|
المسألة العراقيه - 2 : العراق - الارض الخراب - لماذا؟
حافظ الكندي
الحوار المتمدن-العدد: 8107 - 2024 / 9 / 21 - 08:36
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المسألة العراقية 2 العراق – الأرض الخراب – لماذا؟
تتداعى أمام الناظر رزمة أسئلة حول العراق تظلّ حائرة، ولكنها واجبة الإجابة، أو، أقلّه، محاولتها. اذ يتساءل البعض لماذا ان هذا الكيان السياسي هو الأضعف واجتماعيا واقتصاديا وحضاريا وثقافيا وابداعيا وعمرانيا؟ والاوهن على التأثير في الاحداث التي تجري من حوله؟ وهو الأقل اعتبارا وقيمه واهمية بين البلدان التي لها تاريخ وحضارة؟ ولم هذا التفتت والتشرذم والضعف الإبداعي؟ وكيف نفسر هذا الضعف المؤسساتي والتنظيم الاجتماعي؟ وذلك التاريخ من الفساد والحروب العبثية والمجازر الجماعية والابادة وقتل السكان وابادتهم والاضطهاد العنصري والطائفي؟ بحيث تبدو البيئة العراقية عقيمة لا تخلق ولا تبدع شيئاً وهي ابعد عن ان تساهم في صنع التاريخ...! ولماذا ان مناطق مجاورة لها تاريخ متناظر وحضارات مشابهه وتعرضت أيضا الى هجمات خارجية وزلازل هزت كياناتها، غير انها خرجت منها بدرجة اقل بكثير من الضرر بل ما تزال على عافيتها وحضورها وأثرها السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي...؟ *** يوعز الكثيرون ذلك الى ظروف خاصة مرحلية يعيشها العراق مثل الغزو الأمريكي او العداء الإسرائيلي او دور إيران. وهم في هذا يحاولون تفسير الظرف اللحظي، أي ما يحصل "هنا والان" على اعتبار ان السقوط الحالي هو حديث الحدوث ولا يمثل استمرارا تاريخيا او نمطا متكررا. غير ان الواقع لا يؤيد ذلك وهو يشير الى ان الحضارات العراقية المتعاقبة والمبهرة في وهجها وألقها وبريقها اللحظي ما تلبث ان تتساقط من دون ان تترك حتى اطلالا تدل عليها سوى النذر اليسير الذي لا يعكس شموخها. ولولا الدراسات الاستشراقية ذات الاهتمام التوراتي لما عرف أحد بوجودها. وهي في هذا لا تساير غيرها من الحضارات التي وان كانت اقل تألقا الا انها ما تزال اشعاعها يصل الحاضر في الذاكرة التاريخية لمجتمعاتها.
المجتمع والتجمع السكاني
ربما علينا ان نتفق اول الامر على مفهوم المجتمع البشري كونه ليس تجمع لأفراد يعيشوا في منطقة معينة ويتشاركوا في استهلاك ثروات ومنتوجات تلك المنطقة. بل ان للمجتمع العضوي الحي روحا. ومثلما ان الروح هي التي تمنح الجسد الحياة فتجعل كل جزء منه يشعر بالجزء الأخر ويتعاطف معه ويتأثر بما يؤثر به، ويمرض ويشفى معه فأنها هي الروح نفسها التي تنفخ في المجتمع الحياة وتميزه عن المجتمع الميت او عن التجمع السكاني. التاريخ هو روح المجتمع الحقيقي. التشارك بالتاريخ هو الذي يخلق المجتمع. وبهذا المفهوم فان المجتمع البشري الحي هو مثل نهر التاريخ الجاري. ليس فيه توقف وكل لحظه فيه توصل الماضي بالحاضر. وفي ذلك النهر تصب الكثير من الروافد التي تكون النهر والتي تمتد من منابع أعمق وابعد في الماضي. او هو شجرة تمد جذورها في عمق الأرض وتمتص نسغها من الماضي الحضاري وحتى الأسطوري للمنطقة. هو يحوي الخبرة التاريخية المتراكمة على مر العصور والتي تشكل هويته وشخصيته وتعكس كينونته. افراد المجتمع الحي يحملون في شخصيتهم خصائص الهوية الاجتماعية مثل خلايا الجسد الحي التي تحمل في جيناتها خصائص الجسم. اما الجماعة السكانية التي لا تشكل مجتمعا فان افرادها ليس لهم غير تاريخهم الشخصي ليشكل هويتهم. التربية الاجتماعية هي التي يتم فيها صياغة الفرد البشري كي يحمل في ذاته تلك الهوية الاجتماعية. اذ بواسطة التربية يتم غرس الذاكرة التاريخية في كل فرد يأتي الى الحياة في صيغة تعاليم ونماذج وانماط سلوك وتعابير لغوية واناشيد وامثال وافعال وردود أفعال واقاصيص ومبادئ التوجيه في العادات والتقاليد، الممنوع والمرغوب، والصحيح والخطأ والعيب والمستحب والمقبول والمرفوض والحرام والحلال وحدود ما هو مسموح به. عملية التربية هذه تصنع من الافراد خلايا اجتماعية تملك وعيا مشتركا. روح المجتمع تعتمد على مبدأ رئيسي في حضورها واستمرارها وفعلها وهو عنصر الزمن. ولذا فان الحفاظ على تلك الروح يتطلب احترام التاريخ والنظر الى اليه بعين التقديس. الماضي هو أساس الحاضر وكي يتم حفظ البناء وتقويته لابد من الاعتناء بالأساس. ومن ثم فكلما طال الزمن على المجتمع الحي كلما ازداد تراكم التراث المعنوي له، بما في ذلك الخبرات والأفكار والمعتقدات والقيم والمكونات الثقافية والفنية وطقوس الأفراح مثلما الاحزان. كذلك المكونات المادية التاريخية مثل أساليب العمارة والأثار القديمة والمباني والجدران واسوار المدن والاعمال الفنية التي يوكل للأجيال الجديدة السهر على حفظها وصيانتها وتمنح الشعور للأفراد بالاستقرار والأمان الاجتماعي، وتشير الى الهوية الحضارية. *** عندما ينقطع هذا المسار التاريخي لاي سبب كان، حتى وان ترابط السكان بروابط أخرى مثل القومية واللغة واللهجة والدين والمذهب والاقتصاد وغيرها، فان المجتمع لا يعود حيا او فعالا، ولن يعود يصنع التاريخ. ولنا في باكستان مثلاً. عندما انقطع تاريخها بصفتها جزء من كيان حضاري منوع الأعراق والأديان والثقافات يسمى الهند لم تستطع خلق مجتمع بديل قائم على التشارك في الدين الإسلامي.
