|
النقد الأدبي العربي من العصر الجاهلي إلى العصر المعاصر دراسة تحليلية
ابراهيم محمد جبريل
الشاعر والكاتب والباحث
(Ibrahim Mahmat)
الحوار المتمدن-العدد: 8092 - 2024 / 9 / 6 - 00:28
المحور:
الادب والفن
تعريف النقد الأدبي هو الكشف عن مواطن الجمال أو القبح في الأعمال الأدبية و يعتبر النقد دراسة للأعمال الأدبية والفنون وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها والكشف عن القوة والضعف والجمال والقبح وبيان قيمتها ودرجتها نقدتُ الدّراهَم وانتقدتها أخرجتُ منها الزَّيف فهذا المعني اللّغوي الأول يشير إلي أنّ المراد بالنقد التمييز بين الجيد والرّديء من الدّراهم والدنانير، النقد في الّلغات الأوروبيّة يعني Critique تطور كلمة نقد في القرن السادس عشر، سنجد أنّها ظهرت في بادي ء الأمر في المجال الفلسفي للدّلالة علي تصحيح الأخطاء النّحوية أو إعادة صياغة كل ما هو ضعيف في المؤلّفات الأدبيّة اليونانية ثم تطوّر ذلك المصطلح في القرنين السابع والثّامن عشر، واتّسعت حدوده ليشمل وصف وتذوق المؤلّفات الأدبيّة في وقت معا. وفي القرن الماضي، استخدمه عدد من الكّتاب والمفكّرين بمعني الحكم أو تفسير الأثر الأدبي، فقد استعمل النقد في معني تعقّب الأدباء والفّنيين والعلماء والدّلالة عَلي أخطائهم وإذاعتها قصد التشهير أو التعليم، وشاع هذا المعني في عصرنا هذا وصارت كلمة النقد فهم منها نشر العيوب والمآخذ وقديما ألف أبوعبيد اللّه محمّدبن عمران المرزباني المتوفّي سنة 438 ه كتاب الموشح في مآخذ العلماء علي الشعراء ضمنه ماعيب علي الشعراء السابقين من لفظ أو معني أو وزن أو خروج علي المألوف من قوانين النحو والعروض والبيان، وشاع بجانب ذلك عندنا تقريظ الكتب والأشخاص والمذاهب السياسية والاجتماعية والآثار الفنيّة و كلمة النقد في الاصطلاح الحديث من ناحية وفي اصطلاح اكثر المتقدّمين من ناحية أخري فإنّ فيه كما مرّ معني الفحص والموازنة والتمييز والحكم فالنّقد دراسة الأشياء وتفسيرها وتحليلها وموازتتها بغيرها كتب السابقين في النقد العربي يشمل الموازنة، ودراسة الشعر أو النثر وتفسيرهما وما يعرض لهما من أسباب المقبول والرّديء و موضوع الأدب هو الطبيعة والإنسان، وموضوع النقد الأدبي هو الأدب نفسه أي الكلام المنثور أو المنظوم الّذي يصوّر العقل والشعور، يقصد إليه النقد بالشرح، والتحليل والتعليل يقوم علي عنصرين الناقد والمنقود إن النقد الأدبي بدأ في أول أمره تأثريا انطباعيا، يحكم الناقد فيه باستحسان العمل الأدبي أو استقباحه دون أن يعلل ذلك، فصح وإنما يستند الى حكم الذوق انطباع النفسي فالنقد الأدبي في الاصطلاح هو تقدير النّصّ وبيان قيمته الأدبيّة يتناول النقد المقوّمات العلميّة والفنيّة والاجتماعية والسياسيّة ليعين علي الترّقي، ويهدي الباحثين أهدي السبل و أسمي الغايات لهذا اختلف النقد أو تعدّد مشاربه والنقد الأدبي خاصّ بالأدب، وإذا كنّا نفهمه بالمعني العام أي تفسير الأدب وايضاحه فنستطيع أن نعدّ من أنواعه ما يلي: اوّلاً: النقد التاريخي الذّي يشرح الصّلة بين الأدب والتاريخ فيتّخذ من حوادث التاريخ السياسي والاجتماعي وسيلة تفسير الأديب وتعليل ظواهره وخواصّه. ثانيا: النقد الشخصي وهو الذّي يتّخذ من حياة الأدب وسيرته وسيلة لفهم آثاره وفنونه وخواصّه الغالبة عليه فإن الأدب صادر عنه مباشرة ليسهل بذلك شرحه وتعليل أوصافه. ثالثا: النقد الفنّي وهو أخّص الأنواع وأولاها بمن يريد فهم طبيعيّة الأدب وبيان عناصره، وأسباب جماله وقوته ورسم السبيل الصالحة للقراءة والإنشاء، وهو عندي أحقّ الأسماء بهذه التسمية، فهو النقد حقّا وما سواه من الطريقة التاريخيّة أو الشخصيّة تفسير، وهو المنهج النقديّ ويرد المصادر الرئيسية التّي يستقي منها النقد إلي مراجع ثلاثة: .1 وهي فكرة الطبيعة 2. وفكرة آثار السلف 3.وفكرة العقل ثم ارتقى النقد بارتقاء ثقافة الإنسان وخبراته، وتنوعت في ذلك المذاهب والاتجاهات وصارت لكل ناقد معايير ومقاييس مختلفة في الحكم، إن النقد الأدبي يقوم اليوم على قواعد وأصول موضوعية، و لا يمكن أن يعتمد على هذه الذاتية وحدها، ويختلف النقاد بطبيعة الحال في الأصول التي يعتمدون عليها في دراسة الأدب، وفي المعايير التي يحكمون بها عليه، وفي التركيز على جانب دون جانب، ولكن النقد الذي يمكن أن يحظى بالقبول،
النقد في العصر الجاهلي: تعود بداية النقد العربي إلى العصر الجاهلي وكان وراء ظهوره عوامل أهمها : خروج العرب من جزيرتهم والاتصال بالبلدان الأخرى المجاورة كالشام والعراق وبلاد فارس بدافع التجارة أو الحروب ومظاهر التعصب القبلي وقد كان لهذه العوامل أثرها في ظهور النقد الأدبي وازدهاره أوليات الشعر الجاهلي لم يظهر الشعر الجاهلي بل مر بمراحل طويلة من التهذيب حتى بلغ إتقانه في أواخر العصر الجاهلي وكذلك النقد ، فقد ظهر مع بداية الشعر وخاصة في أواخر العصر الجاهلي يتمثل مظاهره في الأسواق حيث فيها يتذاكر الناس ويلتقي فيها الشعراء صور النقد الجاهلي: ومن صور النقد الجاهلي كان يجري في بلاط ملوك الحيرة وغسان حيث يلتقي الأمراء والأعيان بالشعراء فيستمع فيها الحضور إلى ما قال الشاعر في مدح الممدوح فيعقبه نقاش وأحكام حول المآخذ ،وما أورده الشاعر من معاني تليق بمقام الممدوح ، فهذه النماذج تعتبر أولى صورة من الصور النقدية التي وصلتنا من العصر الجاهلي،
بدأ لنقد الأدبي في أول أمره تأثريا انطباعيا: يحكم الناقد فيه باستحسان العمل الأدبي أو استقباحه دون أن يعلل ذلك، أو يفصح عن أسبابه، وإنما يستند في حكمه على ذوقه، ويستفتي انطباعه النفسي عن العمل، وقد بدا ذلك ذات مرة على شكل حوار جرى بين الناقد خلف الأحمر وبين قارئ عادي، قال الرجل لخلف: إذا سمعت أنا الشعر أستحسنه، فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك يعني النقاد، وعلماء الشعر ثم ارتقى النقد بارتقاء ثقافة الإنسان وخبراته وتعدد معارفه، فبدأ الناقد يعلل، ويلتمس الأصول الموضوعية لما يبدي من حكم، وتنوعت في ذلك المذاهب والاتجاهات وصارت لكل ناقد معايير ومقاييس مختلفة في الحكم، وتصدر عن أسس موضوعية وتحتكم إلى قواعد مقررة النقد الأدبي في العصر الجاهلي : يختلف عن غيره من العصور ويزعم بعض النقاد والمؤرخين أنّ العصور العربية الأولى تخلو من النقد ويقصدون به النقد المنهجي و أصلِ النقد مسألةٌ لا ينبغي الاختلاف فيها لوجود الأدب في مثل تلك المرتبة العلية من الإبداع وأنّ الإنسان بطبعه ناقد متطلبا الأجمل والأجود فالنقد النقد المنهجي العلمي الموضوعي حادثة لا توجد في تراث فكري قديم خصائص النقد والأدبي وسماته وميزاته: أوّلا: مستويات النقد في البيئة الجاهلية : يتجلى في مستويات ثلاث : المستوى الأوّل النقد الذاتي: وهو نقد الشاعر لنفسه وتهذيبه لقصيدته ليُرضي الجمهور يمثّل هذا النوع من النقد هو ما اصطلحوا عليه باسم المدرسة الأوسية أو عبيد الشعر وأشهر رواد هذه الطائفة من الشعراء زهير بن أبي سلمة ولذا سميت قصائده بالحوليات وكان الأعشى يجوب أحياء العرب وقبائلها ينشد الشعر مستعينا بآلة موسيقية تدعى الصَّنْج المستوى الثاني: النقد الخاص ... وهو النقد الذي نشأ بين طائفة خاصة من المجتمع العربي على رأسهم الشعراء أنفسهم وأبرز شاهد ها هنا النابغة الذبياني فقد كان شاعرا فحلا وناقدا فذّاً 3 المستوى الثالث النقد العام : وهو نقد جماهير العرب وعامتهم ثانيا مستويات النقد وميادينه في النصّ الأدبي الجاهلي : إنّ النقد الأدبي في العصر الجاهلي قد طال جميع مستويات النّص الأدبي وأوشك أن يتعرّض لجميع جزئياته وموضوعاته نرى النقادَ يتعرضون للّفظة وللمعنى المبتذل و يتعرضون لشكل النّص ولمضمونه ويتعرضون لصاحب النصّ ذاته نقد الألفاظ كنقد النابغة الذبياني لحسان بن ثابت رضي الله عنه حين استعمل لفظة الجمع البسيط دون منتهى الجموع أو جمع الجموع للدلالة على الكثرة فالعربي كان ينتقد النصّ الأدبي من جهة ألفاظه نقد المعاني : المقصود بالمعاني دلالات الألفاظ سواء على ما وضعت له أصالة الحقيقة أو نقلا المجازات نقد الشكل : المقصود بشكل النّص الأدبي