آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 8102 - 2024 / 9 / 16 - 13:48
المحور:
الادب والفن
حلو كتير أن نساء المسلمين يرتدين الثياب البدوية، والرجال يرتدون أحدث الثياب العصرية.
هذا التناقض الصارخ هو المطلوب، أن يعلنوا عن الخلل في التفكير والممارسة.
يريدون أن يقولوا للبشرية، على الرجل المسلم أن يظهر بصورة حضارية، وأنه في عصر السرعة، جينز وتيشيرت مفرع، مثل الشيخ عبد الله رشدي الذي يبرز مفاتن جسده للنساء ويدعوهن للحجاب للحفاظ على العفة الشكلانية.
يريد المسلم أن يقول، نحن نرفض الغرب في الشكل، ونخضع له في المضمون، نخدع أنفسنا وغيرنا.
نريد أن يعترف العالم بنا، لكن من حديقته الخلفية، نريده أن يقول عنّا أننا موجودون.
لم تأت الخيانة على غفلة منّا، ولم تكن وليدة اليوم او البارحة، فلماذا نحن مستغربين، الخيانة قديمة جدًا، بدأت منذ أن قتل أول مدافع عن فلسطين.
لم تتوقف الخيانة لحظة واحدة، إنها مستمرة بالأحكام العرفية وقانون الطوارئ بانتهاك الكرامة بالسجون وإذلال الإنسان.
ما يحدث هو تحصيل حاصل
وهل ينجب الذليل غير الذل والهوان؟
في البلدان الاستبدادية، يشعر الكثير من الناس بالأمان المزيف نتيجة وجود دولة تبدو في الظاهرة أنها قوية وحامية له.
هي في لا وعيه بمثابة الأب الحامي والحنون الذي يضربه من أجل تقويمه أو تهذيبه أو وضعه على جادة الصواب، أو بالاحرى تحوله إلى طفل صغير، مذنب، يشعر بالحاجة إلى من يرشده ويفتح له الطريق ليمشي.
ويشعر أن هناك من يحمله ويقبله ويضمه بين دفتي صدره.
يتوازن إلى حد ما، توازنًا مرضيًا، أو نفسيًا أو هكذا يظن، في ظل هذا الوضع المريض.
وعندما يأتي هذا الفرد إلى أوروبا ويرى ويشعر أن ثقل الدولة شبه معدوم، وأن الشرطي مجرد موظف لا حول ولا قوة.
وقتها يشعر أن حنان ذلك الأب القاسي صاحب الشوارب القوية قد زل أو مضى إلى غير رجعة، وقتها يشعر إنه ضعيف ولا حماية له ولا سند.
في هذه الحالة يفقد الكثير من الأشياء الجميلة الوهمية التي كانت تمده بالبقاء.
ويشعر بالتهميش والضياع وانحسار الأمل في التعويض.
وتبدأ النفس المخلخلة بالتفكيك وفقدان القوة الذاتية، وتضمحل النفس وتذوب، وينحسر عامل الأمان وتذوب الشخصية وتتمزق.
الكثير يلجأ إلى طائفته أو دينه لربما يمنحانه التوازن الهش أو يشعرانه بالأمان، بيد أن ذلك كله مزيف.
هل هناك أحلى من النهدي، أنه أحلى الألوان، يعطيك الجمال ويبقى واقفًا على مسافة، ينظر إليك ويناغيك وهو صامت، كأنه حزين، ولكنه ليس بحزين، أنه يتأمل، يقرأ ويكتب برزانة وحب، يريدك أن تقترب منه دون أن يقول، أو يرسل إشارات دون أن يشير.
إنه إله الحب الخالد.
أذهب إلى هناك، إلى حيث الصمت يأكل العشب، والصدى يعانق الأنين.
دخلت السلطنة العثمانية الحرب العالمية الأولى تحت تأثير النشوة القومية الطافحة بالأخيلة المرفرفة في الهواء، بالطورانية المحتملة.