شمال الصحراء - بداوة وحضارة – سجال متواصل
نظرة خاطفة إلى خريطة الوطن العربي الكبير، تكفينا لندرك أن ذلك الوطن قوامه الصحراء، التي هي أوسع الصحراوات اتساعًا على وجه الأرض، تطرز حوافها مراكزُ عريقة في الحضارة. وحسب ابن خلدون هو أن الصراع ما انفك قائمًا بين ثقافة الأطراف وثقافة المراكز الحضرية. والثقافة الأولى هي ما أسماه ﺑ «البداوة»، والثقافة الثانية هي ما أسماه ﺑ «الحضارة». هما اذن ثقافتَين متجاورتَين، لكلٍّ منهما خصائصه التي يتميز بها، ولما كانتا متجاورتَين على النحو الذي ذكرناه، فقد شهدتا تفاعلًا هو الذي حدَّد مسار التاريخ في هذه الرقعة الفسيحة من الأرض. في مناطق بلاد الشام وشمال افريقيا فان الزلازل السياسية تؤدي الى اضعاف الدولة، او الحضارة، مما يؤدي الى تكثيف المد البدوي. على إثرها يحصل تفاعل او امتزاج بين هذين الثقافتين يثمر عن ثقافة تمثل حصيلة ذلك التفاعل. والمراكز الحضرية اي المدينة نفسها بصروحها ومجتمعها وسكانها ونمط حياتها والكثير من مؤسساتها تبقى قائمة ومترسخة ولو بتركيبة سياسية مختلفة. رسوخ تلك المدن الحضارات يعود الى انها عادة تشكل مراكز لاقتصاد الأرياف الذي يحيط بها. واليات عمل هذه الأرياف انها تتشكل من احواض زراعية تقع في تضاريس متنوعة وتعتمد لري المحاصيل على معطيات أساليب موضعية ومناطقية مثل المياه الجوفية والامطار والانهار، وليس للدولة دور أساسي وحاسم في العملية الزراعية. أي ان الزلزال السياسي لا يتبعه زلزال بيئي، كما هو الامر في العراق. الأرياف هناك تبقى مستقلة ومستقرة ولن تهزها التغييرات السياسية او ضعف السلطة او فوضى الصراع الداخلي. استقرار الارياف ومن ثم الحواضر يعني ان المواجهة بين طرفين، أي الحضر والبادية، كلاهما على قيد الحياة على الأقل وان لم يكونا لم يكونا متعادلين في القوة. مما يؤدي الى اندماج وذوبان أحدهما في الاخر ويثمر مركبات حضارية تتمثل فيها ملامح كل طرف، وخاصة المدينة التي تحفظ هويتها وترسخها وتاريخها وصروحها.
العراق – خارج الحوار
اما في العراق فان الامر يختلف. في الجزء الأول من هذه الدراسة توصلنا الى ان خصوصية الوضع العراقي كونه سهلا رسوبيا وان الدولة هي التي تقيم اود الوجود الزراعي ومن ثم الاقتصادي والاجتماعي والحضاري. وعندما تنكسر الدولة يحصل زلزال بيئي وتضمحل الفعاليات الزراعية وتتكرر الفيضانات. وطالما ان الريف هو حاضنة ودعامة المدن وهو مصدر حياتها ووجودها وهو الذي يمنحها الغذاء والدور الاقتصادي لتسويق منتجاته ولا قيام او وجود للمدن بدون الريف فان انهيار الفعاليات الزراعية يتبعه بالضرورة افول المراكز الحضرية المزروعة فيه. يعقب ذلك الزلزال فراغ ديمغرافي حيث اعداد السكان التي كانت تملأ الحواضر والمدن والارياف لم يعد لهم مصدر رزق، ولا خيار لهم سوى ان يرحلوا من اين جاؤوا او الى أينما تتوفر فرص عيش أفضل. وتتولى الفيضانات والاوبئة والكوارث المصاحبة لها خفض اعداد من تبقى منهم. "شهدت بغداد، فيما عدا ايامها الذهبية، أياما سوداء ذاقت فيها من المصائب والمحن أشدها هولا واضناها فتكا. فمن طواعين الى حرائق الى زلازل ومن غزوات الى حروب دموية حتى طغى جبروت الفيضان فأصبح الخطر الأكبر على حياتها بعد ان صار الاغراق يغزوها من حين لآخر...ويرتبط موضوع الفيضانات ارتباطا وثيقا بتاريخ ري العراق بما فيه من منشئات الري ومشاريعه كالسدود والخزانات والمصارف والجداول ...فخطر الفيضان يزداد بإهمال هذه المنشئات ويقل بل ويزول في حال تنظيمها وصيانتها ومراقبتها والاهتمام بتطبيق مناهج استخدامها..." عندما يحصل ذلك الزلزال البيئي تنقطع المسيرة التاريخية للمجتمع، وتنتفي فرص للتواصل والتجذر وخلق تاريخ مشترك يصنع مجتمعا حقيقيا.. المجتمع العراقي صار يفتقد الى ذاكرة تحوي ركام التجارب والابداعات التاريخية. بل لا يعود هناك مجتمع اصلاً وانما مجموعة سكانية تعيش متقاربة ولكن بدون ان تتفاعل مع بعض او ان تشعر ببعض.
