أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي ماجد شبو - المرجعيات المركزية الإجتماعية ومفهوم التجريب















المزيد.....



المرجعيات المركزية الإجتماعية ومفهوم التجريب


علي ماجد شبو
(Ali M. Shabou)


الحوار المتمدن-العدد: 8103 - 2024 / 9 / 17 - 14:01
المحور: الادب والفن
    


أ المرجعيات المركزية الاجتماعية ومفهوم التجريب في المسرح
ان المجتمعات البشرية في كل مكان، لا تستقيم فيها وعندها، معايير وسلوكيات واخلاقيات الحياة، ودروب التفكير دون الاستناد والتعكّز على مرجعيات مركزية أو أساسية تستند اليها. فالمرجعيات المركزية تنطلق، بمثابة الطاقة التي تحرك مجمل النشاط والسلوك الإنساني داخل المجتمع، فهي التي تشكّل مجموعة المعايير والأخلاق والسلوك ومناهج التفكير والتغيير في الحياة، إنما توجد أيضا مراجع فرعية، متحركة وسائلة وديناميكية، لا تقلّ أهمية منها، فهي عادة ما تكون سببا في التحولات الفكرية والاجتماعية، وسياقات التغيير الديناميكية، والابتكارية والابداعية في حركتي الفكر والمجتمع، من بين هذه المراجع الفرعية، مرجعيتين حيويتين الاولى اجتماعية والثانية فلسفية. والمرجعيتان تفرزان مفاهيم فكرية وأخلاقية وسلوكية توجه الأفراد والمجتمعات والثقافات الى إدراك المؤشرات اليومية التي تجري في العالم، والى تشكيل المعتقدات والقيم والسلوكيات، ومنح الفرص لاختيار أنسب السبل المتاحة لصنع القرار، والسعي نحو تحقيق الحرية أو هوامشها للمجتمع وللأفراد. باعتبار أن المجتمعات بوصفها العام تتعامل مع هذه المرجعيات كمرتكزات توفر لها إطارًا لفهم وتفسير التجارب التاريخية، والسماح بالتنقل بين ثنايا التعقيدات الحياتية، ثم التعامل مع شرائح المجتمع ومعتقداته الفلسفية الجامعة. علاوة على ذلك، فإن هذه المرجعيات تستحث التقاليد الثقافية والموروثات التاريخية والدينية والأعراف والتجارب الجمعية المشتركة، والتي بمجموعها تساعد الافراد على إنشاء أرضية مشتركة لتفهّم مجتمعهم ولتسهيل حالة التماسك الاجتماعي وتشكيل ملامح الهوية الوطنية الجامعة للمجتمع وتأكيد الهويات الفرعية لمختلف الشرائح.
من هذه المراجع الاجتماعية والفلسفية تنبثق مراجع مركزية لتشكيل أطر وجماليات المسرح. وهنا تجدر الإشارة الى ان حالة المسرح في المنطقة العربية تستند الى المراجع المركزية الغربية بأعتباره، أي المسرح في المنطقة العربية، حالة فنية وافدة على الثقافة العربية، والسبب ان الثقافة العربية، الى منتصف القرن العشرين، لم تستطع أن تستولد مرجعيات أساسية قادرة على تشكيل فكري وجمالي وإبداعي للدراما الحياتية وبخصائص المجتمعات العربية.
إن المرجعيات المركزية المختلفة عادة ما تكون مركبة من أسس روحية، وفكرية، وقانونية وإرث تاريخي يشترك فيهم ويتقبلهم الجميع، كالشرائع الدينية، والتجربة التاريخية، والأطر القانونية، والدساتير التي تتحكم بشكل الدولة والمجتمع إضافة الى التراكم التربوي الاسري. ادناه عرض مختصر للمرجعيات في المجتمع الغربي بما في ذلك المجتمع الأمريكي، ثم عرض للمرجعيات المركزية في المجتمعات العربية. (لإن ذلك، بإعتقادي، سيؤدي الى فهم المرجعيات المعاصرة التي يستند اليها المسرح سواء في المشرق أوالمغرب العربي في تجديد دلالاته وإعادة النظر بمرجعياته ومقدرته بالشروع بتجريب بدائل لما هو سائد.) مع ملاحظة ان هذا العرض يتناول فقط الأطر العامة والعريضة لمرجعيات هذه المجتمعات دون الدخول في الخصوصية الوطنية او المحلية لكل مجتمع وثقافته. ثم ننتقل، بعد ذلك، الى علاقة المرجعيات المركزية بمفهوم التجريب والابتكار في المسرح.
المرجعيات في المجتمع الغربي
يجب الاعتراف بان المجتمع الأمريكي حالة خاصة ومعقدة جدا فهو نسيج من جميع ثقافات العالم تقريبا، وتتحكم به مرجعيات حداثية في الشكل، وليس بالضرورة في التطبيق، متضمنة المبادئ الإنسانية بمجموعها، وما انبثق عنها من قيم حقوق الانسان، وحقوق ممارسة الحريات المختلفة والتطبيق العملي لمبادئ الديموقراطية والحوكمة. غير أن هذه المعايير والقيم تصبح انتقائية في حال تطبيقها داخل وخارج المجتمع الامريكي. لذلك سيكون الحديث بشكل مركز أكثر على المرجعيات المركزية الغربية في العالم الراهن. فعلى الرغم من المشتركات (بين المجتمع الأمريكي، والمجتمعات الغربية، والمقصود بذلك مجتمعات أوربا الغربية) في بعض القيم الفكرية والأخلاقية والدينية والفلسفية والإنسانية والثقافية، إضافة الى مشتركات مبدئية معنية بالحرية الفردية، والمساواة بين الجنسين وحقوق الانسان والديموقراطية. ومع ذلك، فإن أهم هذه المراجع المركزية المشتركة ما يلي:
1. الكنيسة والديانة المسيحية: لاتزال المسيحية ديانة مهيمنة في أوروبا وهي تشكل مرجعية رئيسية للقيم الإنسانية والأخلاقية والروحية. فالكنيسة الكاثوليكية، وكذلك الطوائف البروتستانتية المختلفة، لاتزال لها تأثير كبير على المجتمعات الأوروبية بصورة عامة.
