أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - قصص قصيرة شتاء الأيام الآتية طلال حسن















المزيد.....



قصص قصيرة شتاء الأيام الآتية طلال حسن


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 8096 - 2024 / 9 / 10 - 12:21
المحور: الادب والفن
    


قصص قصيرة






شتاء الأيام الآتية





طلال حسن












الخلاص











لم أكن أتوقع أن تفاجئني عيناه هكذا ، فهما لم تفارقاني مطلقا ، كان حضورهما ملء دمي وأعصابي . كان بيني وبينه كتلة مائجة من الزحام ، وكانت الشمس فوقنا كرة ضخمة من الجليد ، وللحظة واحدة فقط ، التقت عيناي بعينيه ، فتلاشت كتلة الزحام في وهج نظرته ، وذابت كرة الجليد وبدأت تسح ناراً في دمي . تلاشى كل شيء حولي ، ولم تبقَ إلا نظرته ، كان هجيرها يعصف بعنف في أعصابي .
بقيتُ سجيناً في عينيه ، أبحث في متاهاتي ، وأنا ضائع مشتت ، عن الخلاص .
انبثق صوت زوجتي في عتمة السرير ، لكنه لم يصلني . وشعرت بجسدها يتكور في جسدي : حميد .
إنني ظامئ ، وجسدها منذ أن رأيته .. رمل ، وأنا في جسدها ظامئ .. ظامئ .
ـ ماذا بكَ ؟
لم أجبها ، فأنا ظمآن .
ـ جسمك بارد .
ـ إنني ظمآن ..
ـ لم تقل لي ، ماذا بك .
ـ أعطني ماء .

ومرة أخرى رأيته ، لم يترك هذه المرة .. بيني وبينه سوى كتلة ضئيلة . أرقت ليال في عينيه ، أتجرع مرارة الصبار .. وأتضور إلى الخلاص .. بحق الجحيم .. لماذا ارتعشت يدي .. وغمغمتْ بصوت خائف :
ـ يداك ترتعشان ..
لم أتكلم ..
ـ ما لك ؟ .. قل لي .. بحق الله ، ما لك ؟ إنك تعذبني ..
رفعتُ وجهي إليها ، وتركتها تقرأ ضياعي .. ورعبي .. ، دفنتُ وجهي في صدرها .. وسمعتها بعد قليل تنهنه .
هدأتُ فوق صدرها لحظة ، وكان صوتها الأسيان يأتيني من بعيد ..
فجأة .. وثب عليّ من عتمتي .. كان الليل يكتنف العالم .. وكان وهج عينيه يهصر أعصابي .. ويعذبني , زرع عينيه في دمي دون أن يتكلم .. لكني سمعتُ عينيه تصرخان بي في غضب :
ـ لماذا ؟
وصرخ الليل من حولي :
ـ لماذا ؟
صرختُ .. صرخت .. لكني .. لم أسمع صوتي ..ركضتُ .. ركضت .. لكنه لبث أمامي .. دون أن يتحرك .. مدّ يده ببطء وأمسك بعنقي .. صرختُ بجنون .. أتركني .. أتركني .. ولمع نصل المدية في يده .. سقطتُ عند قدميه ، وأنا أصيح .. لا .. بحق الله .. لا .. وهبطت يده بقوة .. لا .. لا .. هزتني يد .. صرختُ في يأس .. إنني بريء .. بريء .. ، وفتحت عينيّ .. كانت زوجتي تنظر إليّ في رعب ..
ـ ماء .
ـ هل رأيته ؟
ـ أعطني ماء ..
ـ هل رأيته ؟
ـ إنني ظمآن .. ظمآن ..

ـ أتسمح لي بالجلوس ؟
أجفلني صوته .. فرفعتُ وجهي بسرعة إليه .. كان أمامي يتأملني بهدوئه القاتل ..
ـ أود أن أجلس إليك لحظة .. إن سمحت ..
وقبل أن أقول شيئاً احتل المقعد الذي يواجهني ، ولم يبقَ بيني وبينه سوى طاولة صغيرة ، تبرعمت فوق شفتيه ، وهو مازال يتأملني ، ابتسامة صغيرة وهادئة ، سرعان ما تسللت ببطء إلى قسماته الدقيقة ، وشاعت في عينيه .
ـ لم تطلب لي شيئاً .
ازدحمت الأحرف ، أمام ابتسامته الهادئة ، فوق شفتيّ ، وتفتت في فمي ..
ـ إنك تجعلني أشك في نقاء دمك .
وانحنى عبر الطاولة ، وابتسامته ما تزال تخنق أحرفي ، وأطل بوجهه عل عينيّ ، وهو يتأملني بتأثر زائف ..
ـ لا .. لقد تغيرت ..
وصمت لحظة .. إن صمته جزء منه .. قاس في هدوئه .. يتنفس في دمي .. ويقتات على أعصابي ..
ـ تغيرت كثيراً .. وجهك هزيل .. ممتقع .. وبشرتك فاتحة .. يبدو أن في أعماقك شيئاً يتأكلك .. ترى ما الذي يأكل فيك ؟
ـ ماذا تريد مني ؟
قلتها بسرعة وانفعال ..
ـ أنا !
ـ ماذا تريد ؟
ـ يبدو أنك ما تزال غاضباً مني .. ؟
ـ لماذا تطاردني ؟ تقهقرت ابتسامته ، وهو يرمقني بمرارة .
ـ إنك تقلب الأدوار ..
مدّ يده في جيبه ، وأبقاها متعمدا! فترة طويلة ، وهو ينظر إليّ ، ويرصد انفعالي .. هذه اللعبة تفتتُ أعصابي .. تقتلني ببطء .. ليصعدها بسرعة مادام يخطط لذلك . أخرج من جيبه علبة سكاير ، وقد عادت ابتسامته تغزو عينيه ، وتشيع ببطء في قسماته الهادئة ، وبصورة لا إرادية ارتفعت يدي تمسح العرق من جبهتي ، فاتسعت ابتسامته ..
ـ هذه علبة سكاير .. علبة عادية .. أنظر ..
وفتح العلبة في هدوء ، وأراني إياها ..
ـ إنني لا أحمل في جيبي عادة غير علبة سكاير واحدة ..
تناول سكارة من العلبة .. وفجأة شهرها في وجهي ..
ـ أنظر ..
أجفلتني حركته المفاجئة ، وتعلقت عيناي بصورة لا إرادية بيده ..
ـ إن يدي لا ترتعش ..
وتسللت عيناي ببطء إلى وجهه ، كان ما يزال يبتسم ، وعيناه مثبتتان في وجهي ، وفجأة .. خيل إليّ أن ابتسامته قد تغيرت ، لم أعرف بالضبط ما الذي تغير فيها ، ولكني مع ذلك شعرت بأن شيئاً ما فيها قد تغير .. ومن جديد .. شعرتُ بأن شيئاً ما فيها قد تغير . ومن جديد ..شعرتُ بالخزي يسحقني ، إذ لمحتُ في أفق عينيه الفاتحتين ومض من المرارة والغضب ، كان لا يبعد عني سوى عشرين متراً .. لا أدري كيف أحس بوجودي .. وحين أخرجتُ مسدسي ، وسددته إلى ظهره ،.. وجدته يلتفت إليّ في هدوء دون أن يتوقف أو يوسع من خطواته .. وعبر وهج المسافة التقت عيناي بعينيه ..
ـ خذها ..
ـ لا أدخن ..
ـ كنت تدخن بنهم ..
ـ تركتُ التدخين ..
ـ فقط ؟
ـ ....
ـ خذها من أجلي ..
ـ قلتُ لك .. لا أدخن
وضع السكارة بين شفتيه وهو يعتدل في جلسته .
ـ لن نتخاصم من أجل سكارة ..
أشعل عود ثقاب ، وأدناه ببطء من سجارته حتى أشعلها ، ثم مدّ يده بعود الثقاب المشتعل عبر الطاولة .. نحوي ..
ـ لم تسألني .. أين كنت ..
لم أجبه .. وكان عود الثقاب بيننا ما يزال يحترق .
ـ لا تتظاهر بعدم الاهتمام .. إنني أعرفك جيداً .. إنك لم تنسني لحظة واحدة ..
وأشرقت فوق شفتيه ابتسامة عريضة .. وهو يطل في عينيّ ..
ـ لتحيا الطبقة العاملة .. هل تذكر ؟ الذكرى الأولى للثورة .. كان الحر شديداً .. حر تموز الرائع .. ولكن الشعب كان يملأ الشوارع .. وأنت تتألق على أكتاف العمال .. وتهتف .
مال ببطء على عود الثقاب ، ونفث باتجاهه حزمة من الدخان .. أطفأته .. وانطفأت معه ابتسامته ..
ـ كان تموز طفلاً رائعاً .. ينبض في عروقه نسغ الأمل .. وقد أسحتم دمه .. لقد وضعنا آمالنا كلها فيه .. لكنكم قتلتموه في وقت مبكر ..
وران الصمت فوقنا لحظة ..
ـ المدينة هادئة الآن .. والأرصفة نظيفة .. ترى كيف أزلتم الدماء ؟
وارتعش صوته وهو يسحق السكارة فوق الطاولة ..
ـ كيف أزلتموها ؟ إن هذا المظهر الزائف لن يخدع أحداً ..
وفجأة .. صوب عينيه المشتعلتين بالغضب نحوي ، ثم مدّ يده إلى يدي ، وخنقها بعنف بين أصابعه ، وهو
يسحبها إليه ..
ـ أين أخفيتموها ؟ أين ؟
أذهلتني المفاجأة وشلت إرادتي .. ولكني صرخت بصوت مخنوق .. وخائف ..
ـ دعني ..
ـ الدماء تنبض بين أيديكم .. وتصرخ .. ولن تستطيعوا مطلقاً أ تقتلوها ..
ـ دع يدي .. دعني ..
وغمفم من بين أسنانه ، ويده تفتت يدي .
ـ لن أدعك مطلقاً ..
عيناه موتي .. أحمله معي دائماً .. أحمله في الشارع .. في الحانة .. وحتى في السرير .. عيناه تحاصراني في داخلي ، تقفلان عليّ العالم ..
حاولت المستحيل كي أقتل عينيه في داخلي ، وأنزع مرارته وغضبه من أعماقي .. إلا أن عينيه ظلتا تستنفداني .
كنت أرى عينيه .. أرى مرارتهما .. أرى غضبهما .. في كل شيء . كنت أراهما حتى في جسد زوجتي .. وكانت في أعماقها تشعر بعذابي .. فكانت تحتويني بين ذراعيها بشدة .. تعصر جسدي فوق جسدها .. تحاول أن تنسيني فيها كل شيء .. لكني كنت أدفن رأسي في أعماقي .. وأتدلى فوق جسدها المعذب جثة باردة .
هبت زوجتي من سريرها حين رأتني .. وغمغمت في صوت يخنقه الانفعال والخوف ..
أشرتُ لها أن تسكت ..
ـ هش .. الأطفال ..
فقالت بصوت خافت ..
ـ أين كنت ؟
ـ في المقهى..
ـ لم تتأخر هكذا .. قبل اليوم ..
نظرتُ إليها .. كانت تتأملني بخوف ..
ـ ما لك ؟
ـ كان معي ..
ـ من ؟
ـ ....
فتحت عينيها في رعب ..
ـ في المقهى ؟
ـ نعم ..
ـ ماذا قال لك ؟
تهاويتُ على حافة السرير ..
ـ إنني متعب ..
ـ ماذا قال ؟
ـ دعيني أنم ..
تمددتُ فوق الفراش دون أن أخلع ملابسي ، وأغمضتُ عينيّ .. فجاءني صوتها من بعيد ..
ـ أتشكو من شيء ؟
ـ لا ..
شعرتُ بيدها فوق صدغي ..
ـ حرارتك مرتفعة جداً
ـ دعيني ..
ـ إنك محموم ..
ـ قدم لي سكارة ..
ـ من الأفضل أن تأخذ حبة مهدئة ..
ـ رفضتُ أن آخذها .. قلتُ له لم أعد أدخن .. تركتُ .. تركت التدخين ..
ـ لا تتكلم ..
ـ سألني أن أطلب له شيئاً ..
ـ ألا تخلع ملابسك ؟
ـ لم أطلب له شيئاً .. قلتُ له ..
ـ اخلع سترتك فقط .. وحاول أن تنام ..
رفعتُ رأسي عن المخدة .. وهي تغمغم بصوت مبلل .. مخنوق ..
ـ اخلع سترتك ..
ـ تصوري .. قال لي .. إنني قتلتُ تموز .. هذا غير صحيح .. إنني رفيقك .. لقد هتفتُ للعمال معك .. لم أقتل أحداً .. صدقني ..
سكتُ لحظة .. وفي أعماق الليل .. سمعتُ امرأة تبكي ..
ـ حاول أن يخنقني ..
وارتفع صوت البكاء ..
ـ لم أقتل تموز ..
ـ حميد ..
ـ لم أقتله ..
ـ ينبغي أن نجد حلاً ..
ـ كنتُ أدافع عن نفسي ..
ـ نهرب .. يجب أن نهرب ..
ـ إنني أسمع امرأة تبكي ..
ـ ليس ثمة حل آخر ..
ـ أتبكين ؟
ـ ماذا تقول ؟
ـ أتبكين ؟
ـ كلا ..
وارتفع صوت البكاء ..
ـ الخلاص ..
ـ نم الآن ..
ـ متى يأتي .. متى ؟