دخلت الدولة الحرب بجيش منهار، وروح معنوية مكسورة، ومهزومة على عدة جبهات، وبسلطة مهزوزة ضعيفة، واقتصاد مهلهل وضعيف.
دخلت الحرب بناء على وعود هشة وعامة من ألمانيا، أنها ستحقق لها كل شيء بجرة قلم.
في تشرين الثاني من العام 1918 هزمت المانيا والنمسا ـ المجر، وسقط على أثرها عائلة وولهاوزن وعائلة هابسبورك، وانهارت الحكومة التركيا بعد أن هزمت في الحرب.
هرب هؤلاء الجبناء، طلعت باشا وجمال باشا وأنور باشا، وبقية الشلة الفلتانة الذين أخذوا قرار الدخول في الحرب، وقرار إبادة القومية الأرمنية تاركة الشعب التركي لأقداره، للجوع والفقر والذل واجترار الهزيمة والإنكسار النفسي والخوف الوجودي.
واحتل الأنكليز العاصمة استانبول.
ومن داخل الجوقة ذاتها، الجوقة المهزومة خرج مصطفى كمال أتاترك، من البناء الماسوني ذاته، وما زال يحكم تركيا من قبره إلى اليوم.
وإذا حاول أردوغان تغيير بنية الدولة القائمة سيقرفون رقبته.
في هذا العام 1918، خرجت القوات التركية من سوريا مهزومة تجر أذيال الخيبة والعار، ومن البلاد العربية، تاركة وراءها بلاد عارية سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا:
لا حكومة في سوريا، ولا جيش، ولا مجتمع ولا رجال يستطيعون القيام بمهام إدارة الدولة.
كان هناك رجل سياسة محنك، يدرك اللعبة السياسية الدولية والمعادلة الدولية في حينها، فيصل الاول، آخذًا زمام المبادرة بحنكة وذكاء، وأعلن أول استقلال لسوريا في 8 آذار 1920.
الدولة بحد ذاتها أداة قمع واستلاب، متعالية على المجتمع، لا تحتمل مرجعيات على الأطلاق.
استطاع الغرب تحييد الدولة من الخارج، قلم أظافرها، أدخل السيف إلى غمده حتى تبدو أنها غير موجودة، بهذا جنب المجتمع الدخول في صراعات بينية، عبر تعويم الدولة المتوارية عن الأنظار، ليكون الدستور مرجعًا لجميع مواطنيها، خارج، دون غبن، عبر قوانين نافذة، وفصل عملي للسلطات.
لقد أخذ المجتمع المدني، أغلب المهام التحت سياسة المتعلق بالشؤون الداخلية للدولة، بل تحول التحت سياسي إلى حاجة مهمة جدًا عمل على تخفيف الأعباء على الدولة.
غابت السياسة على المستوى الرئيسي داخل الدولة الأوروبية وفي الولايات المتحدة او الغرب عمومًا، استعان بالبرلمان ليكون مرجعًا للمجتمع، يتناول حواره الداخلي قضايا تحت سياسة، تمس مصالح الدولة والمجتمع من الخارج كما ذكرنا.
يستطيع الشيوعي والمسيحي والإسلامي والنقابي والليبرالي والمنتمي واللامنتمي أن يعملوا تحت دستور الدولة، الذي لا يميز بين فلان وعلان.
إن هذا التطور في جهاز الدولة، تورية الأنياب والأظافر والسيف هو مصلحة للنخبة المسيطرة، وتمييع للصراع بين الدولة والمجتمع أو تأجيله إلى زمن أخر، وربما تتحول مهام الدولة في المستقبل تحولات نوعية أخرى، هذا في علم الغيب.
اعتبر وصول الغرب إلى هذه المكانة السياسية لفهم الدولة إنجاز سياسي عظيم بالرغم من انتقادنا له.