العراق - طوفان البداوة
في هذه الأوضاع جاء المد البدوي وقد جاء مبكرا وبمجرد ان ظهرت علامات الانحلال والضعف على بنية الدولة العباسية. حيث ان القبائل في الجزيرة العربية كانت على مر التاريخ ترى في العراق أراضي خصيبة ومياه وفيرة. وهي لن تظل صابرة في الصحراء تتحمل فيها ضنك العيش بينما العراق الى القرب منها مكشوف تجاهها وقد كاد يفرغ من سكانه وشاعت فيه الفوضى واضطراب الأمن ٠ المد البدوي هو غزو خارجي كثيف تتعرض له بيئات سكانية هشة في العراق فقدت ارضيتها المادية الإنتاجية، ولم تعد تملك مقاومة لهذا الغزو ولا قابلية لامتصاصه او التخفيف من حدته. المد البدوي صار كالطوفان الذي أغرق الأرياف أولا، ثم اتجه لإغراق المدن بصورة تدريجية. هذا الوضع اخرج العراق من المعادلة الخلدونية. البدو لم يذوبوا في الحضر ولم يندمجوا معهم ببساطة لان أصلا ليس هناك مدن فيها حضر كي يمتصوا البدو. سكان العراق صاروا يشكلوا خلطة ما بين السكان الأصليين الذين فقدوا انتمائهم الاجتماعي ومظلتهم الحضارية وما بين القادمين الجدد الذين لا يستطيعوا حفظ النقاء البدوي. "...سكان ...المدن هم على الأكثر من أبناء القبائل المجاورة. فهم "لملوم" حسب الاصطلاح القبلي، اذ هم يأتون الى المدن من قبائل مختلفة. وقد يأتي اليها أيضا أناس غرباء في سبيل الارتزاق والتجارة. ولكن هؤلاء السكان جميعا مضطرون ان يلتزموا بالتقاليد والقيم البدوية السائدة بين القبائل المجاورة. وكثيرا ما تنشب المعارك بينهم وبين تلك القبائل، وتنشا ثارات واحقاد..." مما أثمر عن تكوينات سكانية مركبة ومناطقية متنوعة لا تناسق بينها، وربما ابسط ما توصف به هو "التشوه الاجتماعي" االذي اخذ من البداوة معظم مظاهرها مثل التباهي العائلي والعشائري ومفاخر الأجداد والحفاظ على العرض، الإسراف في الكرم، وتبذير المال، والإسراف في القتل والعنف والزهو بالنفس والغرور والتعالي واحتقار الغرباء والادعاء الفارغ. "كثير من المدن العراقية حاولت ان تنظم نفسها على أساس عشائري فتنتخب شيوخا لها وتطالب بالثأر...مما دعي الى انتشار القيم البدوية في المجتمع العراقي...فأصبح الفرد شديد التباهي بالقوة متعصبا لمدينته او محلته كما يتعصب البدوي لقبيلته في الصحراء" . يذكرنا هذا بوصف ابن جبير لسكان بغداد في المراحل الأخيرة من العصر العباسي الذين يقول عنهم حوالي 1180 م "وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم الا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب بنفسه عجباً وكبرياء، يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالنسبة لبلده...كأنهم لا يعتقدون أن لله بلاداً أو عباداً سواهم، يسحبون أذيالهم أشراً وبطراً...". مع تعاقب السنين ازدادت تلك الخلطة غرابة وخاصة في الوسط والجنوب حيث سادت البداوة بصورة شاملة. ولكن بما ان الذاكرة التاريخية الاجتماعية غائبة يصعب الوصول الى معلومات تاريخية عن تلك العصور. ولذا فليس لدينا سوى ما نعرفه من انطباعات الرحالة الأجانب عن تلك الفترات. غير لن هناك ما يكفي من الدلائل التأريخية على ان هذا هو النمط السائد منذ انحلال الدولة العباسية. *** في نهاية القرن التاسع عشر كان البدو سواء رعاة او مزارعين يمثلوا 75% من السكان. ولكن ليس من العدل ان نتوقع من البدوي الذي يترك قلب الصحراء ان يواصل الالتزام بقيم واعراف البداوة الحقيقية. اذ في الصحراء وحدها تبرز اصالته ونقاءه وطبيعته المتفردة. ومن ثم فعندما ينتقل الى الأرياف والحواضر وحتى لو كان مع قبيلته فانه لابد ان يتأقلم مع البيئة الجديدة، بان يأخذ منها شيئا وان يعطيها أشياء "أكثر الظروف الموجودة في الريف غير موجودة في الصحراء. وإذا علمنا ان القيم البدوية نشأت في الصحراء وتكيفت للحياة فيها أدركنا مشكلة تلك القيم عند انتقالها الى الريف حيث الظروف فيها عوامل فاعلة اخرى...مثل حضور الحكومة، تحول الشيوخ الى ملاك أراضي وتغير علاقتهم بأفراد القبيلة من اتباع الى اقنان، ووجود الأسواق، وضهور دافع الربح وحب المال، استفحال الامراض والاوبئة..." . " كان نفوذ القبائل العراقية في القرن الثامن عشر يسود معظم انحاء العراق. فلا سلطان للحكومة الا في مراكز الولايات وفي لحواضر الكبرى. اما الدساكر والضياع فكانت تتنازع حكمها القبائل الرئيسية...التي كانت تجبي الضرائب والرسوم وتقطع الأراضي الزراعية وتقيم الحدود الشرعية" .... وتحول الريف والقرى والمدن الى تجمعات عشائرية تعمل بالأليات البدوية. الصراع القبلي تحول الى عداء ما بين المدن المختلفة، او المناطق ضمن المدينة. العراق تحول الى ساحة حرب او غزو. انها البداوة المقنعة بقناع المدينة. "...اهم معالم الثقافة البدوية هي الحرب الدائمة. حين ندرس المجتمع العراقي ...في العهد العثماني...نجد هذه الظاهرة موجودة بشكل لا يختلف في أساسه الاجتماعي عما هو موجود في الصحراء. فقلما كانت فترة في العراق لا يقع فيها قتال على وجه من الوجوه. اما قتال بين القبائل بعضها مع بعض، او ما بين القتال بين القبائل والحكومة، او قتال بين المحلات في المدينة الواحدة، او القتال بين القبائل والمدن.