مجلة الثقافة ـ بغداد
آب / 1971












شتاء الأيام الآتية














بدأ المطر ينثال في هدوء.. فأعطيتُ وجهي للسماء ، وتركت قطرات المطر الدافئة تغرق دموعها في أعماقي ـ كان في عينيها دمعتان ـ وشرخ ضوء خاطف قبة السماء ، واشتد هطول المطر .. فهرعتُ إلى موقف الباص لأحتمي بمظلته .
وتراءى لي ، في طرف الموقف ، شبح امرأة ترتجف ، وقد شخصت عيناها بشآبيب المطر المنثالة بغزارة ، التفتت المرأة إليّ .. ورمقتني بنظرة خاطفة مترددة .. ثم سمعتها تقول ..
ـ هل مرّ الباص ؟
قلتُ لها : لا أدري .
ـ يبدو أن الوقت متأخر ..
لم أجبها .. فقد كانت تكلم نفسها .
ـ أتعتقد أن ثمة باص آخر ؟
قلتُ لها مرة أخرى :
ـ لا أدري ..
والواقع لم أكن أفكر فيها ـ كانت دموعها تغرق قلبي وتجره بحرارتها إلى عتمة الأعماق ـ . خطت المرأة نحوي خطوتين ، وهمت أن تعبر العتمة إليّ .. بيد أن شيئاً ما منعها .. وبقيت العتمة بيني وبينها .. ثم جاءني صوتها .. عبر انثيال المطر .. مخنوقاً .. يائساً ..
ـ يبدو أن هذا المطر لن يكف عن الهطول ..
قلتُ لها أن تكف عن البكاء ، فأجابتني بصوت تخنقه الدموع ..
ـ لكني لا أبكي ..
ـ امسحي عينيك إذن ..
وقدمتُ لها منديلي .. فأعرضت عني بعنف .. وقالت :
. دعني ..
ـ الجو بارد ..
وأدرتُ وجهي إليها ، فالتقت عيناي بعينيها في نظرة خاطفة .. كان في عينيها إنسان يرتجف .. وفجأة انهمر في دمي برد كالجليد ..
ـ لم أشعر في حياتي بمثل هذا البرد ..
ـ ....
ـ يا إلهي ..
قلتُ لها : هل تنتظرين الباص ؟
التفتت إليّ بلهفة حارة ، وغمغمت بصوت متهدج :
ـ نعم .. إنني أنتظر الباص .. وأنت ؟
ـ باصي لا يمرّ من هنا ..
ـ أوه ..
ـ ثم .. إن باصك أيضاً .. لن يمرّ ..
نظرت إليّ .. فقلتُ ..
ـ إن الوقت متأخر .
أرف .. أعرف .. أنا أيضاً أعاني .. وأقدر ما تعانينه .. ولكن افهميني بحق الله .. إن الوقت متأخر جداً لأن أخون نفسي .. إنني لا أستطيع أن أتبرأ من الإنسان .. ل أستطيع ..
ـ الليل هنا مخيف ..
ـ نعم ؟
ـ الليل ..
ـ آه ..
ـ يبدو أنه لن ينتهي أبداً ..
ـ كان يجب ألا تتأخري ..
ـ لقد تركوني هنا ..
نظرت إليها .. كانت تبتسم بأسى ..
ـ يبدو أنك من هذه المدينة ..
ـ نعم .. ولكني غريب .. ومطارد فيها ..
ـ أنا أيضاً غريبة فيها ..
ـ ولكن لا يبدو أنك من هنا ..
ـ نعم .. لستُ من هنا .. ولست من أي مكان .. إن عالمي أحرق بالقنابل ..
ران الصمت فوقنا برهة .. ثم سمعتُ صوتها المتعب .. يسيل في صمت الليل ..
ـ أعتقد أن المطر قد كفّ عن الهطول ..
نزلتْ عن الرصيف ، ومدت بصرها في العتمة ، وسارت في خطوات مترددة إلى وسط الشارع ، ثم توقفت . استدارت إليّ .. كان في عينيها دمعتان .. فنزلتُ عن الرصيف ، وسرتُ إليها ..
قلتُ لها : أتحبين أن أسير معك ؟
فقالت لي : ولكن .. بيتي بعيد ..
كان صوتها المتعب يرطبه الحزن .. فقلتُ لها :
ـ امسحي عينيكِ ..
وأعطيتها منديلي ..
قلتُ لها : إنني أفهمك .. وأقدر موقفك .. إنني لا ألومك .. إنهم أطفالي أيضاً .. ولكن افهميني .. إنني أريد أن أعود إلى عملي .. ولكني لا أستطيع أن أنحني .. لا أستطيع ..
ـ لقد أتعبتك ..
رفعتُ عينيّ إليها .. فدنت مني .. وشعرتُ بأنفاسها الدافئة تنثال في هدوء فوق وجهي ..
ـ هل فكرت مرة في الموت ؟
كانت وحيدة أمام حاجز الجسر ، وكنت إلى جانبها وحيداً ، وكنا نتنفس معاً موات ليل شتائي طويل . كان النهر ينادينا في صمت .. فابتسمتُ لها وقلت في هدوء :
ـ إنني أحب الحياة ..
ـ وأنا أيضاً .. كنتُ أحبها ..
ـ ولكنك ما زلت صغيرة ..
ـ كنتُ صغيرة ..
ـ وما زلتِ ..
ـ ....
ـ إن الحياة لنا .. ويجب ألا نيأس منها ..
ـ لم تعد لي حياة ..
ـ بالعكس الحياة مازالت أمامك ..
ـ لقد فقدتها بين بقايا قريتي .. إن رصاصهم لم يرحم أحداً .. قتلت أمي .. واحترقت قريتي .. وأخي حمل بندقيته ومضى إلى الثوار .. لم يعد لي أحد .. فتركت طفولتي بين أنقاض القرية .. ونزلتُ إلى المدينة .. نمت ليل طويلة في غرف كالقبر .. واحتملتُ الجوع .. ولكني صمدتُ .. حتى وصلني نبأه ..
ـ قتل .
ـ لقد سلبوني كلّ شيء .. لم يبقوا لي شيئاً أعيش له .. فلماذا لا أمنحهم جدثي ؟ لماذا أبقي عليّ ؟ ويومها فكرت في الموت ..
قلتُ لها : لا تبكي ..
فقالت : إنني مازلتُ أنتظره ..
ـ امسحي دموعك ..
أرخت عينيها عني في هدوء .. ثم أتلعت عنقها إلى النهر .. وجاني صوتها الأسيان .. عبر موات الليل .. مرطباً بالدموع ..
ـ إنه قريب جداً .. أتراه ؟
ـ نعم ..
ـ أتسمع صوته ؟
ـ نعم ..
ـ إنني لا أكاد أسمعه .. إن صوته خافت جداً .. إنني لا أسمع سوى غمغمة جائعة .. مختنقة .. أتشعر بالخوف وأنت تسمعه ؟
ـ لا أدري .. لا أخافه .. إنني لم أدنُ منه قبل اليوم هكذا .. ولكني الآن .. لا أخافه ..
ـ هيا ..
ـ إنني لا أصدق وداعته .. لكني لا أخافه ..
دنوتُ منها ، وطوقت كتفيها .. فاستسلمت في خوف إلى ذراعي .. قلتُ لها في صوت هادئ ..
ـ هيا .. إنك ترتجفين ..
وفجأة انفجرت بالبكاء .. انفجرت كرتا الثلج العصيتان ، وانهمر كبرياؤهما الجريح في دمي .. كان الأطفال يلعبون في الفناء ، فقلت لها في همس ..
ـ كفي عن البكاء .. أرجوكِ ..
لم تصغ ِ لي .. وفي الفناء كفّ الأطفال عن اللعب ..
ـ كفى .. لا أريد أن يسمع الأطفال بكاءك ..
ومن وراء الباب .. انثال صوت طفلتنا الصغيرة .. هناء ..
ـ ماما..
كان صوتها الطفل يتساءل في أسى .. فقلتُ في غضب ..
ـ أنظري ما فعلتِ ..
وتهدج صوت هناء وراء الباب ..
ـ ماما ..
أ أيعجبك هذا ؟
فتحتُ الباب .. وأخذت هناء بين ذراعيّ وقلتُ لها ..
ـ أين دميتك ؟
لم تجبني ..
ـ هل أخذها أخوك ؟
وهذه المرة أيضاً .. لم تجبني .. ولم تنظر إليّ .. كانت عيناها متعلقتين بأمها .. وكان جسمها الطفل تهزه بين ذراعي موجة غامضة من البكاء ..
فتحت باب حجرتها ، وأضاءت النور .. ثم التفتت إليّ ..وغمغمت ..
ـ نفضل ..
ـ أشكرك .. يجب أن أعود الآن ..
ـ أرجوكَ ..
ـ الوقت متأخر جداً .. وعليّ أن أعود إلى البيت ..
ـ أرجوك .. أبقَ معي .. بضع دقائق ..
ـ ولكن .. بيتي بعيد ..
رفعت عينيها إليّ .. وغمغمت في صوت تبلله الدموع ..
ـ إنني بحاجة إليك ..
ـ ....
ـ ـرجوك ..
دخلتُ الغرفة .. وأغلقت الباب .. ثم دنوت منها .. كانت تنظر إليّ في لهفة .. وشفتاها الممتلئتان .. تختلجان .. فابتسمت لها .. وقلت :
ـ ألا أستحق كوباً من الشاي .
أضاءت عينيها الدامعتين ابتسامة فرحة .. وغمغمت ..
ـ أشكرك .. أشكرك جداً .
أشعلت المدفأة ، ووضعت إناء الشاي عليها ..
ـ هل عشت الوحدة مرة ؟
كان صوتها بعيداً ..
ـ نعم ..
ـ مثلي ؟
التفتت إليّ .. واقترب صوتها ..
ـ هل عشتها .. مثلي ؟
ـ دخلتُ السجن مرتين ..
ـ ولكنك لم تكن وحيداً ..
وكنت أخشى أن يسمعوا ..
ـ كان بعض الرفاق معي .. وكنت مثلهم .. أمام الموت .. وحيداً ..
ـ والخوف ؟
ـ مازلتُ أعيشه ..
ـ إنني أعيش معه .. أتنفسه كل لحظة .. إنه سجني .. ويبدو أنني لن أظفر أبداً بالخلاص منه ..
ـ في سجونهم .. ومعتقلاتهم .. كنا ننام بعيون مفتحة .. وكما نعيش انتظارهم حتى في نومنا .. كان انتظارهم يسمم دماءنا ويفكك أعصابنا .. وكان رفاقنا المحمولون من أقبيتها الداخلية يجهزون على ما تبقى فينا .. ويأتي تعذيبهم أخيراً .. كالخلاص .. فيطهرنا من الخوف .. والمجهول ..
عدتُ إليها .. كانت تصب الشاي .. وقدمت لي قدحاً .. وغمغمت في أسى ..
ـ إنني مازلتُ أنتظر ..
ـ نحن جميعاً .. ننتظر ..
ـ لكنه سيأتي .. لابد أن يأتي ..
ـ من ؟
ـ أخي ..
أنلت القدح عن فمي .. وتطلعت إليها .. كان في عينيها بريق غريب ..
ـ يجب أن يأتي .. إنني لم أعد أحتمل ..
ـ ولكنك قلتِ .. إنه .. قتل ..
ـ هذت ما قالوه لي ..
ـ ....
ـ إنني أنتظره .. يجب أن يأتي ..
صمتت لحظة .. ثم نظرت إليّ .. كان في عينيها المنطفئتين ..إنسان يغرق بصمت واستسلام .
ـ أحياناً .. أراه في منامي .. وربما في يقظتي .. أراه خارج كل شيء .. صدره مثقب بالرصاص .. وإحدى يديه ممزقة .. ينظر إليّ في عتاب صامت .. وتسألني جراحه .. لماذا ؟ لقد مضى إلى الثوار من أجلي .. وضع حياته فوق كفه .. في سبيلي .. ولم يساوم عليّ .. لم يستسلم لأحد .. وقف أما رصاصهم .. من أجلي .. ولم يضعف .. فلماذا ضعفت ؟ لماذا ؟
ـ أنت وحدك .. ولا يمكنك أن تقف في وجههم ..
لم تأبه بهناء حتى عندما ارتفع بكاؤها ..
ـ ضياء ..
ورفعت وجهها إليّ .. تضرع بعينين تملأهما الدموع ..
ـ إذا كنت لا تفكر بي .. فكر في أولادك .. فكر في حياتك ..
وارتفع بكاء هناء ..
ـ ضياء .. كن واقعياً .. واستسلم .. من أجلنا جميعاً .. استسلم لهم ..
واختنقت أنفاسي ..
ـ ماذا قلت ؟
وظلت عيناي مصلوبتين بكلماتها ..
ـ كان بيتنا يقع على مرتفع ..
ـ أين ؟
ـ في القرية ..
ـ آه ..
ـ وكان الطريق يصعد إلينا .. كنت في بيتنا طفلة .. ولكني هنا .. في شتاء مدينتكم القاسي .. وبعد أن استسلمت .. أصبحت غريبة عن عالمي .. عاراً على طفولتي ..
أنشبتُ أصابعي في كتفيها .. وشددت جسدها بعنف .. فراحت تهتز بين ذراعي .. وحيدة .. يائسة .. وانفجرت فيها ..
ـ تحت كابوسهم في السجن لم أضعف .. والآن .. الآن تطلبين مني أن أستسلم ..
ـ الشتاء يعزلها عن العالم ..
ـ أين ؟
ـ هنا ..
ـ آه ..
ـ الثلج يكفنني .. إنني أنتظره .. قد يأتي .. وقد لا يأ .. لن يحييني سوى دفؤه ولكن .. هل سيأتي ؟
المطر ينثال في هدوء .. وفي عينيها دمعتان ..
ـ يقال أن الربيع .. يأتي دائماً بعد الشتاء .. قد يطول الشتاء .. ولكن الربيع لابد أن يأتي ..
ـ ....
ـ أتعتقد أن هذه أسطورة ؟
ـ كلا ..
ـ الربيع سيأتي إذن ..
ـ ....
ـ هل سيأتي ؟
نهضت عن السرير .. قلت ..
ـ من الأفضل أن أذهب الآن ..
نهضت هي الأخرى من مكانها .. ومدت يدها إليّ ، وعيناها الحزينتان تتشبثان بي .. فأخذت يدها بين يديّ .. وقلت في صوت هادئ ..
ـ تصبحين على خير ..
ـ هل ستزورني ؟
ابتسمت لها ، ويدها بين يديّ ..
ـ لا تقل .. لا أرجوك .. إنني بحاجة إليك ..
ـ لن أقول لا ..
ـ ستزورني ..
ـ نعم ..
ـ نعم ..
فقالت .. والدموع تنبجس من عينيها ..
ـ أشكرك .. أشكرك جداً ..
تركتُ يدها ، ومضيت إلى الباب ، ولكني قبل أن أفتحه .. التفت إليها .. وقلتُ لها ..
ـ أتريدين شيئاً ؟
فتطلعت إليّ من مكانها ، وقد عاد البريق إلى عينيها ..
ـ قد يأتي اليوم ..
فتحتُ الباب ، فجاءني صوتها ..
لابد أن يأتي .. قد يتأخر .. ولكنه لابد أن .. أرجوك ..
واختنق صوتها ..
ـ أغلق الباب عليّ ..