الحداثة فعلت الدولة، ألبست هذه الأخيرة البرقع وقدمته جميلا براقًا دون أن يرى، بيد أن هذا مؤقت، بمعنى، إذا توقف مفهوم الدولة في مكانه كما هو الحال اليوم اعتبره كارثة، بمعنى إن لم يتطور هذا المفهوم ويرتقي أكثر، سيحدث نكوص وارتداد إلى الوراء.
الديمقراطية, باختصار شديد هو أسلوب حكم. أسلوب إدارة الدولة. أي, إن الديمقراطية ليست جزء حيوي أو جوهري من هياكل الدولة أو جهاز الدولة.
الدولة كانت وما زالت, أداة قمع, أداة بيد الشرائح والفئات النافذة القابضة على مفاصل الاقتصاد والسياسة, تسترخي الدولة بيدها أو تتشدد تبعًا للظروف والتطورات.
حذار من اللعب بهذا الجهاز. حذار من الاستهانة به. من يقبض عليه, يقبض على المجتمع والمؤسسات.
الكثير من البسطاء والمعتوهين يظنون أن أختراق جهاز الدولة في أوروبا سهل, ولا يحتاج إلى بذل جهد كبير للسيطرة على كل مفاصل الحياة في هذه البلاد, لأن الديمقراطية تسمح بأختراقها. من أولئك المعتوهين, أصحاب الخيال المريض بعض شيوخ الدين, الذين لا يتركون شاردة أو واردة إلا ويحشرون أنوفهم فيه, يورطون غيرهم ثم يهربون عند أول كوع.
الانخراط في المجتمع والدولة يكون عبر فهم هذه البلاد والمشاركة الفعالة به, عبر النشاطات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والرياضية.
إن لا نتصرف في هذه البلاد كأننا أوصياء عليهم.
حذار, حذار من الاستهانة بأوروبا. ممكن تنقلب الدولة على الديمقراطية وتتحول إلى وحش, يأكل الأخضر واليابس. سيأكلنا جميعنا دون تمييز.
هناك الكثير يستسهل العيش في هذه البلدان ويريد أن يفرض ثقافته عليها, مما يدفع اليمين المتطرف من القبض على الدولة وتدمير وجودنا هنا.
لا توزوا على خراب عشكم.
قال لي الطالب مجد, في الصف التاسع, قبل عامين:
ـ المعلمة إيفا متدينة؟
وقفت أنظر إليه مستغربًا.
ـ كيف عرفت أنها متدينة؟
ـ إنها تتحدث كثيرًا عن عيد الفصح.
دخلت المعلمة إيفا بعد لحظات من هذا الكلام.
كما هو معروف في السويد ممنوع منعًا باتًا أن تسأل المرء عن معتقده السياسي أو الديني. أقحمت نفسي في طرح السؤال, لإدراكها من أنا, ومعرفتها بشخصي:
ـ إيفا؟ هل أنت مؤمنة بالله, بالمسيح؟
ـ لا. إطلاقًا. من قال لك. أشرت إلى مجد, قلت:
مجد, يقول أنك متدينة, تتكلمين عن عيد الفصح كثيرًا. قالت:
ـ هذا جزء من ثقافة هذا البلد. لدينا عيد الفصح والهالوين, والميلاد. كمقرر في المدرسة لا أكثر, وبعيدًا عن التدين أو الدين. ثم وضعت يديها على رأسها وقالت:
ـ عندما كنت طفلة صغيرة في نهاية الخمسينات, كانت هذه المدينة التي ولدت فيها وترعرت, ترتدي الثوب الأسود في عيد الفصح من كل عام, المحلات كلها تتزين باللون الأسود وتغلق. ممنوع أن نزور الأصدقاء والجيران. نبقى طوال الوقت في البيت بثيابنا القديمة. وأضافت:
كانت أيام بائسة, مقرفة, لا أتمنى أن أتذكرها.