العراق - اين ذهب كل ذلك العمران؟
اتفق المؤرخون على أن الحضارة الإسلامية بلغت أوج ازدهارها ونضجها خلال العصر العباسي، سيما الشطر الأول منه، وأن مدينة بغداد عظم فيها العمران حتى أن ضفتي دجلة أقيمت فيها القصور والدور والحدائق والمنتزهات البديعة والأسواق والحمامات والمساجد. والكثير من الناس توافدوا إلى المدينة وغيرها من المدن، وتمت توسعة العمران بشكل رهيب بسبب الأعداد الضخمة التي توافدت بشكل متتالٍ على المدينة وضواحيها. وقد بالغ العباسيون في الاعتناء بالمدينة فبنوا بها القصور وزخرفوها وأحاطوها بالبساتين وأقاموا بها الأسواق ودور العلم والحكمة والمشافي ومراكز الترفيه حتى فاقت روما وغيرها من المدن العظيمة. وقد أنشأ العباسيون في بغداد حدائق غناء تعد خير مثال لفن تنظيم الحدائق في عهدهم. واهتم البغداديون من أهل اليسار بدورهم المشتملة في الغالب على طابقين، وكانت تبني بالجص والآجر وأقاموا حولها قبابا زخرفت بالآيات القرآنية وحدائق محاطة بأسوار وأشجار. وقد عمل العباسيون على توفير الخدمات البلدية مثل المياه النقية فأنشأوا جداول صغيرة تأخذ من نهري دجلة والفرات، وكانت الشوارع تكنس وترش بانتظام، ولم يسمح قط بإلقاء القاذورات فيها، وقد أضيئت ليلا بالمصابيح. وعرفت بغداد نظاما دقيقا لإخماد الحرائق، مثلما كان بها وسائل تحفظ من الحريق . *** نفس بغداد هذه زارها ابن جبير عام 580 هجري (أي مازال حكم الدولة العباسية) فيقول "هذه المدينة العتيقة، وأن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية، قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها الا شهير اسمها. وهي بالإضافة ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب اليها كالظل الدارس، والأثر الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي...العقلة والنظر...". وبعد خمسة قرون من ذلك التاريخ “كانت المدن العراقية والى حد منتصف القرن التاسع عشر، في غاية الانحطاط والخراب. ولعلنا لا نغالي إذا قلنا انها لم تكن مدنا بالمعنى المألوف بل هي اشبه بالقرى منها بالمدن. يحدثنا السائح الالماني نيبور الذي تجول في العراق عام 1765 وقد سافر عن طريق الفرات وذكر المدن التي مر بها مثل السماوة ولملوم والرماحية والحلة. وكذلك النجف وكربلاء. وخلاصة ما ذكر في هذا الشأن ان معظم تلك المدن كانت مبنية بالطين وكان قليل من البيوت في بعضها مبني الاجر. وكانت جميع المدن في الفرات الأوسط تخضع لشيخ قبيلة الخزاعل...”. يحدثنا السائح الإنكليزي كيبل الذي سافر من البصرة الى بغداد عن طريق دجلة عام 1824 : انه لم يشهد بين القرنة وبغداد سوى مدينتين هما الكوت وشفلح. وهو يقول عن الكوت انها قرية صغيرة حقيرة مبنية كلها بالطين ويحميها سور من الطين بارتفاع 6 قدم، وفيها يقيم شيخ بني لام ...والذي يمتد نفوذه من القرنة الى بغداد....". وربما نختتم هذه المشاهدات بصورة بغداد عام 1832 التي قدمها المبشر الإنكليزي “غروفز" في وصف اثار الطاعون الذي حل بها ذلك العام "الموت أصبح مألوفا بحيث ان الناس صاروا يدفنون أقرب الناس إليهم من دون اكتراث يعتد به كما لو كانوا يقومون بعمل اعتيادي. وكانت صرر الملابس من مخلفات الموتى تلقى بالقرب من كثير من الأبواب. وبدلا من ان تدفن الجثث حسب طقوس الدفن المعتادة صارت تلقى على ضهور الحمير والبغال، ثم تؤخذ لتدفن في حفرة من الحفر. ووصل الحال أخيرا ان يسقط الناس في الطرقات فتأتي الكلاب لتنهش اجسامهم وربما كان بعضهم اثناء ذلك يعاني سكرات الموت. وكان اشد المناظر ايلاما وازعاجا وجود المئات من الأطفال الصغار في الطرقات والكثير منهم لا تزيد أعمارهم عن العشرة ايام وهم يتصارخون فيختلط صراخهم بزمجرة الكلاب التي كانت تنهش جثث الموتى. وجاء بعد ذلك الفيضان، واندفع الماء بكل قوته في داخل المدينة. وما حلت الليلة الثانية من الفيضان حتى كان القسم الأسفل من المدينة كله تحت الماء، ...حيث دفن المرضى والاموات والاصحاء في رمس واحد..." اما اكثر المدن القائمة حالياً في جنوب العراق حاليا فإنها تأسست في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. وهي: قلعة صالح، العمارة، المجر الكبير، علي الغربي، الكميت، شيخ سعد، الكوت، النعمانية، الصويرة، العزيزية، الناصرية، الشطرة، الرفاعي، قلعة، سكر، الحمزة، الشامية، أبو صخير، المسيب، الهندية، المحمودية. وهناك ثلاث مدن أسست في القرن الثامن عشر، وهي الديوانية وسوق الشيوخ والزبير. وواحدة في بداية القرن التاسع عشر وهي الحي. وفي القرن العشرين أسست مدينة الهاشمية والفيصلية. وربما السؤال هنا كيف حصل هذا الخراب وبهذه السرعة؟ وأين ذهب كل ذلك العمران وكل تلك المنشئات والمعالم الأسطورية؟
تهديم الصروح لبناء المساكن