جريدة الرسالة ـ الموصل
مجلة الثقافة ـ بغداد
تشرين الثاني ـ 1971












ويمطر الليل
















عندما ارتطمت بي لم تند عنها سوى أنة مكتومة ، لكني شعرتُ ، رغم اضطرابي ، بارتعاشة جسدها المذعور المتألم .
التفت إليها .. كانت تتهاوى أمامي ، فمددت يديّ إليها وتشبثت بذراعها ، إلا أنها صرخت بصوت مخنوق ، وهي تسحب ذراعها من يديّ بقوة ..
أ أتركني ..
حاولتُ أن أعتذر منها ، حاولت أن أهدئ مشاعرها ، إلا أن عينيها شلتا لساني . كان في عينيها إنسان مذبوح يصرخ في دمه . وقبل أن أتفوه بكلمة .. اختفت المرأة من أمامي .
كان الشارع يحتضر بصمت في وسط المدينة ، وقد بدأ دم النهار ينطفئ في عيونه ، وفي لمحة اختفت المرأة .. ولم تترك لي سوى عينيها ، عيناها الطفلتان أيضاً واسعتان .. كنت أحدثهما في ليالي البوار والصمت .. وكنت أمسح عنهما سحابتي حزن .. فيمطر الفرح في أعماقي . وتعلقت أمي بكتفي وتوسلت إليّ ألا أخرج . الآخرون هنا جدران مقفلة ، يسيلون على الطوار بصمت ، وفي عيونهم تلوب غيوم الرعب والمجهول .
طوقتني أمي بذراعيها ، وتوسلت إلي بصوت مخنوق تبلله العبرات :
ـ منير .. لا تخرج .
غرست سكارة بين شفتي ، وحاولت أن أشعلها في هدوء ، فارتجت شفتاي . كانت عيناها تعذباني ..
ـ لا تخرج يا منير .. لا تخرج .
ـ لا تخافي ..
ـ كيف تريدني ألا أخاف ..
لن أتأخر ..
ـ لكن .. لماذا تريد أن تخرج ؟ لماذا ؟
رميتُ علبة السكائر الفارغة على الطوار ، وسحقتها بعنف تحت قدمي . قالوا لي .. قد لا يوافق على لقائك . لم أصدقهم لكني لم أفهم لماذا لم يأتِ لزيارتي . مهما يكن موقفه .. كان عليه أن يسأل عني .. أن يأتي إليّ ..أن .. أما أنه لم يسمع بخروجي ، فهذا مستحيل .
وتشبثت أمي بي ، وصاحت بهلع ، وعيناها المذعورتان مشنوقتان في وجهي ..
ـ منير ، لا تكن عنيداً ..
ـ قلتُ لك .. لن أتأخر ..
ـ ألا تعرف ظروف المدينة ؟
ـ أعرف ..
ـ القتلة في كل مكان ..
ـ أعرف ..
ـ وفي كل يوم يقتل ..
ـ أعرف .. أعرف ..
ـ ومع ذلك تريد أن تخرج ..
فصحت .. أسكتي ..
سكتت لحظة ، وعيناها المذعورتان معلقتان في وجهي . ثم سال صوتها من خلال عبراتها .. ضعيفاً يائساً ..
ـ لماذا يا منير ؟ لماذا ؟
ـ نعم ..
انبثق صوته الهادئ في التلفون .. فقلتُ ..
ـ ثامر ..
ـ من أنت ؟
ـ لم تعد تعرف صوتي ..
ـ منير !
ـ صوتك لا يُنسى ..
ـ ومع ذلك نسيته ..
ـ كلا .. لم أنسه ..
ـ كيف حالك ؟
ـ الحمد لله .. وأنت ؟
كان صوته ، على غير عادته ، رتيباً بارداً ، فقلتُ :
ـ مازلتُ حيّاً ..

ـ ....
ـ ثامر ..
ـ نعم ..
ـ أريد أن أراك ..
كان الشارع ، في ضوء النهار ، ميتاً .. وثامر ، في نهاية الخط ، صامت .. لا يتكلم ..
ـ ماذا تقول ؟وكان النهار ، في الشارع ، ميتاً .. وثامر صامت .. لا يتكلم ..
ـ إذا كنت لا تريد أن تراني ..
ـ كلا ..
ـ حسن ..
ـ إنني أنتظرك ..
ـ أين ؟
ـ من الأفضل أن تأتي إلى بيتنا ..

