أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - في موقد تحت التحميص















المزيد.....


في موقد تحت التحميص


فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)


الحوار المتمدن-العدد: 8098 - 2024 / 9 / 12 - 20:13
المحور: الادب والفن
    


عندما استسلم المساء للليل، أزاح التايب اللوحة المعدنية التي تخفي الثقب في أعلى الماسورة الخرسانية الضّخمة، ألقى من خلال الشقّ بعربة اليدّ وانزلق خلفها إلى داخل الإنبوب. أغمض عينيه وظلّ هكذا لفترة طويلة، ثمّ فركهما بسبابتيه وفتحهما ببطء ليتعوّد على رؤية الأشياء في العتمة. نظر إلى فتحة الأنبوب في الطرف المفتوح على البحر، كان هناك قمر يضرب ضوؤه الساطع وجه الأمواج بلطف. لم ير الأبراج من تلك النقطة، لكن هجومها الخاطف على مشاعره انعكس في مخيلته عن طريق البصيرة فتألقت عيناه بشكل غريب. تفقّد أدواته التي جهّزها لغايته، سطل فارغ ورفش ومجرفة وحبل قصير وقنديل زيتي وأشياء أخرى خفيفة ومفيدة، ثمّ تحسّس زجاجة الماء في حزامه. ظنّ بعد أن أجرى مسحًا نهائيًا أنه لم يتم إغفال أي شيء، وأن كل شيء جاهز، فبادر إلى إشعال فتيل القنديل، ثمّ استدار وتوكّل، وحينما دفع العربة أمامه وتحرّك بدأت الظلال تتحرّك معه وتتضاعف دكنتها. سيطر على قلبه خوف ورهبة ووجع شديد، فقد كانت هذه هي المرّة الأولى التي يقوم فيها برحلة بحث بعيدة بمفرده.
كانت مهمته اليوم استثنائيّة جدّا، غريبة بعض الشيء، وجريئة، ولأنّها ليست من أجل جلب الحطب أو الحصول على المياه العذبة أو الطعام، لم يطلع التايب على رحلته أحدا، لا الأم تعلم بذلك، ولا ليلى اكتشفت نواياه، لو أخبرها بعزمه فلن تتمكن من فهم دوافعه، هي التي تعيد على مسامعه ما بين فترة زمنية وأخرى القول ذاته: "لا أستطيع أن أفهم سبب تأخر قدوم الخريف كل هذه السنوات، آمل أن يكون هناك تغيير في الطقس قريبا"، كانت تتعثّر بأحلامه المشوشة التي أطلعها عليها، يجترّ شذرات من شقوق ذاكرته التي أعاد بناءها في حديثه معها عن الزمن القديم والأشياء الغريبة التي اختفت فجأة، عن النباتات المتسلّقة والطفيلية التي كانت في يوم من الأيام نابتة، والأشجار التي كانت تتغطّي بالأزهار والفراشات، والعصافير التي كانت تطير وتغنّي بسعادة، والزهور التي كانت في ما مضي تزهر في وقتها، والورود والزعفران والبنفسج والريحان وزهرة اللوتس والنرجس الجميل والقرنفل، والخيل والبغال والحمير والإبل، والأبقار الحلوبة، والأرانب البريّة وقطيع الأغنام، والماء الذي يجري في الأودية عذبا زلالا، وكان قلبها يذوب حين يخبرها عن البطّ الذي يسبح في البرك، والسحب السابحة في الفضاء، وهطول المطر مع وميض البرق وهدير الرعد. وكانت ترتعش مثل نور الفانوس في مجرى تيّار الهواء. ودائما عندما يتحدّث كان يُخبر بالأشياء وكأنّه يقف في المكان المناسب وهي تتجلّى أمامه، يراها رأي العين، ويعرف عنها كل شيء.
وذات ليلة، وقد مرّ ما يقرب من أربع سنوات، قال لها مازحا، وهو يحدّثها عن القهوة وكيفية صنع مشروب لذيذ منها: "هي في لون بشرتك البنية"، فلم تستطع أن تكبح السؤال الذي كان منذ أمد يجول سائحا في طرف لسانها: "كيف علمت بذلك ولم يسبق لك أن رأيتها قط؟"
فأجابها: "رأيتها في منامي"، وتبسّم.