ما يتعلق بصورته من حيث عمودية الشعر وأوزانه وقوافيه وتركيبة قصائده من جهة مقدماتها وأغراضها اهتمام نقاد العصر الجاهلي بشكل القصيدة من حيث الوزن والقافية والروي فلنتأمل في حكومة أمّ جندب المشهورة حيث تقول الرواية كما ذكرها ابن قتيبة في الشعر والشعراء النقد الجمالي الفنّي: ونقصد به نقد النصوص الأدبية في العصر الجاهلي من حيث أدائها لوظيفة جمالية سواء من جهةجاذبيتها وسحرها الذي قد يخفى سرّه وتجهل علله أو قد تعلم وتتعدد بين حلاوة الألفاظ وعذوبة المعاني وجرس الحروف 5 نقد الأديب: هو تناقض في بعض أقواله أو انتهج نهجا مخالفا للمروءة والشهامة والجود ثالثا : بعض المظاهر النقدية في الجاهلي : ظاهرة المفاضلة بين الشعراء وتقديم بعضهم على بعض : وأسباب هذه الظاهرة كثيرة جدّا لعلّ أهمّها العصبية والتنافس القبلي وكثرة الشعراء ووفرتهم في البيئة العربية الجاهلية ، وحبّه للتفاخر والتقدّم على غيره 2 ظاهرة التهذيب والتثقيف : وي نقد الشاعر لنفسه قبل أن ينتقده غيره واهتمامه به بالتصحيح والتعديل، ولعل أشهر من يمثّل هذا الاتجاه هو الشاعر الجاهلي الكبير زهير بن أبي سلمة ومن للقوافي شأنها من يحوكها إذا ما ثوى كعب وفوز جرول يقومـها حـتى تلـين متونها فيقـصر عنـها كلّ ما يتمثل ويقول راوية زهير وحامل منهجه التهذيبي الحطيئة في بيان صعوبة الشعر في حقّ من لا يحسن قرضه بالتثقيف والتهذيب الشعرُ صعبٌ وطويل سلّمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلّت به إلى الحضيض قدمه يريـد أن يعـربه فيعجمه وعملية التثقيف والتنقيح 3 ظاهرة الرواية : فرواية الشعر في العصر الجاهلي كانت هي الأداة الطيّعة لنشره وذيوعه ومن أشهر هؤلاء الرواة زهير بن أبي سلمة كان راوية لعمه أوس بن حجر وكان كعب بن زهير راوية لأبيه وقبلهم كان امرئ القيس راوية لخاله المهلهل الأعشى كان راوية لخاله المسيّب بن علس أبو ذؤيب الهذلي كان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي طرفة كان راوية لعمّه المرقش الأصغر وكان هو راوية لعمه المرقش الأكبر كما روى طرفة عن خاله المتلمِّس من بني يشكر حيث تربى طرفة دور الرواية كبير في النقد الأدبي: أ. تعليم صناعة الشعر وتحديد معالم الجودة والرداءة فيها فالشاعر المشهور يلزمه تلاميذ يروون عنه شعره وهم ليسوا دائما من قبيلته ولا من أسرته ب. الانتصار لشعرائهم على حساب غيرهم من الشعراء سواء ج. تصرف الرواة في قصائد وأشعار معلميهم بالتعديل والتهذيب د. الإنشاد المستمر والرواية الدائمة التي تفتح قريحة النقد ظاهرة المدارس الشعرية : ويقصد بها المدرسة الشعرية في العصر الجاهلي مجموعة من الشعراء يشتركون معا في بعض الميزات والخصائص الفنية أو اللغوية أو المنهجية التي تميّز شعرهم وأدبهم ومن أبرز هذه المدارس ؛ مدرسة عبيد الشعر وهم الذين يهتمون بتنقيح وتهذيب أشعارهم، ولابدّ أنّ خصائص كلّ مدرسة كانت تختلف عن خصائص المدرسة الأخرى ولا بدّ أنّ هذا الاختلاف كان معروفا معلوما عند النقاد وهذه المدارس ليست متعلقة بالرواية فقط ظاهرة المعلقات : تصور المختار للمثل الأعلى الذي يروقه كما أنّه يدل على تذوقه للصور الفنية الناضجة التي كانت عليها هذه القصائد مبنى ومعنى ظاهرة تسمية القصائد : المقصود بالتسمية ها هنا المبنية على أساس نقدي كالمعلقات السبع والسموط وصاحب الأغاني عن حماد الراوية ظاهرة تصنيف الشعراء : ذكرى الأصمعي أنّ العرب كانت تصنّف الشعراء بحسب قوة قريحتهم وتمكّنهم من ناصية الشعر فأوّلهم الفحل قال والفحولة هم الرواة ودون الفحل الخنذيذ الشاعر المفلّق ودون ذلك الشاعر فقط والرابع الشعرور ولذلك قال أحدهم في هجاء أحد الشعراء : يا رابع الشعراء فيم هجوتني وزعمت أني مفحم لا أنطق والمقصود بالرابع ها هنا أنّه شعرور في الطبقة الرابعة وقال الجاحظ في تصنيف آخر للشعراء : طبقات الشعراء ثلاثة شاعر وشويعر وشعرور قال العبدي : ألا تنهى سراة بني حميس شويعرها فويليّة الأفاعي قبيلة تردد حيث شاءت كزائدة النعامة في الكراع والشويعر أيضا صفوان بن عبد ياليل من بني سعد بن ليث ويقال أنّ اسمه ربيعة بن عثمان ... رابعا : خصائص النقد في العصر الجاهلي الذاتية : هو البعد عن الموضوعية وتأثر الناقد بعوامل خارجة عن النصّ الأدبي فقد اتّهمّ امرؤ القيس زوجته بعدم الموضوعية الجزئية : فقد كان النقد لا يتتبع النصّ الأدبي كلّه بل يبحث في البيت والبيتين أو على اللفظة واللفظتين عدم التعليل : أي أنّ الناقد الجاهلي كان يصدر أحكامه بالاستحسان أو الاستهجان دون أن يلزم نفسه بتعليل هذه الأحكام وبيان وجه استحسانه أو استهجانه للنّص الأدبي ...ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك حكومة ربيعة بن حِذار الأسدي تحكّم العرف : وهو ما وافق العرف فهو حسن وكلّ ما خالف هذا العرف والذوق العام فهو القبيح الروح الشعرية في النصوص النقدية : وهو أنّ الناقد الجاهلي كان يصدر أحكامه في قوالب فنّية بديعة وبأساليب بيانية راقية 7. النقد الفطري : يعتمد هذا النقد على ذوق الشاعر وعلى سلامة سليقته 8. تأثير العصبية القبلية : و أبرز ظاهرة اتّسم بها هذا العصر هي العصبية القبلية، وتفاخر وتنافر والنزعات العصبية والأهواء الشخصية 9. التعرض لأمور خارجة عن النّص خامسا : تقييم النقد في العصر الجاهلي : نقل بعض أحكام أهل العلم والاختصاص متعلقة بالنقد الأدبي في العصر الجاهلي إنّ دور النقد الأدبي وغايته مهما قيل فيها قديما وحديثا لا تخرج عن أربعة أمور هي : 1. دراسة النصّ الأدبي : من نواحيه الثلاث : الشكل ، المضمون ، وصاحبه 2. مساعدة القارئ على فهم النّص وتذوّقه 3. الحكم على النصوص الأدبية بالجودة والرداءة 4. توجيه الأدب وتطويره والخلاصة أنّ النقد الأدبي في العصر الجاهلي فإنّه نقد مناسب لبيئته متوافقا معها. الشاعرة الخنساء: الشاعرة الخنساء من أشهر شواعر العرب، ومن أرجحهن عقلا، كانت الخنساء من شواعر العرب المعترف لهم بالتقدم وهي تعد من الطبقة الثانية واجمع علماء الشعر أنه لم تكن امرأة قط قبل الخنساء ولا بعدها أشعر منها لقد امتدح شعرها النابغة الذبياني الناقد المشهور في الجاهلية، فقال لها: بعد أن استمع إلى قصيدتها الرائية في صخر – اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين، ولولا أن هذا الأعمى الأعشى أنشدني قبلك في عكاظ، لفضلتك على شعراء هذا الموسم؛ فإنك أشعر الجن والإنس. قيل لجرير: من أشعر الناس؟ قال: أنا لولا هذه الخبيثة، ويعني: الخنساء وقال عنها بشار بن برد: لم تقل امرأة قط الشعر إلا تبين الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال. وقال المبرد: كانت الخنساء وليلى الأخيلية بائنتين في أشعارهما، متقدمتين لأكثر الفحول، وقلما رأيت امرأة تتقدم في صناعة. بينما أبو زيد قال: ليلى أكثر تصرفا وأغزر بحرا، وأقوى لفظا، والخنساء أذهب عمودا في الرثاء، وكان الأصمعي يقدم ليلى عليها. المدرسة الشعرية في العصر الجاهلي: المقصود بالمدرسة الشعرية في العصر الجاهلي مجموعة من الشعراء يشتركون معا في بعض الميزات والخصائص الفنية أو اللغوية أو المنهجية التي تميّز شعرهم وأدبهم أبرز العصر الجاهلي: مدرسة عبيد الشعر وهم الذين يهتمون بتنقيح وتهذيب أشعارهم زعيم هذه المدرسة هو أوس بن حجر ، كما ذكر صاحب الأغاني وعنه أخذ زهير بن أبي سلمة وعنه ابنه كعب وراويته الحطيئة وعن الحطيئة هُدْبَة بن خشْرم العُذري وعن هدبة أخذ جميل صاحب بثينة وعن جميل أخذ كثيَّر صاحب عزَّة، شعراء القبيلة الواحدة يكونون مدرسة متميّزة لكثرة ما يأخذون عن بعضهم البعض ويتتلمذون على بعضهم البعض وشعراء القبيلة الواحدة كان يروي خلفهم شعر سلفهم ونصّ القدماء على ذلك في غير شاعر ومن يقرأ ديوان الهذليين يجد أواصر فنية قوية تجمعهم وتربط بينهم وعلى هذا القياس توجد وشائج واضحة بين شعراء قيس بن ثعلبة ولابد أن خصائص كلّ مدرسة كانت تختلف عن خصائص المدرسة الأخرى ولا بدّ أنّ هذا الاختلاف كان معروفا معلوما عند النقاد خاصتهم وعامتهم وعليه يتمّ التفاضل والتقديم والتمييز بين رديء الشعر وجيّده أبرز مظاهر النقد الجاهلي: ومن أبرز مظاهر النقد الجاهلي هو كان في سوق عكاظ المشهورة التي كانت سوقا تجارية وموعدا للخطباء والدعاة وكانت في آن واحد بيئة للنقد الأدبي يلتقي فيها الشعراء كل عام ليتنافسوا ويعرضوا ما جاءت به قرائحهم من أشعار، ومما ذيع في كتب الأدب أن الشاعر النابغة الذبياني كانت تضرب له قبة حمراء ، من جلد في ناحية من السوق فيأتيه الشعراء ، ليعرضوا عليه أشعارهم ومما يروى في ذلك أن الأعشى أنشد النابغة مرة شعرا ثم أنشده حسان بن ثابت ثم شعراء آخرون ثم أنشدته الخنساء قصيدتها في رثاء صخر أخيها التي قالت فيها : وان صخرا لتأتم الهداة به ..................