أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - إبراهيم مشارة - جحا العابر للثّقافات















المزيد.....

جحا العابر للثّقافات


إبراهيم مشارة

الحوار المتمدن-العدد: 8100 - 2024 / 9 / 14 - 00:14
المحور: كتابات ساخرة
    


جحا شخص ظريف فكه يستملح الناس نوادره فيضحكون ويستزيدون منها، إنه الصوت الحاضر من لدن
الزمن عابرا ظلمات القرون وأحقاب التاريخ ينتشلنا من غرائبية موقف ما أو تناقضه أو عبثيته فنلوذ
بنوادره تعبيرا منا عن ذلك الموقف أو اختصارا للكلام لينتهي الموقف بضحكة مجلجلة.
عرف العرب جحا كما عرفته شعوب عديدة ولعل جحا العربي هو الأصل لسائر الجحاوات ،فالثقافات
تأخذ عن بعضها، ومن المحتمل أن يكون العرب قد صدروا جحا إلى الشعوب الأخرى حتى نشأ في
آداب العالم الشعبية جحا التركي ( نصر الدين خوجة) والإيراني( ملا نصر الدين )والأرميني (آرتين )
واليوغسلافي (آرو) والمالطي (جوهان) والإيطالي (برتلدو) والروسي (بلدكييف) ،فكل الشعوب
صممت لها جحاها الخاص بها.
غير أن شخصية جحا تختلف من بلد لآخر ، وهو بذلك يعكس ثقافة ذلك البلد السائدة وصورة الشعب
النفسية ومستواه المعيشي ونظرته إلى الحياة والحوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية
السائدة أنذاك، فهو في تركيا رجل حكيم ،وفي يوغسلافيا مغفل، وجحا الألماني ريفي سليم الفكرة يسخر
من أهل المدن، بينما جحا العربي كبير في السن ،فقير يعيش مع زوجته وولده وحماره ،ممتن للقدر أن
لا يحدث الأسوأ، إنه صوت الشعب يعكس مستواه المعيشي وثقافته من حيث بؤس الشعب وخوفه من
السلطتين السياسية والعسكرية واختزال أحلامه في الحياة إلى السلامة من بطش السلطان ومن نكد الأيام
والاكتفاء ببلغ العيش ،لكن زوجته كما تقدمها النوادر امرأة منحرفة ،تخون زوجها وتحضر عشاقها إلى
مخدعها ،وفي كل مرة ينخدع جحا وتنطلي عليه الحيلة لتواصل هي انحرافها ،وهذا إن دل على شيء
فإنما يدل على نظرة عامة الشعب إلى المرأة كمصدر للإغراء والكيد والانحراف، فهي كما تردد في
الثقافة الشعبية (بقرة إبليس)، وفي كثير من التراث الشعري العربي ما يتطابق مع هذه النظرة على
شاكلة:
تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن
جزوعا إذا بانت فسوف تبين
وإن هي أعطتك الليان فإنها
لغيرك من طلابهــــا ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها
فليس لمخضوب البنان يمين