في البداية انفتح فمها لتقول شيئا ثمّ انغلق، بقيت شفتاها للحظات ترتعش وعيناها ترمش لتنظيف لسانها من التعبيرات الجارحة التي لم تعد تليق بهذا الشاب الوسيم، طفل الأمس الصموت، وقد بدأ شاربه ينمو تحت أنفه، ثم صاحت فجأة: "أمّي، من أين يأتي ابنك بكل هذه القصص؟" ولمّا تكسّر صوتها أمام صمت الأم، ارتدّت إليه وقد رُدّ إليها لسانها العنيد: "بالتأكيد كنت في أحلامك في حالة سكر".
يعلم التايب أنّه ألقمها بعض الضوء مما استحضره في مخيّلته من أيّام التنشئة، غير أنّه لم يُصْدِقها القول كلّيا، كما يعلم أنّها لم تبتلع "حربوشة" كوابيسه، كوابيسه التي بدت لها أقلّ وجعا من واقعها الرهيب.
لكنّ الخريف الذي تنتظر ليلى قدومه، بملابسها البيضاء المتّسخة والممزّقة في أماكن كثيرة، لم يُرَ أبدا هنا، ولا الشتاء ولا الربيع، كان صيفا قائظا متواصلا، صيفا قائظا طويلا لا نهاية له، خفّفت الأقاصيص المثيرة من فظاظته، قصص كثيرة عن الحياة والموت والحرّ والجوع، وحكايات لا تمل عن الروائح الطيبة التي كان البشر في الحاضر القريب يتشمّمونها، والأشياء الجميلة التي يعشقها النظر، وكان الماء في كل مكان والغيوم تلوح في سماء البشر، وكان الجليد هنا وهناك، كل ذلك قد رقص فوقه لهب شعلة السماء النحاسية الحارة فأزاله، ولم يعد سوى قصص تتناقلها الألسن في الليالي الحنادس والدهماء التي لا تعطي فيها الشمس القمر من نورها ما يستضيء به، فالليالي التي يحتجب فيها القمر تبقيهم خاملين عن الحركة عاجزين عن الضرب في الأرض.
غيّر التايب من وضعه، حوّل ذراعه من قوّة دفع إلى قوّة جذب، سار بحذر في المسار المعتم ناظرا إلى الخطّ المستقيم في قاع الأنبوب وهو يسحب العربة خلفه ملتحفا بالظلال المتراقصة، متّجها بأفكاره إلى وقت أبكر من الليلة، إلى قدر البشر ومصائد الموت تنعكس في عقله، إلى الإنسان جذر الأرض وجذعها، ودموعه المتدفقة من المتاعب خلال آلاف السنين يغسل بها الأرض فتتألّق وتنتعش تحت وزن ثقيل من الفوضى والكوارث العظام، بعضها من صنعه، وأخرى مفروضة عليه، طوفان وزلازل وأعاصير وانفجارات بركانية وحروب مدمّرة حدثت في حياته الطويلة إلّا أنّها لم تكن أبدا لتنهي وجوده وتضع حدّا لمسيرته القاسية ومعاناته الرهيبة، ففي الوقت الذي ساد فيه البرد والصقيع خلال العصر الجليدي العظيم وظنّ الإنسان المبكر المتحرّر من قيود المكان أنّ الحياة تهرب منه، مشى على السطوح الباردة الجليدية ولم تتجمّد الدماء في أوردته، الثلج في عينيه ولم تتحطّم روحه، ولم يسحق جسده، مجرّد صداع ثمّ أزيل العبء عن كتفيه، وارتفع من القاع المظلم في بضع قرون، ممّا جعل المهتمين بتاريخ الحياة في سجلّ الطبقات الصخرية لقشرة الأرض وفي رقائق الغبار المتراكم عبر العصور، يتعجبون من قدرته الخارقة على التكيّف في معركته مع الحياة. لم يروه وهو على تلك الحالة على الجليد لفترة طويلة ولكنهم أنصتوا لشهادة الصخور القديمة وخطوط الطي في أشكال الحياة المنقضية وتكهّنوا وافترضوا، وانشغلوا بالإجابة عن أسئلتها الحارقة حول العوامل المناخيّة التي أنتجت وجود تلك الطبقة الواسعة من حقول الثلوج التي دفن تحتها الكوكب بالتناوب بين أراضي نصفي الكرة شمالا وجنوبا، هل كان ذلك بسبب مدى الإنحراف المركزي لمحور الدوران كما تمّ تدوينه في دفاتر ملاحظات علماء الحفريات؟ أم هو بسبب بعد الأرض عن الشمس؟ أم بسبب آخر لا يعلمه أحد؟ تلك الأسئلة الحائرة افتقرت الإجابة عنها إلى الحسم، بقيت مشكلات معلّقة بلا حل كمثيلاتها حول سبب الجاذبية، ومادة الأثير، وسرّ الأصول والفجوات في سلسلة الوجود. فالأدلّة حول مرور الإنسان على جبال من جليد مظلم إلى حياة بشرية أخرى فوق هذه الأرض ذاتها متطرّفة وواهية كبيت العنكبوت، استنتاجات غير مستقرّة ولدت من رحم لحاء جذع شجرة مجوّفة غير كاملة مدفونة تحت الثلج في ظروف استثنائية دون أن تتعفن من الغمر، قيل إنّ الماء لم يطوّف بها من منطقة إلى أخرى إلى حيث مستودعها الأخير بالقطب المتجمّد، وإلّا لكانت قد اضمحلّت تماما، فقد ظلّت ساكنة بلا سيقان، قابعة هناك في تلك البقعة من الجليد، تنتظر تفتح الزهور في الثلوج، تملأها الفرحة بقدوم الإنسان المهاجر إليها في ظروف مناخيّة صعبة لا يمكن تصورها، إنسان هارب مثل الدودة من قساوة المناخات، يتتبّع موجات الدفء تأتيه من المناطق الدفيئة على مسافة مئات الآلاف من الكيلومترات، حيث يتضاءل وجود الثلج خلال تلك التغيّرات المتبدّلة على مدى فترة طويلة من الزمن. إنه يتجول دائمًا من مكان إلى آخر، وقد استطاع العيش عصرئذ في ذاك الشتاء الطويل والتكيّف معه، فهل يعجز اليوم عن الحياة في ظل ظروف الصيف القائظ الطويل حيث سادت فيه الحرارة بدل البرد فلا حشائش تنمو ولا ماء يجري؟
هل سينتهي قريبا وجود البشر في هذه الحياة قبل ظهور علامات الكلمات الكبيرة في رسائل الأنبياء؟
علامات الساعة الكبرى لم تظهر بعد، لم ينزل عيسى المسيح ولم يقتل المسيح الدجّال، والشمس لا تزال تشرق من المشرق، وعلامة الدّابة التي تكلّم النّاس لم يحن وقتها لتَسِم جبهة المؤمن والكافر، وياجوج وماجوج لا يزالون محجبين بالظلام يصرخون خلف السدّ ويتنهدون، "من يعرف كيف يختتم القدر مصير الإنسان؟"، فكّر التايب، وتساءل عن سبب تفكيره في ذلك النذير المرتبط بالقيامة، ربما لا تزال للأرض المحروقة المريضة بعجزها فرصة قبل الصيحة، قد تكون أمامها عصور لا حصر لها من تاريخ أفضل على الرغم من ظهور أشراطها الصغرى، وقد يأتي زمان بعد أجيال عديدة يعود فيه العلماء لاستكمال سجلّهم المادي غير المكتمل، الذي صرفهم عنه الحدث الجلل وأجبرهم على التوقّف عن شقّ طبقات الأرض لاستكماله، أجبرهم المارد حارق الأرض، وضعهم في مثل هذا الفرن المتوهّج فسكتوا عن النظر في طحين الأصداف والحصى على الشواطئ، وفي رواسب مواد التربة المتراكمة بفعل عمليات تحلّل المعادن وتآكل قشرة الأرض المستمرّة منذ عصور، لقد توقّفوا الآن عن فعل ذلك هم والجماعة المشكوك في رغباتهم الحقيقية، ونواياهم الخفية، الذين كانوا منشغلين في استحلاب الطبيعة يبقرون بطن الأرض لاستخراج أغلى ما تحمله بطريقة أو بأخرى، ربّما هم، في هذه المرحلة، حيارى مشرّدين يدفعون ثمن جشعهم باهظا من أجل بقائهم على قيد الحياة، تلسعهم نار نهمهم ولا يستطيعون أن يفعلوا أي شيء ولا يستطيعون أن يموتوا.
يعلم التايب جيّدا أنّ الثمن المضاعف يدفعه الفقراء، والذين وقفوا على الحياد بلا هدف يغسلون اليوم أرضهم بالدم.
