|
إزاء الكارثة الإنسانية المتفاقمة في دارفور، عدوى ازدواجية المعايير أصابت العرب أيضًا
رجب سعد طه
الحوار المتمدن-العدد: 1775 - 2006 / 12 / 25 - 06:28
المحور:
حقوق الانسان
في يوليو الماضي اقترح "نيكولاس كريستوف" في صحيفة "نيويورك تايمز" إرسال عدة طائرات لتقوم بنقل جثث مئات الضحايا من دارفور إلى الأمم المتحدة، ودفنهم في واحدة من الولايات الأمريكية "تذكيرًا بلا مبالاة العالم وللتذكير بأنها أول إبادة جماعية وقعت في القرن الواحد والعشرين" ! وإمعانًا في السخرية طالب "كريستوف" في مقاله بـ "تذكير العرب بأن قتل مئات الآلاف من المسلمين في دارفور يتطلب الاحتجاج أيضًا" ! ربما لا يعلم "كريستوف" أن الكثير من المسلمين قد يجهلون أن الضحايا الذين تساقطوا (وما زالوا يتساقطون) منذ بداية النزاع المسلَّح المستمر منذ ثلاث سنوات بين المتمردين والميليشيات المدعومة من الحكومة السودانية هم من المسلمين. إن أهل دارفور – الذين قد يصفهم لك أي سائق تاكسي يعتمد في معلوماته على نشرات المقاهي الإخبارية، وهو يهز كتفيه في لا مبالاة بأسوأ النعوت، قبل أن يفسِّر ذلك ببساطة متناهية بأنهم "وثنيين عملاء" – هم في الواقع من أكثر أهل السودان احتفاءً بالقرآن ورعاية وحفظًا لـه؛ حيث تنتشر في ربوع دارفور بيوت القرآن المسماة بالخلاوي، والتي دأب الدارفوريون على تكريم خريجيها من حفظة القرآن، بدءًا من إغداقه بالمال وحتى تزويجه بواحدة أو أكثر، بل إنهم لا يطلبون مهرًا من حافظ للقرآن ! قد لا نستطيع أن نعتب على العرب والمسلمين عدم اكتراثهم بالأزمات الإنسانية التي يعاني منها غيرهم؛ فهم لا يمتلكون رفاهية شعوب وحكومات دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية، فلديهم من المشكلات القدر الذي يفيض عن حاجتهم ! الأراضي المحتلة في فلسطين، مستقبل غامض في العراق تصبغه المجازر اليومية بلون الدم، المقاومة والدولة في لبنان، ومَن قتل مَن في أفغانستان ؟! لكن ما بال حكماء العرب المنتثرين على شاشة قناة الجزيرة يتعاملون بدم بارد مع أهل دارفور المنكوبين ؟ منذ أكثر من ثلاث سنوات يعاني المسلمين في دارفور النزوح والجوع والمرض والقتل. أكثر من مليوني نازح، مئات الآلاف من القتلى، اغتصاب النساء، خطف وقتل للأطفال، تجنيدهم للقتال في صفوف الجيش والميليشيات. إن أهلنا في دارفور يحتاجون منا لاستنفار الطاقات وتنظيم المظاهرات والمؤتمرات وبذل الدعاء وصلاة الغائب كما فعلنا مع إخواننا في لبنان وفلسطين. لسنا بالطبع في مجال المقارنة بين الوضع في دارفور والوضع في لبنان، لكن الألم والمعاناة في دارفور كأنهما بلا نهاية. كم طفلاً هناك قُتِلَ في أحضان والده مثل محمد الدرَّة ؟ كم فتاة أبيدت عائلتها أمام عينيها مثل هدى في غزة ؟! كم مجزرة راح ضحيتها عشرات الأطفال كما حدث في قانا؟ كم عدد المدنيين الذين استهدفوا أثناء فرارهم كما حدث مع حافلة مروحين؟ الإجابة: لا نعرف. أو في حقيقة الأمر لا يعنينا أن نعرف؛ ربما يرجع السبب إلى أن الأصدقاء في قناة الجزيرة لم يهتموا بعد بالموضوع. هل ستغدو مجازفة منا لو حلمنا بمطالعة خبر صحفي عن الإعداد لدويتو أو أوبريت لمساندة أهل دارفور؟ هل سيسعدنا الحظ بمشاهدة فيديو كليب يبكي ضحايا جرائم النظام السوداني ؟ أم أن الأجساد الهزيلة المعدمة ذات البشرة الداكنة التي ينهشها الفقر والتجاهل والمرض، لا تستحق من فنانينا الكرام إقامة المؤتمرات الشعبية والتنديد وقرض الشعر وذرف الدموع أمام شاشات الجزيرة وروتانا؟! كتب أستاذنا فهمي هويدي منذ عامين "شكوك وراء تفجير قضية دارفور وتدويلها"، ثم عاد وكتب في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 5 يوليو 2006 في مقاله سنة العار: "ينبغي ألا نتوقع من الآخرين أن يدافعوا عن حقوقنا أو كرامتنا التي تخاذلنا عن الدفاع عنها. لكن ذلك لا ينسينا أن الضمير العام في تلك المجتمعات الذي استثاره الحاصل في دارفور، واهتز لما جرى في رواندا. قد أصيب بالسكتة غير البريئة حين تعلق الأمر بالعرب والمسلمين (من فلسطين إلى شيشنيا)". نعم يا أستاذ هويدي، لا يستطيع أحد أن يشكك في ازدواجية المعايير التي يعاني منها المستضعفون في الأرض من المجتمع الدولي، عربًا كانوا أم من غير العرب. لكن ما ذنب دارفور وأهلها ؟ هل يؤثمون على الاهتمام بهم وعلى الجهود التي تبذل لوقف الإبادة الجماعية المتصاعدة ضدهم ؟! إن عدوى ازدواجية المعايير قد أصابت العرب لاشك في ذلك، و كما نرى فإن تعليق الأستاذ هويدي على اهتمام المجتمع الدولي بكارثة دارفور الإنسانية صيغ بطريقة قد يفهم منها استثناء أهل دارفور من زمرة المسلمين ! إن إدانتنا لصمت المجتمع الدولي إزاء جرائم ترتكب بحق إخواننا في فلسطين ولبنان والعراق، لا يجب أن تقل بحالٍ من الأحوال، عن إدانتنا لصمت الأقلام العربية والإسلامية (غير البريء) عما يجري لأهلنا في دارفور. قارنوا في هذا الإطار بين الاحتفاء العربي بالبيان المنفرد الذي أصدره ماركيز منذ سنوات إعجابا بالصمود الفلسطيني وبغضا للصهيونية، وبين التجاهل الذي حظي به مقال سونيكا الذي كتب فيه عن تخريب حكومة السودان للجهود الدولية لمساعدة وحماية ضحايا النزاع، كما يمكنكم المقارنة بين الاهتمام البالغ بتحليل وتفسير ونقد قرار مجلس الأمن 1701 والجدل الذي لم ينتهي بعد حول القرار 1559، وبين الجهل المطبق بالقرارت 1556 – 1564 – 1591 – 1593 – 1679. بالتأكيد استنتجتم أنها قرارات مجلس الأمن المتعلقة بدارفور ! ترى كيف كان الأساتذة أصحاب الهويات – والأجندات – الإسلامية سيفسرون الإبادة الجماعية لأهل دارفور لو كان النظام الحاكم في السودان علمانيًّا ؟! هل كنا سنسمع صياحًا عن المؤامرة التي يتعرض لها الإسلام والمسلمين ؟ هل كنا سنشاهد قائد (المجاهدين) الدارفوريين في لقاء خاص سجله مع مراسل الجزيرة في مخبئه؟ هل كنا سنرى الرقعة التي يحتلها دارفور من أرض السودان ترفرف بها الأعلام في أيدي الأطفال وتزيَّن بها واجهات الحوانيت ويرفعها المتظاهرون بعد فراغهم من صلاة الجمعة في الجامع الأزهر ؟ هل كانوا سيوجهون اتهاماتهم بالجبن والخنوع والعمالة للحكام العرب لأنهم لم يفتحوا باب التطوع لمن يرغب في الجهاد للذود عن المسلمين الذين يتعرضون للإبادة في دارفور ؟ هل كان المرشد – من إرشاد الإخوان المسلمين وليس من الإرشاد عنهم - سيعلن على الملأ أنه كان سيقتل الحكام المسلمين المتقاعسين عن أداء واجبهم تجاه أهل دارفور، لولا أنهم نطقوا بالشهادتين ؟! نحن شعوب اعتادت التعامل مع التاريخ ببلادة، ونستمتع بتكرار الخطأ واستحمار الذات؛ لذا فقد لا تختلف ردود أفعالنا بعد حل النزاع في دارفور وإنجاز تحوّل ديمقراطي حقيقي في السودان عنها بعد سقوط طالبان في أفغانستان. ساعتها لا تندهشوا إن بكى أحدهم على ميليشيات الجنجاويد (رضي البشير عنهم ورضوا عنه) وخط كتابًا بعنوان "الجنجاويد: جند الله في المعركة الغلط" ! والجنجاويد لمن لا يعلم هي ميليشيات تخوض حربًا بالوكالة على المتمردين لحساب الحكومة، ويمارس رجالها منذ سنوات هوايتهم في الإبادة الجماعية وخطف واغتصاب النساء من غير العرب في دارفور. سننسى الضحايا ونبكي الجلاَّد. إنها عادة لن يقلع عنها بسهولة أصحاب المصالح والمشروع الإسلامي الذي لا تعدو العلاقة بينه وبين الإسلام سوى مجرد تشابه أسماء. فيا أيها الذين صمتوا دهرًا ولم ينطقوا بعد، استقيموا يرحمكم الله ، ووجِّهوا أقلامكم تجاه الجنوب قليلاً، فهناك – بين جنبات الصحراء القاحلة في غرب السودان – تتردد صرخة واإسلاماه. وما من مجيب.
#رجب_سعد_طه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسئول أمريكي سابق: 100 ألف شخص تعرضوا للإخفاء والتعذيب حتى ا
...
-
تواصل عمليات الإغاثة في مايوت التي دمرها الإعصار -شيدو- وماك
...
-
تسنيم: اعتقال ايرانيين اثنين في اميركا وايطاليا بتهمة نقل تق
...
-
زاخاروفا: رد فعل الأمم المتحدة على مقتل كيريلوف دليل على الف
...
-
بالأرقام.. حجم خسارة ألمانيا حال إعادة اللاجئين السوريين لبل
...
-
الدفاع الأمريكية تعلن إطلاق سراح سجين كيني من معتقل غوانتانا
...
-
دراسة: الاقتصاد الألماني يواجه آثارا سلبية بإعادة اللاجئين ا
...
-
الأمن الروسي يعلن اعتقال منفذ عملية اغتيال كيريلوف
-
دراسة: إعادة اللاجئين السوريين قد تضر باقتصاد ألمانيا
-
إطلاق سراح سجين كيني من معتقل غوانتانامو الأميركي
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|