ـ سكارة
فتح ثامر علبة سكائر ـ كِنت ـ وقدمها لي ، فابتسمت له .. وقلت :
ـ شكراً .. لا أريد أن أخون طبقتي ..
وعلى غير عادته .. لم يبتسم ..
ـ مع القهوة ..
ـ لن أخونها حتى مع ..
ومرة أخرى لم يبتسم .. كان أبوه طبيباً .. ينحدر من عائلة مترفة .. وكنا نسميه .. خائن طبقته .. وكان يبتسم بجذل .. وأحياناً كان يقهقه .. عندما كنا ننعته ب .. المثقف الخائن لطبقته .. أو .. الابن العاق للبرجوازية .
انفتح الباب في هدوء ، ومن عتمة الممر جاءني صوته الهادئ ..
ـ تفضل ..
غمغمت في تردد :
ـ ثامر ..
فقال من العتمة ..
ـ أدخل ..
مرقتُ إلى الممر ، فلمحته رغم العتمة ، ملتصقاً بالباب ، سألني .. دون أن يلتفت :
ـ هل أنت مراقب ؟
ـ لا أدري ..
أغلق الباب ، وغمغم ، وهو يتقدمني في الممر ..
ـ تفضل ..
ـ ماذا هناك ؟
ـ لمحتُ شخصاً يراقبك من ناحية الزقاق ..
ـ من يكون ؟
ـ لا أدري ..
ـ أنت لم تتغير ..
وأشعل ثامر لنفسه سكارة أخرى ، فابتسمت وأنا أنفث دخان سكارتي ـ الجمهورية ـ وقلت :
ـ وأنت ؟
فنظر إليّ ، وسكارته معلقة بين شفتيه الجافتين ، لكنه لم يقل شيئاً ، فاتسعت ابتسامتي أمام نظرته الصامتة .. وقلت :
ـ إنني مازلت .. كما عهدتني .. متزمتاً ..
ـ إنني أحسدك ..
ـ تحسدني ؟ لماذا ؟
تأملني بصمت ، وفي عينيه تتكاثف سحابتان من المرارة والألم ، ومع صوته الهادئ نثت السحابتان ..
ـ ربما لأنك هادئ ..
ـ ....
ـ ربما لأنك مؤمن ..
ـ ....
ـ ربما لأنك تعيش في وفاق مع نفسك ومع الآخرين ..
ـ ....
ـ ربما ..
فقاطعته :
ـ ثامر ..
ـ إنني آكل نفسي .. آكل نفسي دائماً ..
ـ لماذا لا تسافر ؟
فنظر إليّ في مرارة ونقمة ..
ـ لا تبقَ هنا .. سافر ..
فوضع وجهه بين كفيه .. وغمغم ..
ـ لن تفهمني .. لن تفهمني ..
وهبط بيننا جدار من الصمت ، لم أتعرفه ، فلم يكن صمتنا .. كان عاصفة من الصراخ . لن تفهمني ، كنتُ أفهمه .. كان يقول لي .. أنت متزمت .. تقدمي متزمت .. لكنك تفهمني .. لماذا لا تكتب الشعر ، وفي لجة الصراخ كان رفيقي يغرق .. وكنتُ أفقده .
كان في الموقف ، يستلقي إلى جانبي ، حتى ساعة متأخرة من الليل ، وكان الصمت الشاعر يستلقي بيننا ، وكان يوحد بيننا ، كان انتماؤنا إلى الإنسان يمد جسوراً بيننا ، ويعمق أواصر التفاهم والتعاضد فينا ، كان كل شيء حولنا ، صمتنا .. رفاقنا .. مثلنا .. مطامحنا .. نضالنا .. ينتمي إلينا حتى صمتنا .. كان شيئاً منا .. شفافاً هادئاً .. وكان يوحد بيننا .. وكنا نتحدث أحياناً عن مشاعرنا الدفينة المحببة ، فكانت تتفتح في عيوننا ، وفوق شفاهنا ، في غلالة شفافة من الحزن ، وأكثر من مرة .. حدثته عنها .. كان يعرفها .. عيناها أيضاً واسعتان .. كنت أحدثهما في ليالي الصمت والبوار .. وكنت أمسح عنهما سحابتي حزن .. فيمطر الفرح في أعماقي ، لماذا لا تكتب الشعر ؟ إننا نتنفسه ، إننا ..
ـ ثامر ..
ثم يرفع رأسه ، لكن صوته انبثق في خفوت من الطرف الآخر من الجدار ..
ـ نعم ..
ـ لم تسألني .. متى أفرجوا عني ..
ـ أعرف ..
ـ أتعرف ؟
ـ نعم ..
ـ أتعرف متى أفرجوا عني ؟
ـ تلفن لي أحدهم ..
ـ متى ؟
ـ قبل خمسة أيام ..
ـ ومع ذلك لم اسأل عني ..
ـ ....
ـ ولم تأتِ لزيارتي ..
ـ ....
ـ لماذا ؟
لم يرفع رأسه .. لم يتكلم .. وترك الصمت وحده يتكلم، وسال صوتي في الصمت :
ـ بقيتُ في الموقف أكثر من شهرين .. بعد أن أفرجوا عنك .. وكنتُ في كل زيارة آمل أن ألقاك .. كنت أبحث عنك دائماً بين الزوار .. وكنت دائماً لا أجدك ..
رفع وجهه إليّ ، وتأملني عبر الجدار ، بعينين ذابلتين ..
ـ كنت أتساءل دائماً .. ماذا جرى ؟ لماذا لا يسأل عني ؟ لماذا لا يزورني ؟ مهما يكن من أمر .. فإنني رفيقه .. وعليه أن .. وكان صمتك يعذبني ..
وفي عينيه النديتين التمعت شعلة .. وراحت تتوهج بالتدريج في كلماته ..
ـ لقد حدثوك عني ..
نظرتُ إلى عينيه ، كان وهج الشعلة يتفجر مع كلماته .. لم أقل شيئاً ، وكنت أنتظر في كلماته ..
ـ لا تقل لي .. ماذا قالوا .. إنني أعرفهم .. وأعرف بالضبط .. ماذا قالوا .. وأعرف أن البعض يصدقهم .
نهض من مكانه ، وأشعل سكارة ، ووقف ينظر إلى الليل في حديقة الدار .. وأيضاً .. لم أتكلم .. لم أقل شيئاً .. وكانت أعماقي تغلي ..
ـ إنني أستطيع أن أخمن .. لماذا جئتني الآن ..
ـ أنت رفيقي ..
ـ نعم ..
ـ وأنا أحترمك ..
ـ نعم ..
ـ وأنت تعرف مكانتك عندي ..
ـ ....
ـ و .. لقد عذبتني قطيعتك المفاجئة ..
ـ و .. لكن ما يعذبك أكثر هو .. رغبتك أن تعرف .. هل تغيرت ..
وران في أعماقي فجأة صمت دافق ، لقد وضع يده على الحقيقة ، نعم .. إنني أتوق لأن أعرف .. لماذا .. وهل .. وفوقي محجر يشلني ويمزق أعصابي .، لقد خرجت في ليل الدم .. كي أجد الجواب عن .. هل .. و .. لماذا .. وأفرج عن أعصابي .
ـ هل أنا مخطئ ؟
ـ كلا ..
وتوهج صوته ..
ـ وهل أعرف أنا ؟
ـ ....
ـ لستُ ثامر الذي حدثوك عنه .. لكني لم أعد ثامر الذي تعرفه ..
ـ ....
ـ إنني لا أدين أحداً .. لكني لا أستطيع أن أخون نفسي ..
وكما يهبط الليل في آخر النهار ، هبط الصمت بيننا ، مددت يدي إلى رفيقي ، وحاولت أن أتشبث بيده الغريقة ، لكن الليل كان بيني وبينه ..
عيناها الغريقتان تعذباني ..
ـ لا تخرج يا منير .. لا تخرج ..
عيناها الطفلتان أيضاً واسعتان ، والضجر يترقرق في ندى حقولهما الخضراء . وفي عينيها الواسعتين ، أرى شقيقها خالد . لم أحدثه عن رفيقنا خالد .. ولم ,, أقل له .. كيف مزقوا ظهره .. كيف نزعوا أظافره .. ولأنه لم يتكلم .. ولم يتخاذل .. ولم .. لا أحد يعرف .. أين هو ..
شدّ على يدي وغمغم ..
ـ كن حذراً ..
سحبت يدي من يده ، وخرجت إلى الليل ..
وصرخ بانفعال ..
ـ لم أتخاذل ..
لم أحدثه عن شقيقها خالد ، لم يتخاذل .. لقد سحقوا أصابعه .. ولم يتخاذل . لم أفهمه .. كنت في الماضي أفهمه .. لكني الآن .. لم أفهمه .. ثامر يتخاذل .. ثامر يتغير .. ثامر يتغير ؟ لا يمكن .. لا يمكن .. لكن لماذا ؟
وتهدج صوته ، والشعلة تنطفئ في عينيه ..
ـ إنني أحتج على صمتهم .. بصمت ..
هبط الليل في عينيه ، هربت إلى الليل ، عيناها أيضاً واسعتان ، وفي حقولهما الخضراء صليت في ليلي للفجر . وتشبثت أمي بي ، لماذا ؟ لماذا ؟ الليل في عينيه .. وفي عينيها يترقرق فجر أخضر ، شدّ على يدي وغمغم ، كن حذراً . وعلى الطوار خطوات تتأثرني .. تحصي عليّ خطواتي .. القتلة في كل مكان. والليل أيضاً في كل مكان ، وخطواته تنهش الأرض ورائي ، وقفت .. وأعصابي كلها مشدودة ، وبصورة لا إرادية التفت إليه ، فوقف في مكانه ، وهو يحدجني بنظرة شرسة ، لم أتعرفه .. لكني لن أنساه . وتراجعت إلى الوراء ، وقلبي يخفق في عنف ، ودلفت في زقاق جانبي ، وهرعت إلى العتمة ، وأنا أنتظر في كل لحظة ، رصاصة في ظهري . وفي نهاية الزقاق ، التفت ورائي .. لكني لم أجده .
لم أحدثه عن شقيقها خالد .. لم أقل له .. إن أمه وأخته لا تعرفان عنه شيئاً .. ولأنه لم يتخاذل .. فإنهم .. الليل في عينيه وفي كل مكان . عيناها أيضاً واسعتان .. والفجر .. ترى هل مازال يترقرق في حقولهما الخضراء ؟
طرقت الباب ، وبعد لحظات أطلت عيناها .. وفجأة .. أمطرت فوق مروجهما الخضراء غيمتان من الغبطة والحنان ، ومرة أخرى ، نسيت كل تحفظها .. وصاحت ..
ـ منير ..
فقلت وأن أبحث عنها في عينيها ..
ـ مساء الخير ..
وشاعت حمرة شفافة في وجنتيها ..
ـ منير ..
ـ أخشى أن أكون ..
ـ كيف حالك ؟
أ إنني ..
ـ تبدو متغيراً ..
ـ هل ..
ـ أوه ..
لم تكن تتابعني ، كانت هي الأخرى تجوس فيّ .. وتبحث عني ، والواقع لم أكن ، أنا نفسي ، أتابع كلامها .. كنت أسمع صوتها .. وأحدثه ..
ـ إنني أهذي ..
وكفكفت دمعة ترقرقت في عينيها ..
ـ ربما لأني فرحة .. وربما .. ولكن .. لماذا تقف بالباب ؟ تفضل .. إن أمي ستفرح بك ..
ـ كيف حالها ؟
ـ نحن أيضاً كنا في السجن .. وكنا ننتظركم .. كنت أنتظر ..
ـ ابتهاج ..
ـ منير
ـ ....
، نعم .. كنت أنتظرك .. وها أنت قد .. أ .. تيت ..
وفجأة اتسعت عيناها ، وتفجرت في فجرهما الأخضر ـ غيمتان قاتمتان من الرعب ، وازدحمت فوق شفتيها كلمات ملتاعة خائفة ، وغاض في عينيها المذعورتين كل فرحها بي ، أربكني تغيرها المفاجىء ، فأردت أن أسألها عما بها ، لكني أدركت فجأة .. ما الذي أرادت أن تقوله لي .. ولم أسمعه منها أبداً .. فقد شعرت بشيء كالنار .. سريع .. نافذ .. يخترق ظهري .. وسمعتُ خطوات سريعة تتلاشى في الزقاق ورائي .. رأيته تصرخ بهلع وهي تتلقفني .. وفي عينيها تتفجر غيوم قاتمة .. مددت يدي إليها .. وأنا أبحث في عينيها عن الفجر .. لكني سقطت بين ذراعيها .. وشعرت بقطرات ساخنة تبلل وجهي .. فأدركت بما يشبه الرؤيا .. أنني أنبت فوق التراب وفي عينيها .


مجلة الثقافة ـ بغداد
1976














الليل















.. ومن جديد يسأله ..
ـ ما اسمك ؟
وفي وهن متزايد .. يجيبه ..
ـ نور ..
ـ لستَ نور ..
ـ ....
ـ نحن نعرفك ..
ـ لكني .. نور ..
ـ ....
ـ أنت تكذب ..
ـ ....
ـ ....
ـ إنني ..
ـ لا تحاول أن تخدعنا
ـ ....
ـ اعترف ..
ـ ....
ـ اعترف .. وإلا كان جزاؤك القتل ..

ـ هل قتل ؟
ـ ....
ـ ماما ..
وهدهدني صوتها ، وأنا متكور في الدفء ، إلى جانبها.
ـ لماذا لا تنام ؟
ـ هل أنا صغير يا ماما ؟
ـ أنت تكبر ..
ـ حدثيني عن أبي ..
ـ لقد حدثتك عنه ..
ـ قلتِ إنه رحل ..
ـ نعم .. لقد رحل ..
ـ لكنه لم يرحل ..
ـ ....

ـ لقد قتل ..
ـ ....
ـ هل قتل أبي ؟
وكالدموع .. انثال صوتها ..
ـ نعم ..

ـ الصمت لن يجديك ..
ـ ....
ـ اعترف ..
ـ ....
ـ قل الحقيقة ..
ـ ....
ـ إنني أريد الحقيقة ..

ـ من قتل أبي ؟
ـ ....
ـ من قتله ؟
ـ حراس الليل ..
ـ لماذا ؟
ـ ....
ـ ماذا فعل ؟
ـ ....
ـ لماذا قتلوه ؟
، لأنه قال للفقراء .. إن الليل معتم .. ولأنه حاول أن يشعل شمعة في العتمة .. شمعة ..

ـ لست وحشاً ..
ـ ....
ـ إنني أمقت القتل ..
ـ ....
ـ لكني أمقت صمتك أكثر ..
ـ ....
ـ تكلم ..
ـ ....
ـ ليس لك خيار ..
ـ ....
ـ إنني لا أنصحك بالصمت ..
ـ ....
ـ لأنني بين صمتك وحياتك .. لن يكون لي سوى خيار واحد ..
ـ ....
ـ تكلم ..
ـ ....
ـ لم يعد لك خيار ..
ـ ....
ـ تكلم ..

ـ الليل معتم ..
وكالخوف تدفق صوتها ..
ـ نور ..
ـ والفقراء يتخبطون على الطريق ..
ـ إنني أخاف عليك ..
ـ يجب أن يشعل أحدنا شمعة ..
ـ وحراس الليل ..
ـ ....
ـ نور ..
ـ ....
ـ أين أنت ؟
ـ سأشعل شمعة ..

ـ اعترف ..
ـ ....
ـ قل الحقيقة ..
ـ ....
ـ لا تعول كثيراً على صبري ..
ـ ....
ـ اعترف ..
ـ إ .. نني ..
ـ هيا .. هيا ..
ـ إ .. نني .. نور ..
ـ مرة أخرى ؟
ـ ....
ـ سوف تندم ..
ـ ....
ـ خذوه ..
وكالليل أحاطوا به ، وفجأة سحقت وجهه قبضة كالصخر ، حاول ، وهو يتداعى ، أن يلتفت وراءه ، لكنه لم يرَ أحداً .
ـ خ .. ذو ..ه ..
أهو حارس الليل ثانية ؟
ـ خ .. ذو .. ه ... خ .. ذو .. ه ..