وكي نضع اليد على إجابة نحتاج ان نستعيد حقيقة ان البناء في البيئة الحضرية يعكس الاستقرار والرسوخ والتواصل الزمني. وان ابن المجتمع المتحضر يتمسك بالأرض وما هو موجود فوقها من معالم ورموز وصروح تاريخية ودينية بغض النظر عن قدمها وعن حالتها حتى لو كانت اطلالاً متهاوية... بل انها كلما كانت أقدم كانت أكثر قيمة وقدسية. فالحضارة هي نقيض البداوة وإذا كانت الحضارة تعني الاستقرار والامن والعمران والبناء وتراكم والخبرة، فان البداوة هي الضد من ذلك أي الهدم او على الأقل اهمال اعمال البناء والعمران. وربما هذا ما يفسر غياب حتى اطلال او بقايا الحواضر القديمة في العراق وخاصة بغداد وسامراء. ولذا ومنذ ان بدأ ضعف الدولة العباسية، ابتداء من العصر الثالث، وما تبعه من فيضانات وصراعات محلية وتحلل اجتماعي ضعفت إثرها المؤسسات المدنية وانطلقت روح البداوة لتهيمن على الجموع السكانية في المدن والارياف، لم يعد للمنشئات العمرانية من القصور والدور والحدائق والمنتزهات والمدارس والأسواق والحمامات والمساجد أي قدر من الاحترام او القدسية التاريخية او الدينية تحفز للاهتمام بصيانتها وخاصة من الفيضانات، ولا لبذل الجهد لإبقائها قائمة وصالحة للاستعمال. بل صارت تتعرض للإهمال، مما حولها وبسرعة الى اطلال آيلة للسقوط ليقوم العامة بتفكيك الطابوق والخشب والفسيفساء والخزف والمعادن من تلك المباني كي يستعملوه لبناء بيوتهم في الحارات التي كانت تنشأ بدون انتظام او تخطيط. وهذا الاتجاه التخريبي العشوائي اخذ في التجلي ابتداء من العصر العباسي الثالث وكان واضحا في العصر الرابع. وزوار بغداد وغيرها من الحواضر، في العصور العباسية المتأخرة وحتى قبل الغزو المغولي، لم يكونوا يصدقوا اعينهم من مشاهد غياب ما كانوا يسمعوا به ويقرؤا عنه وما نشاؤا عليه من تألق معماري وحضاري ولا يروا اثرا له. حين جاءت زيارة ابن جبير وما لاحظه فيها. ومما يسترعي النظر ما يقوله ابن جبير عن الكوفة حيث انه يضع اليد على مصدر الخراب أي دور القبائل المحيطة بالمدينة:” هي مدينة كبيرة عتيقة البناء، قد استولى الخراب على أكثرها، فالغامر منها أكثر من العامر. ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها، فهي لا تزال توقع فيها الضرر .....". وقد استمر هذا الوضع حتى العصور الحديثة. اذ ان بقايا اسوار وبوابات بغداد قد هدمت في بدايات في القرن العشرين. ويقول أحد زائري المدينة "بغداد في ألف ليلة وليلة وكتب التاريخ لم يبقَ منها إلا اسمها، أما بغداد اليوم فهي عبارة عن عشوائية كبيرة، لا علاقة لها بمعالم وأوصاف المدنية والحضارة. ومقارنة بعواصم الدول المجاورة للعراق، لا يمكن وصف بغداد باعتبارها مدينة! وملامح الفوضى تجدها في كل مكان من بنايات مشوهة وشوارع متهالكة، ومناطق يخيم عليها البؤس والفقر والحرمان. وبمجرد دخولك إليها توحي لك مداخل المدينة أين وصلت مراحل الخراب والدمار والإهمال في هذه المدينة".
العراق - بيئة تفتقد الى المقدس
طبيعة التكوين النفسي والعقلي للبدوي المحكومة بظروف نشأة وتكون تجمعاته البدوية تقوم على التفاخر وعلى الأوهام التي تراكمت عبر موروثهم الأسطوري. فالفرد البدوي له مركز وجود واحد وهو ذاته وشخصه وكل ما يفعله هو لنجاتها وخدمتها. ومصدر الأخلاق هنا هو العقل البشري المحدود أو ما يتفق عليه الناس أي العرف، ومصدر الالزام هو الضمير المجرد أو الإحساس بالواجب أو الاعراف القائمة. اما النظرة الروحية للوجود والانتماءات الدينية وتعاليم الأديان فهي تنبع من مصدر مترفع عن الانسان الفرد. وركيزتها مفهوم ان الكل أكبر من أي من اجزائه وان الموجودات مهما كبرت واستدامت فإنها صغيرة وفانية، وان هناك رب مطلق القوة ودائم الوجود. وان الانسان مهما تضخم في القوة والسلطة والمكانة في الزمان والمكان فهو ليس الا عرض زائل، وان ليس لمن يدرك هذه الحقيقة الا ان يتواضع امامها ويتقبل روح التدين التي تتمثل في تدريب النفس على التواضع للرب، والتشارك في تعاليم مثل التسامح والمغفرة واثرة الغير والصلاح وطلب الاخرة والتقوى والخوف من العقاب وابتغاء الثواب والحياء والزهد والصدق والقناعة والتسليم والكرم والأمانة والتقوى وعدم الغدر والتمثيل بالجثث. فالتعاليم لدينية تضع محددات لسلوك الافراد كيف يفكروا يتحدثوا ويتصرفوا. وهي تلجم وتردع السلوك الذي تفرزه غرائز القتل التدمير والتخريب والابادة والحرق والتعذيب... وإذا كان التصوف يمثل روح الدين وجوهره، وإذا كان مترسخا في الفترات الأولى من الحكم الإسلامي قي العراق، ابتداء من رابعة العدوية وحسن البصري ثم الحلاج وجنيد وعبد القادر الكيلاني...وغيرهم، فليس مستغربا ان لا يلقى التصوف تقبلا من قبل العقلية البدوية التي هي في طبيعتها المادية في تضاد مع روحانية التصوف. افول التصوف واضمحلاله يعطي مؤشرا على غلبة التيار المضاد له والذي يهب من البادية. مما جعل العراق يعرف بانه أكثر مناطق العالم الإسلامي فقرا روحيا. ونلاحظ حتى اليوم ان سكان العراق فيهم اعلى نسبة في البلدان الاسلامية من غير المتدينين الذين تبنوا العلمية والعلمانية ونسختهم الخاصة من الشيوعية كبدائل عن القيم الروحية والمشاعر والانتماءات الدينية. اما في ارياف الجنوب حيث تسود العقيدة الشيعية مع وجود وانتشار للاماكن والمقامات المقدسة، فإن تلك العقيدة عندما تداخلت مع الذهنية العشائرية والخلفية البدوية نتج عنها تكتلات تتميز بالانغلاق وبالتعصب والعقم الفكري والثقافي. وهو ما نعيشه حتى الوقت الحاضر.