ثم رفعت يدها في الهواء ورمتهم, قالت:
ـ أوف. كان شيئا مزعجا, أسرًا.
قلت لها, في بلادنا, كان الأمر على عكس ما كنتم. نزين بيوتنا البسيطة بالأشرطة الملونة, بالبلونات, نلبس أجمل الثياب, نلون البيض, ونذهب إلى البيوت ونأخذ السكاكر والشوكولا, والنقود. نذهب إلى السينما. كان العيد بالنسبة لنا تجدد وفرح, وتغيير في مجرى الحياة والخروج من الرتابة. وكانت مدارسنا تعمل لنا احتفالات جميلة تقدم لنا الهدايا. ثم ألتفتُ إلى مجد:
ـ أنظر أين كنا وأين أصبحنا. وأنظر إلى السويديين, أين كانوا وأين أصبحوا؟ وأضفت:
ـ كما قلت لك, السويدي غير مؤمن. بقي الأيمان لنا.
على ضفاف الخابور
ـ سجين سابق؟
ـ وماذا به السجين السياسي؟ إنه إنسان مثلك. ما الذي يخيفك منه؟
ـ أنا لا أخاف منه, مستغرب أن هناك من يستطيع أن يكون سجينًا في مثل هذه الأيام؟
كان شهر آب منتصبًا, يبث حرارته في الأرض, يلهب الطرق والجسور والساحات بنيرانه وشمسه الحادة. كان لدى أهلي مكيف على الماء يرطب الغرفة في بيتنا. جاءت أختي صونيا وسيلفا من السويد للترحيب بي, ودعمي, كما جاء أبي وأمي. رأيتهما, كأني لم أغادرهما أبدًا. لم أستطع أن أفرح بهما, كما لم أستطع أن أحزن, كنت حياديًا في مشاعري. لم أتدخل في محاولة معرفة سبب نكوص حالتي, وسبب هذه السلبية الغريبة, وهذه القيم اللامبالية التي أحملها, اللا إحساس اتجاه كل ما يدور حولي. كنت مثل واحد تعرض لصدمة في الحواس وخراب في المشاعر والعواطف. لم أكن من قرر هذه الحالة, العوم فوق الواقع والانفصال عنه وعن الناس والمجتمع والزمن. قبلت الجميع كما قبلوني كعادة مكررة, كشيء تلقائي, يحدث يومياً.
ذبحت والدتي خاروفًا بالرغم من رفضي لهذه التمثيلية البائسة كفرح لخروجي من السجن. كنت مع الناس, بينهم, بيد أن المسافة بيننا كانت كبيرة وواسعة, لا يمكن أن يرممها الزمن وتكرار الأحجيات اليومية. رأيت الكثير من الأصدقاء الجدد يحاولون كسب ودي, التقرب مني, حاولوا بكل صدق أن يكونوا إلى جانبي في هذه الأوقات. مدوا لي يد العون, الخير والمساعدة كأنهم أخواتي وأهلي أو كأنهم واحد مني. الكثير تعاطف معي والكثير قال عني أنني مجنون, لأنني تركت الحياة, جمالها, رحابة المكان فيها, سعتها وأخترت المكوث في السجن والعيش في حيز ضيق, وفي مكان مضطرب وقاسي, فيه حرمان من أبسط قواعد العيش والحياة. لم يتجرأ الكثير من أبناء بلدي, تحميل الطغمة الحاكمة مسؤولية محنة الوطن, حملوها لنا, للضحايا.