كأنه علم في رأسه نار فقال النابغة: لولا أن أبا بصير يعني الأعشى انشدني من قبل لقلت أنك اشعر الأنس والجن وقد أعاب العرب كذلك على النابغة بعض الإقواء الذي لوحظ في شعره في قوله: امن آل مية رائح أو مغتدي ..................عجلان زار زاد ، وغير مزودِ. زعم البوارح أن رحلتنا غدا ..................وبذاك حدثنا الغداف الأسودُ. حيث اختلفت حركة الروي مما يؤدي إلى خلل موسيقي وقد فطن النابغة إلى ما وقع فيه ولم يعد إلى ذلك في شعره . وأورد حما د الراوية أن شعراء القبائل كانوا يعرضون شعرهم على قريش فما قبلته كان مقبولا وما ردته كان مردودا،وقد قدم عليهم مرة علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدة يقول فيها هل ما علمت وما استودعت مكتوم؟ فقالوا: هذا سمط الدهر أي رائع وسيبقى في ذاكرة التاريخ وقد سمع طرفة بن العبد المتلمس مرة ينشد بيته وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج عليه الصيعرية مكدم فقال طرفة :استنوق الجمل لان الصيعرية سمة في عنق الناقة لا في عنق البعير النقد الجاهلي: كان يعنى بملاحظة الصياغة أي الشكل وتارة أخرى بملاحظة المعاني من حيث الصحة والخطأ ومن حيث الانسجام المطابق للسليقة العربية فقد ذمً الإقواء في شعر النابغة لأنه اخل بالانسجام وسلامة الوزن وحسن الصياغة لان الشعر عند الجاهليين هو حسن الصياغة وحسن الفكرة والمعنى وهو نظم محكم ومعنى مقبول وإلا ما كان شعرا فالمعنى الذي أورده المتلمس في بيته الشعري إنما هو معنى فاسد مرفوض لأنه اسند صفة لغير ما تسند إليه فهذه القيم والمبادئ هي أهم المجالات التي جال فيها النقد في العصر الجاهلي التي تجنح إلى الحكم على الشعر من حيث المعنى تارة والمبنى تارة أخرى والتنويه بمكانة الشعراء وقدراتهم أما الذهاب إلى البحث مثلا في طريقة نظم الشاعر أو فحص مذهبه أو البحث في صلة شعره بالحياة الاجتماعية فذلك كان مازال غائبا لم يلتفت إليه الناقد إذ كان يأخذ الكلام منقطعا عن كل مؤثر اجتماعي خارجي وحتى عن بقية شعر الشاعر فهو نقد جزئي انطباعي أساسه السليقة والانطباع الذاتي أن للناقد الجاهلي قيم فنية يقرر الأحكام تارة في مجال الصياغة وتارة في مجال المعاني غير أن النقد الجاهلي على العموم إنما هو قائم أساسا على الإحساس بأثر الشعر في نفس الناقد والحكم دائما مرتبط بهذا الإحساس قوة وضعفا عماده الذوق والسليقة وليست هناك مقاييس تقاس بها الأحكام فما الذي فضل به النابغة الخنساء على الأعشى؟ وما الذي كان رائعا في بيته؟ فهي أحكام لاتقوم على تفسير أو تعليل ، وعلى قواعد محددة ، فالنابغة اعتمد في حكمه على ذوقه الأدبي دون ذكر الأسباب والعرب حين نفرت أسماعهم من الإقواء في شعر النابغة ، إنما فعلوا ذلك استجابة لسليقتهم ، ورفض طرفة للمعنى الذي جاء في بيت المتلمس نابع من الفطرة العربية التي تأبى وصف الشيء بغير وصفه أو ما فيه روي أن حسان بن ثابت سئل عن بيت القصيد في قصيدته يفتخر فيها فأجاب بأنه الذي يقول فيه لنا الحفنات الغر يلمعن بالضحى ..................وأسيافنا يقطرن من نجدة دما فأعاب عليه النابغة بأنه افتخر ولم يحسن الافتخار لأنه أورد كلمات غيرها اقرب وأوسع مفهوما فقد ترك الجفان والبيض والإشراف والجريان واستعمل الحفنات والغر واللمعان وهي دون سابقتها فخرا فالبيت فيه امتحان لقدرات الشاعر على أدراك اللفظة الصحيحة في مكانها الصحيح وتؤدي المعنى بشكل أقوى حيث علق النابغة على محتوى البيت مخاطبا حسانا : أقللت أسيافك وجعلت جفانك قلة ويعني بذلك أن على الشاعر أن يكون عليما باللغة ويحسن وضع المفردة لما تدل عليه والربط بين الدال والمدلول ، ومن الشواهد النقدية ما ورد في قصة أم جندب، حين تنازعا علقمة الفحل وامرؤ القيس وادعى كلاهما انه اشعر فاحتكما إليها فقالت لهما: قولا شعرا على روي واحد وقافية واحدة تصفان فيه الخيل ففعلا فانشد بها زوجها امرؤ القيس قائلا فللسوط ألهوب وللساق درة ..................وللزجر منه وقع احوج منعب وقال علقمة فأدركهن ثانيا من عنانــــــه ..................يمر كمر الرائح المتحلب فقضت أم جندب لعلقمة على امرئ القيس لان فرس امرئ القيس يبدو كيلا بليدا لم يدرك الطريدة إلا بالضرب والزجر والصياح خلاف فرس علقمة الذي انطلق بسرعة الريح ولم يحتج إلى الإثارة فهو ابرع وسرعته طبيعية أصيلة ويلاحظ أن أم جندب ، اعتمدت في حكمها على بعض القواعد وهي وحدة الروي والقافية ووحدة الغرض حتى تبدو بحق براعة كل شاعر في إطار الشروط المحددة ، ونستنتج من هذا أن النقد الجاهلي لم يكن يعتمد دائما على مجرد السليقة والفطرة بل كانت له أحيانا شبه أصول وقواعد يعتمد عليها مظاهر النقد الأدبي: في تاريخ الأدب العربي والفارسي وجدناها كثيرة منوّعة فنقد لفظي، واخر معنوي، وثالث موضوعي، ومن اللّفظي ما هو لغوي أو نحويّ أو عروضي أو بلاغي، ومن المعنوي ما يتصّل بابتكار المعاني أو تعميقها أو توليدها أو أخذها ثمّ ما يتصّل بالأخيلة وطرق تأليفها لتصوير العاطفة، ثمّ العاطفة الصّادقة والمصطنعة ومن الموضوعي ما وفي عصرنا الحديث نشهد درجتين للنّقد الأدبي أو نوعين من أنواعه: إحداهما الدّرجة السريعة وتتناول الآثار الأدبيّة، أو الفنيّة، التّي تقدم كلّ يوم إلي الصحف والمجلّات، وتعدّهذه الدّرجة نوعا من الإعلان أو الوصف يعتمد علي ملاحظات سريعة تعين القاري علي معرفة ما يصلح له من الكتب التيّ تصدرها المطبعة تباعا، ومع ذلك فيجب ألا يخلو هذا النقد من الجدّ وصحّة الحكم والإنصاف وترك المجاملة فعلي الناقد أوّلاً: ألا يهمل هذه الجزئيّات اللغوية والنحويّة التي تعين علي فهم عقل الأديب وتاريخ أفكاره أثناء كتابه أو مقاله أو قصيدته أو قصّته وما انتهت إليه من نتائج وآراء و مذاهب وذلك يقتضيه أولاً تفهم المعاني الحقيقة التيّ تدلّ عليها عبارات بعناصرها الأصلية. وثانيا: فهم المعاني المجازية أو التضمنيّة والإلتزامية والإشارة والتلميح. وثالثا: قيمة كلّ جملة في ايضاح المعاني، إذا كان بعض الجمل أساسيا يدلّ علي أصل المعني والبعض إيضاح أو تكرار وهذه الأخطاء علي جفائها تعدّ اساسا لازما للدّرجة السامية من درجات ظاهرة تصنيف الشعراء : ذكرى الأصمعي أنّ العرب كانت تصنّف الشعراء بحسب قوة قريحتهم وتمكّنهم من ناصية الشعر فأوّلهم الفحل قال والفحولة هم الرواة ودون الفحل الخنذيذ الشاعر المفلّق ودون ذلك الشاعر فقط والرابع الشعرور ولذلك قال أحدهم في هجاء أحد الشعراء : يا رابع الشعراء فيم هجوتني وزعمت أني مفحم لا أنطق والمقصود بالرابع ها هنا أنّه شعرور في الطبقة الرابعة وقال الجاحظ في تصنيف آخر للشعراء : وسمعت بعض العلماء يقول طبقات الشعراء ثلاثة شاعر وشويعر وشعرور والشويعر مثل محمد بن أبي حمران سماه بذلك امرؤ القيس ومنهم من بني ضبّة المفوّض شاعر بني حميس ...ولذلك قال العبدي : ألا تنهى سراة بني حميس شويعرها فويليّة الأفاعي قبيلة تردد حيث شاءت كزائدة النعامة في الكراع والشويعر أيضا صفوان بن عبد ياليل من بني سعد بن ليث ويقال أنّ اسمه ربيعة بن عثمان ... وقد تقدّم تصنيفهم إلى عبيد الشعر فئة الصنعة والتكلّف وفئة أصحاب الطبع والسجية وممّا ذكره الجاحظ في هذا التصنيف: ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتا وزمنا طويلا يردد فيها نظره ويقلب فيها رأيه إتهاما لعقله وتتبعا على نفسه فيجعل عقله ذماما على رأيه ورأيه عيارا على شعره إشفاقا على أدبه وإحرازا لما خوله الله من نعمته وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمنقحات والمحكمات ليصير قائلها فحلا خنذيذا وشاعرا مفلقا وروي عن الحطيئة قوله : خير الشعر الحولي المحكّك وكان الأصمعي يقول : زهير بن أبي سلمة والحطيئةوأشباههما عبيد الشعر وكذلك كلّ من يجوّد في جميع شعره ويقف عند كلّ بيت قاله وأهاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلّها مستوية في الجودة فتصنيف النقاد في العصر الجاهلي لفئات الشعراء والخطباء هو الذي كان يدفع بالشاعر لينقد غيره ، وهذا النوع من النوع من النقد المبكّر هو الذي قلنا عنه إنّه النقد الذاتي . أماّ التصنيفي فهو النقد الذي كان يواكبه ويحاذيه فيخشاه الشاعر أشدّ الخشية فيعمد على تجويد شعره حتى لا تصيبه سهام النّقاد التصنيفيين