العراق - منخفض حضاري
الالف سنة منذ انكسار الدولة العباسية لم تشهد نهضة إنتاجية وحضارية مثل تلك التي كانت تحصل بصورة دورية في العصور السابقة. حيث لم يحاول البويهيون ولا السلاجقة او العثمانيون بعدهم إعادة استغلال ارض السهل الرسوبي. وربما يعود ذلك الى افتتاح أراضي زراعية جديدة في شرق اوروبا اقل كلفة استثمارية، او الى انتقال خطوط التجارة ومراكز الثقل السياسي والحضاري بعيدا عن الهلال الخصيب. ومن ثم لم نلاحظ تغييرا يذكر في الوضع السكاني للعراق وبقي ذلك السهل تتواصل فيه غلبة الروح البدوية والعشائرية التي امتزجت بعد طول إقامة بنمط حياة ومنظومة قيم وعادات وتقاليد ومعتقدات وأفكار سكان المدن العتيقة فخرج من ذلك الامتزاج خليط غريب من السلوك الجماعي السكاني مجرد من اي ملامح حضارية. وهنا لا يسعنا الا الاشارة الى ما يعرف عن العراق بانه ارض الحضارات وان أقدمها نشأت فيه. من الواضح ان الحضارات العراقية تتوهج بشدة لفترة معينة في عصر ذهبي لها ثم تنطفئ نهائياً، وتقريبا لا يبقى لها من أثر مادي او معنوي، الى ان تقوم مجددا. بخلاف معظم ما معروف من حضارات عريقة حتى المحيطة بها، مثل السورية والفارسية، والتي عندما ينتهي عصرها الذهبي فإنها قد تخبو ولكنها لا تنطفئ بل تبقى كامنة مثل نار تحت الرماد تشهد عليها اثارها المادية من قصور ومعابد. وتشهد عليها قدرات مجتمعاتها على الابداع ثقافيا وفنيا وادبيا وروحية ودينية، وعلى استيعاب واستعارة المؤثرات والابداعات الخارجية والتأقلم معها. أي بعبارات كارل ماركس هي تبقى قادرة على صنع التاريخ... وهنا يبرز سؤال محير. يا ترى أي تاريخ صنعه العراق في الالف عام التي أعقبت انتهاء العصر الذهبي للدولة العباسية؟ وفيما عدا بضع عشرات من السنين التي عاشتها الدولة العراقية خلال القرن العشرين، يصعب ان نجد فترة أخرى فيها، قبلها او بعدها، منجزا حضاريا مهما للمجتمع العراقي في مجال الفنون والآداب والثقافة والعمران والعلوم والفلسفة والاقتصاد يستحق ان نتوقف عنده. فيما غدا العطاء الشعري الذي تبرع فيه البيئة العربية تاريخيا سواء في الحواضر او البادية. ولننظر الى الموسيقى والغناء والرقص التي تعد عادة من أولويات الوجود البشري، متحضر او غيره. نلاحظ هنا وجود نوعين رئيسيين من الغناء. وهو الريفي في مناطق الجنوب الذي لا يشكل نمطا اصيلا يمتد من تاريخ الريف العراقي القديم، بل هو غناء بدوي مع تأثر بالواقع المرير بعد ان فقد الفرد القادم من الصحراء حريته وروحه الحرة المنطلقة وصار قنا للأرض يتحكم فيه سادتها. يضاف الى ذلك موقف المعتقد الشيعي المتزمت من الموسيقى عموما والغناء والرقص على الأخص، والمحكوم بالحدث المفصلي في تاريخ الشيعة وهو حدث حزين يستدر الدموع ولا يتوافق معه الغناء والرقص... اما الغناء المديني فقد استطاع الحفاظ على بعض من ملامحه الاصيلة في مناطق على أطراف الحزام البدوي مثل بغداد وكركوك والموصل، وذلك بالتركيز على المحتوى الديني والروحاني، والمديح النبوي. ونلاحظ ذلك في غناء المقامات العراقية الذي قد يعود الى عصور تاريخية قديمة. وربما ان نمط المقام الحالي المتسم بالرزانة المفرطة اخذ في الاعتبار الطابع الحزين للبيئة العراقية القائمة.