أخذوه ، وكالأطياف قادوه ، وتوغلوا به في الليل .. أبعد .. فأبعد .. نزلوا سلالم .. عبروا دهاليز .. مروا بغرف عمياء .. ومن الدهاليز .. الغرف العمياء .. الليل .. كان ينبعث أنين متوجع يائس .
وفجأة تحلقوا حوله كالليل ، وصاحوا به ..
ـ أصرخ ..
نظر إليهم في ذهول ..
ـ أصرخ ..
أرعبته وجوههم ، كانت فارغة كالجماجم ..
ـ إذا صرخت .. هل يسمعك أحد ؟
ـ ....
ـ أنت وحيد ..
ـ ....
ـ وحيد .. وحيد ..
ـ ....
ـ ليس ثمة أحد ..
ـ ....
ـ والآن قل لنا الحقيقة ..
ـ ....
ـ هيا ..
ـ ....
ـ قلتها لكم ..
ـ قلها ثانية ..
ـ ....
ـ من أنت ؟
ـ نو .. ر ..
وعلى غرة ، لطمته قبضة كالصخر ، ومن حوله كانت الجدران تدور .. تدور .. وشعر وهو يدور .. بمخمل دافئ يسيل فوق شفتيه .
أ دم !
ـ من أنت ؟
ـ ....
ـ تكلم ..
ـ ن .. و ..
ارتطم رأسه بالأرض ، وانثال المخمل الدافئ ، فوق وجهه ، وفي عينيه .
ـ من أنت ؟
ـ ....
ـ تكلم .. من أنت ؟
ومن أعماق الليل .. الدهاليز .. الغرف العمياء .. خيل إليه .. أنه يسمع صوته ..
ـ نور ..
جذبته أيدي كالصخر ، ورفعته .. والجدران تدور .. ثم هوى من حالق .. وشعر بجسده يهوي .. يهوي .. يهوي .. ثم ينسحق فوق الأرض ,.
ـ من أنت ؟
ـ ....
ـ لست نور ..
ـ ....
ـ هل تسمع ؟
ـ ....
ـ اعترف ..
ـ آه ..
ـ لست نور ..
ـ لستُ ..
ـ هيا .. هيا ..
ـ لست .. نور ..
ـ لستُ .. نور ..
ـ قلها ثانية ..
ـ ....
ـ قلها ..
ـ لستُ .. نو ...

فتح عينيه ، ورفع وجهه المدمى ، ومن جديد عاد يسأله ..
ـ من أنت ؟
ـ نور ..
ـ ثانية ؟
ـ وحتى النهاية ..
ـ سوف تندم ..
وفي وهن ، ابتسم نور ..
ـ خذوه ..
وكالليل أحاطوا به ، كان وحيداً بينهم ، وفي الليل .. الدهاليز .. الغرف العمياء .. الدم .. الأنين .. كان يسمع قبضاتهم كالصخر تسحق جسده .

ـ الليل معتم ..
ـ نور ..
ـ قال أبي .. إن الليل معتم ..
ـ إنني أخاف عليك ..
ـ إلى متى يبقى الفقراء .. يتخبطون على الطريق ..
ـ نور ..
ـ يجب أن نشعل شمعة ..
ـ نور ..
ـ يجب أن نشعل شمعة ..
ـ ليس لي أحد ..
ـ سأشعل الشمعة ..

هوى على الأرض .. فاندفع الرجال الصخور إليه .. لكنهم فوجئوا بجسده المعمد بالدم يرتفع عن الأرض .. ويختفي كالحلم .


جريدة التآخي ـ بغداد
تشرين الثاني ـ 1973














الأعرابي
















وضع سكارة بين شفتيه ، وفي هدوء واحتفال كبيرين ـ أشعلها ، وراح يرمقني من خلال دخانها ، وفي غيمة الدخان لمحت ابتسامته الدبقة تنبثق في عينيه ، وتسيل ببطء فوق شفتيه ، كانت له عينان مليئتان بالحياة .
ـ يبدو أنك وحيد ..
فاجأني صوتها ..
ـ هل ذهبوا ؟
نظرتُ في عينيه ، عندما رأيته لأول مرة ، أحسست بالانقباض .
ـ ذهبوا ؟
هززتُ رأسي .
ـ إلى أين ؟
أبعدتُ عينيّ عنه ، الثرثار .. ال ..
ـ إلى أين ذهبوا ؟
في غيمة الدخان ، سمعتُ صوتي ، متحشرجاً ..
ـ بغداد ..
ـ بغداد !
ابتعدتُ عنه ، كانت عيناه تلاحقاني ، وكانت الشمس تمزق أعصابي وتحرقني .
ـ أنت وحدك إذن ..
ـ ....
ـ وحدك في هذا البيت ..
ـ ....
ـ هذا خطأ .
التفتُ إليه ، وحدقت فيه ، كانت له عينان كبيرتان ، مليئتان بالحياة .

ـ وجدتُ عاملاً لحديقتك .
هتف جاري .
ـ إنه عامل ماهر .
نظرتُ إليه ، وحين التقت عيناي بعينيه ، أحسست بالانقباض .
ـ ماذا تقول ؟
دنا الرجل مني ، وقال في صوت ثابت ..
ـ حديقتك مهملة ..
حدقتُ فيه ، كانت له عينان كبيرتان مليئتان بالحياة .
ـ حديقتك مقتولة ..
ضحك جاري ، لا أدري لماذا .
ـ هل لديك أولاد ؟
وصرخ جاري وهو يضحك .
ـ درزن ..
فصرخ الرجل ..
ـ قتلة ..
وانفجر الرجلان في ضحك هستيري ، وراحا يصرخان في أصوات مجنونة ..
ـ قتلة .. قتلة .. قتلة ..

كان أمامي ، وكانت ابتسامته الدبقة تسيل فوق شفتيه وتخنقني . وعلى الأرض ، كان الرفش يلمع في الشمس ، ويدعوني و ..
ـ من عبث بالحديقة ؟
ـ أولادك ليسوا هنا ..
كانت له عينان كبيرتان ..
ـ من دخل الحديقة ؟
ـ ....
ـ لقد حفر أحدهم حفرة في الحديقة الخلفية ..
الحفرة !
ـ أتعرف من حفرها ؟
كانت الشمس تحترق في السماء ، وتحرقني .
ـ أتعرف ؟
وعلى الأرض ، كان الرفش يلمع في الشمس ، ويدعوني .
ـ أتعرف ؟ .. أتعرف ؟
وعلى الأرض ، كان راقداً ، وقد انفتح في جبهته العريضة السمراء ، جرح دام ، وعيناه الميتتان تتهماني.
ها .. ها .. ها ..
التفتُ إليه .. كان يضحك .. يضحك ..
ـ أتعرف ماذا وجدتُ فيها ؟
ـ ....
ـ دمية ..
ـ ....
ـ دمية صغيرة لأعرابي ..
الأعرابي !
وكان على جبهته ما يشبه الدم .

دخل الشرطي عليّ ، ودق قدمه بالأرض ، وقال بصوت خافت ..
ـ سيدي ..
كنتُ منهمكاً بأوراقي ، فلم أرفع وجهي إليه .. وقلتُ ..
ـ نعم ..
ـ بالباب أعرابي يريد أن يقابلك ..
ـ دعه يدخل ..
لم يتحرك الشرطي ، وسمعت صوته ..
ـ سيدي ..
كان صوته متحشرجاً ، لم أدر ِ لماذا .
ـ هل أدخله ؟
ـ قلت نعم ..
ـ حاضر .. سيدي ..
دق الشرطي قدمه بالأرض مرة أخرى ، وبعد برهة ، سمعتُ صوته المرتعش الواهن يغمغم ..
ـ تفضل
أغلق الشرطي الباب ، لم أدرِ أنني أصبحت وحيداً معه ، ولكني ما لبثت أن أدركت ، أنني سأبقى وحيداً معه ، كنت منهمكاً بأوراقي ، وكان الأعرابي ، عند الباب ، صامتاً ، قلت وعينيّ بين أوراقي ..
ـ نعم ..
وفي صمت الغرفة ، ظل الأعرابي صامتاً ..
ـ أريدك أنت ..
هزني صوته ، فرفعت وجهي إليه ، كانت له عينان كبيرتان مليئتان بالحياة ، جفّ حلقي ، وتفتت الكلمات فوق شفتيّ ..
ـ من أنت !
ـ ....
ـ ألا تعرفني ؟
ـ ....
ـ أنظر إليّ جيداً ..
ـ ....
وفجأة ، استل الأعرابي خنجراً من تحت عباءته ، وبدلاً من أن يغمده في صدري ، وضعه أمامي ، وهو ينهنه بالبكاء ، قلتُ وصوتي يتفتت فوق شفتي ..
ـ ما هذا ؟
ـ خنجره ..
ـ خنجر من ؟
ـ ألا تدري ؟
ـ ....
ـ ألا تدري خنجر من ؟
ـ ....
ـ خنجره ..
ـ ....
كان راقداً على الأرض ، وقد انفتح في جبهته العريضة السمراء جرح دام . وفجأة ، وفي غضب أهوج ، ضرب المنضدة بقبضته ، وهو يصرخ ..
ـ دمه في رقبتك ..
أذهلني صراخه ..
ـ أنت تعرف القاتل .. تعرفه ..
ـ ....
ـ أنت قاتل .. قاتل .. قاتل ..

راح يدنو مني ، عيناه القتيلتان في عينيّ .. وجرحه النازف ينز في أعماقي ، ويتوطن فيّ ، راح يدنو مني ، يدنو ، وفوق جبهته العريضة السمراء ، كان يسيل خيط من الدم ، مال بوجهه القتيل عليّ ، ومع دمه سال صوته عميقاً ممروراً ..
ـ إنني أنزف ..
حدقت في عينيه ..
ـ إنني مازلت أنزف ..
توغلتُ في عينيه ، وفي جرحه الدامي ..
ـ لأنه حيّ .. مازال دمي يسيل .. يسيل ..
ـ ....
ـ إنني أنزف .. إنني مازلت أنزف ..
وفي عينيه القتيلتين رأيتني وكنت أنزف ..
ـ لأنه حيّ .. فإنني حيّ فيك ..
ـ ....
ـ ولأنك تعرف القاتل .. أنت قاتل .. قاتل .. قاتل ..
صرختُ :
ـ إنني بريء .. بريء .. بريء ..

رفعتُ الرفش بكلتا يديّ ، وهويت به فوق رأسه ، فانفجر في ضحك هستيري ، صرخت به أن يصمت .. أن يكف عن الضحك ويصمت، لكنه استمر في الضحك ، فألقيت بنفسي عليه ، وأطبقت بكفي على عنقه ، ورحت أضغط عليه ، لكنه لم يكف عن الضحك ، فأخذت أصرخ ، وضحكته المجنونة تكتم أنفاسي ، وتدفعني إلى الانهيار ، لا تضحك .. لا تضحك هكذا ..كفّ عن الضحك .. إنك تقتلني .. كف عن الضحك .. كفّ .. ك ..ف ... ك .. ف ..
فتحتُ عينيّ ، كان الليل في الخارج ، وكان الأعرابي أمامي .. وفي أعماقي .. كان الأعرابي فيّ .. لا يبرحني.




جريدة التآخي ـ بغداد











الليل والمطر













دن .. دن .. دن .. الساعة تجاوزت منتصف الليل ، والمطر ما زال ينثال في الخارج ، إنني أسمع وقع قطراته الباردة ، فوق بلاط الفناء .
قالت صبرية ، كأنما تحدث نفسها : الجو بارد ، لا عجب ، إنه كانون .
وانحنت عليّ ، وقالت : لم تتغدي اليوم ، خذي ملعقة من هذا الحساء .
نظرتُ إليها ، دون أن أتكلم ، فقالت : سيدفئك .
أرخيتُ عينيّ عنها ، فتمتمت وهي تبتعد بالحساء : أنتِ لا ترحمين نفسك .
تناهى إليّ صوت أحمد ، يتكلم بصوت خافت ، ففتحتُ عينيّ الخابيتين ، ونظرتّ إلى صبرية ، لكن صبرية فرّت بعينيها مني ، يبدو أنه عاد من الجبهة ، إنها لم تحدثني عنه ، منذ أن طرق أحدهم بابي في الليل ، وقال : مفقود .
قد لا يكون سالم حياً ، لكني واثقة أنه سيأتي ، سيدخل دون أن يطرق الباب ، ويمدّ يديه نحوي ، ويقول : تعالي ، يا جدتي ، تعالي .
دن .. دن .. دن .. آه ما أطول الليل ، لم يكن ليلي طويل هكذا ، وأنا ألتفُ بالدفء بين أمي وأبي ، وحين صارت لي طفلة ، لم أدعها تنام وحدها ، كانت تنام بيني وبين أبيها ، ورحلت ابنتي ، فاحتل صغيرها سالم مكانها إلى جانبي ، لقد أصبح ليلي طويلاً ، منذ أن مضى سالم ، وقالوا لي أنه " مفقود " .
طُرق الباب ، كان المطر ينثال في الخارج ، والليل في كل مكان ، ربما هي الريح . طُرق الباب ثانية ، ترى من الطارق ؟ لعله سالم ، لكن سالماً عاد إلى الجبهة قبل أقل من أسبوع . وهرعتُ إلى الباب ، وفتحته ، إنه سالم ، صحتُ : سالم .
أصغيتُ ، وقلبي يخفق ، وكدتُ أصيح ثانية ، حين جاءني صوت تخنقه الدموع : خالتي .
إنه ليس سالماً ، هذا ليس صوته ، وتقدم من الظلام جندي شاب ، وراح يتطلع إليّ بعينين حزينتين ، فتساءلت : ها ، ابني ؟
لاذ بالصمت ، فصحتُ بانشداه : سالم .
فمدّ الجندي يديه نحوي ، وقال : لا تخافي .
تساءلت : مات ؟
ـ لا ..
ـ أسير ؟
ـ لا ..
وتطلعتُ إليه بحيرة ، فقال : مفقود .
ـ مفقود ! ماذا تعني ؟
وعبثاً حاول الجندي الشاب ، أن يفهمني معنى مفقود ، وانسحبت إلى فراشي ، وتمددتُ فيه وحيدة ، وبأ ليلي يطول .
دن .. دن .. دن .. آه ما أطول الليل ، المطر ما زال ينثال ، والريح تئن ، وهي تعدو في الخارج ، قالت صبرية : الجو بارد اليوم .
ولفت عباءتها حول جسمها الضامر ، ومضت إلى بيتها ، وهي ترتجف ، المسكينة ، لقد جفت ، وامتصتها السنون ، آه ليتني أغفو قليلاً ، الجو بارد ، والمطر ينثال ، والريح .. أهي الريح ؟ وسمعتُ وقع خطوات في الفناء .. وفتح الباب .. ودخل سالم .. واعتدلتُ .. يا للجنون .. كيف يمكن أن يكون " مفقود " وها هو أمامي؟ ، مدّ يديه نحوي ، وقال : جدتي ..
صحتُ بفرح : سالم ..
ـ انهضي ، يا جدتي ..
ـ قالوا إنك مفقود ..
ـ هيا يا جدتي ..
ـ لم أصدقهم ..
وأمسك سالم بيدي ، وقال : هيا ..
نهضتُ من السرير ، ويدي في يده ، وفتح الباب ، فمضينا معاً ، وذبنا في الليل والمطر .
جريدة الحدباء ـ الموصل