أغلبنا لا يعرف حقيقة ثقافة الاسبتداد, لم نتغلغل فيها, لم نحفر في عمق تكويينا الثقافي والنفسي. لم نعرف حقيقة تفكير الإنسان البسيط في بلدنا. تناولنا القضايا المعقدة بعقلية سطحية وتحليل بسيط. لم نحلل, لم نحاول أن نعرف, لماذا الأهل لا يقبلون زواج ابنتهم من شاب مستوى معيشته متواضع, اكتفينا بالقول أن السبب هو المال, بيد أن أننا لم ندخل إلى أعماق العقل, كيف تكون, وكيف يفكر أو يبني ثقافته وتكوينه النفسي والعقلي, وكيف الخروج من هذه الذات المتحمورة حول ذاتها. لماذا الإنسان في بلدنا يعشق المستبد المتمثل بالحاكم, لماذا يخر أمامه ساجدًا كعبد ذليل. ولماذا يستمتع بهذا الدور؟ ولماذا يشعر بالأمان بوجود المستبد, وبالحماية أيضًا. هل درسنا الله؟ وعلاقته بالمستبد, وعلاقة بلدنا ومجتمعنا بالله والمستبد, وكيفية تلاحمهما, في بناء ثقافة متكاملة قائمة على الخضوع التام أمام هذه الثقافة. لماذا يتلذذ بالذل؟ أي يكون مجرد شيء؟
الإنسان مثل القربة, محشور داخل ثقافة, مأسور بها, وفيها. ولا يمكن أن يتحرر إلا بتكسير ثقافته ووعيه المزيف, لنتمكن من بناء عالم مختلف. إن الله هو الفاعل الأكثر دموية في حياتنا, لهذا نحتاج أن نعرفه معرفيًا, أن ندخل في صلب وعينا به وفيه, في صلب ثقافة تضخيم الله, من هو, كيف جاء, وتكون, وتسيد؟ وكيف يمكننا تكسيره كرمز متعالي مسيطر علينا؟ وكيف جعلنا أذلاء في خدمة مشروعه, ثقافته, وإعادة إنتاجه عبر العصور؟
عندما كان يهل الليل وتنام الشمس وراء الأفق ويغيب الناس, وأبي وأمي, كنت اتسلل من البيت لأذهب إلى الخابور. أجلس وحيدًا, أنظر إلى الخلاء والصمت. في هذه اللحظة الحميمية عندما تبتعد الذات عن الأخرين, تبدأ في نسج علاقة حقيقية مع الذات, علاقة متفردة, ذات لذات, لوحدهما, علاقة وشيجة بين الغربة والحزن والجفاف وغياب أو انزياح الجمال والفرح أو هروبهم من الأرض والسماء والمكان.
أغيب, أذهب إلى البعيد, إلى خبز التنور. كنت أرى وجه أمي الجميل, عندما كانت تقف أمام التنور, أحمرار وجهها, علامات التعب والكد في عينيها, براءة ذلك الزمن المنصرم, حيوية والدي, اندفاعه نحو الأمل, بغد أجمل. أعقد مقارنة بين الأمس واليوم, بين زمنين, كلهما زمن الإنسان المهزوم. لم يكن هناك ماء أو شجر أو لون الحياة على ضفاف الخابور. كان جافًا. أجلس في هدأة الليل الحنون على الضفة الحزينة أتامل هذه الذات, النهر الميت, أحدثه والألم يعتصر قلبي:
ـ لماذا مت أيها الرهوان الجميل؟ ما زلت شابًا, في أنفاسك روح الوجود؟ أذكرك عندما كنت صغيرًا, كنت أخضرًا, حنونًا, ملأت حياتي بالأمل, بأخضرار الزمن والحياة. آه يا نهر, يا وجع الطبيعة والبقاء, كم أحن إلى زمنك الدافق, زمن توحدي بك, بجمال وجودك بيننا. أنظر إلى الصمت, الفراغ, الجفاف انفصال الكائن عن الكون. هذه العزلة بالقرب من رحابه, موته. الذي أنا, هو.
