماعة. ولا داعي لوصف كل هذه المصائب التي تشكل ظروف الحياة اليومية لمواطني هذه المناطق الموبوءة، والتي تعتبر في كثير من الأحيان ككوارث طبيعية. والكثير من المحللين والمتخصصين في التاريخ والسياسة والعلوم المختلفة، كالاجتماع، والنفس، والاقتصاد السياسي، يعتقدون بوجود مربع جهنمي مسئول مسئولية كاملة عن هذه الكوارث. أمريكا، وإسرائيل، والاستعمار الغربي، والأنظمة الحاكمة. والبعض يذكر البترول كسبب إضافي. ونحن لا نشكك هنا في تدخل بعض هذه العناصر أو كلها، مسئوليتها منفردة أو مجتمعة، عما يجري في هذه الساحة. غير أنه من الممكن في هذه المحاولات اليائسة لفك الحصار، التساؤل عن سبب فعالية هذه العناصر في هذه المنطقة بالذات من العالم، مع العلم بأن أمريكا تعتبر دولة جديدة لا يتعدى وجودها قرنين من الزمان، أما إسرائيل فإن عمرها لا يتجاوز عمر شيخ قبيلة من المنطقة. أما الاستعمار الأوربي، فإن كل الدول العربية تحتفل بأعياد استقلالها كل عام بعروضها العسكرية، وخطب العرش الوطنية. أما الأنظمة الحاكمة، ورغم تخلفها وطغيانها بدون استثناء، فإنها لا تستند إلى أية أسس متينة، وقد سقط العديد منها ويمكن أن تسقط البقية في أية لحظة، غير أنه يبدو أن هذا لن يغير من الأمر شيئا على الإطلاق. وفي هذه الحالة، لا بد لنا من التساؤل عن السبب المباشر لهذه الأزمة الحضارية التي تعاني منها المنطقة، والتساؤل عما إذا كان هذا المربع الجهنمي ذاته ليس إلا نتيجة للوضع الكارثي المتأصل في هذه الأرض المزدحمة بالطغاة والأنبياء والشعراء. وفي هذه الحالة تكون الكارثة أكبر مما تصورناه في البداية، ومحاولة فك الحصار تبدو مستحيلة. ورغم عدم قناعتنا بالتحاليل السيكولوجية لتفسير ظاهرة التخلف، إلا أن ذكر بعض التحاليل قد يكون مفيدا في تكوين رؤية عامة للمنطقة ولتطور العقلية السائدة. يقول توفيق الحكيم في روايته عصفور من الشرق، "الغرب يستكشف الأرض، والشرق يستكشف السماء". وقد حاول محمد عابد الجابري صياغة هذه المقولة في كتابه "تكوين العقل العربي" صياغة جديدة، من وجهة نظر ابستيمولوجية أو معرفية، "إذا صح تكثيف العلاقات داخل العقل اليوناني ـ الأوربي حول قطبين اثنين، هما الإنسان والطبيعة، فقد يصح تكثيف العلاقات داخل العقل العربي ـ الإسلامي حول قطبين إثنين أيضا، هما الإنسان والله". ورغم أنه يجب أخذ هذه المفاهيم المجردة بحذر شديد، إلا أن هذه الإضاءة قد تساعدنا على رؤية الصورة العامة، وجعلها أقل عتمة ولو مؤقتا، وتمكننا من فهم الواقع الديني والروحي الذي يهيمن على المجتمعات العربية الإسلامية من جهة، والواقع التكنولوجي الذي يطغى على مجتمعات الغرب الصناعي الديمقراطي. فرغم أن فكرة الله، أو الخالق، أو الموجود المتعالي، هي فكرة تسيطر على كل الحياة الروحية والفكرية في كلا الواقعين المذكورين، فإن الإله اليوناني القديم كان أيضا نتاجا للطبيعة، مصدر كل الآلهة اليونانية القديمة، والتي خلقت من الفراغ الكوني، والذي تشكل من عنصرين هما النور والظلمة، ومن التقائهما ولدت كل الآلهة التي تخيلها اليونانيون على صورة المواطن اليوناني ذاته، تأكل وتشرب وتمارس الحب، تولد وتموت وتحب وتكره، وتجتمع في حفلات صاخبة في سماء أثينا. ومن الواضح أن الطبيعة