الحمل











رفعت أمي الفراش عن وجهي ، وقالت : شيرين ، استيقظي .
وتململتُ في فراشي ، وقلتُ متذمرة : دعيني أنام .
وانحنت أمي عليّ ، وهمست قائلة : +سيذهب أبوك إلى بيت خالتك .
فنفضتُ الفراش عني ، ونظرت إلى أمي ، وقلتُ : خالتي !
وأجابت أمي بصوت متهدج : نعم ، وسيأخذك معه .
ونظرتُ إلى أمي ، وقلتُ : يبدو أنك لن تأتي معنا هذه المرة .
ولاذت أمي بالصمت ، وقد تلامعت الدموع في عينيها ، ومددتُ يديّ واحتضنتُ وجهها ، وقلتُ : أنت تبكين .
ومسحت أمي عينيها وقالت : لستُ أبكي ، انهضي ، وانزعي ثوبك .
ونهضتُ بسرعة ، ونزعتُ ثوبي ، وهممتُ أن أقول : " أريد ثوبي الأخضر " ، لكني تذكرتُ بأنها مزقته ، عندما رأته ملوثاً بدمي ، وتملكتني الدهشة ، إذ أخرجت أمي الثوب المورد الجديد ، فصحتُ قائلة : هذا ثوب العيد .
وأجهشت أمي بالبكاء ، وهي تلبسني الثوب ، وأردتُ أن أسألها عما بها ، لكن أبي دفع الباب ، وصاح غاضباً : كفى .
حدقت أمي في ثوبي مذهولة ، ثم صرخت بصوت ينز دماً : يا ويلي .
وكالقطة المجنونة ، انقضت عليّ ، وراحت تمزق ثوبي الأخضر ، الذي تلوث بدمي ، فدفع أبي الباب ، وصاح غاضباً : كفى .
ورفعتُ عينيّ إلى أبي ، ولا أدري لماذا خفق قلبي بشدة ، حين لمحتُ خنجره ، فلم يكن عندي حمل ، منذ أن ذبح أبي بخنجره حملي الأبيض .
آه من آزاد ، لولاه ما مزقت أمي ثوبي الأخضر ، لا أدري ماذا دهاه ذلك اليوم ، فطالما خرجنا ، ولعبنا معاً ، كنتُ ألعب معه ، كلما جاء إلى القرية ، في العطلة الصيفية ، فقد كانت ألعابه جميلة مسلية ، ولم يكن أحد من أولاد القرية ، يعرف ألعاباً مثل ألعابه .
ورأيته ، ذات يوم ، يسبح وحيداً في الجدول ، وما إن رآني مقبلة عليه ، حتى انتصب واقفاً في الماء الرقراق ، وبدا جسمه العاري ، يتلامع تحت الشمس ، ولا أدري ، لماذا ارتعش صوته ، وهو يناديني : شيرين ، تعالي ، تعالي هنا .
وتوقفتُ مبتسمة ، ثم قلتُ : كلا ، أخاف أن أغرق .
فمدّ آزاد يديه نحوي ، وقال : لا تخافي ، أنا معك .
وبدون تردد ، خلعتُ ثيابي كلها ، وكومتها فوق الحشائش ، إنني أعرف أمي جيداً ، ستغضب مني ، وقد تضربني ، إذا تبللت ثيابي ، ووجم آزاد ، ووقف يحملق فيّ ، وقد فغر فاه ، وضحكتُ لمنظره ، وارتميتُ في أحضان الماء .
لم تكن أمي موجودة ، حين جاءني آزاد ، وتوقف متلفتاً عند الباب ، وهتف بصوت مضطرب : شيرين .
ونظرتُ إليه ، وقلتُ : ها .
فاقترب مني ، وتساءل : هل رأيتِ المهر ؟
فأجبته متسائلة : أي مهر ؟
فقال آزاد : لقد ولدت الفرس البارحة .
وهززتُ رأسي ، وقلتُ : لم أره .
ومال آزاد عليّ ، وقال : كم هو جميل .
ومدّ يده ، وأمسك يدي ، وأضاف : هيا معي ، سأريك إياه .
وقادني آزاد إلى الإسطبل ، ويده تطبق على يدي ، ووقفتُ أتأمل المهر ، يدور متواثباً حول أمه ، وسرعان ما توقف ، ودسّ رأسه بين ضروعها ، وأخذ يرضع ، فرفتُ وجهي إلى آزاد ، وهتفتُ : آزاد ، أنظر إلى المهر ، ما أجمله .
وجرني آزاد إليه ، ولفحتني أنفاسه ، وهو يقول : ذات يوم ، سيكون لك أنت أيضاً ، مهر جميل ، يشبهك .
لحقتني أمي حتى الباب ، وهي تحاول عبثاً ، أن تكتم نشيجها ، وانحنت عليّ ، وهمت أن تقبلني ، لكن أبي سحبني بقوة ، وقال : هيا .
وسرتُ وراء أبي ، ونشيج أمي المكتوم يحيرني ، ترى لماذا تبكي هكذا ؟ إنني ذاهبة إلى بيت خالتي ، وقد لا أبقى عندها ، أكثر من يوم واحد ، من يدري ، لعلها تخاصمت مع أبي من جديد ، لقد ازداد خصامهما ، منذ أن تلوث ثوبي الأخضر بالدم .
ومضى أبي يغذ السير ، دون أن ينبس بكلمة ، وتشنجت قدماي ، وأنا أخفّ في أثره ، لكني لم أجرؤ على الشكوى ، فقد كان صمته يخيفني ، ويشلّ لساني .
وتناهى إليّ خرير مياه الجدول ، وسرعان ما لاحت مياهه الفضية تتلامع في أضواء النهار الأولى ، وخفق قلبي ، هنا سبحتُ مع آزاد ، الملعون ، حاول مراراً ، أن يضمني في الماء ، لكني كنتُ أتملص من بين يديه كالسمكة ، آه لو لم يلوث ثوبي بالدم ، لكنا نسبح الآن معاً في الجدول .
وتوقف أبي ، وقال ، دون أن يلتفت إليّ : لنسترح هنا قليلاً .
وتوقفتُ ، والجدول يناديني ، وخاطبني أبي قائلاً : هل أنتِ عطشانة ؟
وتذكرتُ حملي الأبيض ، ولم أدر ِ لماذا شعرتُ بالخوف ، فقلتُ : لا .
لم يصغ ِ أبي إليّ ، وانحنى على الجدول ، وملأ راحتيه بالماء ، ثم دنا مني ، وقال بصوت مرتعش : اشربي .
وملتُ برأسي على راحتيه ، وهممتُ أن أرشف الماء ، وفجأة لمحتُ الخنجر في حزامه ، وسمعتُ حملي الأبيض يثغو ، فجمدتُ في مكاني ، ماذا يجري ؟ وجاءني الصوت المرتعش ثانية : هيا ، اشربي .
ووضعتُ وجهي في راحتيه ، وشعرتُ بالماء ينفذ إلى فمي وأنفي وعينيّ ، آه ليتني أغرق في راحتي أبي ، إن رائحته العذبة تفوح من الماء ، وأيقظني صوته المرتعش : شيرين .
ورفعتُ وجهي المبلل بالماء من راحتيه ، لكني لم أنبس بكلمة ، فأضاف بنفس الصوت المرتعش ، : اجلسي .
وجلستُ على الحشائش ، هنا كومتُ ثيابي كلها ، ذات يوم ..، ووقف أبي ورائي ، ترى أين آزاد الآن ؟ اللعين ، لو لم يلوث ثوبي الأخضر بالدم لما .. ، وشعرتُ بأبي يجثو خلفي ، ويلمس رأسي بشفتيه المرتعشتين ، ويقول : شيرين .
وأجبته دون أن ألتفت : ها .
وهبطت يده فوق رأسي ، وهو يتمتم : شيرين .. عزيزتي .
وأطلت الشمس مدماة من الأفق البعيد ، وهممتُ أن ألتفت إلى أبي ، فقد كانت يده تؤلمني ، لكني .. فوجئتُ .. بخنجره .. الذي ذبح به حملي الأبيض .. ينفذ في عنقي ، و ..


مجلة أفق ـ الموصل
1998























الليل













لم ترفع الممرضة عينيها إليّ ، حين دخلت الغرفة مع الممرض ، واكتفت بالقول : أجلس هنا .
قادني الممرض إلى الكرسي ، وأشار لي أن أجلس ، ثم اتجه إلى الممرضة ، ومال عليها ، وقال بصوت هامس : لقد طلب الطبيب أن أحضره الآن .
ورفعت الممرضة عينيها ، وراحت تتأملني ، فهمس الممرض ثانية : هذه أول رجة كهربائية .
وأبعدت الممرضة عينيها عني ، وقالت : الطبيب لن يتأخر .
وعاد الممرض إليّ ، وقال : سيأتي الطبيب بعد قليل .
بقيت جامداً فوق الكرسي ، وبقيت الممرضة ملتفة بصمتها ، وتململ الممرض ، وأخرج علبة سكائره ، وفتحها ، وقال وهو يقدمها لي : سكارة .
ورفعت عينيّ الممرورتين إليه ، وحدقت فيه ، دون أن أنبس بكلمة ، فأرخى عينيه عني ، وأغلق العلبة في عجلة ، ودسها في جيبه .
دارت عيناي ، لكني لم أر شيئاً ، وكالليل هبط صمت عميق ، وغام كلّ شيء ، عتمة .. عماء .. صمت ، ومن الليل ، تناهى وقع أقدام رتيب ، وامتد في العتمة ممرّ لا ينتهي ، قادوني عبره، وعيناي معصوبتان ، لا أحد يتكلم غير الأقدام والصمت ، أوقفتني الأيدي ، سمعت باباً يطرق ، وتناهى إليّ صوته لأول مرة : أدخل.

فتح الممرض الباب ، وقال بصوت خافت : دكتور ، أحضرته ، إنه هنا .
وتناهى إليّ صوته لأول مرة : ليتفضل .

قادوني إلى داخل الغرفة ، وشعرت بأيديهم ترتفع عني ، ثم سمعت الباب يغلق ، لعلهم ذهبوا ، وشعرت به يتأملني ، يمزق بعينيه ثيابي ، يعريني ، ومن الليل تناهى إليّ صوته ثانية : سكارة .
قلت بصوت مختنق : لا أدخن .
دقّ جرس الهاتف ، وسمعته يرفع السماعة ، ويقول : ألو ..
ومن الليل ، تناهى إليّ صوت نسائي دافىء ، ولم أستطع أن أعرف ، أهو من الهاتف أم .. ؟

ـ عامر ، انهض .
لم أتحرك ، وجاءني صوتها ثانية :عامر .
إنني أسمعها ، وهي تعرف أنني أسمعها ، لكنها مالت عليّ ، وهمست : ستتأخر .
وفجأة وجدت نفسها بين أحضاني ، فصاحت وهي تغرد ضاحكة : ليس الآن ، ستفوتك المسيرة .
لكني ضممت شفتيها بعنف ، وأنا أغمغم : لنبدأ المسيرة الآن .