2. العلمانية أو فصل الدين عن الدولة: انتشرت العلمانية كمرجعية بارزة وخاصة في مجتمعات أوربا الغربية، وساهمت بإبعاد شرائح واسعة من هذه المجتمعات عن الكنيسة والأعراف الدينية نتيجة إيمانها، أي هذه الشرائح، بأهمية العقل والعلم وتفضيل ممارسة ذلك على المعتقدات الدينية.
من هاتين المرجعيتين المركزيتين المتعاكستين انبثقت عدة عوامل لتشكيل مرجعيات أساسية أخرى مسؤولة عن صوغ القيم الانسانية والسلوك والأخلاق والفكر الحداثي، منها التالي:
حقوق الانسان:
مع اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قبل الأمم المتحدة في عام 1948 والذي كان بمثابة وثيقة تأسيسية، أصبح مفهوم حقوق الإنسان محورياً كمرجعية قانونية وإنسانية للمجتمعات الأوروبية، ومنذ ذلك الحين، قامت الدول الأوروبية بدمج مبادئ حقوق الإنسان في دساتيرها وأطرها القانونية، بهدف تعزيز الحريات المدنية، والسياسية، والحقوق الاجتماعية.
الديمقراطية:
قدّمت الديمقراطية الأثينية القديمة نموذجا مبكرا، وإن كان محدود النطاق، لإدارة تشعبات السلطة، في حين إن المفهوم الحديث للديمقراطية، يُؤكد على الاقتراع العام ومبدأ الحكومة التمثيلية. حيث ان مفهوم الديمقراطية أصبح سمة مميزة للتطور السياسي للمجتمعات الغربية، من خلال تجذر أشكال وأساليب مختلفة لتطوير تطبيقات الديموقراطية التي تأثرت بالثورات في فرنسا وأمريكا. ومع ذلك، فقد ظهرت، في السنوات الأخيرة، تحديات جدّية أمام الممارسات الديموقراطية في المجتمعات الغربية، مثل الشعبوية، والقومية المتعصبة، والميول الاستبدادية، والاستقطاب السياسي، والتلاعب بوسائل الاعلام، وصعود الإيديولوجيات المتطرفة مما يشكل تهديدا حقيقياً للقيم والمؤسسات الديمقراطية. الأمر الذي سيستوجب النظر في إعادة تقويم المرجعيات والمعايير والممارسات الديمقراطية.

التغيرات الاجتماعية:
شهدت المجتمعات الأوروبية تغيرات اجتماعية عميقة، خصوصاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك النمو المتزايد في التغييرات الديموغرافية التي أدّت الى تحولات مهمة في الهياكل الاسرية والى إثراء التنوع الثقافي. وبرز مفهوم الفردية، الذي يؤكد على حقوق الفرد والتعبير عن ذاته وممارسة حريته باستقلالية في هذه المجتمعات كمرجعية أساسية.
المجتمع المدني:
نشطت حركات ومنظمات المجتمع المدني كنتيجة للتغييرات التي طرأت على المجتمع، واعتماد مبدأ احترام التعددية الثقافية والتكامل والتضامن الاجتماعي، واحترام حقوق الاقليات. ضمن هذا السياق لفتت الحركة النسوية الانتباه إلى مبدأ المساواة بين الجنسين، مما أدى إلى تغييرات تشريعية واجتماعية مهمة أفضت إلى تحسين وضع المرأة في العديد من البلدان الغربية. غير أن المجتمعات الاوربية تواجه تحديات جدية في قضايا مثل الهوية والانتماء والاندماج الاجتماعي في مواجهة الهجرات المتكررة والتحولات الاجتماعية السريعة. من هذه الأجواء نشطت حركات مدنية أخرى تدعو الى الاعتراف بحقوق المثليين والمتحولين جنسيا ومساواتهم ببقية شرائح المجتمع.
وبشكل عام، تعكس المرجعية الأخلاقية والدينية والفلسفية في المجتمعات الأوروبية والامريكية في القرن الحادي والعشرين تفاعلاً معقداً بين التقاليد المعتمدة والتنوع والحداثة، مما يشكل الممارسات العصرية للقيم والمعتقدات الفردية والجماعية. ومن الناحية الفلسفية، تعتمد المجتمعات الغربية على تقاليد غنية من الفكر الفلسفي، بما في ذلك العقلانية، والإستقرائية، والتجريبية، والوجودية، وما بعد الحداثة. غالبًا ما تُثري هذه الفلسفات المناقشات حول مفاهيم الأخلاق والسياسة والقضايا الاجتماعية، مما يوفر إطارًا للتفكير النقدي، واتخاذ القرارات التي لها أبعاد مؤثرة في مسارات المجتمع والأخلاق، وإن كان كل ذلك محصوراً بين النخب الثقافية.
المرجعيات في المجتمع العربي:
لأن العالم العربي يمتد على مسافات جغرافية واسعة تحتضن المحيط الأطلسي والبحر المتوسط من جانب والخليج العربي وبحر العرب من جانب آخر، فقد تراكم لديه تراث ثقافي غني ومتنوع، يشتمل على هياكل اجتماعية مختلفة ومعقدة، ومجموعة واسعة من الأنظمة السياسية غير المتوافقة. يتطلّب فهم المجتمعات العربية دراسة العديد من المرجعيات المركزية التي شكلت هذه المجتمعات تاريخياً وما زالت تؤثر فيها خاصة في صوغ القيم والمبادئ والاخلاق. وتشتمل هذه المرجعيات على ما يلي:
أولا. الدين:
يشكّل الدين الإسلامي مرجعاً مركزيًا في تأطير التقاليد والأعراف الثقافية والقوانين والممارسات اليومية. فالشرائع والتعاليم الدينية لا تزال تتحكم بعمق في النسيج الاجتماعي، وتقدم الشرعية اللازمة لديمومة بعض السلطات والحكام في المنطقة العربية.