العراق – خلطة سكانية
ربما نستطيع ان نجمل الخارطة الاجتماعية لسكان العراق كالاتي: هي خلطة سلوكية جماعية تتركب من سكان يفتقدوا الى جذور اجتماعية او ذاكرة تاريخية. وعندما تغيب الذاكرة الاجتماعية التاريخية الناضجة فلن يبقى سوى الذاكرة الفردية المحدودة ضيقة الأفق. أولئك السكان يقيموا بين اطلال ماضي عريق يتوهموا الانتماء له، ولذا يخال لهم انهم لم ينالوا ما يستحقوا من التفوق والتطور وخاصة مناحيه المادية مثل الثراء الرفاه. ولأجل نيل ذلك الاستحقاق فان المجاميع السكانية تتحرك او تتصرف محكومون بعقلية وسلوكيات البداوة التي يغلب عليها الغلواء والتطرف والثأر والاسراف في القتل. وكذلك تسيطر عليها روح الهدم ليس فقط للصروح ومظاهر العمران والحضارة وانما حتى تجاه تجلياتها مثل الفعاليات والتوجهات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تنحوا للتعمير والانشاء الحضاري، وما يتمخض عنها من أفكار وابداعات ومؤسسات وهياكل سياسية وثقافية واقتصادية. ولا ينجوا من فؤوس القمع تلك حتى البشر الذين يشاركوا في تلك الفعاليات ويحملوا شعلتها. وفي نفس الوقت يغيب عن هذه الأجواء الوازع الديني والروحاني الذي يلجم ثورات الغضب والعنف وانفلات الغرائز والرغبات. هذه الخلطة هي التي قد تفسر ما في التاريخ العراقي من دموية وقسوة وتوحش "في صباح 14 تموز عام 1958، قام بعض ضباط الجيش بانقلاب أطاحْ بالعهد الملكي في العراق. قتل في يومها معظم افراد الاسرة المالكة وبضمنهم الملك فيصل الثاني نفسه. وقد ُسحلت جثّة الوصي عبد الإله، خال الملك، بالحبال عند بوابة وزارة الدفاع في بغداد. وبعد يومين، سُحل رئيس الوزراء آنذاك، نوري السعيد، على يد جموع غاضبة في منطقة البتاويين في قلب العاصمة. وتتالت حوادث السحل، ففي 14 تموز / يوليو عام 1959، شهدت كركوك، في الذكرى الأولى للثورة، سحل أكثر من 79 شخصاً بحبال مشدودة بسيارات عسكرية، بعد قتلهم، فضلاً عن دفن 46 شخصاً وهم أحياء، على يد «الجبهة الوطنية» وبعض المتواطئين من قيادات الجيش، بحسب لجنة التحقيقات التي أوفدت للتحقيق بالمجزرة والتي وصفت بأنها «لم تحدث في عهد هولاكو»". ولم تكن كركوك وحدها التي سحلت الخصوم، ففي آذار / مارس 1959، سُحل وقُتل نحو مئة شخص في الموصل، في شوارع المدينة لكي «يكونوا عبرة». ومع هاتين الحادثتين انبثق شعار: «ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة». اعقبها عام 1963 اعدام رئيس الوزراء وعدد من اقطاب السلطة آنذاك بعد محاكمة صورية استغرقت بضع دقائق. وعرضت جثثهم للجمهور على شاشات التلفاز حيث كان بعض الجنود يحركون رؤوس القتلى ويلوون اجسامهم للتأكيد على موتهم. *** ثم تواصلت المجازر بصورة قل نظيرها في التاريخ البشري. ومؤخرنا، في القرن العشرين، اجتمعت رباعية البداوة، مع التخلف، مع دولارات البترول، مع الاسناد من الغرب المتوحش، في شخصية صدام حسين ووسمت عصره بسماتها. وخلال ربع قرن عاثت الة العبث والتدمير في الجسد السكاني العراقي تعذيب وإبادة سكانية ورعب وتهجير وتطهير عرقي وحروب عبثية وفساد...الكثير من البشر ذهبوا ضحايا لتلك المجازر ومن بقي حيا لم يعد سوى جسد بلا روح كما الزومبي...
العراق - جيوب حضارية
الأغلبية من سكان العراق بعد الفتح الإسلامي كانوا من العرب المسلمين، وبالطبع لم يكن صعبا عليهم تقبل المد البدوي بل والتأقلم معه. ودعونا نتذكر بان أولئك السكان ليسوا امتداد متواصل لسكان هذه الأرض. اذ كانت تحصل فيها انقطاعات وفراغات سكانية دورية كلما انكسرت قوة الدولة وانهار الإنتاج الزراعي. فهم أنفسهم اذن وفي حقيقة الامر من المجموعة السكانية التي اكتسحت ذلك السهل إثر المد العربي الإسلامي ومن ثم لم يكونوا بعد مجتمعا طبيعيا وعضويا حسب ما قدمناه من توصيف. غير ان هناك مجاميع سكانية أخرى تشكل رغم صغرها النسبي طوائف او مجتمعات مغلقة لا تنتمي الى ذلك الكم السائد، بل ان لها خصوصيات متفاوتة حفظتها من الذوبان في الطوفان الذي غمر تلك الأرض، وواصلت الاحتفاظ بهويتها التاريخية وشخصيتها المتميزة. البعض منها يتميز عرقيا ودينيا أمثال الطوائف اليهودية والمسيحية والمندائية وغيرها التي ربما البعض منها هم بقايا مجتمعات وحضارات قديمة اخترقت التاريخ ووصلت الى الحاضر وهي تحفظ الكثير من ملامح تلك العهود البائدة مثلها مثل قواقع لم تكسر او هي متحجرات اثرية تاريخية. الطائفة اليهودية يتفق معظم المؤرخين على ان الوجود اليهودي في العراق بدأ في القرن الثامن قبل الميلاد حين جاء الملك سنحاريب بالأسرى من اليهود من حملاته على فلسطين الى بلاد اشور في شمالي العراق. ثم جلبت المملكة الكلدانية البابلية المزيد من الاسرى من اليهود الى بابل على عهد الملك نبوخذ نصر في القرن السادس قبل الميلاد. تواصل قدوم اليهود في العهود التالية وحتى فجر الإسلام حيث جاء الكثير منهم الى العراق من الجزيرة العربية على أيام الخليفة عمر ابن الخطاب. على الصعيد الديموغرافي، انتشر يهود العراق في أغلبية المدن والقرى العراقية ولا سيما بغداد والموصل والبصرة وكركوك.