مدّ الطبيب يده إليّ ، ورأيته يتأملني بعينيه الباسمتين، وقال وهو يشدّ على يدي : أهلاً عامر .
سحبت يدي من يده ، دون أن أقول شيئاً ، فقال وهو يشير إلى الكرسي : تفضل .
امتثلت لإشارته ، وجلست على الكرسي ، وفتح علبة سكائر ، وقدمها لي ، وقال : سكارة .
وهززت رأسي ، وقلت : لا أدخن .
واتسعت الابتسامة في عيني الطبيب ، وقال : نحن الأطباء ننصح الآخرين أن لا يدخنوا ..
ثم أشعل لنفسه سكارة ، وأضاف : لكننا ندخن .
لم أبتسم ، وشعرت بالغرفة تدور بي ، فوضعت رأسي بين يديّ ، ومن بعيد جاءني صوته : هل أنت متعب ؟

ـ يبدو أنك متعب .
ودارت الغرفة بي : لم يدعوني أرتاح .
ومال عليّ ، وقال: سأدعك ترتاح إذا أخبرتني ..
وحولت عبثاً أن أتماسك ، وقلت : إنني لا أقوى على الوقوف .
وحدق فيّ ، وقال : أين أبو سلام ؟
ومال الحائط عليّ ، : لا أدري .
ـ ما هو اسمه الحقيقي ؟
سينهار عليّ : لا أدري .
ـ إنه مسؤولك .
ـ لكني لا أعرف اسمه .
ومن بين الأحجار جاءني فحيحه : يبدو أنك لا تريد أن ترتاح ، يا عامر .

ـ حدثني عن نفسك .
حاولت أن أنهض من تحت الحجارة ، ..
ـ حدثني عن طفولتك ..
ليل .. ليل .. ليل...
ـ حدثني عن .. زوجتك ..
حقلان أخضران تغرقهما .. الدموع .. والدم ..
ـ قل أي شيء ..
الليل .. الحجارة .. الحقلان .. الأخضران .. لم أعد أحتمل .. لم أعد .. أحتمل ..
ـ إنني متعب .
ـ ارتح قليلاً.

صاح بصوت أجش : تكلم .
ـ إنني .. متعب .
ـ أين أبو سلام ؟
ـ قلت .. لا أدري .
ـ ما هو اسمه الحقيقي ؟
ـ لا أدري .. لا أدري .
ـ سوف تدري ، خذوه .
وحطت عليّ الأيدي ، وراحت تقودني مرة أخرى ، عبر الليل والعتمة .

ـ قابلت زوجتك .
رفعت عينيّ إلى الطبيب ، فأطفأ السكارة ، وقال : إنها امرأة لطيفة .
واشتعلت عيناي بالغضب ، فمال الطبيب عليّ ، وقال : لا تلمها، أنت زوجها ، وقد حاولت أن تنقذك .

قادوني إليه عبر الممر ، لكنهم لم يعصبوا عينيّ هذه المرة، وحين أدخلوني الغرفة فوجئت به واقفاً أمام مكتبه، نظرت إليه، هذه أول مرة أراه ، نحيف .. أنيق ..معطر ، والسكارة في يده ، حدق فيّ ، وقال : أجلس .
لم أجلس ، فتابع بصوت بارد : نأسف لما جرى ، لكنك ألجأتنا إلى هذا الأسلوب ، سكارة ..
وفتح علبة السكائر ، وقدمها لي ، لكنه ما لبث أن أغلق العلبة ، وقال وهو يرميها فوق مكتبه : أعتقد أنك قلت ، أنك لا تدخن .
وصمت لحظة ، ثم قال : زوجتك بالباب ، يجب أن تشكرها ، لولاها لكنت الآن تحت التراب .

مال الطبيب عليّ ، وقال : أتعرف أنك حطمت فكها ؟
واشتعلت عيناي المطفأتان ، ورأيتها في وهج النهار تمدّ يديها إليّ ..

ـ عامر ..
التفتّ إليها ، أين عيناها الخضراوان ؟
ـ عامر ..
وارتفعت يدي ، لم أر في عينيها سوى الدم ..
ـ عامر .
عامر .. إنني ..
وهوت يدي على وجهها ، وأنا أصيح : لما .. ذا ؟
وكالصخور انهالوا عليّ .

هبت الممرضة من مكانها ، حين ارتفع وقع أقدام ثابتة في الممر ، وقالت : تعال ، جاء الطبيب .
لم أبد حراكاً ، فمال الممرض عليّ ، وقال : لا تخف ، لن تشعر بأي ألم .
وهرعت الممرضة إلى الغرفة الداخلية ، وفتحت بابها ، وقالت : هيا .
وأمسك الممرض بيدي ، وقال بصوت حاني: دعني أساعدك .
لكني سحبت يدي من يده ، ووقفت برهة ، دون أن ألتفت إلى أحد ، ثم مضيت إلى الغرفة ، وتلاشيت في العتمة والصمت .




جريدة طريق الشعب ـ بغداد











فوق جلجلة الصمت


إلى عمال مصفى القيارة ، الذين
عايشتهم خلال محنتهم ، عام " 1958 "










طافت عينا جرجيس ، مرة أخرى ، في أرجاء النادي.وعانقت في حنان بالغ كلّ شيء فيه ، المناضد ، النوافذ ، الصور الملونة ، وجوه العمال المتعبة ، أوه ، غدا! أو بعد غد ، لن يكون هنا ، ثلاثة عشر عاماً ، ستنتهي غداً أو بعد غد . منذ الصباح ، والعمال يعيشون في دوامة ، يثرثرون حول العمل ، ويتظاهرون بعدم المبالاة ، وهم يلعبون الدومينا والطاولة ، وكان بعضهم ، حين يعييه التجديف واللعب يتجه إلى البار ، ويتكوم فوق كرسيه العالي ، دون أن يتفوه بكلمة ، ويضع جرجيس فوق شفتيه ابتسامة حانية ، ثم يقول :
ـ ماذا تشرب ؟
ـ أي شيء .
وأكثر من مرة ، دار جرجيس بلباقة حول أسئلتهم ، وكانت تمضه نبرة الحزن والقلق في أصواتهم :
ـ جرجيس ، أتعتقد بأننا سنبقى ؟
ـ من يدري .
ـ يقول البعض ، إننا لن نبقى .
ـ لننتظر الوفد ، لعله يأتي اليوم .
وحدق خوشابا في كأسه الفارغ ، وقال :
ـ كأس آخر .
لم يرفع عينيه إلى جرجيس ، كان يخشى عينيه ، يخشى سؤالهما الصامت . وجاءه صوت جرجيس هادئاً ، مقرّعاً :
ـ يكفي الآن .
ـ كأس أخير .
ـ لقد شربت كثيراً ، يا خوشابا .
ـ أرجوك .
ملأ جرجيس كأس خوشابا بالعرق ، ووضعه أمامه ، ومدّ خوشابا يده إلى الكأس ، وحاول أن يغرق الصليب في أعماقه .