غير أن شخصية جحا العربي لم تسلم هي كذلك من التناقض فهي في أيام هارون الرشيد على العكس
تماما شخصية رجل مثقف وذلك يعكس ثقافة العصر حيث كانت الألمعية والثقافة سمة العصر.
لكن حقيقة جحا العربي تكاد تضيع منا كذلك في غياهب التاريخ فلا نكاد نصل فيها إلى الجزم واليقين
،فهو في بعض الروايات أبو الغصن دجين بن ثابت العربي من فزارة ،وروى الجاحظ أن اسمه نوح
وكنيته أبو الغصن، وفي رواية أخرى أنه تابعي وكانت أمه تخدم أم أنس بن مالك ،ولذا لا ينبغي
السخرية منه ، وجاء في أخبار الحمقى لابن الجوزي (جحا وكنيته أبو الغصن وقد روي عنه ما يدل
على فطنة وذكاء إلا أن الغالب عليه التغفيل)، وفي صحاح الجوهري(أبو الغصن كنية جحا )،وكتب
ابن المعتز في طبقاته (كل نادرة فيها تحامق وغرابة ينسبونها إلى جحا )،وفي الفهرست لابن النديم أن
من الكتب التي لا يعرف مؤلفها كتاب & نوادر جحا & .
وورد اسم جحا في الشعر كقول الشاعر:
دلّهت عقلي وتلاعبت به
كأني من جنوني جحــــا
وفي مجمع الأمثال للميداني (أحمق من جحا ) رجل من فزارة كان يكنى أبا الغصن.
يرى كثير من الباحثين أن أصل كل الجحاوات في العالم مردها إلى جحا العربي بل تزعم هيئة الكتب
النرويجية 2002أن جحا كان ملهما لسرفانتس في إبداع شخصية الدون كيشوت .
كما ورد في خرافات إيسوب التي عربها مصطفى السقا وسعيد السحار وله فيها نادرتان تنسبان إليه.
ولا غرابة في ذلك فكثير من أقاصيص ألف ليلة وليلة ومقامات الهمذاني والحريري والشعر الوجداني
أيام الأندلس فيما يعرف بشعراء التروبادور الجوالون قد انتقل ذلك كله إلى العالم في إطار التثاقف
وإثراء الثقافة الإنسانية.
غير أن شهرة جحا العربي وجحا التركي قد طغتا على كل شهرة فحسب المستعرب الفرنسي رينيه باسيه
Basset في دراسته & طرائف عربية في القرن الرابع الهجري /العاشر الميلادي& انتقلت نوادر جحا
العربي إلى تركيا فألصق الناس هناك هذه النوادر بشخص درويش ولكنه حكيم نصر الدين خوجة
وهو مولود بخورتو( سيوري حصار) في الأناضول 605/683ه،1208/ 1284 م وقد مارس
القضاء والذي بفطنته وحنكته وميله إلى الدعابة عبر عن مواقفه ونقده للسلطة والشعب معا في نكت
تداولها الناس، وعلى مر القرون أضاف الناس إلى جحا التركي ما لم يقله ، كما حدث عندنا من نسبة كل
غزل إلى جميل بن معمر وكل مجون إلى أبي نواس وكل شعر زهد إلى أبي العتاهية وكل نادرة طمع
إلى أشعب ثم جمع الأتراك تلك النوادر في كتاب & نوادر جحا& وأول طبعة بالتركية كانت في 1837
وضمت 125 نادرة ، وتلك النوادر طافت أوروبا والعالم الغربي، ويرى الأتراك أنهم هم الذين صدروا
جحا إلى العرب وكثير من الدارسين يتفقون معهم في هذا ، على أن هذا الرأي لا يستقيم مع ورود اسم
جحا قبل ميلاد نصر الدين خوجة في مرويات التراث الأموي والعباسي ،لكن هذا لا يمنع من اقتباس
كثير من النوادر عن الأتراك خاصة ما تعلق بالنقد السياسي والاجتماعي ، وهذا الخلط مألوف حتى في
نطاق الأدب الواحد أكان مكتوبا أم شفهيا فعلى الرغم من كون أشعب شخصية تاريخية حقيقية يضرب