والنقد الأدبي الحديث والمعاصر: يقوم على قواعد وأصول موضوعية، و تفاعل بين العمل الأدبي وشعور المتلقي، وهو ما يسمى بالذاتية أو الانطباعية ولا يعتمد على هذه الذاتية وحدها، ، بل يقوم إشراك الآخرين معه في الأسباب التي حملته على استحسان ما استحسن، أو استقباح ليرتقي الادب إلى أفق الموضوعية، واتجاهات النقاد في النقد يختلف في دراسة الأدب، و معايير الحكم على العمل الأدبي، لكن لا بد أن يستوفي حظاً من الإقناع ويكون له القدرة على تحلي العمل الأدبي ، وتقويمه يقول المحدثون في تعريف النقد: فهو عندهم التقدير الصّحيح لأيّ أثر فنّي وبيان قيمته في ذاته ودرجته بالنّسبة إلي سواه والنقد الأدبي يختصّ بالأدب وحدّه وإن كانت طبيعة النقد واحدة أو تكاد، سواء أكان موضوعه أدبا أم تصويرا أم موسيقي وقد يكون النقد في مجال الأدب، والسياسة، والسينما، والمسرح وفي مختلف المجالات الأخرى. مصدر النقد يرجع إلي ثلاثة:1 وهي فكرة الطبيعة 2 وفكرة آثار السلف 3 وفكرة العقل، ولابدّمن الرجوع إلي الثلاثة جميعا ودراسة آثار القدماء. موضوع الأدب هو الطبيعة والإنسان، وموضوع النقد الأدبي: هو الأدب نفسه مقاييس النقد الأدبي: يتناول النقد جميع مقوّمات العلميّة والفنيّة والاجتماعية والسياسيّة ليعين علي الترّقي، ويهدي الباحثين والعاملين إلي أهدي السبل 1- النقد السياسي: يستمد مقاييسه من أصول الحكم، والقوانين الدولية، والبراعة التّي تفيد الدّولة وتدعم سلطاتها داخليّا وبين الدّول جميعا. 2- النقد الاجتماعي: يعتمد علي تقاليد الأمّة، وما يسير عليها حياتها، ويحمي أفرادها وأسرها وأخلاقها من الفساد والتدهور، وعلي جميع ما يرضي الكافّة، ويجعل الأفراد مهذّبين صالحين لمسايرة التقدّم والنّجاح 3- النقد العلمي: المتّصل بالطبيعة والكيمياء والريّاضيّات ونحوها، وهو خاضع لهذه المناهج النظريّة والتطبيقية التّكنولوجيّة التّي وضعت لكلّ علم 4- النقد الفنّي: وهو كذلك خاضع لأصول عامّة تصلح للفنون الرفيعة كلّها من رسم وتصوير وادب وموسيقي ونحت ، وقوّة التأثير وجمال الخيال ومراعاة التناسب، الثاني: أنواع النقد الأدبي: اوّلاً: النقد التاريخي وهو شرح الصّلة بين الأدب والتاريخ فيشمل حوادث التاريخ السياسي والإجتماعي وسيلة تفسير الأديب وتعليل ظواهره وخواصّه. ثانيا: النقد الشخصي: وهو يتقدم لحياة الأدب وسيرته وسيلة لفهم آثاره وفنونه وخواصّه ثالثا: النقد الفنّي وهو فهم طبيعيّة الأدب وبيان عناصره، وأسباب جماله وقوته+ ورسم السبيل الصالحة للقراءة والإنشاء ومظاهر النقد الأدبي في تاريخ الأدب العربي والفارسي وجدناها كثيرة منوّعة فنقد لفظي، واخر معنوي، وثالث موضوعي، ومن اللّفظي ما هو لغوي أو نحويّ أو عروضي أو بلاغي الخ، و ما يتصّل بالأخيلة وطرق تأليفها لتصوير العاطفة، ثمّ العاطفة الصّادقة والمصطنعة ومن الموضوعي ما يليق بكلّ مقام من المقال أو الفنّ الأدبيّ الخاص حتيّ غلواو حاولوا أن يقصروا الشعر علي فنون دون النثر فعلي الناقد أوّلاً: الاعتناء بالجزئيّات اللغوية والنحويّة ونتائج الآراء و ويقتضيه أولاً تفهم المعاني الحقيقة التيّ تدلّ عليها العبارة كالمتبدأ أوالخبر والفعل والفاعل والحال والمفاعيل وبعض المتعلّقات. وثانيا: فهم المعاني المجازية كالإستعارة والكناية التي تكتفي بالإشارة والتلميح. يرى الباحث اهتمام الأديب بالاسلوب فالمعنى واللفظ اللذان هما عنصران من عناصر الاسلوب اختلف النقاد في موقفهم من الأدب وخصوصا ما تعلق بالمعنى واللفظ النقد الأدبي في العصر الجاهلي: في اصطلاح المؤرخين أو المفسرين يقصد به الفترة التي سبقت بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلّم دون تحديد لزمن معيّن فإنّه في اصطلاح الأدباء والنقاد لا يتجاوز المائة وخمسين أو المائتين سنة وأما الشعرُ فحديثُ الميلاد صغير السنِّ أوّلُ من نَهَجَ سبيلَه وسهَّل الطريقَ إليه : امرؤ القيس بن حُجْر ومُهَلْهِل بنُ ربيعة ويدلُّ على حداثةِ الشعر قولُ امرئ القيس بن حُجْر : إنَّ بني عوفٍ ابتَنَوا حسناً .................. ضيّعه الدُّخلُلُون إذ غَدَرُوا أدَّوا إلى جارهم خفارته .................. ولم يَضِعْ بالمَغيب مَنْ نَصَرُوا لا حِمْيَريٌّ وفى ولا عُدَسٌ .................. ولا است عَيرٍ يحكها الثَّفر فانظُرْ كم كان عمرُ زُرارةَ وكم كان بين موت زُرارة ومولدِ النبي عليه الصلاة والسلام فإذا استظهرنا الشعرَ وجدنا له إلى أن جاء اللّه بالإسلام خمسين ومائةَ عام وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام والجدير بالذكر تعود بداية النقد العربي إلى العصر الجاهلي وكان وراء ظهوره عدة عوامل أهمها: خروج العرب من جزيرتهم والاتصال بالبلدان الأخرى المجاورة كالشام والعراق وبلاد فارس بدافع التجارة أو الحروب يضاف إلى ذلك مظاهر التعصب القبلي الذي كان سائدا بين القبائل وقد كان لهذه العوامل أثرها في ظهور النقد الأدبي وازدهاره ورغم أن بدايته كانت ساذجة بسيطة
والنقد ظهر مع بداية الشعر وما وصل إلينا من شواهد نقدية لا يدل على البداية الأولى لهذا النشاط وما بين أيدينا من أحكام نقدية إنما تعود إلى أواخر العصر الجاهلي كذلك بعد أن خطـــــــــــــــــــا هو الآخر خطوات ومن مظاهره ما كان يجرى فيما يسمى بالأسواق» تارة التي يجتمع فيها الناس من قبائل عدة فيتذاكر الناس فيها الشعر ويلتقي فيها الشعراء ومن صور النقد الجاهلي ما كان يجري في بلاط ملوك الحيرة وغسان حيث يلتقي الأمراء والأعيان بالشعراء فيستمع فيها الحضور إلى ما قال الشاعر في مدح الممدوح فيعقبه نقاش وأحكام حول المآخذ ،وما أورده الشاعر من معاني تليق بمقام الممدوح النقد الأدبي في العصر الجاهلي : النقد الأدبي في عصر الجاهلية يختلف عن غيره من العصور من حيث إنّ أول مباحثه إنّما يتعرض لوجوده أصلاً ، إذ يزعم بعض النقاد والمؤرخين أنّ العصور العربية الأولى تخلو من النقد والمنصفون منهم إنّما يقصدون به النقد المنهجي بقوانينه التحليلية الموضوعية وقواعده التفكيكية العلمية . مستويات النقد في البيئة الجاهلية : إنّ التأمّل العميق و المتأنّي فيما ورد إلينا من نماذجَ للنقد في العصر الجاهلي على قلّتها ـ مقارنة بالأدب ـ يعطينا نظرة إجمالية وفكرة عامة على ما كان عليه النقد الأدبي يومها ... فهو ابتداء يتجلى ويظهر في مستويات ثلاث : 1 المستوى الأوّل النقد الذاتي : ويقصد به نقد الشاعر لنفسه وتهذيبه لقصيدته كيف لا والشاعر هو أكثر المحتفلين والمهتمين بتجويد شعره حتى يُرضي الجمهور المتلقي للشعر ويستقطب إليه أكبر قدر ممكن من الرواة والمعجبين ولعل أبرز نموذج يمثّل هذا النوع من النقد هو ما اصطلحوا عليه باسم المدرسة الأوسية، أو عبيد الشعر، وأشهر رواد هذه الطائفة من الشعراء زهير بن أبي سلمة الذي كان يستغرق في تهذيب شعره وإعادة النظر فيه سنة كاملة قبل أن يخرج على الناس بقصيدته كاملة مكتملة... ولهذا السبب سميت قصائده بالحوليات وكان الأعشى فيما يروى عنه يجوب أحياء العرب وقبائلها ينشد الشعر مستعينا بآلة موسيقية تدعى الصَّنْج وما يفعل ذلك إلاّ احتفالا بشعره ورغبة في جلب المثنين والمعجبين ولابدّ أنّه كان ـ من باب أولى ـ يصنع بشعره ويختار منه ويزيد وينقص فيه ما يحقق له هذا الهدف والمبتغى ... 