أمّا العلماء فقد قفز بعضهم إلى سفينة الأبراج يختبئون في مقصوراتها المريحة، على أمل أن يعودوا ذات يوم في قادم الزمان للنظر في عروق الجرانيت والصخور الأحفورية يستخلصون منها هذا السر الذي تحول فيه الكوكب إلى جحيم ولم يحترق الدم في أوردة الإنسان الذي ظلّ واقفا كالنخل مستمرّا في الحياة، وليتساءلوا في حيرة: كيف عاش هذا الكائن الضعيف؟ وما هي حدود الإختباء لديه وطرقه؟
لقد فكر التايب في أن يرسل لمؤرّخي المستقبل وجيولوجيه تذكارًا يعينهم على فهم كفاح المرء اليوم وهو في موقد تحت التحميص، يمدّهم بإجابات صادقة عن غريزة البقاء لديه ينقشها على صخرة صلدة في مكان بارز، على أمل أن تبقى دهورا بعده، سوف يقودهم هذا إلى الحقيقة الخالصة دون حفر أو تخييل. يستطيع أن يفعل ذلك، يخبرهم أوّلا كيف كانوا يعيشون بصدور ترتفع وتهبط بوتيرة متزايدة مع تزايد الحرارة، ولهاث بفم مفتوح كلهاث الكلب، آمنين حين لا يكون هناك أشخاص على مقربة منهم. ولسبب ما خطرت له فكرة أخرى اعتقد أنّها ذكيّة وقد تؤدّي إلى الغرض المطلوب، لِمَ لا يكون ذلك عبر صياغة تعبيرة داخل هذا الأنبوب نفسه؟ ورفع عينيه في الضوء الباهت إلى الأعلى، حدّق في خرسانة السقف، ثمّ لوى عنقه نحو جانبيه، وكاد أن يتوقّف ثمّ تراجع في اللحظة الأخيرة، اكتشف أنه لا يستطيع فعل ذلك ولو أراد، ماذا لديه ليقوله لهم؟
خطوط حياته مرّت بتجربتين، واحدة عاشها في بقعة يشعّ فيها وهج الحضارة بشكل مدهش، والأخرى قفزت الحضارة فوقها ولم تعدل في قسمتها، رغم أنّها لا تبعد عن الأولى سوى عشرات الأمتار. حياتان مختلفتان فأيّ صورة من وجهي حياته سيستحضرها لنقشها في داخل الاسطوانة الخرسانية دون أن يتسبّب ذلك في إثارة مشكلة بين العلماء حول نوع الدليل المعتمد ومدى انسجامه مع الحقائق العلمية المكتشفة؟ إذ أنّه من النادر ما تجد تجارب حياتية متطابقة يمكن قياسها وتعميم نتائجها، ففي صراع بقاء الناجين على قيد الحياة، سوف يترك غير القادرين على التعبير عن أنفسهم بصماتهم أيضا على الأرض بطريقة ما، وقد يكون لدى الجيولوجيين عينات أكثر مما يظنّ ليشكلوا منها حكمًا، تصلهم من بصمات بعضهم قبل العثور على خربشات التايب المدفونة في طبقة جيولوجية تحت الأرض في ظلمات بعضها فوق بعض، ولربّما لن يهتدوا إليها أبدا، وهو افتراض كان يجب على التايب أن يضعه في الحسبان، لكنّه قال بصوت خافت: "هذا طبيعي، إنّها غريزة يمتلكها صفوة العلماء سوف تقودهم إلى هنا"، وفي اللحظة التالية أسقط الفكرة من أساسها، وواصل سيره، لا لشيء إلّا لأن ذلك الأمر يتطلب وقتا والنفس المزكومة منشغلة في صراعها مع الحياة، لم يكن لديه الوقت الكافي لفعل ذلك، وإذا كان لديه فراغ فالطعام أولى به للحفاظ على النفس، مع أشياء أخرى تشغل باله، ما هي؟ ليس يدري صراحة.
استمرت رحلته الصامتة داخل الإسطوانة الخرسانية لمسافة ما، قطعها في مدة لم يشعر بها، حديث الباطن مع نفسه خفف عنه وطأة الوقت، وعقله السارح يعذّبه، لقد أمضى بعض الوقت مع الأسود، ولم يتعلم الزئير، حتّى إذا غادرها منبوذا مطرودا يكاد من كثرة ما اجترها أمام عين سمعه يحفظها. لا شكّ أنّ لديه ذاكرة جيدة، لم تنفعه عندما احتاجها هناك في الأبراج، وها هي هنا تعمل بقوّة دفع نفّاثة مع شعور طاغ بالذنب، كم يشتاق إلى الهواء النقي الصافي، والشمس الدافئة تضيء الطريق. تمنّى وفتح فمه، مرر لسانه على شفتيه الجافتين، فمر تيّار حارق إلى حلقه، وفي الأثناء، هاجمت أذنيه أصوات خافتة، قادمة من بعيد، فارتعشت يده على مقبض العربة وخفق قلبه في السكون الشاسع في الأنبوب الإسمنتي الشبيه بالنفق، نسي أنّه في جوف الأرض فقطع أنفاسه مذعورا وأنصت بانتباه وحرص، وفي الصمت المرعب، ارتفعت الأصوات مرة أخرى قريبة من رأسه، جعلته يقف وينكمش بلا حراك رافعا عينيه المتوترة إلى السقف، خافضا رأسه بشكل غريزي، كما لو أن انحناءته الخفيفة تلك ستوفر له الحماية من خطر داهم.