هي الأساس والمصدر الرئيسي في خصوبة وغنى القبائل الإلهية المتعددة، والتي تسكن السماء والأرض والبحر والجبال والمغارات والكهوف اليونانية. ومن الواضح أيضا أن الإنسان في مواجهة الطبيعة يكتشف قدرته على التعامل مع الظواهر الطبيعية، أو على الأقل فهمها واستـئناسها، وليس له في مواجهة هذه الظواهر الخارقة سوى العقل من أجل تفسيرها، والمجهود العضلي من أجل تغييرها. علاقة عملية وفعلية تتطلب منه مجهودا عقليا وعضليا من أجل فهمها أولا،ً ومحاولة السيطرة عليها وترويضها لتعمل لصالحه ثانياً. ومن ناحية أخرى، نجد أن العلاقة بين الإنسان والله، هي علاقة ذات طبيعة مغايرة، فهي علاقة سجود واستسلام وتأمل وعبادة. علاقة ستاتيكية روحية لا تتطلب الحركة أو المجهود العضلي الذي يحتاج إلى طاقة خارجية. والأداة التي يتعامل بها الإنسان في علاقته مع الطبيعة هي جسده، كوحدة طاقة تمكنه من تكسير الحجارة، وحفر الأرض، وزراعة السهول، وتحويل مجاري الأنهار. وبواسطة الطاقة الجسدية والعقلية، تمكن من صناعة أدوات جديدة ساعدته على تنمية قدراته الذاتية، وطاقاته الأساسية. بينما للتعامل مع الله، فالإنسان ليس له سوى أداة وحيدة ـ اللغة. وكل المحللين من العرب والعجم الذين حاولوا تحليل الحضارة العربية والإسلامية، لم يفطنوا إلى هذه الأداة الغريبة التي مكنت العرب من اكتشاف الله والملائكة، ووصفه وعبادته وتسميته بتسعة وتسعين إسما. وقد بقيت هذه اللغة ملتصقة بجلود العرب لتشكل هويتهم الأساسية، ووسيلتهم القصوى، وسلاحهم الوحيد للتعامل مع العالم والطبيعة. على أساس أن هذه اللغة إذا كانت مناسبة للتعامل مع عالم الغيب، فإنها كفيلة للتعامل أيضا مع عالم المادة. ومن الناحية الأخرى نجد أن الحضارة الغربية لم تمتلك لغة وحيدة أو أساسية أو أصلية، حيث تركت اللاتينية واليونانية محلها للغات أوربية جديدة كاليونانية المعاصرة، والفرنسية، والألمانية، والانجليزية والأسبانية، والإيطالية المستعملة اليوم في الفلسفة والعلوم الإنسانية والرياضيات والعلوم الأساسية، كما هي مستعملة في نفس الوقت كلغة للتعامل اليومي بين المواطنين، دون وجود تفرقة واضحة بين المستويات المختلفة لاستعمال هذه اللغات. اللغة تبدو هنا وكأنها مصدر لتفسير العقلية العربية ـ الإسلامية، أو كأنها الأساس الذي وجه العرب نحو السماء بدلا من الأرض. غير أن الحذر الشديد يفرض نفسه بحدة في مثل هذه الظروف، ونحن لا نستطيع حتى أن نفرض مثل هذه الفرضية. وذلك أن اللغة مشكلة تحتاج إلى المزيد من التحقيق والتحري قبل إمكانية تكوين النظريات. غير أن هذه الحذر الشديد لا يمنعنا من لفت النظر إلى أن الشعر هو العمود الفقري للحياة الفكرية عند العرب قبل الإسلام وبعده. الشعر كممارسة لغوية وكمواقف وجودية تستعمل الكلمة كأداة للتعامل مع الأشياء والعالم والأحداث. الشعر كوسيلة لاحتضان الكون وتطويعه للإرادة الإنسانية.