بها المثل في الطمع فقد أضاف الناس قصصا كثيرة وتوفيق الحكيم مثلا لما كتب عن أشعب ونوادره
تعمد إضافة ما ليس له علاقة به، فبنان صديق أشعب في كتاب الحكيم ورفيق مغامراته لم يعش في
عصر أشعب بل هما من عصرين مختلفين لكن رغبة الحكيم في إثراء الكتاب وخلق التشويق والمتعة
والثراء دفعه ذلك إلى هذا الخلق الفني معتمدا على شخصية حقيقية. وفي تركيا اليوم قبر لنصر الدين
خوجة بل غدا معلما سياحيا فله تماثيل عديدة مع حماره وضريحه هناك مشهور.
لقد آنس الشعب بتلك النوادر الجحوية وكل جيل كان يضيف إلى جحا ما لم يقله لا ستحالة صدورها
عن شخص واحد لما فيها من الفكاهة والطرافة للتنفيس عنه من ضغوط الحياة والقمع السياسي
والعسكري وضغط الظروف الاقتصادية فكأن الناس يروون تلك النكت فتخف الأعباء والحمولة النفسية
عنهم وغني عن البيان أن النكتة معالجة سيكولوجية وفزيولوجية تجعل المرء يحس بالراحة والخفة
والتحرر من الضغط ناهيك عن التجدد، وقد قيل إن دخول متماجن إلى بلدة أفضل من جملين يحملان
الدواء ،ولذا كانت النكت تجمع وتتداول وتروى في المجالس.
يرى فرويد أن الشعوب تلجأ إلى النكتة للتخفيف عنها وأنها ضرب من الحلم معتمدة على آلياته من
تورية وتأويل واختزال ومسخ وتلفيق، فقولنا عن شخص إنه يمزح مثل قولنا إنه يحلم، وقد روى هذه
النكتة كمثل فقد طلب شخصان ثريان من رسام أن يرسم لهما لوحتين منفردتين ، وعرضت اللوحتان
في معرض بعد ذلك بحيث تركت بينهما مسافة لكن أحد الزائرين علق على ذلك أن الذي ينقص هو
رسم السيد المسيح وهو يشير بذلك إلى ما تردد في المسيحية أن السيد المسيح حين هموا بصلبه
وضعوه مقيدا بين لصين ،وهكذا انتقد الزائر الغنيين وعرض بهما وبحقيقتها في قالب الطرفة والنكتة
إلى حد السخرية دون أن يناله أذى لأنه يقال إنما هو ينكت مثل القول إنه يحلم ،وهو بذلك تخفف من
ضغط نفسي وتعزى عن فقره وبؤسه بالنيل من الوجيهين فأدت النكتة ما يؤديه الحلم في إخراج
المكبوتات والعقد المختلفة القارة في غياهب اللاشعور.
ومن نوادر جحا ما غدا أكثر شهرة من غيره بسبب الحمولة السياسية أو الدينية أو الوجودية فمن ذلك
نادرة حجا والسلطان فقد سألته زوجته أيهما أفضل المزارع ام السلطان؟ فرد جحا المزارع طبعا لأنه إن
لم يعمل المزارع مات السلطان جوعا، وهذه النادرة تنطوي على نقد سياسي كأنه يقول عن السلطان
إنه لا عمل له إلا التمتع بخيرات البلد وكد الغير، وأن المزارع هو المنتج الحقيقي وهذه الأفضلية
المعنوية للمزارع تبلسم جراح الشعب وتخفف من معاناة المحرومين أمام ثراء واستمتاع الطبقة المرفهة
التي تجني الثروة كثيرا من امتصا ص دماء الكادحين، ولو على سبيل النكتة.
وفي نكتة تسلق الشجرة مع أخذ نعليه هي نكتة البحث عن الذات والتسامي فمن يصعد إلى الشجرة لا
ينزل بل يبحث عن مسالك أخرى جديدة وطرق عيش أخرى هي في كل الأحوال أفضل من دونية
النزول والعودة على الأعقاب.
وفي نادرة أخرى طلبت منه زوجته أن يشتري منوما لولدهما الآرق، لكن جحا نسي وحين عاد في
المساء سألته زوجته إن كان قد أحضر المنوم غير أن جحا تعلل بالنسيان وأعطى زوجته كتابا هو
عبارة عن مجمل الخطب والمواعظ التي يلقيها على الناس في المسجد وعلل ذلك بأنهم جميعا كانوا
ينامون حين يلقي عليهم هذه الخطب أو الدروس والمواعظ، وفي هذه النادرة نقد للخطاب الديني
المسجدي وضرورة تجديده فما يقدم مستهلك يغيب عن الوعي ويفارق الواقع وتحدياته ولا جدوى منه.