ثانيا. التقاليد:
القبيلة: حيث لا تزال الانتماءات والولاءات القبلية ذات أهمية كبيرة في العديد من البلدان العربية، مما يؤثر على سيادة القانون ونفوذ السلطة، وعلى ممارسة أو إستدامة الحكم الرشيد، كما يؤثر في طبيعة العلاقات الاجتماعية والسياسية وصوغ الهوية الوطنية.
ثالثا. اللغة:
اللغة العربية: هي اللغة الموحدّة والمشتركة في العالم العربي وتعتبر عنصراً أساسيا من مكونات الهوية القومية. واللغة العربية ليست تواصلية فحسب، بل هي ثقافية ودينية أيضًا، فهي لغة القرآن.
رابعا. الادب والشعر والنثر:
تتمتع المجتمعات العربية بتقاليد طويلة الأمد في الشعر والأدب حيث ساهما، وأعني الادب والشعر، في الهوية الثقافية والذاكرة الجمعية لهذه المجتمعات. فقد تحولّ الشعر من الإسهاب في وصف الحبيب، والفرس الأنيقة، والناقة الجميلة، الى الفلسفة والحكمة في الشعر كما في شعر المتنبي وألمعرّي، ومنهما الى المعاصرة والحداثة في الشعر من بدر شاكر السياب الى أحمد عبد المعطي حجازي وأدونيس، وغيرهم الكثير.
خامسا. التاريخ الاستعماري والقومية:
شهدت العديد من الدول العربية فترات من الحكم الاستعماري الثقيل إبتداءً من سلاطين الدولة العثمانية الى الهيمنة الأوروبية، والتي تركت آثارًا دائمة على تركيبة المجتمع، وعلى حدودها، وهياكل الحكم، والديناميكيات السياسية. غير أن المفارقة المدهشة أن إرث الاستعمار تحول الى مرجع مركزي للحركات الاجتماعية والسياسية التي أثّرت في تنامي الإحساس بالقومية العربية في القرن العشرين، وقادت السعي الى تعزيز الهوية العربية المشتركة والعمل على الاستقلال والوحدة بين الشعوب العربية.
أثر المرجعيات الغربية على المجتمع العربي
إن تمازج بعض المرجعيات الغربية مع المرجعيات العربية أتاح الفرص لإنشاء خطاب عربي خاص بحقوق الانسان وبالديموقراطية. ففي مجال حقوق الانسان يتشكّل الخطاب في المجتمعات العربية من خلال مزيج من المعايير الدولية لحقوق الإنسان والمبادئ الدينية الإسلامية. ولكن على الرغم من التقدم الذي تم إحرازه في تعزيز مبادئ حقوق الإنسان في المنطقة، إلا أن التحديات لا تزال قائمة في مجالات مثل حرية التعبير، ومختلف أصناف الحقوق بما في ذلك حقوق المرأة وحقوق ذوي الإعاقة وحقوق الأقليات القومية العرقية، ويعود ذلك الى أن المجتمعات العربية تعيش حالة من التوتر بين المعايير الثقافية السائدة، والمبادئ العالمية لحقوق الإنسان. أما في مجال الديمقراطية فيتخذ المفهوم منحى أكثر تعقيدا وغموضا فهو يتأثر بالموروثات التاريخية، والتجارب الاستعمارية، والديناميكيات الجيوسياسية، إضافة الى إرث وفير من التعسف والحكم الانفرادي. ففي حين قطعت بعض الدول العربية خطوات واسعة نحو التحول الديمقراطي، إلا أن هناك تحديات غاية في الجدية مثل الاستبداد وعدم الاستقرار السياسي وغياب المشاركة السياسية لا تزال قائمة في المنطقة. وإن الدعوات إلى الإصلاح السياسي والشفافية والمساءلة لا تزال تشكل محور المناقشات حول الديمقراطية في المجتمعات العربية. أما التغيرات في التركيبة الاجتماعية فتعود الى التوسع الحضري السريع، وترييف المدن، وهيمنة العولمة وتزايد إستخدام مخرجات التقدم التكنولوجي. وعلى الرغم من الانغماس الشديد في تقنيات التواصل الاجتماعي والإعلامي، غير ان المساس بمبادئ أخلاقية وإجتماعية راسخة في المجتمع العربي، لاتزال مرفوضة تماما من قبل مختلف شرائح المجتمع، فمثلاً إن النداءات لحفظ حقوق المثلية الجنسية والتحول الجنسي لا تجد لها صدى في المجتمعات العربية الاّ من منظور كونها حالة جديدة من إستعمار أخلاقي لهذه المجتمعات.

المرجعيات المركزية في المسرح

في السياقات الفنية، تلعب المرجعيات المركزية دورًا حاسمًا في إنتقاء الموضوعات وتحديد الاولويات، علاوة على تغذية العمليات الإبداعية، والاختيارات الجمالية، والاستكشافات الخاصة بالمضامين وبأساليب العرض. ولهذه المرجعيات مصادر مختلفة مثل الاحداث التاريخية، والمورث الشعبي، والتجارب الشخصية للفنانين، والحركات والتيارات الفنية، والرموز الثقافية والفنية، إضافة الى مؤثرات الثقافة والفن والفلسفة الغربية. وغالبًا ما يتأتى الإلهام من هذه المصادر لصوغ أعمال فنية متميزة ومبدعة ومؤثرة. مع ملاحظة أن المرجعيات في الفن المسرحي ممكن ان تكون بمثابة محركات لتكوين الشكل والتعبير الفني والمادي في التجريب والتفسير. أستعرض أدناه، بشكل مقتضب للغاية، أهم هذه التيارات والمراجع المركزية التي أثّرت تاريخيا في مسارات المسرح الإبداعية والتجريبية:

من بين هذه التيّارات، تيّار "السلوكية أو الكيفية" Mannerism الذي تميّز بالبحث عن الأناقة، ودقة التعبير، وتيار "الباروك" الذي تميز بالحركة الديناميكية والدرامية والتفاصيل الزاهية، خاصة في الفن التشكيلي والنحت والعمارة، وتيار "الكلاسيكية" الذي ساهم في تطوير فنون المسرح على مدى العصور، وتيار "الروكوكو" الذي كان يعتمد الأسلوب الزخرفي والحبكات الخفيفة المدمجة بالموسيقى والغناء، ولا يزال تأثير هذا التيار حتى اليوم في بعض العروض المسرحية، وتيار "الكلاسيكية الجديدة" التي أحيت مبادئ الكلاسيكية ، كرد فعل على هزالة الروكوكو، ثم يلي ذلك تيار "الرومانسية" الذي يعكس العواطف القوية والشغف والروحانية، وتيار "الواقعية" الذي يتميز بعرض الشخصيات الواقعية و نقل المواقف الحقيقية اليومية المعاشة من خلال طرح القضايا الاجتماعية والسياسية بشكل مباشر وشديد الصراحة، وتيار "الطبيعية" الذي يدفع بالواقعية إلى أقصى حدودها، ثم تيار "الرمزية"، والذي يستخدم الصور والرموز للتعبير عن الحالة المزاجية والأحلام وأسرار النفس البشرية.