غير أن الشعر ليس خاصية يتميز بها العرب وحدهم، فنحن نعرف بأن النظام الديني اليوناني ذاته قد خرج من مخيلة الشعراء في البداية على الأقل. وفيما بعد قام الفلاسفة بتنظيم تلك العائلات الإلهية وتكوينها وترتيبها في مجتمع عقلاني على صورة المجتمع اليوناني. كما أنه تجب ملاحظة أن الدين ليس خاصية يتمتع بها العرب وحدهم، فالحضارة اليونانية الغربية ذاتها هي حضارة دينية، وأن الأساس الروحي للديانة المسيحية واليهودية والإسلامية هو أساس واحد. فاليهود ترجموا الأساطير والملاحم والأشعار السومرية البابلية، وصاغوا منها تاريخا أسطوريا وروحيا لقبائلهم المتحركة في المنطقة. والمسيحية والإسلام تظل إمتدادات لهذه الديانة الأولى. وأن الإسلام بالذات هو عودة إلى الأصول الأولية لديانة إبراهيم، وأن اللغة تشكل العمود الفقري، والأساس المتين الذي ترتكز عليه هذه الديانات الثلاث. وهنا يبدو لنا الطريق مسدودا من جميع النواحي، ولابد من الإعتراف بفشل هذه المناورة، والاعتراف بأن الطرح الأساسي للقضية كان خاطئا. فالمقولة الشعرية "الغرب يستكشف الأرض، والشرق يستكشف السماء" ليست كافية لتفسير الكارثة. ذلك أن الغرب ذاته قد بدأ في استكشاف السماء منذ عشرات السنين، ونصب خيمته على القمر، ومركباته الفضائية تتجول فوق رؤوسنا على ارتفاع الآف الأميال، وتسجل كل كبيرة وصغيرة من حركاتنا على الأرض.والفرق بين الله والطبيعة يبدو واهيا، كما يبدو أن الله يفضل عباده في الغرب على عباده الفقراء الشرقيين. والوظيفة اللغوية للشعر في المجتمع العربي تبدو من جانبها غير كافية لتفسير الأزمة الحادة التي تعاني منها هذه المجتمعات، وبالذات حين نعلم أن الثقافة والفكر العربي الإسلامي لم ينتشر في أنحاء الأرض الأربعة بقوة الكلمة، بقدر ما انتشر بقوة السيف والجيوش الإسلامية. فلابد من العودة إذا ً في المناورة القادمة، وإعطاء إضاءة أخرى حول هذه القضية. وفي الإنتظار، يأخذ الشعر وظيفته القديمة في إحتلال الواقع. ونقول مع من يقولون بأن كلمة طيبة خير من ألف صدقة. فشهية طيبة أيها الفقراء، ولا تنسوا أن تضعوا قليلا من الملح، وا حذروا التخمة.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما هي المادة ؟
-
لماذا العبور
-
أزمة الفيزياء النظرية
-
عالم الذرة وعالم المجرات
-
نهاية العالم بين الجحيم والجليد
-
الأدلة على نظرية Big Bang
-
مراحل الإنفجار الكبير
-
الثانية الأولى من الإنفجار الكوني
-
نظرية تمدد الكون
-
وتأخر المسيح عن موعده
-
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
-
هل للكون بداية ونهاية ؟
-
العبث بين الدين والفن
-
بداية الخلق
-
بين التأمل والتجربة
-
بين الإحتمال واليقين
-
ساعة إينشتاين
-
حريق الظل الطويل
-
عن الأخلاق واللاهوت
-
الغرامشية اليمينية
المزيد.....
-
تونس: هجوم بسكين على عنصر أمن نفذه شقيق مشتبه به في قضايا إر
...
-
مقتل عنصري أمن في اشتباكات بحمص بين إدارة العمليات العسكرية
...
-
نتنياهو يضع عقبة جديدة أمام التوصل لصفقة تبادل للأسرى
-
زلزال عنيف يضرب جزيرة هونشو اليابانية
-
موزمبيق.. هروب آلاف السجناء وسط أعمال عنف
-
الحوثيون يصدرون بيانا عن الغارات الإسرائيلية: -لن تمر دون عق
...
-
البيت الأبيض يتألق باحتفالات عيد الميلاد لعام 2024
-
مصرع 6 أشخاص من عائلة مصرية في حريق شب بمنزلهم في الجيزة
-
المغرب.. إتلاف أكثر من 4 أطنان من المخدرات بمدينة سطات (صور)
...
-
ماسك يقرع مجددا جرس الإنذار عن احتمال إفلاس الولايات المتحدة
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|