انتظر حتّى تلاشت الأصوات عن مرمى سمعه، وتعافى قليلا من خوفه، ثمّ واصل المسير، وقد أدرك بعقله الفطن أنّ تلك الأصوات تشير إلى قرب وصوله إلى نهاية الأنبوب.
ولم يخب ظنّه، فبعد أن مشى التايب قليلا، ويداه أمامه مشدودة وقويّة، والعرق ينزّ من جبينه ويلطخ قميصه، ظهر وميض شعاع خافت انبعث من بؤرة متوهّجة في آخر النفق واخترق الطين اليابس المتكسّر تحت قدميه، فتعطّلت حركته فجأة وسارع إلى إطفاء الفتيلة، يمكنه الآن أن يكمل سيره بحذر على الإضاءة الآتية من الخارج. لقد استراح لوصوله إلى ما بدا له أنها حفرة واسعة في سفح منحدر، لم تكن عميقة بشكل واضح ربّما هي مجرّد حوض مفتوح على الطبيعة كانت المياه تتجمّع فيه عندما كانت الأمطار يوما تتساقط من السماء ومياهها الهائلة تأكل تربة الأرض كجرذان الحقول.
ترك العربة في مكان مغمور بظلام الليل، واتّكأ على جدار الحفرة، ثمّ أنصت لفترة من الوقت، لا يوجد سوى سكون الموت والصمت الثقيل المتواصل، لم تكن هناك حركة في هذا العالم المحتضر. نظر فوقه إلى السماء المقمرة، كان القمر قد جرى قليلا في مداره منذ مغادرته البيت في بداية الليل، فقدّر أن تلك الطريق التي سلكها طريق مختصرة حقّا وفّرت له فائضا مبهجا من الوقت انشرح له نفسه، وفاضت الفرحة على صدره، سيقتحم بيوت المدينة المهدّمة هذه الليلة بمفرده، وربّما غدا أيضا، والأيام التي تليها، سينقّب في أركانها التي لا يجدها مشغولة شبرا شبرا.
ولكن، ما الذي يشغله ويثير اهتمامه؟ ما الذي يهمه ويبحث عنه في هذا المكان؟ وإلى أين سيقوده ذلك؟
لقد كان هو الوحيد في الأسرة الذي يجمع في بحثه بين المواد المغذية للجسد وتلك التي تغذّي أحلامه، أشياء مهملة لا يرى فيها الأغبياء إلّا نفايات عديمة القيمة، وهي عنده لا تقدّر بثمن، أشياء من الصعب أن يحدّدها مسبقا حتّى يتعثّر بها، وتلمع قدّامه، وحين يعثر على شيء منها تغلبه الفرحة وتغمر قلبه موجة دافئة وكأن حياة حلوة جديدة تستيقظ في الجزء الخلفي من ذهنه، أو بصيص أمل.
دفع بهدوء رأسه وكتفيه إلى الأمام وتطلّع في الأرض السوداء العارية حيث تضاريس المنحدر قريبة من نظراته، ثمّ صعد المنحدر وهو يطأ الحجارة الخشنة دون أن يشعر بالألم، وكلّما مشى قليلا كان كل شيء آخر يختفي وراءه، ويغرق في ظلمة الليل، إلى أن وصل إلى قمة التل وأشرقت أطلالُ المدينة بنورها، حيث لا ريح تقُمُّ أرضها ولا ريح تثير سحابا فوقها.