وربما ان الطائفة اليهودية هي في الواقع الجماعة المغلقة الاقدم والأكثر اصالة وحفظاً للتاريخ العراقي من اية مجموعة أخرى. وقد بقيت ذات حضور عددي معتبر في الأزمنة التي تلت ذلك في بعض حواضر العراق وبالذات في بغداد حيث كان ثلث السكان من اليهود في عشرينات القرن الماضي. وكان لهم مناطق سكن تتميز بالنمط العمراني التراثي، وكذلك حضور في الموسيقى والغناء " ان الموسيقيين الذي رافقوا الاستاذ محمد القبانجي في المؤتمر الاول للموسيقى العربية في القاهرة سنة 1932 هم (يوسف بتو على آلة السنطور، صالح شميل على آلة الجوزة، ابراهيم صالح على الرق، يهودا شماس على الطبلة، يوسف زعرور الصغير على آلة القانون، عزوري هارون على آلة العود)" . وكذلك شاركوا في تنظيم الحياة المدنية والثقافة والقانون "أن اليهود العراقيين عاشوا في بلاد الرافدين كسكان أصليين وليس كرعايا دول أجنبية، كما أنهم اعتادوا على التحدث بالعربية أو الكردية في المناطق التي يقطنها الأكراد. وكذلك، واظبوا على استعمال الأسماء العربية مثل فيصل وغازي، ولم يلجؤوا إلى التسمي بالأسماء التوراتية إلا في أضيق الحدود" . و "من بين كل التجمعات اليهودية في الشرق الأوسط، كان يهود العراق الأكثر تكاملاً واندماجاً في المجتمع، والأكثر عروبة، والأكثر ازدهاراً.” الى ان صار ما صار بعد نشأة اسرائيل.
ومن ذلك أيضا الطوائف المسيحية المختلفة التي كانت تقيم في العراق قبل الفتح الإسلامي. البعض منها وخاصة تلك التي تقيم في منطقة الدلتا قد اندمجت في البيئة العربية الإسلامية وكان لها حضور بارز خلال فترة النهضة العباسية. لكن البعض الاخر من الطوائف المسيحية التي هي امتدادات عرقية من الحضارات العراقية القديمة مثل الكلدانية والاشورية فقد حفظت الكثير من الملامح التراثية والتاريخية مثل اللغة والعادات وأساليب الحياة. وبخاصة تلك التي تقيم على أطراف السهل الرسوبي وفي المناطق الجبلية التي لم تتأثر بالزلزال الحضاري الذي تعرض له جنوب العراق.
هنالك كذلك الطائفة المندائية، وهي طائفة عرقية ومعتقديه غير إسلامية سكنت حوالي الانهار في الجزء الجنوبي من العراق. تمايزها الديني ابقاها مثل شرنقة حفظت الكثير من ملامحها القديمة رغم انها كانت منفتحة على التعامل والاندماج في البيئات الدينية القائمة سواء كانت مسيحية قبل الإسلام او إسلامية فيما بعد.
النوع الاخر من التجمعات المغلقة هي مسلمة دينيا غير انها ذات مزايا جعلتها منغلقة على نفسها او متمسكة بخصائصها وهويتها مما حفظها من الذوبان. مثل البيئات المحيطة بالأضرحة ذات القدسية، والمرجعيات والمؤسسات الدينية العريقة سواء شيعية او سنية، والفرق الصوفية. وكذلك المؤسسات الدينية الإسلامية وخاصة الاوقاف...
العراق - النصف الاخر
الحقيقة ان السهل الرسوبي الذي تناولناه أعلاه هو جزء من خارطة العراق الحالي. المنطقة الثانية تقع خارج السهل الرسوبي من ناحية الشمال، وارضها ليست مستوية مثل السهل الرسوبي... بل فيها تضاريس متعرجة ما بين وديان وتلال وجبال. وهي وتعتمد على طرق متعددة لري المحاصيل الزراعية منها الامطار والانهار والمياه الجوفية. وقد نشأت فيها حضارات قديمة ازدهرت بالاعتماد على القدرات الزراعية في الحقل الرسوبي وبالذات الاشورية. غير ان الفارق لا يقتصر على الموقع والتضاريس الطبيعية، بل الأهم انه يتعداه الى الاختلاف ما بين البيئات السكانية والاجتماعية لهذين العالمين. اذ ان انتاج المحاصيل الزراعية هنا وطالما انه ليس بحاجة او اعتماد على قوة الدولة وحضورها كشرط أساسي فان القرى الزراعية في هذه المنطقة قائمة بذاتها ومستقلة ومعتمدة على نفسها، وهي تحت رحمة الطبيعة وخاصة المناخ ولكن ليس الدولة. الارض هنا باقية على طابعها وخصائصها...لا تتعرض للانجراف والبوار إذا ضعفت الدولة او اضمحلت...ولم يهجرها ساكنوها ولم تتعرض لفراغ ديمغرافي. المجتمعات هنا تتميز بالرسوخ والمواصلة ولم يغرقها الطوفان البدوي مما سمح لها ان تبقى محافظة على بعض سماتها الحضارية القديمة. ولهذا فان حضارات الاشوريين والكلدان لم تختف اثارها ولم تمسح من الذاكرة التاريخية بل استمرت في التواجد حيث ورتتها المجتمعات التي تحمل حتى اليوم اسمائها... والولوج في هذا الموضوع تتطلب منهجية تاريخية مختلفة تتجاوز مجال البحث هنا.
#حافظ_الكندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المسألة العراقية - او العراق بين الحقيقة والخيال
-
الغرب - اين يقود العالم؟
-
العوده الى الجنه - القسم الاول
-
العوده الى الجنه - القسم الثاني
-
ظاهرة الانسان: الكمال في النقص
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|