2 المستوى الثاني النقد الخاص: وهو النقد الذي نشأ بين طائفة خاصة من المجتمع العربي على رأسهم الشعراء أنفسهم ،ولد النقد الأدبي مع مولد الشعر ونشأ معه وهذا أمر طبيعي فإنّ الشاعر ناقد بطبعه ، يفكر ويقدر ويختار ولهذا كان أقدر من غيره على فهم الصنعة الشعرية وعلى إدراك أسرار القبح أو الجمال وأبرز شاهد ها هنا النابغة الذبياني فقد كان شاعرا فحلا وناقدا فذّاً ومثله جلّ الشعراء فمعرفتهم للشعر من جهة وتنافسهم فيما بينهم من جهة أخرى يدفعهم إلى إصدار أحكاما نقدية من شأنها أو توجّه الشعر وتهذّبه ... فممّا يروى عن نابغة بني ذبيان أنّه كانت تضرب له خيمة من أدم حمراء في سوق عكاظ يجتمع إليه فيها شعراء العرب يعرضون عليه شعرهم وممّن عرض عليه شعره فأشاد به وأثنى عليه الأعشى ثمّ دخلت عليه الخنساء فأنشدته : قذى بعينك أو بالعين عوارُ ..... إلى أن قالت: وإنّ صخرا لتأتم الهداة به كأنّه علم في رأسه نارُ وإنّ صخرا لمولانا وسيّدنا وإنّ صخرا إذا نشتو لنحار فقال لولا أنّ أبا بصير أنشدني قبلك لقلت : إنّك أشعر الناس أنتِ والله أشعر من كلّ ذي مثانة ، قالت : والله ومن كلّ ذي خصيتيين . فقال حسان : أنا والله أشعر منكَ ومنها . قال : حيث تقول ما ذا؟ قال: لنا الجفنات الغرُّ يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وَلدْنا بني العنقاء وابنيّ محرّقٍ فأكرم بنا خالاَ وأكرم بنا إبنما فقال : إنّك لشاعر لولا أنّك قلّلت عدد جفانك وفخرت بمن ولدتّ ولم تفخر بمن ولدك ، وفي رواية أخرى: فقال له : إنّك قلت الجفنات فقلّلت العدد ولو قلت الجفان لكان أكثر وقلت يلمعن في الضحى ولو قلت يبرقن في الدجى لكان أبلغ في المديح لأنّ الضيف بالليل أكثر طروقا . وقلت يقطرن من نجدة دما فدللت على قلّة القتل ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم وفخرتَ بمن ولدتَ ولم تفخر بمن ولدكَ . فقام حسان منكسراً ، اهـ شاهد آخر للنقد الخاص بين الشعراء ما يروى من تحاكم علقمة بن عبدة التميمي والزربقان بن بدر وعمرو بن الأهتم والمخبل السعدي إلى ربيعة بن حذار الأسدي فقال لهم: أما أنت يا زبرقان فإنّ شعرك كلحم لم ينضج فيؤكل ولا ترك نيّئا فينتفع به . وأما أنت ياعمرو فإنّ شعرك كبرد حبرة يتلألأ في البصر فكلّما أعدته فيه نقص ، وأما أنت يا مخبّل فإنّك قصرت عن الجاهلية ، وأما أنت يا علقمة فإنّ شعرك كمزداة قد أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء . فهذه النماذج تمثل ظاهرة التنافس بين الشعراء والانتقادات التي كانوا يوجهونها لبعضهم البعض سواء من خلال التحاكم كما هو ظاهر ها هنا أو من خلال التنافس المطلق التي تقتضيه طبيعة البشر وحبهم للتقدّم والتكاثر في كلّ شيء المستوى الثالث النقد العام : والمقصود به نقد جماهير العرب وعامتهم. فالمعروف عن العرب أنّهم أهل البلاغة والفصاحة والبيان كانوا يتذوقون الأدب بفطرتهم وسجيتهم وكانوا ولوعين شغوفين بالشعر خاصة ومن شأن هذا الذوق أن يقيّد الشعراء والأدباء فينشدوا فيه وفق ما تحبه وتطلبه الجماهير وهذا ما يدفعهم لتهذيب شعرهم بما يساير هذا الذوق العام خصائص اللفظ: نجد العرب يتطلبون فيه الجزالة، والاستقامة، والمشاكلة للمعنى، وشدَّة اقتضائه للقافية، وما تطلَّبوه في مفهوم المعنى الجزئي هو شرف المعنى وصحته، والإصابة في الوصف، وأما ما يخصّ تصوير المعاني الجزئية في البنية العامة للقصيدة فهو المقاربة في التشبيه، ومناسبة المستعار منه، للمستعار له، ثم التحام أجزاء النظم والتئامها 1. وعلى ذلك نلاحظ أن جزالة اللفظ تتوافر له إذا لم يكن غريبًا، ولا سوقيًّا مبتذلًا2، ومعياره أن يكون بحيث تعرفه العامة إذا سمعته ولا تستعمله في محاربتها3 والأمثلة كثيرة نقتصر منها على قول الحطيئة: يرسون أحلامًا بعيدًا أناتها ... وإن غضيوا جاءوا الحفيظة والجد أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدّ المكان الذي سدُّوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدُّوا وبهذه القاعدة عابوا كثيرًا من شعر المحدثين، وفي هذه القاعدة تكتسب الألفاظ نبلًا يشبه النبل الطبقي، وفيها إغفال لموقع اللفظ من الجملة مما انتبه إليه - أمثال عبد القاهر على أن استقراء الشعر العربي استقراءً سليمًا يكذب هذه القاعدة. واستقامة اللفظ تكون من ناحية الجرس حيث يكون اللفظ مستقيمًا بسلامته من تنافر الحروف، وذلك مقياس نسبي، يجب أن يُراعى في اللهجات والأذواق المختلفة، على أن الخطأ هنا أن اللفظة الثقيلة قد تصلح في موضعها إذا أوحت بمعناها المراد في ذلك الموضع. ومن ناحية الدلالة يكون اللفظ مستقيمًا إذا لم يجاف الشاعر في استعمال أصله ووضعه اللغوي، ولهذا السبب عابوا أقوال البحتري: تشق عليه الريح كل عشية ... جيوب الغمام بين بكر وأيم فالأيم التي لا زوج لها سواء سبق لها الزواج أم لا فالمقابلة بينها وبين البكر غير مستقيمة، وهذه قاعدة مستقيمة لا غبار عليها. وكذلك يكون اللفظ مستقيمًا إذا تجانس بين قرائنه من الألفاظ، لذا أخذوا على مسلم بن الوليد قوله: فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة ... يثني عليها السهل والأوعار فكان الأولى أن يقول السهل والوعر، أو السهول والأوعار، ليكون البناء اللفظي واحدًا بالتثنية أو الجمع، على أن مجال التأويل هنا واسع فالسهل في مستوى واحد، على حين الأوعار مختلفة، ثم إن إطلاق القول بذلك يكذبه الاستقراء الصحيح للشعر العربي القديم، والنثر كذلك. استأثر الله بالوفاء وبالعدل ... وولى العلامة الرجلا لأن الملامه تتجه للإنسان أمرأة كان أم رجلًا، ولا تخصّ الرجل وحده، ويتبع الاعتبار الأخير أن تقع الكلمة موقعها في القافية، كأنها الشيء الموعود المنتظر، وبهذا يمدح بيتًا للحطيئة: هم الذين إذا ألَّمت ... من الأيام مظلمة أضاءوا فالإضاءة تتطلب ظلام الأيام، وما استجد فيها من أحداث مدلهمة1، وكذلك يحمدون في المعنى أن يكون شريفًا. نقد المعاني : المقصود بالمعاني دلالات الألفاظ سواء على ما وضعت له أصالة الحقيقة أو نقلا المجازات ولكي تكون سليمة في حسّ الناقد العربي البسيط ينبغي أن تكون المعاني مطابقة لذاته لأحاسيسه ، معبرة عن قيمه ومثله ، عاكسة لواقعه وبيئته وللطّبيعة من حوله ...فإن كانت كذلك فهي جميلة مستحسنة في ذوقه وأحكامه وإن خالفت معهوده فهي مستهجنة قبيحة يسارع إلى انتقادها بأسلوبه البسيط المتماشي مع طبيعة بيئته ... ومن أمثلة هذا النوع من النقد انتقاد العرب للمهلل بن ربيعة في بيته الذي نعتوه بأكذب بيت قالته العرب حيث يقول : فلولا الريح أسمع أهل حجر صليل البيض تقرع بالذكور لأنّه من أهل الشام كان منزله على شاطئ الفرات فكيف يسمع قبيلة حجر وهي في اليمامة وبينهما مسافات طوال ... فالنقد هنا بسبب مبالغته في المعنى مبالغة خالفت معهود العرب وإلاّ فإنّ أصل المبالغة كانت مطلوبة ومقصودة في شعر العرب وخاصة في مجال المدح والفخر ولهذا نرى النابغة في نموذجنا الثاني كيف ينتقد حسان بن ثابت رضي الله عنه لأنّه لم يبالغ في معان يقتضي المقام المبالغة فيه فالجفان أبلغ من الجفنات ويجرين دما أبلغ من يقطرن هذا من حيث قصد المبالغة وكذلك انتقده من جهة مخالفة معهود العرب وعرفهم فالعادة جرت عندهم على الافتخار بالآباء لا بالأبناء فكان الأولى أن يقول أكرم بنا أبا لا أكرم بنا ابنما ...