تلى تلك المراحل حالات متعددة من التمرد على ماهو سائد في المسرح، والشروع بمبادئ جديدة للعرض المسرحي، وبتكوينات وصيغ جمالية مختلفة. هذا التمرد يشّكل، بإعتقادي، الخطوة الأولى نحو المفهوم الحداثي للتجريب في المسرح، فقد ولّد التمرد المذكور تيارات فنية وفكرية حديثة منفصلة عما سبقها. أبتدأ هذا التمرد الغاضب في المسرح الحديث، وقاده، أنتونين آرتو، الذي إبتعد تماماً عن المعايير والاحكام الجمالية المتوافق عليها في الإجماع الاجتماعي، وحاول أن يستنبط جماليات أخرى، ولعلها من نوع خاص، جماليات تنحدر من أسفل السلّم الإيستتيكي، ويمكن تسميتها بالجمال الصادر أو المُشع عن القبح والقسوة والضجيج: أو ببساطة، إنه جمال القبح. أي أن المسرح بدأ بمراجعة معايير الجمال المتوافق عليها ضمن الذائقة الاجتماعية العامة، وضمن مختلف مدارس الفكر والفلسفة، وإستبدالها بمعايير جمالية ومبادئ إستيتيكية لم تكن سائدة ومستعملة في تشكيل العروض المسرحية. هذه هي الرحلة الأولى في التجريب المسرحي الحداثيي الذي لم يتوقف فهو يستند جوهريا الى الطاقة الديالكتيكية التي تحرّك مسار العصور.
وهكذا نشأ مسرح القسوة والذي إستولد التيار "الدادائي" الذي ولد من رحم العنف والقسوة اللذان تميزت بهما الحرب العالمية الأولى، ثم التيار "السوريالي" لأندريه برتون الذي تطور عن الدادائية، وعقب ذلك تيارات سُميت "بمسرح العبث والوجودي" لجان بول سارتر والبير كامو والذي تزامن مع تيار "المسرح الملحمي" لبرتولت بريخت ثم أخيراً "المسرح الطليعي" لصموئيل بيكيت ويوجين أونيسكو. هذه التيارات، التي نشأت في القرن العشرين، تعاملت مع تجارب جمالية مستحدثة، تتكامل أحياناً أو تعادي ما هو سائد من جماليات وأحكامها وحساباتها. حيث إنها شكلت حالة، ربما فريدة، في تاريخ الفن من حيث قوة وشدة الرفض والتمرد الكامن ضد ما سبق من تيارات. عقب ذلك عدد من التيارات المستحدثة من مبادئ وجماليات المسرح الطليعي التي أمتدت الي يومنا هذا، مع تأثيرات كبيرة لتلك التيارات في الفنون التشكيلية والشعر والرواية. ولكني سأشير هنا فقط الى ما أعتقده علامة بارزة في تاريخ وتطور التجريب المسرحي.
المرجعيات المسرحية المركزية بين أرسطو وستانسلافسكي.
قبل الخوض في مفهوم وديناميكية التجريب في المسرح، سيكون من المهم، أيضاً، النظر الى المرجعيات المركزية من منظور آخر. فليس المقصود هنا وضع تاريخ متسلسل للمراجع التي أثرت في مسارات المسرح، وإنما تأكيد بعض أهم هذه المراجع التي، لم تقم فقط بإرساء الأسس الثابتة والمتينة للمسرح، وإستدراج الإمكانات الإبداعية لتحديثه، بل قادت فيما بعد مسارات التجريب والتجديد في المسرح. فإنطلاقاً من الرؤى العبقرية والعميقة للفيلسوف والشاعراليوناني الشهير أرسطو، تمكّن المسرح من صوغ البنية الدرامية التي شكلّت الأسس الأولية الخالدة للمسرح. فقد قدم أرسطو واحدة من أقدم الأطروحات وأكثرها ديمومة حول النظرية الدرامية في كتابه "فن الشعر". إن استكشافه للعناصر الأساسية للمأساة، بما في ذلك الحبكة، وتشكيل الشخصية، والفكر المراد إيصاله للمشاهد، وطبيعة الإلقاء واللحن والموسيقى وصوغ المشهد، لا تزال، أي هذه العناصر، بمثابة المرجعية الأساسية الاولى لفهم مبادئ سرد وتشكيل العرض الدرامي المسرحي.