على أن نادرة المسمار قد طغت على كل نادرة وصارت مثلا يتداول عبر الأجيال وهي نادرة تدل على
الحيلة كما تدل على عدم التفريط في الملكية خاصة ما كان متوارثا ولا بأس من الاحتيال للحصول على
المال دون أن يفقد جحا بيته الذي باعه دون المسمار حسب شرط البيع المتفق عليه.
لقد أغنى جحا التراث الشفهي العربي بنوادره وكان تعبيرا بالتلميح تارة وبالتصريح تارة أخرى
وبالطرافة والسخرية عن مختلف العقد والمكبوتات النفسية فيما يتعلق بالسياسة والاجتماع والدين
والاقتصاد والثقافة وكما كان تنفيسا عن أوجاع صوت مكتوم وصرخة مجهضة نتيجة ضغط الظروف
واستحالة البوح بسبب القمع السياسي والعسكري والتهميش من لدن السلطات الرمزية الأخرى كما أغنى
جحا الأدب الرسمي عبر الدراسات التاريخية والأدبية للتراث الفكاهي العربي كما تردد في مصادره
وانسحب ذلك على الدراسات النفسية والاجتماعية لحال الشعب وآلية دفاع الأنا الجمعية واكتشافها
مسارب للبوح والتنفيس والتخفف من آلام الواقع وجراحه بما يفيد أن تلك النوادر هي مؤشر سياسي
واجتماعي وثقافي للمضمر والمسكوت عنه في تاريخ الشعب في حقبة معينة وأنه حقا صوت الفقراء
والبسطاء والمحرومين.



#إبراهيم_مشارة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكويت وتجربة التنوير العربي
- جورج طرابيشي: ست محطات في حياته
- الكتابة ضد السجن والرصاص من طه حسين إلى بختي بن عودة
- محمد زفزاف الحاضر فينا أبدا
- المرآة في الكف ،الدّمامة المبدعة وتنمّر الآخرين
- آمال جنبلاط والإقامة في العتمة
- جولدتسيهر في مرآة حميد دباشي
- المتنبّي والعلويّة، هل كان علويّا؟
- روكرت والأدب العربي
- عمر بوقرورة في رحلة المنتمي الصعب في شعر مفدي زكريا
- مثقفونا والحرب على غزة
- تولستوي والشرق
- عبد الوهاب البياتي والثورة الجزائرية
- كتيبة الأربعين والملحمة الفلسطينية
- أسئلة الثورة لسليمان بن فهد العودة
- نساء نوبل
- فوزي كريم والقصيدة المفكرة
- محمد مصايف والتنظير النقدي
- فاضل السامرائي القرآن الكريم مقاربة لغوية بيانية
- رواية الطّرحان ملحمة الدم،الحب والاغتراب


المزيد.....




- سار على خطا والده.. وفاة الممثل تشاد ستيف ماكوين عن عمر 63 ع ...
- الازدواجية تثير الغضب الفرنسي: باكو تسجن فنان غرافيتي فرنسي ...
- مهرجان تورنتو يقرر -تجميد- عرض فيلم -روس في الحرب- بسبب تهدي ...
- فيلم دي ماريا الوثائقي.. حبوب منومة و-فضيحة- فتاة في المصعد ...
- تأجيل عرض الفيلم الهندي -الطوارئ- تحت ضغط السيخ
- -العدالة- في سراييفو.. معاناة الفلسطينيين في قلب مهرجان الجز ...
- أبو الغيط يطلق كتابه شهادتي باللغة الإسبانية في مدريد
- مصر.. نظرات فنان مشهور لفنانة شابة تثير جدلا واسعا
- -فين أنا- في دورته الخامسة.. مسار فني لإعادة اكتشاف طنجة الم ...
- نجمة أفلام إباحية أمريكية شهيرة تكشف تفاصيل تعرضها للحجز في ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - إبراهيم مشارة - جحا العابر للثّقافات