والضيوف إنّما يطرقن الديار في الليل لا في الضحى فكان ينبغي له أن يقول يبرقن بالدجى بدل يلمعن في الضحى... ولعل شاهد النابغة هذا قد جمع بين النقد اللفظي والمعنوي كما قال الأستاذ شوقي ضيف : وهو نقد سديد ، إذ يتناول فيه النابغة مسألتين : إحداهما لفظية والأخرى معنوية ، أما اللفظية فإنّ حسانا لم يجمع الجفنات جمعا يدلّ على الكثرة ، والعرب تستحب المبالغة في مثل هذا الموقف حين يفخر الشاعر بالكرم والشجاعة في قبيلته ، أما المسألة المعنوية ففخره بمن ولدته نساؤهم والعرب لا تفخر بالأبناء وإنما تفخر بالآباء خصائص المعنى: وهي أن يقصد الشاعر فيه إلى الإغراب، واختيار الصفات المثلى إذا وصف أو مدح، لا يبالي في ذلك بالواقع، فإذا وصف فرسًا يجب أن يكون الفرس كريمًا، وإذا تغزَّل ذكر من أحوال محبوبه ما يمتدحه ذو الوجه، الذي برح له الحبّ. وإذا مدح فعليه أن يذكر ما يدلُّ على شرف المقام إبداعًا وإغرابًا لا مراعاة لصدق ولصفات ممدوحه كما يراه وعلى ذلك فنجد العلماء والنقاد يعنون بصحة المعنى، وألا يقع فيه خطأ تاريخي كقول زهير: فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم تنتج فتتئم أو خطأ على حساب العرف السائد ولذلك يعيب الآمدي على البحتري قوله: نصرت لها الشوق اللجوج بأدمع ... تلاحقن في أعقاب وصف تصرما وذلك لآن الآمدي يرى أن الشوق يشقيه البكاء، ولا يزيد منه، أو مخالفة العرب المعنوي. كقول أبي تمام: إذا ما رحى دارتْ أدرتْ سماحة ... رحى كل إنجاز على كل موعد إذ جعل إنجاز الوعد بمثابة صحَّته بالرحى، وهو قضاء عليه، وذلك في العرف اللغوي لا يرون إلا خلاف. والإصابة في الوصف يذكر المعاني العامة، التي هي ألصق بمثال الموصوف من حيث هو مثال، فيتجنَّب المجهول والخاص من المعاني والصفات، فزهير مثلًا كأن مصيبًا، لا لأنه مدح عرم بن سنان بصفاته الخاصة، بل لأنه مدحه بالصفات العامة للرجل الكريم من حيث إنه مثال كريم، ولذلك يروون من عمر -رضي الله عنه- أنه قال -رضي الله عنه- كان لا يمدح الرجل إلا ما كان في الرجال. والأمور الخاصة بتصوير المعاني الجزئية، منها المقارنة في التشبيه وأصدقه ما لا ينتقض عند العكس. كتشبيه الورد بالخد، والخد بالورد، وأحسنه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في ال صفات أكثر من انفرادهما، كي يبين وجه التشبيه بلا كلفة، لأنه حينئذ يدل على نفسه ويحميه من الغموض والالتباس2. ثم مناسبة المستعار منه للمستعار له على حسب عرف اللغة في مجازها ولذلك عيب على أبي نواس قوله: بح صوت المال معا ... منه يشكو ويبوح يريد أن المال يتظلم من إهانته وتمزيقه بالإعطاء لكرم صاحبه. والاستعارة قبيحة لأنه لا صلة بين المال والإنسان. ولقد فطن نقاد العرب في موازنتهم بين الشعراء، وفي الخصومة بين المحدثين والقدماء إلى أثر البيئة الطبيعية والثقافية. وأرجعوا إليها الاختلاف بين جزالة أدب البدو والأعراب، ورقة أهل الحضر، وسهولة ألفاظها ومعانيها، وبخاصة بعد الإسلام حين اتسعت ممالك العرب، وكثرت الحواضر، ونزحت البوادي إلى القرى، ونشأ التأدّب والتظرف فاختار الناس من الكلام ألينه وأسهله 2. ونلاحظ أن أول من نبَّه إلى أثر البيئة في الشعر هو ابن سلام الجمحي في طبقاته، فقد علَّل لين الشعر عند عدي بن زيد، بأنه كان يسكن الحيرة ومراكز الريف وفي قلَّة الشعر في الطائف ومكة لقلة الحروب؛ لأن الشعر إنما يكثر بالحروب كحرب الأوس والخزرج. ولذا قلَّ الشعر بين قريش إذ لم يكن بينهم ثأرة ولم يحاربوا2. ومبدأ تأثير البيئة في ذاته صحيح، ولكن ابن سلام لم يستطع أن يفيد منه كمبدأ من مبادئ النقد الأدبي، وأن يكن قد حاول به أن يعلل تعليلًا موضوعيًّا للظواهر الأدبية. وبعد هذه الاتجاهات النظرية العامة علينا أن نفضّل القول في مختلف الاتجاهات في النقد العربي مع تقويمها تقويمًا حديثًا. ويمكن تقسيمها إلى اتجاهين كبيرين: ما يخصُّ وحدة العمل الأدبي من حيث أجناس الأدب من شعر ونثر، ثم من حيث ترتيب أجزاء القول والأهداف الإنسانية للأدب. والاتجاه الكبير الآن الذي يتحدث النقاد فيه عن القيم الجمالية للوحدة البلاغية وأزمة التجديد فيها. ثم فيما سموه اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون.
3. نقد الشكل : المقصود بشكل النّص الأدبي ما يتعلق بصورته من حيث عمودية الشعر وأوزانه وقوافيه وتركيبة قصائده من جهة مقدماتها وأغراضها ونحو ذلك ...فمن النماذج والشواهد على اشتغال النقد الجاهلي وتعرّضه لشكل المنتوج الأدبي ما يروى عن النابغة الذبياني أنّه كان يّقوي في شعره ولا يتفطّن لذلك كقوله : أمن آل مية رائح أو مغتدي عجلان ذا زاد وغير مزود زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا وبذلك خبّرنا الغرابُ الأسودُ فلمّا قدم على أهل المدينة أرادوا أن يشعروه بلحنه فعمدوا إلى جارية وطلبوا منها ترتيل هذه الأبيات أي إنشادها في استمرارية وتتابع فأحسّ النابغة بنشاز في أبياته وتفطّن لإقوائه فأصلحه بقوله : وبذلك تنعابُ الغرابِ الأسودِ ولهذا السبب كان النابغة يقول : قدمت الحجاز و في شعري صنعة ورحلتُ عنها وأنا أشعر النّاس ومثله إقواء بشر بن أبي خازم ، يقول أبو عمرو بن العلاء : فحلان من الشعراء كان يقويان النابغة الذبياني وبشر بن أبي خازم فأمّا النابغة فدخل يثرب فغنى بشعره فلم يعد إلى إقواء ، وأما بشر بن أبي خازم فقال له أخوه سوادة : إنّك تقوي قال وما الإقواء ؟ قال قولك : ألم تر أنّ طول الدهر يسلي وينسي مثل ما نسيت جزامُ ثمّ قلت : وكانوا قومنا فبغوا علينا فسقناهم إلى البلد الشامِي فقال : تبيّنتُ خطئي ولستُ بعائد . اهـ ولو أردنا شاهدا قويا على اهتمام نقاد العصر الجاهلي بشكل القصيدة من حيث الوزن والقافية والروي فلنتأمل في حكومة أمّ جندب المشهورة حيث تقول الرواية كما ذكرها ابن قتيبة في الشعر والشعراء، أنّها طلبت من الشاعرين المتنافسين والمتبارزين امرئ القيس وعلقمة الفحل أن يقولا قصيدتين في موضوع واحد على رويّ واحد وقافية واحدة ... وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الشكل كان له دور في المفاضلة بين الشعراء وفي نقد أشعارهم ... 4 النقد الجمالي الفنّي: ونقصد به نقد النصوص الأدبية في العصر الجاهلي من حيث أدائها لوظيفة جمالية سواء من جهةجاذبيتها وسحرها الذي قد يخفى سرّه وتجهل علله أو قد تعلم وتتعدد بين حلاوة الألفاظ وعذوبة المعاني وجرس الحروف وبديع التركيب وحسن التشبيه وغير ذلك... ومن نماذج وشواهد هذا النوع من النقد ما أورده المرزباني بسنده قائلا: تحاكم الزربقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وعبدة بن الطبيب والمخبّل السعدي إلر ربيعة بن حذار الأسدي في الشعر ، أيّهم أشعر؟ فقال للزربقان: أما أنت فشعرك كلحم أسخن وضع على النار مدّة غير كافية فلم يتم نضجه لا هو أنضج فأكل ولا ترك نيّئا فينتفع به ، وأما أنت ياعمرو فإنّ شعرك كبرود الثياب المخططةحبر هي الثياب الموشاةيتلألأ فيها البصر فكلما أعيد فيها النظر نقص البصر ، وأما أنت يا مخبّل فإنّ شعرك قصر عن شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم وأما أنت يا عبدة فإنّ شعرك كمزادة ما يوضع فيه الماء أحكم خرزها فليس تقطر ولا تمطر. وممّا قاله الدكتور مصطفى عبد الرحمن معلقا على هذا الشاهد بعد مت حكم عيه أنّه من النماذج التي تنظر إلى جودة الشعر من حيث أداء وظيفته الجمالية مايلي: وخلاصة هذه التشبيهات أنّ شعر الزبرقان كلام في صورة الشعر لم يبلغ درجة النضج ، بل هو فاسد لا غناء فيه ، لأنّه فقد الجزالة ، وحرارة العاطفة التي تجعل له طعما ممتازا . وشعر عمرو بن الأهتم يبهر العين فتعجب به لأوّل نظرة لأنّ الفاظه براقة وأساليبه خلابة فإذا فتّش الناظر في حقيقته واستكنه معانيه لم يجد شيئا . وشعر المخبل السعدي شعر متوسط لا ينهض بصاحبه حتى يرقى إلى مرتبة الفحول ولا ينحطّ إلى درجة كلام المتشاعرين . وفي شعر عبدة بن الطيب جزالة وإحكام قوة أسر لا يرى الناظر فيه ضعفا ولا يلمح في أساليبه أو معانيه وهنا فهو أشعر الأربعة . ثمّ يقول معلقا على هذه الأحكام : ،وهذه الأحكام من ربيعة بعيدة عن التفصيل وعن الوضوح وعن الدقة وعن الاستشهاد وعن الدليل لأنّها أوصاف عامة لكنّها تنم عن ذوق يحاول التمييز بين الجيّد والرديء وتدل على محاولة تقويم الشعر تقويما يعتمد على الانطباع العام والبادرة السريعة والخاطرة الفجة التي يمليها ذوق من عاش في هذه البيئة التي تعيش الفطرة وتغيب عنها الدقة وتفتقد إلى التعليل المريح ولا تعرف من المعايير النقدية شيئا إلاّ الذوق الذي يحس الجمال دون أن يعرف سببه .» اهـ مفهوم الصورة في العصرين الجاهلي والإسلامي: من الصعب قبل عصر التدوين أن نقف بدقة على مدى الفهم للصورة الأدبية في العصر الجاهلي وفي بداية عصر الإسلام، لأن تعليقاتهم الموجزة على الشركات في الغالب غير مدونة، ولو انتهى إلينا خبر عن بعض النقاد في العصر الجاهلي يبين مدى