أشاهد, الطبيعة الحية الميتة, وجفاف المكان وقدرة الناس على هضم الخراب والتعامل معه ببرودة أعصاب أو لا مبالاة. أسمع هسهسة الوجود, الخلاء المملوء بالصمت. هذا الفراغ الطاغي فرض نفسه علي مثلما فرض الزمن قدرته علي, على عدم التصالح مع ما كان وما هو كائن. قلت, بينما عيني ترسم الدوائر وتلون الأبعاد:
ـ هنا كنا نسبح, نمشي, ونقضي الأوقات الحنونة بصحبة الأصدقاء, الحبيبة. نصيد السمك, ونتأمل أو نترك خيالنا يسرح حول الدفق القادم مع نهر الخابور, وبقاءه بيننا كقدر جميل, كلوحة فنان خطها بريشته البارعة أو قصيدة شاعر يغازل حبيبته أثناء الوله بها.
سمعت أثناء مروري بالقرب من التلال الغافية على ضفتي الخابور، صوت هامس.
ثم رأيت النهر يقف على قدميه، رافعًا يديه نحوي، ثم وضعها على رأسي وعنقي، حضنني وبكى، قبل أن يلقي التحية علي.
قلت له:
لم البكاء يا سيدي؟
قال:
ـ أنا لا أبكي، أنا سعيد بعودتك إلى الحياة. كنت أنتظرك منذ ألف سنة، عشرة آلاف سنة، مليون سنة. وأردف:
تعال نأكل، سأجمع ما تجود به الحياة من طعام وشراب، نجلس ونتسامر ونغني ونوقد النار ونشوي ما نراه بالقرب منّا
تراجعت إلى الوراء مذعورًا. رأيت أخاديد الأرض تفتح ذراعيها, وتضحك.
كان الخابور يستحم تحت ضربات الريح.
أكبر مذمة حلت بالإنسان عبر التاريخ عندما تم وصمه بأبن الخطيئة.
ورد ذلك في الكتاب المقدس.
وكل إنسان شربها بطريقته، وما زالت تقرأ على مسامع البشرية كلها وعلى منابر الخطابة.
ولها اتباع بالمليارات
لقد رسخ في لا وعينا العام هذه الثقافة، دون أن ندري، ونتصرف لا شعوريًا في رفضنا لأنفسنا وللآخر أو المرأة تحديدًا.
اعتبر ان التخلص من هذه الثقافة التي تحط من شأن الإنسان مدخلًا إلى العلاقة الصحيحة مع الذات والجسد، والمرأة والحياة.
نحن أولاد هذه الثقافة، أقصد ثقافة التلقين.
وليس سهلًا ان نغيرها أو نتخلص منها.
ليس بالضرورة أن يكون المرء متدينًا حتى يتاثر، وليس صحيحا من رفض الله عبر الوعي يكون قد انهاه من حياته.
إنها في تكوين المرء، في لا وعيه الذي نما عليه.
نحتاج إلى ترسيخ الوعي في اذهان أبناءنا في القادم من الأيام عبر ثقافة واعية، إنسانية بعيدا عن الحشو المجاني، غير الموضوعي.
عندما أرادت السلطات عبر التاريخ أن تمجد ممثلها, الديكتاتور, صنعت لها إلهًا, على شاكلتها, القوي, الذي لا يرى, العظيم, وجعلت الناس يعبدونه, ويسجدون له ويخضعون له بإرادتهم الحرة. المستلبة. ويذهبون إلى المعبد وهم راضون, مقتنعون. وكل واحد يشجع غيره أن يسجد ويركع وإلا نيرانه ستحرقهم.
ما زال الإله بيننا, على مسافة اصبع.
الشمولية تتميز بشيء واحد مهم. إنها لا تخطئ.
هي على صواب دائمًا. وكلية الحق.
ونحن, الناس, على خطأ دائمًا. الغلط فينا. ويجب تقويم اعوجاجنا. منذ الخطيئة الاصلية مثلما جاء في الكتاب المقدس!
عندما تكون قوة المكابح اقوى من قوة الدفع فأننا سنبقى في الزمان ذاته.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