نظر جاسم إلى ساعته ، وصاح :
ـ كم الساعة ؟
وفي غضب ، رمى خليل أحجار الدومينا أمامه ، وقال :
ـ للمرة العاشرة تسأل عن الساعة .
ـ لم أوجه السؤال إليك .
ـ أرجوك .. ابتعد عنا .
ـ ماذا جرى لك اليوم ؟
ـ أعوذ بالله ، دعنا نلعب ، يا أخي .
ابتسم رفاقهم ، وقال يوسف :
ـ جاسم ، تعال إلى جانبي .
نهض جاسم ، وقد احتقن وجهه ، وجلس إلى جانب يوسف ، وهو يغمغم :
ـ لم أوجه السؤال إليه .
عندئذ شمرّ خليل عن ساعده ، وصاح بانفعال :
الخامسة إلا ربعاًًًً , هل ارتحت الآن ؟ سيأتي الوفد في قطار الخامسة والنصف , ويقول لك , يا سيد جاسم ، اطمئن ، كنا نمزح معك ، سيبدأ العمل من جديد ، والآن دعنا نلعب ، علق جرجيس فوق شفتيه ابتسامة حانية ، حين تكوم رجل بدين فوق كرسي البار ، وقال بصوت احتفالي : هالو مستر جرجيس ما الأخبار ؟ قال جرجيس ، وهو يمسح كأساً بفوطة ، ويضعه أمام الرجل البدين : آخر خبر أوردته وكالات الأنباء يفيد ، بأنك قررت أن تشرب كأساً آخر .
وقهقه الرجل البدين ، وقال : هاهاها .. صدقني هذا أول خبر صحيح تورده وكالات الأنباء اليوم .ماذا تريد ؟ وانحنى الرجل البدين على جرجيس ، وقال بصوت هامس : وطن ..
وقاطعه جرجيس وهو يتلفت حوله : أرجوك ، دعنا نعش .
واعتدل الرجل البدين ، وقال : إذن أعطني كأس زحلاوي .
وصمت حين لمح خوشابا ، ثم قال : أوه خوشابا ، يا الهي ، لقد ضعف بصري ، جرجيس ، صب كأساً لخوشابا .
وتململ خوشابا فوق مقعده ، دون أن يرفع رأسه ، وتمتم : شكراً .
ـ لا يمكن ، يجب أن تشرب ، شاركني ولو بكأس واحد .
ـ أشكرك ، لا أستطيع أن أشرب أكثر .
ران الصمت لحظة ، وشعر خوشابا بيد الرجل البدين تضغط على يده ، ثم سمعه يقول : إنني أفهمك ، يا خوشابا ، إنني أفهمك ، فنحن جميعاً تطحننا رحى واحدة.
وسكت الرجل البدين لحظة ، ثم أردف في صوت احتفالي : هيا ، دعنا نغرق التيه بكؤوسنا ، ارفع كأسك ، ودعنا نحتفل بصلبنا ، هيا ، لا تكن جاحداً لتاريخ المسيحية ، إن مخلصنا شرب الخمر في العشاء الأخير ، اشرب ، ودعنا نحتفل بعشائنا الأخير .
نظر خوشابا إلى كأسه ، لكنه لم يرفعه ، فقد كان في أعماقه المضببة عينان سوداوان طافحتان بالدموع . حاولت أن تقنعه ، بأنه مخطئ وأن قضيتهم لا يحلها الخمر ، كان المطر ينقر سقف الغرفة ، والريح تهز مصراع النافذة ، مريم دعيني الآن ، المطر يخترق السقف ، وينقر رأسه ، مريم ، إنني متعب ، وارتج مصراع النافذة ، سينفجر رأسي ، وألحفت مريم ، ورفعت صوتها المعذب في وجهه ، مريم ، يجب أن تفكر ، إنني إنسانة ، الريح ، المطر ، يا الهي ، وارتفعت كفه الظالمة ..
وضع الرجل البدين كأسه فوق البار ، ونظر إلى جرجيس ، وقال :
ـ يقال أن الوفد سيأتي اليوم .
ابتسم جرجيس ، وقال :
ـ يُقال.
ـ جرجيس ، هل تمطر غيمة الصيف ؟
ـ نعم ؟
ـ غيمة الصيف ، هل تمطر ؟
واتسعت ابتسامة جرجيس ، وقال :
ـ أتريد كأساً آخر ؟
ـ لا .
ـ ماعوناً من الحمص ؟
ـ لا .
ـ زيتوناً ؟
ـ ماذا تريد إذن ؟
ـ غيمة شتاء .
خرج خوشابا عن صمته ، وقال بمرارة :
ـ مازال بعض العمال ينتظرون الوفد .
أفرع الرجل البدين كأسه في جوفه ، ثم تمتم :
ـ غيمة صيف .
هب جاسم من مقعده ، وصاح :
ـ سأذهب إلى المحطة .
لم يلتفت إليه أحد ، فانحنى على يوسف ، وهمس له : ـ أتأتي معي ؟
فصرخ خليل بغضب :
ـ كلا ، ألا ترانا نلعب ؟
ـ انفجر الجميع في الضحك ، فصاح جاسم بانفعال : ـ ماذا جرى اليوم ؟ إنني لا أستطيع أن أتحدث مع أحد ، دون أن يصرخ في وجهي ، لعنة الله عليكم جميعاً . واتجه نحو الباب بخطوات سريعة ، لكنه سرعان ما توقف ، وعاد في هدوء إلى البار ، وانحنى على جرجيس ، وقال :
ـ كم الساعة عندك ؟
ابتسم جرجيس ، وهمس لخوشابا ، مقلداً صوت جاسم : ـ كم الساعة عندك ؟
فنظر خوشابا إلى ساعته ، وقال وهو يبتسم :
ـ حوالي الخامسة .
تمتم جاسم ، وهو يخف نحو الخارج :
ـ يا الهي ، لم يبق على مجيء القطار إلا نصف ساعة .
ـ شش بيش .
وتلفتا يوسف حوله ، ثم تمتم :
ـ أطلقوا سراح الأستاذ .
وجم خليل لحظة ، ثم تساءل :
ـ متى ؟
ـ اليوم .
ـ سمعتُ أنهم داهموا بيته ، ليلة البارحة .
ـ لم يجدوا عنده أي شيء .
ـ لن يدعوه مرتاحاً ، سيترصدونه باستمرار .
وتلفت يوسف حوله ثانية ، ثم قال :
ـ العب .
نزل خوشابا عن كرسي البار ، فسأله الرجل البدين :
ـ إلى أين ؟
ـ لا أدري .
ـ ألن ترجع ؟
ـ لا أعتقد .
ومضى إلى الخارج في خطوات تائهة ، دون أن يلتفت إلى أحد . كانت الشمس مذبوحة في الأفق ، وكانت دماؤها تسيل فوق التلال العارية في خطوط طويلة ميتة. حاول في الصباح أن يكلمها ، أن يعتذر منها ، لكنها لم تجبه بغير الصمت ، وحين وضعت كوب الشاي أمامه ، لاحظ أن أصابعه المخمورة قد تركت أثاراً قاتمة فوق صدغها ..
ـ مريم .
لم تجبه ..
ـ مريم إنني .. أسـ .. أعرضت عنه ، وأولته ظهرها ، وجلس خوشابا يأكل بصمت ، لقد قررت أن ترحل ، لم تقل شيئاً ، لم تقل بأنها سترحل ، لكنها منذ الصباح حشرت ملابسها في حقيبة صغيرة ، وأقسمت الخطوط الداكنة فوق صدغها ، إنها لن تغفر لي ، ولن تبقى معي يوماً واحداً ، ستأخذ قطار المساء إلى الموصل ، وتذهب إلى أهلها .
ـ مريم ، أرجوك .
التفتت مريم ، ورفعت وجهها إليه ، كانت عيناها محتقنتين ، معذبتين ، فأدرك بأنها كانت تبكي طوال الليل .
ـ خوشابا .
وقف خوشابا ، وأدرك دون أن يلتفت أنه الأستاذ .
ـ لقد تجاوزتني دون كلمة .
التفت خوشابا ، وقال :
ـ عفواً ًأستاذ ، لم أكن هنا في الواقع.
ـ يبدو أنك كنت تحلق بعيداً .
ـ نعم ، كنت في الجنة .
ـ جنتنا أم جنتكم ؟
ـ كانت جنة بلا بطالة ، ولا أدري أي جنتنا أم جنتكم .
ـ إنها العالم الذي نريد أن نصنعه إذن .
ـ إنه عالم بعيد .
ـ لن يكون بعيداً إذا عملنا من أجله .
ران الصمت لحظة ، والتفت خوشابا إلى المحطة ، وقال : قد يأتي الوفد اليوم .
ـ إنني آمل ذلك .
ـ لا أعتقد أن أمامنا فرصة للعودة إلى العمل .
ـ العمل حق من حقوقكم ، ويجب أن تفعلوا كل شيء من أجله .
ـ ماذا نستطيع أن نفعل ؟ نحن عاجزون .
ـ يمكنكم أن تفعلوا الكثير إذا اتحدتم .
عوى القطار من بعيد ، فقال خوشابا :
ـ لقد وصل القطار .
فنظر الأستاذ إلى خوشابا ، وقال :
ـ خوشابا لقد رأيت زوجتك في المحطة ، وتحدثت معها.
رفع خوشابا وجهه ، وتشبثت عيناه بعيني الأستاذ كالغريق ، فأردف الأستاذ :
ـ هيا ، امضِ إليها .
شعرت مريم بخوشابا يدنو منها ، ويقف خلفها ، إنه يتعذب :
ـ مريم ..
لم تجبه ، كانت العربات تتمدد بإعياء فوق القضبان الحديدية ، وقد أطلت من نوافذها وجوه المسافرين شاحبة ، مغبرة ، حزينة ، وفي ضجيج المحطة ، جاءها صوته ثانية :
ـ يبدو أن الوفد لم يأتِ اليوم أيضاً ، سيأتي غداً أو بعد غد ، وقد نعود إلى عملنا ، وننسى كل هذه الآلام والمصاعب .
سكت خوشابا لحظة ، وحين جاءها صوته ثانية ، شعرت بعبرته الأبية تخنقه :
ـ مريم ، إنني وحيد ، لم يعد لدي شيء غيرك ، ولكن إذا كنت تريدين أن تتركيني ، فأذهبي لن أمنعك .
وفي عتمة المساء ، انسابت دمعة على وجنتها ، لم تكفكفها ، لكنها ظلت صامتة ، لا تريم . وصرت عجلات القاطرة فوق حديد السكة ، ثم أطلقت الماكنة صرخة متعبة ، فقال خوشابا :
ـ القاطرة تسير .
ومرة أخرى ، ظلت مريم صامتة ، فقال خوشابا :
ـ اصعدي يا مريم .. إذا ..
ولأول مرة منذ ساعات طويلة متعبة ، سمع صوتها هادئاً ، مبللاً بالدموع ، دعها تسير . ودارت العجلات فوق الحديد ، وتقدمت القاطرة تخوض وسط دماء المساء ، حتى غرقت في العري الداكن ، ومد خوشابا يده إلى الحقيبة الصغيرة التي كانت تحملها زوجته ، وقال :
ـ دعيني أحملها عنك .


جريدة طريق الشعب
بغداد ـ 2010






















الرفيق
















قادني الرجل إلى غرفته ، ودفع الباب بهدوء ، وهمس لي :
ـ أدخل ، إنه ينتظركِ .
دخلتُ الغرفة ، كان منكباً على المكتب ، وحين أحس بوجودي ، رفع رأسه ، وتطلع إليّ ، شعرتُ بعينيه الباردتين تلتصقان بوجهي ، فقلتُ بصوت مرتعش :
ـ أنا .. أم علي ..
رمقني بنقمة ، وقال :
ـ زوجة حيدر .
ـ نعم ، زوجته .
كنتُ أود أن يقول لي " أجلسي " ، لم أكن تعبة لكنّ قدميّ لم تكونا تقويان على حملي ، أهو الخوف ؟ لكن علامَ الخوف ؟ لقد رحل أبو علي ، وها إني هنا وحيدة ، ترى ماذا يريد ؟
ـ نحن نعرف زوجك ، كان عضواً في اللجنة النقابية ..
صمتَ لحظة ، وراحت عيناه الباردتان تسيحان فوق وجهي .
ـ لقد حسبناه مستقلاً .
واشتعلت عيناه الباردتان برهة :
ـ لكننا قرأنا نعيه في صحيفتهم ، الرفيق حيدر ، أنت تفهمين ..
لكني لم أفهم ، وتمتم بصوت حانق :
ـ لن يفلت من أيدينا .
فقلتُ بصوت تخنقه الدموع :
ـ لكنه مات ، قتلته الآلة .
لم يلتفت إليّ ، وقال بصوت ثابت :
ـ يجب أن تكذبوا النعي ، وإلا لن تروا فلساً واحداً من راتبه التقاعدي .
دق التلفون ، فرمقني بحنق ، وقال وهو يمدّ يده إلى السماعة :
ـ أريد أن أقرأ التكذيب في أقرب فرصة ، اذهبي .
خرجتُ من غرفته ، ومضيتُ إلى النهار ، وصوته يطاردني :
ـ اذهبي .
إلى أين أذهب ؟
كان النهار قاتماً ، والطريق يلفه الضباب ، يجب أن أسرع ، لابد أن عليّ ينتظرني الآن ، سيبتسم لي ، ويحتضنني كأني ابنته ، ابني العزيز .
ـ أم علي .
التفتُ ، من يناديني ؟ ومن الضباب تقدم شاب إليّ ، وقال بصوت دافئ :
ـ أنتِ لا تعرفينني .
تطلعتُ إليه ، لكن قلبي لم يدق بخوف رغم إنني كنتُ وحيدة معه في الضباب ، ابتسم الشاب ، وقال :
ـ إنني رفيق .. أبي علي .
ـ لكن أبا علي ..
ـ نعرف ، لقد كان رفيقاً طيباً .
نعرف ؟ من هم !
ـ انتظرتك هنا طويلاً .
بدت الدهشة في عينيّ ، فابتسم الشاب ، وقال :
ـ لقد عرفنا أنهم استدعوك ، خيراً .
ـ لن يصرفوا لنا راتبه التقاعدي إلا إذا كذبنا النعي ، الذي ظهر في الجريدة ، يقول إنه كان رفيقاً ، لم أفهم .
زمّ الشاب شفتيه الغاضبتين ، ومدّ يده في جيبه ، ثم دسّ شيئاً في يدي ، فقلتُ :
ـ لا ، لا أريد .
فقال وهو يشدّ على يدي :
ـ هذه من رفاقه .
فتحتّ عينيّ ، من هم رفاقه ؟ تلفت الشاب حوله ، وذاب في الضباب .
فتح علي الباب ، فرأيت حيدر في عينيه ، كان يبتسم ـ أهو يعتذر ، سامحيني ، علامَ أسامحك ؟ كنت على حق دائماً ، لكن كان عليك أن تعرفني على رفاقك ، أمسك علي كفيّ ، وجاءني صوته عذبا! ، دافئاً :
ـ يداكِ باردتان .
ابتسمتُ من خلال دموعي ، فاحتضن وجهي بين كفيه ، وتطلع إليّ ، وقال :
ـ لقد أشعلتُ المدفأة ، تعالي ، سأصب لك شيئاً من الشاي .
قادني علي إلى الغرفة ، وأجلسني قرب المدفأة ، ثم صب لي شيئاً من الشاي ، وقال وهو يتطلع إليّ :
ـ كفكفي دموعك .
كفكفتُ دموعي ، فقال وهو يحرك الشاي بالملعقة :
ـ والآن ابتسمي .
ابتسمتُ ، وقلتُ وأنا أمدّ يدي إلى الشاي :
ـ سيبرد الشاي .
رشفتُ شيئاً من الشاي ، كان دافئاً .. حلواً .. منعشاً ، وتطلعتُ في عيني علي ، فرأيتُ حيدر يبتسم لي .. لا .. لن أكذب النعي .. ماذا سيقول عني علي حين يكبر .. لقد كان رفيقاً .. نعم .. كان رفيقاً .





الفهرست
ــــــــــــــــــــ
1 ـ الخلاص 13
2 ـ شتاء الأيام الآتية 27
3 ـ ويمطر الليل 42
4 ـ الليل 53
5 ـ الأعرابي 62
6 ـ الليل والمط 67
7 ـ الحمل 73
8 ـ الليل 81
9 ـ فوق جلجلة الصمت 93
10 ـ الرفيق 98



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لمحات من صحافة الأطفال في نينوى
- طلال حسن في سطور
- القناع في مسرحيتي الإعصار وكلكامش لطلال حسن -مقاربة في المكو ...
- الفضاء في مسرح طلال حسن -مسرحية الإعصار- نموذجاً
- هيلة يارمانه
- رواية للفتيان الفتاة الغزالة ...
- حكايات من التراث حكايات موصلية طل ...
- حكايات من الموصل طلال حسن
- حكايات من الموصل طلال حسن
- حكايات شعبية جنجل وجناجل
- مسرحة الموروث الشعبي -قراءة في مسرحيات (هيلا يارمانه) لطلال ...
- خمس مسرحيات من التراث الموصلي ...
- رواية للفتيان الغزالة ...
- قصص قصيرة جداً أنا الذي رأى ...
- رواية للفتيان الملكة كوبابا ط ...
- مطاردة حوت العنبر
- سيناريوهات قصيرة قيس وزينب طلال حسن
- سيناريو عرس النار طلال حسن
- علي بابا
- رواية للأطفال الثعلب العجوز ...


المزيد.....




- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...
- 3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV ...
- -مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - قصص قصيرة شتاء الأيام الآتية طلال حسن