اهتمامه بالصياغة والصورة فقد يتسرب الشك فيه وفي نقله، كما حدث فيما ورد عن النابغة الناقد في سوق عكاظ تحت القبة الحمراء، ليصدر حكمه في شعر وقع لمشاهير ثلاثة الأعشى والخنساء وحسان، قد فاضل بينهم على الترتيب السابق، فسأله حسان عن سرّ تفوق الخنساء عليه، وهي في نفس الوقت دون الأعشى في الحكم، فقال النابغة لحسان: قلت: الجفنات، وهي جمع قلة لو قلت: الجفان، لكان أفضل، وقلت: يلمعن، واللمعان يختفي ويظهر، ولو قلت يشرفنَ لكان أفضل وقلت بالضحى، وكل شيء يلمع في الضحى، ولو قلت بالدجى لكان أفضل، وقلت يقطرن، ولو قلت يجرين، لكان أفضل. كان مثل هذا يحدث من نوابغ الشعراء النقاد كالنابغة، حين أظهر اهتمامه بالصياغة، واختيار الصورة المناسبة للمعنى الذي عبر عنه حسان، ووضح في المحاورة النقدية التي تمت بينهما ما هبط فيه شعر حسان، وكشف النابغة عن أسرار الضعف في اختيار الألفاظ غير الملائمة للمعنى، مما أدَّى إلى نزول شعره إلى المرتبة الثالثة. ويزيد من اهتمام النقاد في العصر الجاهلي بالصورة وللصباغة، ما اتجه إليه بعضهم من الصناعة الشعرية، كزهير بن أبي سلمى، زعيم مدرسة الصنعة في الشعر آنذاك- ومعلوم إذا أطلق لفظ الصناعة في الكلام، إنما يتجه إلى الصياغة والتصوير، لأن زهيرًا ومن اعتنق مدرسته كانوا يعكفون على القصيدة حولًا كاملًا- حتى سميت القصائد بالحوليات فيتميز اللفظ ويوضع مكانه لفظ آخر، أو يعدل الأسول، أو تضاف استعارة، أو يحذف تشبيهه ويستبدل بآخر، وهكذا، ومثل هذا الصنيع، يجعلنا تحكم على المدرسة بأنها تهتم بالصياغة والصورة، ليشرف المعنى ويقول الجاحظ: ومن شعراء العرب، من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كريتًا، وزمنًا طويلًا، يردَّد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رآيه اتهامًا لعقله وتتبعًا على نفسه فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عبارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها حذيذا وشاعرًا مفلقًا البيان والتبيين: الجاحظ جـ 2 ص 9. د. محمد عبد المنعم خفاجي 1958. لذا يقول الدكتور خفاجي: وكان ارتباط الشعر الجاهلي، بالغناء ورغبة بعض الشعراء في التجويد والتجديد في المعاني من أسباب نشأة هذه المذهب الفني الحياة الأدبية في العصر الجاهلي ص 250. وقال أيضًا: كان زهير بن أبي سلمى يسمى كبار قصائده بالحوليات، ولذا قال الحطيئة خير الشعر الحولي المحكك، وقال الأصمعى: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جود في جميع شعره، ووقف عدد كل بيت قاله وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجردة الحياة الأدبية في العصر الجاهلي ص 250. و من نوابغ الشعراء النقاد كالنابغة، حين أظهر اهتمامه بالصياغة، واختيار الصورة المناسبة للمعنى الذي عبر عنه حسان، ووضح في المحاورة النقدية التي تمت بينهما ما هبط فيه شعر حسان، وكشف النابغة عن أسرار الضعف في اختيار الألفاظ غير الملائمة للمعنى، مما أدَّى إلى نزول شعره إلى المرتبة الثالثة. ويزيد من اهتمام النقاد في العصر الجاهلي بالصورة وللصباغة، ما اتجه إليه بعضهم من الصناعة الشعرية، كزهير بن أبي سلمى، زعيم مدرسة الصنعة في الشعر إذا أطلق لفظ الصناعة في الكلام، إنما يتجه إلى الصياغة والتصوير، لأن زهيرًا ومن اعتنق مدرسته كانوا يعكفون على القصيدة حولًا كاملًا- حتى سميت القصائد بالحوليات فيتميز اللفظ ويوضع مكانه لفظ آخر، أو يعدل الأسول، أو تضاف استعارة، أو يحذف تشبيهه ويستبدل بآخر، وهكذا، ومثل هذا الصنيع، يجعلنا تحكم على المدرسة بأنها تهتم بالصياغة والصورة، ليشرف المعنى ويقول الجاحظ: ومن شعراء العرب، من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كريتًا، وزمنًا طويلًا، يردَّد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رآيه اتهامًا لعقله وتتبعًا على نفسه فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عبارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها حذيذا وشاعرًا مفلقًا البيان والتبيين: الجاحظ جـ 2 ص 9. د. محمد عبد المنعم خفاجي 1958. لذا يقول الدكتور خفاجي: وكان ارتباط الشعر الجاهلي، بالغناء ورغبة بعض الشعراء في التجويد والتجديد في المعاني من أسباب نشأة هذه المذهب الفني3. وقال أيضًا: كان زهير بن أبي سلمى يسمى كبار قصائده بالحوليات، ولذا قال الحطيئة خير الشعر الحولي المحكك، وقال الأصمعى: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جود في جميع شعره، ووقف عدد كل بيت قاله وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجردة لهذا كله كان النقاد في العصر الجاهلي، يحكمون على الشعراء بمقدار جودتهم في الصياغة، ويصفونهم حسب أسلوبهم وتصويرهم، فيقولون: إن ربيعة بن عيد كان يسمى المهلهل، لأنه أول من هلهل الشعر وأرقه1، وكذلك المرقش لتحسينه شعره وتنميقه3، وكذلك قالوا: الأفوه، والمثقب، والمنخل، وسموا القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات 3. وبدل هذا على اهتمام مدرسة الصنعة بالأسلوب والصياغة، وعنهما كانت الصورة الأدبية بعد ذلك وهكذا استمر مذهب التثقيف وطول التهذيب مذهبًا فيما يسير عليه بعض الشعراء حتى بعد العصر الجاهلي وكان أساسًا لمذهب البديع الذي نشأ على يد مسلم وأبي تمام من المحدثين 4. وقد غالى من رمي الشعر الجاهلي كله ونقده بالشك وعدم صحة الإخبار عنه5 ولست معهم في هذا الشك المطلق، ما دام هناك في الأدب العربي صناعة شعرية، وللصناعة في أي فنّ، مادة وشكل، ومعنى وصورة. لذلك تجد ذا الرمة الشاعر الإسلامي، يعجب بالصورة والشكل في أبيات للكميت ولم يصرح بهذا اللفظ، وإن ذكر خاصة تتصل بالصورة لا المعنى قال: أحسنت ترقيص هذه القوافي 6. كما تعجب الكميت من تصوير ذي الرمة حينما أنشد قوله: دعاني ما دعاني الهوى من بلادها ... إذا ما نأت خرقاء عنى بغافل فقال الكميت: لله بلاء هذا الغلام، ما أحسن قوله وأجود وصفه يقول: الأستاذ الدكتور خفاجي: وهذا يدل على إنصاف الكميت في النقد وتمييز الجيد من الرديء في الشعر بشر بن المعتمر والصورة الأدبية: أول من تنبَّه من النقاد العرب القدامى إلى النظم، وهو بشر بن المعتمر في صحيفته المشهورة، فهو لا يرتفع باللفظ وحدّه، ولا بالمعنى وحدّه، ولكن بقصدهما معًا وفي نفس واحد، ولا يفصل أحدهما عن الآخر، ويشيد بهما معًا ممهدًا لنظرية النظم يقول: إياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك ممانيك ويشين ألفاظك. فالتعقيد من سمات اللفظ والمعنى معًا وهو يفسد الصورة ويخل التعبير ويفقد روح التأثير فيها، ويقول بعد ذلك: ومن أراد معنى كريمًا فيلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حتهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما. موطن الجمال عنده في العمل الأدبي، يرجع إلى ارتباط اللفظ بالمعنى، فلا بد للمعنى الشريف من لفظ شريف، ويريد بذلك أن يفصح عن العلاقة بينهما، فليس في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده، ولكن في العلاقة بينهما، وهي محلّ الصورة الأدبية التي توضح المعنى، وتسمو بالصياغة والتعبير، وليسمها بشر علاقة، أو اهتمام باللفظ والمعنى كما يشاء، لمناسبة التسمية مع ذوق أدباء عصره، ونشأة النقد الأدبي قبل أن يعرف المصطلحات الأدبية. يقول أبو سهل بشر بن المعتمر في مناسبة اللفظ للمعنى والتلاؤم بينهما فالشعر عند أبي سهل ليس ميسورًا وصياغته ليست سهلة، والتصوير لمعنى وفي غير هذا الوقت الذي تتوهَّج فيه العاطفة، يعاود الأديب ويطاول سليقته، ويتكلَّف ويجاهد نفسه وجسمه، حتى يحقّق نظمًا وصياغة، لا يخلو من كلفة ونثور عاطفة. التصوير هو التأثير في النفس بحيث يسيطر على العقل والمشاعر، وهذا التأثير للصورة لا يتمّ ولا يقوى إلا إذا اتفقت مع الحالة التي تعبر عنها، في المقام الذي يبرزه الشاعر للصور مثل قول ابن الرومي في النقيل البارد: يا أبا القاسم الذي ليس يدري ... أرصاص كيانه أم خلايد أنت عندي كما يثرك في الصيف ... ثقيل بعلوّه برد شديد وأجزاء الصورة هنا تبرز معالم الثقل في شخص