ومن المرجعية الاولى المؤسسة على فن الشعرلأرسطو إلى المرجعية الثانية الأساسية المنبثقة عن العمل الابداعي الرائد لكونستانتين ستانيسلافسكي في التركيز على عمل الممثل في العمل الدرامي، وإستحداث نظرة ثلاثية الابعاد لرسم الشخصية المُراد تجسيدها، تشتمل على البعد النفسي والبعد الحسي والبعد الاجتماعي، ضمن إطار الذاكرة الحياتية للممثل والتي تتسرب دراميا عبر حالة التمثيل الى المسرح. وبهذا فقد قام ستانيسلافسكي بتقنين تدريب وعمل الممثلين وفهم الحدس، والإحساس، والادراك وإنعكاسات ذلك على تكوين الشخصية من خلال الممثل من جانب، وعلى مجموع العمل المسرحي من جانب آخر.
فيما بين هاتين المرجعيتين حدثت تطورات مهمة في بنية الدراما والعرض المسرحي، أهمها تطويرين، الأول، هو ما حدث في عصر النهضة الإيطالية في تغيير الأطر العامة لهندسة العرض المسرحي والمشهدية الجمالية أو السينوغرافيا، والتي حدّثت أسلوب وشكل العرض المسرحي بإستخدام المنظور الهندسي في تصميم الديكور والمشهدية الجمالية، بشكل يقترب مما هو يومي في الطبيعة. يبقى ان نذكر ان هذه التغييرات حدثت بتأثيرات من المهندس المعماري الايطالي المبدع والرائد سيباستيان سيرليو. أما التطور الثاني فقد إنبثق عن مجموعة نصوص مسرحيات الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن المتميزة بالواقعية الحادّة، أو ما يسمى، أيضاً، بالواقعية النفسية عبر معالجة مختلف القضايا والمشاكل الاجتماعية السائدة بإطار يتضمن الشخصيات الدرامية المرسومة بدقة شديدة، وبأبعاد مركبة ومعقدة، تعكس الواجهات الخفية من المجتمع، والتي يكافح أفراد المجتمع من أجل إنكار وجودها. وبذلك يكون أبسن قد أرسى الأسس الجادة لإنبثاق الدراما الحديثة السائدة منذ ذلك الوقت.
بين هذين القطبين، أي أرسطو وستانسلافسكي، تأسس الخط البياني للمسرح والذي لا يزال يسيطر على شكل ومضمون وإبداع الدراما المسرحية في العالم. هذه الهيمنة الواسعة قد تعود الى أن التيارات التجريبية (حسب تعريفها) تكون نخبوية، أي ان الجمهور، بشكله الواسع، يكون محروم من التواجد والتمتع في المسرح، وهذا شكل من أشكال التعالي والاقصاء الذي يستوجب الحذر الشديد منه، عند الشروع بممارسة التجريب.
مفهوم التجريب في المسرح
بقي تطور المسرح يسترشد بإبداع ومساهمات المراجع المسرحية الرئيسية المذكورة الى حين ظهور أولى علامات التمرد الواضحة ضدها في التيارات المسرحية الأولى التي إنبثقت في القرن العشرين، والتي أرست مبادئ حداثية لمفهوم التجريب على أسس إجتماعية وفلسفية. إنما سيكون من الإنصاف ان نعترف بإن مفهومي التجريب والحداثة من الناحية التاريخية شكلّا ما يمكن إعتبارهما محركات أساسية للتطور الفكري وخطوات واسعة لفهم الإنسان، كفرد وكمجتمع، على مدى التاريخ. وهنا من المفيد الإشارة الي مفهوم الفيلسوف أدجار موران بأن مختلف جوانب الحداثة والتجريب يمكن إعتبارها متكاملة ككل وفي ذات الوقت متعارضة.
ولذلك سيكون من المفيد أيضاً، تحديد تعريف، ربما تقريبي، ولكن واضح لمفهوم التجريب يسمح بوضع معايير القياس والضبط، وبمرونة واسعة. فالانطولوجيا العربية، مثلاً، وهي عبارة عن محرك بحث، من جامعة بير زيت، يبحث في حوالي مائة وخمسين معجم لغوي وقاموس لتحديد معنى الكلمة أو مرادفاتها. تحدد الانطولوجيا العربية المنهج التجريبي بأنه التدخل في مجرى الظواهر للكشف عن فرض من الفروض او للتحقق من صحته. غير أني أجد، بأن التجريب، بحد ذاته، حاله تمتلك عدّة عناصر هامة من عناصر التنوير. مع ان التنوير يرتكز أساسا على العقل والتأمل الفكري، في حين ان التنوير عبر المنهج التجريبي هو محاولة حسيّة إدراكية لكسر الحواجز الثابتة والمغلقة وفتح نوافذ لآفاق غير معلومة. والتجريب، ببساطة، هو سلسلة من الاختبارات وإعادة الإختبار للوصول الى ما يتطابق مع المخيال المتعارض مع ماهو سائد، فالتجريب المستمر والحثيث هو جوهر ديالكتيك الطبيعة والحياة.
وللتعمق أكثر في مفهوم التجريب، فإن التجريب هو حالة من التمرد على ما هو ساكن، أي على ما هو تقليدي ومعتاد، ومحاولة تغييره بشكل يتناسب وأفكار وطموحات المخيال المستقبلي. وبهذا يكون المنهج التجريبي عادة مبني على الموقف الموضوعي المسبب للتغيير، أوالموقف الشخصي المبني على الاغتراب مما هو موجود. أما التجريب في الفكر الفلسفي فهو قائم على منهجين، الأول: المنهج الإستقرائي في الفلسفة والعلوم الطبيعية، القائم على الملاحظة والتجربة والذي يشّكل النقيض من المنهج العقلاني القائم فقط على التفكّر والتأمل الفلسفي. في هذا المنهج الإستقرائي برز الفيلسوف الحداثي فرنسيس بيكون Francis Bacon ، الذي ينظر الى العقل الإنساني بوجوب أن يطهّر ذاته من الأوهام ليتمكن من تفسير الطبيعة. حيث أكّد على ان إستكشاف العالم لا يمكن ان يتم من خلال الفكر العقلاني، بل من خلال التجربة. أما المنهج الثاني: فهو يتعلق جوهرياً بالمعرفة وتراكمها عبر الحواس، وقد قاد هذا المنهج فيلسوف التجريبية جون لوك John Locke وأسس بهذا منهج لإصلاح أسلوب إستخدام السلطة عبر منح الشعب الصوت المناسب للمشاركة في الحكم. كان جان لوك ناقدا للتعسف والاستبداد في السلطة، وكان متمردا ورافضا لواقع السلطة آنذاك مما زاد من التأثير الهائل لأفكاره على تطوير نظرية المعرفة والفلسفة السياسية، وخاصة إهتمامه الشديد بالتعليم حيث وصف المدرسة بكنيسة العصر الحديث، ولهذا كلّه، أُعتبر حون لوك رائداً للفلسفة التجريبية. ومن خلال منهجه هذا إنتقد أفكار الفيلسوف الفرنسي البارز رينيه ديكارت العقلانية وأكد على المعرفة المنبِثقة عبر الحواس وتراكم التجربة، وقد إنعكس هذا المنهج على مضمون وشكل المسرح التجريبي المبني على التراكم المعرفي والإبداعي.