عندما طُرد من هناك، من موطن الحضارة، وتلقّفته أيادي عائلة العمّ، كان كمن أنزل من الجنّة إلى الأرض حيث الألم والبؤس والموت، تماما كجدّه آدم الذي أُهبط منها مع عدوّيه، حيّة وشيطان، ليواجه الخطر والإذلال والموت. التماثل الكبير يكمن كذلك في الاتّساع والعزلة، في موطنه الأوّل حيث ولد كانت المساحة بمقدار والهواء مكيّف حسب الطلب، وكانت قيمة العمل كفريق قيمة ثابتة وعنصرا بارزا يعطي لحياة المجموعة لونا وألقا من أجل مستقبل الجميع واستمرارية وجود الكل، ومن أجل ذلك كان التواصل والتعاون بين أفراد المجموعة ضروريا وبديهيا، أما هنا في هذه المساحة الواسعة والمحروقة فقد ارتبطت قوى النفوس وأمزجة الأبدان بتكدّر الهواء الساخن، وبتغيّره تغيّر كلّ شيء، تربة الأرض الغنيّة الرطبة وأصناف المآكل وما في البيوت، والصّور والمزاجات، وسلوك المرء وأخلاقه طغت عليهما الغريزة الوحشيّة، الجوع صانع الغضب، في لحظة ما قد ينهش الجوعُ الحملَ الوديع فيتحول إلى وحش كاسر. قد يحدث ذلك في أيّ لحظة وعندئذ سيأكل المرء إخوانه، لا اختلاف بينه وبين الحيوانات في صراع البقاء، جميعهم يعيشون ليومهم فقط لاستمرار وجودهم، كانت لديهم أسبابهم ليعيشوا فرادى معزولين في حذر وصمت. وحتّى الرغبة الجنسية لم تعد تأسّس رابطا أسريّا تكون نواة لدائرة معارف صغيرة، هذا الأمر غير وارد الآن، ولا يظنّه التايب سيحصل في القريب، ليس هذا بسبب ندرة الطعام وشحّ الماء لمقاسمته مع الآخرين كما تتذرّع الأمّ دائما حين تخوض في موضوع زواج بلقاسم، وإنّما هو بسبب البرودة الجنسية، المشكل المسكوت عنه عند احتدام النقاش، مفارقة عجيبة حرارة تذوّب الجلد وبرودة في العاطفة، إذ أنّ المضاجعة عملية مؤلمة تشبه إغتصاب الأرملة السوداء لذكرها، يعلم المرء أنّ من يقوم بها يفعل شيئا سخيفا، ومن المحتّم إذا أخطأ الشخص التقدير أن تُسحل قطعة من جلده ليبقى عاجزا إلى الأبد، أخبره بلقاسم ذات مرّة بشيء من هذا القبيل، وكان قد بلغ من العمر السنّ المناسبة للزواج. قال له إنّ نسوة اليوم البشعات يأكلن الأعضاء في فترة التزاوج. وضحك وهو يضيف: "ولكن، من الأفضل أن تموت وأنت تسدّد ضربتك من أن تموت مصابا بشيء آخر"، انقلب وجه التايب وقتها من الدهشة وارتبك عقله من قوله، ثمّ بدأ في تجميع تفاصيل التفاصيل على مراحل، تفاصيل طبعت نفسها في ذهنه دون أن يكون واعيًا بها.
في السنوات القريبة كان يرى حشدا من الأسر الحالمين بالعبور إلى مدينة الأبراج ينصبون خيامهم على الشاطئ، عائلات بأكملها يخيّمون هناك، ثمّ بدأت تلك العلامات تتلاشى شيئا فشيئا، لمّا ذبلت زهرة آمالهم وانطفأ حلم السعادة في داخلهم وبرد، لم يعد يرى منها سوى محاولات لأشخاص فرادى أو أزواجا من الجنسين تكون فيها الأنثى الضعيفة مجرّد زائدة دوديّة لا بيت لها، تبحث في رفيقها عن الحماية. وحدها عائلة العمّ بقيت متماسكة في أفرادها، وفيهم وضع التايب الصموت ثقته، يشاركهم الحزن والفرح منذ قدومه ويدفع معهم ثمن الحياة بدماء قلبه.
ومن خلال ما أمكنه رؤيته من الوحدات السكنيّة المتزايدة يرفع أعمدتها رجالات مدينة الأبراج في أعماق الماء المظلم، يوسّعونها على الدّوام يغطّون بها البحر بعيدا عن الشواطئ، بعيدا نحو الأفق بشكل متسارع، خمّن التائب أنّ طبيعة الحياة الأسريّة هناك في تلك المدينة الكبيرة والجميلة لا تزال خارج المتاعب.