وأخيراً، فإن التجريب، وبعبارات أخرى، هو البحث عن بدائل، لما هو موجود ومسيطر ومتحكّم، عبر تنشيط المخيال المقتدر على إطلاق الحرية التامة، غير المقيدة للابداع، ووسائل التغيير التي تُمتَحن في التجريب وتكراره. والتجريب يعني الاعتماد على الابتكار والتجديد في طرح الأفكار وتفسيرها بالآليات الفنية الإبداعية التي يستولدها المخيال من جهة وبآليات المسرح المألوفة من جهة أخرى. ولأن التجريب، أساساً، يعني البحث عن بدائل، يصبح التجريب ابن زمانه، ابن الحاضر، ومهمّته المساهمة في إرساء معايير وأساليب جمالية لمستقبل متقلّب. أي ان ما يسعى اليه التجريب هو تأثيث المستقبل لجيل متمرد، ومبدع، وغير متطابق مع الشروط السائدة للحاضر.
شروط التجريب
ومن أجل أن تتحقق شروط التجريب، سيكون من اللازم قدح الوعي، عند الفنان المسرحي، وإقتناص اللحظة الراهنة لفهمها وإدراكها، والتمكن من تفحّصها بشكل نقدي، خارج مستلزمات القناعة الفكرية والاجتماعية السائدة، أي بكلمة أخرى سيستلزم الوصول الى حالة معينة من رفض ما هو سائد والتمرد على قناعة الحاضر. علاوة على ذلك، فأن ما هو مطلوب من مناسيب وعي وإدراك، عادة مايكون متوفر، بنسب وأعماق مختلفة، عند النخب الثقافية والفنية في المجتمع. ولكن تلك النسب لا تقود بالضرورة الى التحريض أو التمرد الرافض لما هو معتاد وسائد. فمثلاً نجد أن النخب الثقافية في المجتمعات الغربية، كما هو الحال مع النخب في المجتمعات العربية، معزولة عن المجموع العام. ولكن الفرق بين هذه النخب، ان المجتمعات الغربية استطاعت ان تخلق هوامش ثقافية لشرائح وسيطة تعي وهم توسع حجم وثقافة وعمق هذه النخب. في حين ان النخب الثقافية العربية بقيت أسيرة عزلتها وبعدها عن المجتمع بمفهومه الواسع. وأخيراً فإن التجريب يعني البحث عن الأمل في تغيير ما موجود، وهنا تستوجب المقارنة ثانية بين المجتمعات الغربية والعربية، ففي الوقت الذي يكون فيه للأمل أرجل ثابتة على أرض الواقع في المجتمعات الغربية، نجد ان المجتمعات العربية تتعامل مع الأمل من خلال نوافذ روحية، أو رومانسية شعرية لأن هذه المجتمعات، بصورة عامة، مُتلبّسة في الشجن، لانها مجتمعات مسكونة باللغة والفصاحة والشعر والنثر والحنين الى الماضي الى حدّ إستعادته في الحاضر كنموذج حياة.
المراجع المركزية اليوم التي يستمد منها التجريب ديمومته
في السياق التاريخي للمسرح حدثت عدة ثورات وتمردات لمناهج تجريبية أولية تركت إلتواءات وإنحناءات بارزة في مسار المسرح التقليدي، ولكن أهم الثورات، بإعتقادي، التي يمكن البناء عليها كمرجعيات مركزية في التجريب المسرحي المعاصر ثورتين أساسيتين على واقع المسرح حيث بدأ التجريب يأخذ مفهوما أكثر وضوحا وتأثيراً في مجمل الفنون المسرحية: الثورة الأولى هي إسقاط ما يُسمى بالجدار الرابع من خلال المسرح الملحمي لبرتولت بريخت، وبسقوط هذا الجدار سقط أيضا مفهموم "المتلقي" لوصف الجمهور المسرحي، فالمتلقي، بالنسبة لي، هو مخلوق سالب في حين ان بريخت والمسارح المعاصرة تشدد على أن يكون الجمهور مشاركاً بنسب معينة في ثنايا العرض المسرحي. لذلك أرى أن مفهوم المتلقي يتضمن كثير من الإقصاء والتعالي على الجمهور، وهو مفهوم يتعارض جوهريا مع المفهوم الحداثي للتجريب الذي يحثّ على التحريض والمشاركة النشطة والتفاعل من خلال أشكال وأساليب مسرحية متعددة، بدءًا من العروض التفاعلية حيث يصبح الجمهور جزءًا من العرض، إلى التجارب المسرحية الغامرة حيث يكون الجمهور محاطًا بالكامل بالأداء الدرامي. والثورة الثانية هي التي قامت من خلال المسرح الطليعي لصموئيل بيكت ويوجين أونيسكو، وهي الثورة التي أسقطت اللغة وفضحت خيبات التواصل المجتمعي وكشفت الخلل في المنطق المتسلسل للاحداث والتعامل مع موضوعات تبدو في ظاهرها بسيطة، بل وضحلة، ولكنها في الحقيقة تكشف عن المأزق المتأزم الذي تمر به مجتمعاتنا أينما كانت. لعله من المفيد أن أشير الى بعض التجارب التي شكّلت أهم المراجع المركزية الحديثة في المسرح التجريبي التي تلت كل ما سبق من تيارات ومناهج. إنما إعتمدت على موجز تعريفي لمجمل الاعمال الجريئة والأفكار الإبداعية لثلاثة مخرجين، مع ملاحظة أن هذه المراجع ترفض بشكل قاطع المفهوم الشائع لوصف الجمهور بالمتلقي، لإن أعمالهم قائمة بشكل أساسي على مفهوم الجمهور المشارك:
أولاً. فسيفولود مايرهولد، وهو رائد في الطليعة التجريبية المسرحية الروسية في أوائل القرن العشرين، هذه الطليعة التي رفضت وتمردت على التقاليد المتبعة في المسرح آنذاك. تميزت أعماله التجريبية بتطويرتقنية تمثيل ثورية تُعرف باسم الميكانيكا الحيوية، والتي ركزت على القوة البدنية والإيقاع والحركة في الأداء. تهدف هذه التقنية إلى خلق أسلوب تمثيل أكثر ديناميكية وتعبيرًا، متجاوزاً ما هو شائع في المسارح التقليدية. ولتعزيز ذلك فقد عمل مع مهندسين وفنيين لإبداع تصميمات مذهلة بصريًا ومبتكرة من الناحية التقنية، وكانت أيضاً بمثابة مكمل بصري لجسدية فناني الأداء. فضلاً عن أنه أنشأ أسلوباً للعرض المسرحي لا يتوافق والخط البياني في السرد المسرحي التقليدي، فقد كان يتلاعب بالسرد بآليات التقطيع والمونتاج مما شجع الجمهور على التفاعل مع السردية الدرامية والجمالية، ومع الأداء المستحدث بشكل أكثر حيوية وبعين نقدية.
ثانياً. بيتر بروك الذي تحدّى الأعراف التقليدية في المسرح، مما أحدث ثورة في الطريقة التي تتم فيها أساليب العرض وإختبار الأداء الحي، حيث إن منهجه المسرحي يتميز بالتركيز على الممثل والجمهور، فضلاً عن الالتزام بالبساطة والصدق في الأداء. فقد أستخدم أساليب وتقنيات العرض غير التقليدية مما عزز من منهجهه في إزالة الحدود الجامدة للمسرح وإبعادها ما يمكن عن فضاء الحرية والتجريب الذي يستوجبه المسرح. هذا النهج أكّد الثورة ضدّ أساليب عرض المسرح المحلي وتعدّى ذلك الى الدعوة إلى نهج عالمي للمسرح تُستكشف من خلاله موضوعات وعواطف وأحاسيس ومشاعر إنسانية عابرة للحدود المحلية ولها إنعكاسات لدى الجماهير عالمياً عبر الثقافات واللغات المختلفة.
ثالثاً. أريان منوشكين، مخرجة مسرحية فرنسية تجريبية رائدة ومؤثر للغاية، وهي التي أسست، مع بعض الفنانين، مسرح الشمس Théâtre du Soleil في باريس منذ أكثر من ستين عاماً. لعل أهم وأبرز مساهماتها التجريبية في المسرح هو إبتكار نهج متعدد الثقافات واللغات يعكس التقاليد والثقافات والأشكال الفنية المسرحية المختلفة التي تُمثل تنوع هذه الثقافات. وتتكامل هذه الأساليب ضمن سرديات عرض مسرحي واسع، وضخم، وملحمي في إطار سياسي إجتماعي فريد ومتنوع يتجاوز جميع الحدود التقليدية. كما أن منوشكين تستخدم تقنيات مبتكرة في الديكور والاضاءة والصوت والموسيقى لتعزيز الأسلوب السردي الملحمي الذي غالبا ما يمتد الى عدة ساعات. أما السرديات التي تطغي عليها القضايا الاجتماعية والسياسية الملحة فهي تعبير واضح عن إلتزام المخرجة بالمعايير الإنسانية والأخلاقية المتعلقة بحقوق الانسان ومختلف الحريات وبالعدالة الاجتماعية.
المسرح التجريبي والجمهور.
إن وسائل البحث والتجديد في المسرح التجريبي تنطوي على حالات من الاستكشاف لأشكال جديدة في التعبير. أشكال تعييد تقويم المعايير العامة للمسرح، بل وتستنطقها بهدف إشراك الجمهور بطريقة أكثر تفاعلية وأحياناً غامرة. وبهذا فإن دور الجمهور يصبح أساسي وحاسم، في إطار المسرح التجريبي حيث يتحول المشاهد السلبي الى مشاهد فاعل أي تحويل الجمهور من حالة السكون السلبية الى حالة المشاركة الإيجابية.
لايزال الشكل الديناميكي والمبتكر من المضمون والسرد والأداء يناهض المعايير المسرحية التقليدية، منذ كانت بداياته بالمسرح الطليعي Théâtre Avant Garde ولكن هذا التيار ولد في الحقيقة منذ نهاية القرن التاسع عشر نتيجة للثلاثية المسرحية الملك أوبو لالفريد جاري، الذي سبق أنتونين آرتو في إنتفاضته وتمرده. ووصفت هذه السلسة من المسرحيات وهي الملك أوبو، وأبو مكبلاً، وأبوعلى التل، وهناك مسرحية رابعة لم تكتمل بعنوان أوبو ديّوث. وصفت هذه السلسلة من المسرحيات من قبل كثير من النقاد، آنذاك، بانها ذات أسلوب سخيف وغير تقليدي، أي لا يُليق بالمسرح. ولكن كان تأثير مسرحيات ألفريد جاري كبيرًا وواسع النطاق، فقد كانت بمثابة انحراف جذري عن المسرح التقليدي وأعرافه آنذاك، حيث أستخدمت هذه المسرحيات أساليب العبث والسخرية واللغة البذيئة. وقد كانت ناقدة لاذعة للسلطة أي في تحدّ مباشر للمؤسسة الحاكمة. إنما كان تأثير رفض هذه المسرحية للسردية الدرامية التقليدية أكثر شمولا وعمقا على التيارات التي تلت مثل الدادائية والسريالية مما ساهم في تمهيد الطريق لتطوير المسرح الطليعي والتجريبي في القرن العشرين.