قبل أن يتلاشى الليل ويبزغ الفجر بوقت قليل، كان التّايب عند كسر الأنبوب أمام البيت، ومدينة السّاميّة في الخلف، وصل إليه مرهقا، حرّر عربته من فائض حمولتها ومرّرها من الشقّ بسرعة، ثمّ رفع باقي الأمتعة على كتفيه ودحرجها من خلال الفتحة الضيّقة، وهو ينادى على ليلى لتخلي له المكان حتّى يتسنّى له القفز إلى الجانب الآخر. كانت تجلس على قرضة خشبية في المكان المخصص لتجمّع العائلة في الصباح، قبل أن يخلدوا إلى النوم، فجاءت مسرعة، مدّت يدها إلى الأمتعة، تفحّصتها أوّلا وزمّت فمها وهي تشعر بخيبة أمل ممزوجة بقليل من الفضول، ثمّ مضت تسحبها بعيدا، وتبعد العربة خطوتين إلى اليسار، وفي اللحظة التي عادت وشبكت يديها حول ساقيها حيث كانت تجلس، كان التايب قد عبر الفتحة وأغلقها وشقّ طريقه إلى مكانه المعتاد في مجلس العائلة.
قالت الأمّ وهي تمدّه بوجبة إفطاره في صحفة ألومنيوم صغيرة: "كنت أظنّك خارج البيت، لم أشاهدك وأنت تدخل".
"ابنك كان في الأنبوب"، سارعت ليلى بالقول، وأتبعت حديثها ابتسامة كبيرة ماكرة قفزت إلى شفتيها، ثمّ أضافت معلّقة: "عوض أن يأتينا محملا بالطعام جاءنا بحمولة من النفابات، قدّاش يفنى على الخردة"، والتفتت إليه وأحرقت وجهه الشاحب والمحرج بنظرات خبيثة، وهي تردد وتضحك: " (بَاشْ Bâche)، يا التايب، (بَاشْ)... كم أنت عديم الفائدة!"، وفي تلك اللحظة تدخّل العم ليضع حدّا لسخريتها، نظر في وجهها بحدّة، وقال: "انظري هناك إلى عجينتك. هل ترينها؟"، أمسكت ليلى صحفتها وحدّقت فيها متبرمة، ثمّ أومأت برأسها بخفّة: "أي! رأيتها"، "هيّا تغذّي بها وتوقفي عن التحدث إلى الصبي بهذه الطريقة!"، أضاف العم بشكل حاسم، فوضعت السبّابة والابهام على شفتيها وحرّكتهما إلى اليمين قليلا للتدليل على أنّها أمسكت لسانها وأغلقت فمها بسحّاب، إشارة ذكيّة دغدغت بلقاسم فضحك وتبسّم لمزحتها التايب، لقد كان يراقبها طوال الوقت. ولم تستطع الأمّ كبح جماح فضولها عن التّساؤل عمّا كان يفعله داخل الأنبوب، فطرحت السؤال وهي تحني عنقها قليلا إلى الأسفل لالتقاط ردّه الذي نطق به بصوت خافت في جمل وجيزة: "كنت أبحث عن منفذ في نهاية خطّ الأنبوب من جهة السّاميّة لتوفير الوقت وزيادة في وتيرة الرحلات في أمان وراحة، بعيدا عن الهياكل العظمية والجماجم".
عندئذ سأله العمّ بلمسة من الاهتمام: "وماذا وجدت؟"
"طريق أقصر قطعتها دون مشاكل"، ردّ التايب، فارتجف العمّ متحمّسا: "هذا رائع .. هذا رائع، ستجنّبنا ابتلاع كمية كبيرة من الدخان، وأضرارا تلحق بأعيننا."
غير أنّ بلقاسم الذي شعر ببعض الانزعاج قد تدخّل بصوت متوتّر: "لكنّ، أبي، إلى متى سنبقى .. بضعة أشهر؟ لا يوجد شيء هنا، وشبح الجوع لا يرحم. ليس أمامنا سوى أن نتهيّأ لكي نترك المكان."
لعق التايب شفتيه، ثمّ قال باقتضاب، وهو يقرع صحفته بأطراف أصابعه: "لا تزال هناك فرصة."
لا، ليس هناك أي مجال للتنبؤ بالمستقبل، ولا معنى لرفع الآمال. كانت هناك رؤى على ظهر الذكريات، فكرة صغيرة غامضة في الجزء الخلفي من ذهنه تطن في أذنيه طنينا مزعجا، لا تزال ذكرى تلك الأيّام منذ زمن بعيد تشعّ بقوّة كلؤلؤة. لكن عليه أن يفهم أن الأمور هنا مختلفة عمّا كانت عليه في الأبراج، ما انتهى قد انتهى، وما لا يمكن أن يحدث أبدًا لن يحدث أبدا حتّى لو تمكّن من الإستيلاء على كل المعارف والمخططات المتراقصة في الظلال دماغه الخافتة. ولو كانت تلك المعرفة كانت جزءا من ماضيه، فمن الغريب أن يتمكّن المرء بعد كل هذا الوقت من التذّكر، كما أنه من الصعب نسيان كلّ شيء.