ثلاثية الملك أوبو وما تلى ذلك من أعمال طليعية، هي أعمال تجريبية تتميز بإستخدام تقنيات وسرديات ومضامين وهياكل مناهضة لماهو شائع ومتوافق عليه. وقد كانت الكثير من هذه الاعمال التجريبية تتعامل مع الجمهور كشريك في الحالة المسرحية، ولكن ذهبت بعض الاعمال التجريبية الحديثة الى إنهاء أو طمس الخط الفاصل بين الممثل والجمهور الى الحد الذي يجد فيه الجمهور نفسه مغموراً (immersive public ) كليآً بأساليب الأداء وبالتقنيات الحديثة المتنوعة مما يجعله جزء متمماً وفاعلاً في الإطار الكلّي للعمل المسرحي.
لعل ذلك يدعو الى التساؤل، هل التجريب يعني تغيير مفاهيم الجمال، والتواصل، والمتعة والمشاركة عند الجمهور؟ وهل على الجمهور أن يغير موقعه أو دوره داخل العرض المسرحي؟ وهل عليه أن يكون جزء من العمل المسرحي ككل، وهل يجب عليه أن يشاهد العمل المسرحي كشريك ومتورط ضمن الشكل الدرامي الإبداعي الجديد، ولكن بعين متفحصّة وناقدة، أم عليه أن يكتفي بالجلوس خارج حدود الحالة المسرحية ويتمتع بما يجري على خشبة المسرح، أي ممارسة دوره بالإنعزال عن خشبة المسرح، كما كان ذلك منذ البدايات الاغريقية. أعتقد بإن هذه التساؤلات لها الكثير من المبررات غير أنها لا تملك إجابة واحدة، بل تستوجب البحث فيها بعمق وبمرونة كبيرة من أجل فهم وتفسير المفاهيم المختلفة، لان ذلك سيعيد التجريب المسرحي الى خشبة المسرح بواسع حريته وتمرده وثورته.
خاتمة:
في الختام، أودّ التأكيد بأن استلهام التاريخ والتراث العربي في المسرح التجريبي يمكن ان يكون مصدراً للإلهام والإبداع كما يُمكن أن يُجسّر الفجوة الثقافية والحضارية بين الأجيال وبين العصور، عبر مختلف الرؤى الحداثية، الإبداعية والابتكارية التي يستحدثها المسرح التجريبي لمفهوم تجديدي للثقافة العربية، يزيد من التفاعل والتشارك الحماسي مع الجمهور. حيث إن استخدام التراث والعناصر التاريخية المختلفة بتفسيرات خارجة عن المفاهيم التقليدية السائدة يسمح بكشف الغموض عن فهم الحاضر، ويساهم بالتصالح بين العصور وبين الأجيال. غير أن ذلك مبحث آخر.
وبغياب هوية حقيقية للمسرح في البلاد العربية تتأكد بإستمرار حقيقة كون أن هذا الفن لايزال وافدا على المنطقة العربية، ولذلك يصبح التجريب حتمية وضرورة وليس إختياراً للخروج من مسالك ودروب التقليد والإستنساخ. فالمسرح التجريبي يقدم، بشكل عام، نظرة جديدة وفريدة وثاقبًة الى ما يحيط الانسان في مجتمعه، وعبره الى العالم. نظرة نقدية واعية ترتكز على الجرأة في الإبتكار والتجريب وطرح الأفكار المناهضة لما هو سائد، بالإعتماد على وضوح وصفاء، ونقاء المخيلة. يتيح هذا النهج المبتكر للجمهور التعامل مع القضايا المعقدة بطريقة ملموسة، وغير معتادة، ومحفزة للتفكيرالمغاير والتأمل، حيث إن التفكير الإبتكاري والتجديدي للمنهج التجريبي يُوسّع من حدود وآفاق الحرية في المسرح ويفتح دروباً جديدة للإبداع والحوار المتواصل فيما بين الشرائح المختلفة للمجتمع، وفيما بين المجتمع المحلي والمجتمعات الأوسع. والتجريب في المسرح يُمكن ان يساهم بوضع الأسس المتينة لبناء هوية خاصة وواضحة لمسرح يُمكن تسميته بالمسرح العربي، كما يُزيل الغموض وينير الافاق الواسعة لفهم العالم المترامي الاطراف الذي يحتوينا. فالتجريب يمكن أن يُجسّر الفجوة بين الاجيال ويفتح نوافذ واسعة نحو المستقبل.



#علي_ماجد_شبو (هاشتاغ)       Ali_M._Shabou#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإمتداد المسرحي في التهجين الثقافي
- الاغتراب الثقافي ودلالاته في المسرح
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
- الجغرافية الثقافية وفنون الأداء
- الإيستاتيك، وجمال القبح في المسرح
- المحتوى في المسرح
- أريان منوشكين ومسرحية -الجزيرة الذهبية-
- المسرح والجمهور .. و-المتلقي-.
- الظاهراتية والمسرح
- الحرية والإبداع
- مسْرحة دوستويفسكي - المسرح بين السحر والمشهدية
- -عبث- البير كامو و -الثورة المُهانة- في الربيع العربي
- قضية مؤلمة
- قراءة في مسرحية -ميدان القمقم- للدكتور سامح مهران
- المسرح النسويّ: المسرح في المؤنث والمذكر
- الديموقراطية والسعي نحو السراب
- نظرة في المهرجانات المسرحية العربية
- الثقافة بين العولمة والكوْرنة
- رحلة المهرجانات المسرحية من كرفان الفرح الى بيداء التباعد ال ...
- نحو إسستراتيجية ثقافية عربية


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي ماجد شبو - المرجعيات المركزية الإجتماعية ومفهوم التجريب