"ماذا تحاول أن تقول؟"، قال بلقاسم باستخفاف.
لم يكن أحد يعرف ما كان يفكر فيه أو يخطط له. كان قد اتّخذ قرارا جيّدا حاول أن يشرحه لهم: "سوف نجعل الطعام بجانبنا .. سننبّته قريبا منّا"، حدق فيه بلقاسم متشككاً، ولم يقل شيئا، قرأ التايب في سكوته الشك في سلامة عقله، وابتسمت ليلى والسخرية تختبئ خلف عينيها، وشدّت الأمّ فكّها وهي تواجهه: "تقول نزرع؟ كيف؟ في هذه الرمال التي لا تنبّت شيئا؟ .. ودون وجود الماء؟".
قال التايب: "لديّ طريقة سوف أجرّبها."
سكت الجميع للحظات حتّى صار الصمت مزعجا، وقف بعدها العمّ وسار بخطى رزينة في اتّجاهه، وضع يده على كتفه وهزّه بلطف، وقال: "لا أستطيع أن أجادلك في هذا الأمر، ولكن يبدو ذلك مستحيلاً"، وعندما رفع التايب رأسه ونظر إلى أعلى، كان العمّ قد سار خطوات قليلة قبل أن يضيف: "ولكنّي سأصدّق كلمتك فأنا أثق في رجاحة عقلك. إذا احتجت منّي يد المساعدة فأعلمني."



#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)       Boukari_Fethi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأدب في عصر العلم والتكنولوجيا
- علاقة المثقّف بالسّلطة السياسية: رواية الكاتب البوهيمي المتع ...
- غربة
- تأثير أفكار ابن خلدون في الحضارة العربية والغربية
- طوفان العصر(*)
- إنعكاس الخطاب السياسي في رواية -المغتصبون- لسمير ساسي (2)
- انعكاس الخطاب السياسي في رواية -المغتصبون-(1) لسمير ساسي(2)
- غزّة، يا كبدي!
- خبزة البصّيلة
- علاقة الذات بالمكان في رواية: رقصة أوديسا، مكابدات أيّوب الر ...
- حوار مع أبي يعرب المرزوقي
- الممثل
- يا جابر الحال
- خنساء لمحمد عز الدّين الجّميل، رواية أوجاع الذاكرة
- الزحف
- فصول نحوية
- لا توجد في البيت امرأة
- حوار مع أيقونة القصّة التونسيّة نافلة ذهب
- سَرَقَةُ الدّم
- سترة أبيكم


المزيد.....




- -ملفات بيبي- الفيلم الوثائقي الذي أغضب نتنياهو
- انطلاق معرض بغداد الدولي للكتاب تحت شعار -العراق يقرأ-
- من هي صفية بن زقر -سيزان السعودية- التي نعاها أبناء الخليج؟ ...
- المقاتل الروسي عمر نورمحمدوف يوجه إنذارا شديد اللهجة لمنظمة ...
- اليونسكو قلقة من نهب متاحف ومواقع أثرية في السودان
- تايلور سويفت وكيتي بيري في أبرز لحظات حفل توزيع جوائز MTV ال ...
- -درس البيانو-.. إرث العبودية يتجسد في فيلم عائلة دينزل واشنط ...
- روسيا تقترح استحداث جمعيتي السينما والرقص الشعبي لدول -بريكس ...
- روسيا.. صدور 38 مجلدا للموسوعة التاريخية الروسية
- واشنطن بوست تدحض الرواية الإسرائيلية لمقتل الناشطة الأميركية ...


المزيد.....

- الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال ... / إيـــمـــان جــبــــــارى
- ظروف استثنائية / عبد الباقي يوسف
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل ... / رانيا سحنون - بسمة زريق
- البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان ... / زوليخة بساعد - هاجر عبدي
- التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى / نسرين بوشناقة - آمنة خناش
- تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة / كاظم حسن سعيد
- خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي ... / أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة
- آليات التجريب في رواية "لو لم أعشقها" عند السيد حافظ / الربيع سعدون - حسان بن الصيد
- رنين المعول رؤى نقدية لافاق متنوعة ج1 كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - في موقد تحت التحميص