أبي القاسم، فهو ثقيل النفس عديم الحركة ناقد الإنسانية، ميت الشعور، بارد العاطفة، كالرصاص أو الحديد اللذين لا ينتفع الناس بكل منهما، إلا إذا انصهرا في الغار واتخذا أشكالًا وجسومًا تصلح للاستعمال والانتفاع. فأبو القاسم بارد كهذين المعدنيين، اللذين يظهر فيهما تأثير البرودة واضحًا وبسرعة، فهما جيدا التوصيل، كما يقول علماء الطبيعة حديثا، بخلاف الخشب فهو رديء التوصيل ولكي يبلغ ابن الرومي الغاية في الصورة، ويمنحها القدرة على التأثير، أضاف إلى البرودة السابقة برودة أشدّ وأقوى، وهي برودة الماء التي ترتفع فيه الدرجة ليغلانه وليونقه، ثم يرتفع بها إلى معدن غير عادي، وهو ما بعد الصفر، فيصور الماء في بئر تحت الأرض، بعيدًا عن حرارة الشمس، وفي ظل دائم، ثم أخيرًا يكسبه بطبقة من الجليد والبرد. وقد اختار الألفاظ في النظم التي تناسب مع أبي القاسم، واستقطب الأجزاء في الصورة التي تتلاءم مع حالة الثقيل البارد من الرصاص والحديد وماء البئر في الصيف، والثقل والبرد الشديد كل ذلك ليؤدي الشاعر الغرض الذي من أجله كانت الصورة ويتآلف مع مقام الهجاء العنيف الذي أراده الشاعر، موقف الجاحظ من الصورة الأدبية: فهو يرى أن المعاني ممتدة واسعة بعكس الألفاظ، فإنها محصورة محدودة، يقول: المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدَّة إلى غير نهاية 3. وبين أن البلاغة والجمال، إنما يرجعان إلى اللفظ، لأن المعنى الشريف قد يؤدي باللفظ الرديء والجاحظ في اتجاهه يفصل بين اللفظ والمعنى وينظر إلى اللفظة والجملة 1 ، وهذا حديث المضمون والشكل، والمحتوى والصورة، ويقصد الجاحظ بالصورة في حديثه الأسلوب والصياغة، وإحكام النسج في العبارات وتخير الالفاظ والأوزان، لأن الحديث عنده نبع من الهجوم على أبي عمرو الشيباني نصير المعنى، ونعى عليه اتجاهه، وأقرَّ بأن اللفظ هو مقياس الجمال وحدّه. وهذا الرأي ردَّده كثير ممن أتى بعده من أنصار اللفظ، الذين انتصروا له وأيدوا الصورة، بينما كان هناك من اهتمَّ بالمعنى بجوار اللفظ، وانتصر كل على حدّة، حتى جاء بعد ذلك من انتصر لهما معًا بدعوة النظم، ورأى أن الصورة إنما تسكون في النظم، لا في اللفظ المفرد، ولا في المعنى المفرد. موقف ابن قتيبة من الصورة الأدبية: كان ابن قتيبة من أنصار المعنى الذي شايعوه، ولم يعتبروا اللفظ إلا بشرف معناه، فلا قيمة للصورة عندهم إلا بشرف مضمونها، ولكنهم تفاوتوا في النظرة إلى درجة الجودة في اللفظ والمعنى، فمنهم من سوَّى بينهما في الشرق والجودة، ومنهم من رجح المعنى على اللفظ. ويرى ابن قتيبة1 أن القصيد يعلو ويهبط، ويسمو ويقبح حسب قيمة اللفظ والمعنى فيه، ولكنه رجح جانب في الشعر ابن طباطبا والصورة الادبية: ويؤيّد ابن طباطبا، ما جاء به بشر بن المعتمر في صحيفته المشهورة وهذا هو العمل الفني في القصيدة الشعرية وهو ممتزج بالصورة الأدبية امتزاجًا كاملًا في العملية الشعرية، عندما ينقل الشاعر بموضوع ما ويعاقبه، فيعمد إلى نظمه في قصيدة، ويحضر المعاني، ويعيش معها في صراع داخلي، يعمل فيه العقل والوجدان والمشاعر، فإذا استوى لديه الشكل في ألفاظ تتلاءم معها، ثم اختار لها القالب الموسيقي الذي يتناسب معها قافية ووزنًا، شدَّ جزئيات القالب بألفاظ وصور على هذا النمط، حتى يستقيم البيت من الشعر، ومن الخطأ أن تذهب كما ذهب بعض الدارسين إلى أن ابن طباطبا لا يهتم بالوحدة العامة في القصيدة أو في الصورة الكلية، وإنما يهتم بالوحدة في البيت الواحد، أو في الصورة الجزئية كما يقول د. غنيمي هلال3، لأن ابن طباطا ناقدنًا الجليل قد حدَّد الوحدة الموضوعية تحديدًا كاملًا. والذي أعنيه ويتصل بالبحث، هو موقف ابن طباطبا من الصورة الأدبية في الشعر ومدى إدراكه لها وكيف عالجها، ولا يضر هنا كثيرًا أنه عالجها في صورها الجزئية أو في البيت الواحد أو أنها ترتبط بالنظم والتأليف، أو كانت رافدًا قويًّا من روائد النصوح في النظم والصورة الأدبية كما عند الإمام عبد القاهر الجرجاني بعد ذلك.
قدامة بن جعفر والصورة الأدبية: وممن أشار إلى الصورة الأدبية قدامة بن جعفر الذي اعترف بها عنصرًا من عناصر الشعر، وربطها بغيرها من العناصر الأخرى فهو يرى أن المعاني كلها معرضة للشاعر وله أن يتكلم منها فيما أحبَّها وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذا كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، وكلام قدامة أدخل في باب التصوير من رأى الجاحظ فيه، فقد جعل للشعر مادة وهي المعاني، وصورة وهي الصناعة اللفظية، وبالتجويد في الصياغة، يقول: وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان من الرفعة أو الصنعة.... وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة أن يتوخَّى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة
ويضيف قدامة عنصرًا جديدًا في بيان مفهوم الصورة الشعرية، حيث يشبه صناعة الشعر بغيره من سائر الصناعات كالتجارة للخشب، والصياغة للفضة، فالجميع يعتمد على مادة وشكل، فالفضة مثلًا يتخذ منها أشكالًا مختلفة، وكل شكل يسمى صورة كالخاتم مثلًا، وكذلك الأمر في الشعر لأنه كسائر الصناعات يقول ابن سلام الجمحي عن الشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات1. ويبيّن أيضًا فضل الصورة في العمل الأدبي، إذ بها تقاس قدرة الشاعر ومهارته في صناعة الشعر، فالقطعة من الخشب أو الفضة في ذاتها لا تفصل قطعة أخرى إلا بالصورة التي ظهرت فيها، وقد يتناولها الصانع في صورتين، فتظهر إحداهما ذميمة، والأخرى جميلة، مع أن المادة من الخشب أو الفضة واحدة فيها. وكذلك الشعر عند ابن جعفر، قد يتناول الشاعر موضوعًا واحدًا، يصوره تصويرًا حسنًا في مواطن، ويعرض إيَّاه في معرض قبيح في موطن آخر، ويدل هذا -مع اتحاد المادة- على قدرة الشاعر ونبوغه، التي ترجع إلى التصوير يقول في ذلك. إن مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين، بأن يصف شيئًا وصفًا حسنًا، ثم يذمه بعد ذلك ذمًّا حسنًا بينًا غير منكر عليه، ولا معيب من نعله، إذا أحسن المدح والذم، بل ذلك يدل على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها2. وفي مكان آخر ينتصر اللفظ والصورة، ويقدمها على المعنى والمادة، فيرى أن معيار الجمال يرجع إلى الشكل أكثر مما يرجع إلى المعنى، مما لا يستغنى عنه شاعر ولا خطيب ويذكر الخصائص التي تتصل به وتنبني عليه، وهي موسيقى الصورة التي ترجع إلى الشكل لا إلى المعنى كالترصيع والسجع. واعتدال الوزن وغيرها مما يتصل بالشكل ويرجع إلى بنائه يقول: وأحسن البلاغة الترصيع والسجع، واتساق البناء، واعتدال الوزن، واشتقاق لفظ من لفظ، وعكس ما نظم من بناء وتلخيص العبارة بألفاظ مستعارة، وإيرادها موقورة بالتمام، وتصحيح المقابلة بمعانٍ متبادلة. وصحة التقسيم بإنفاق النظوم وتلخيص الأوصاف بنفي الخلاف، والمبالغة في الرصف بتكرير الوصف، وتكافؤ المعاني في المقابلة والتوازي، وإرداف اللواحق، وتمثيل المعاني ... فهذه المعاني مما يحتاج إليه في بلاغة المنطق، ولا يستغنى عن معرفتها شاعر ولا خطيب والحديث هنا حديث الألفاظ والصياغة، والإيقاع والوزن وغيرها مما تعتمد عليه الصورة الأدبية من ترصيع وسجع، وتلاؤم وزن، وطباق واستعارة، وتقسيم ومقابلة وتكافؤ ومبالغة في الوصف، وتوازن وكناية، وغير ذلك مما يتصل بالشكل واللفظ اتصالًا مباشرًا لا بالمادة والمعنى. ومن هذا نعلم أن قدامة قد اعترف بالصورة الأدبية وعرف لها مكانها في العمل الأدبي ولم يجحد العناصر الأخرى المكونة مع الصورة للعمل الأدبي. ابن بشر الآمدي والصورة الأدبية: والآمدي في تحديده للنظم، والاهتمام به، وعنايته بالصورة الجزئية كمعاصرة القاضي على بن عبد العزيز الجرجاني، ويتفق معه في جميع الوجوه التي ستأتي ولكن معالم الصورة عنده زادت وضوحًا أكثر من القاضي، كما سيظهر من خلال اهتمامه باللفظ والمعنى أي النظم والصورة التي تقوم عليها معًا، وسنعرض اتجاهه على النحو التالي: أولًا: رجع الآمدي البحتري على أبي تمام في شعره، وذكر أدلة قوية تؤيّد اتجاهه حيث فرق فيها بين العلم والشعر، فلكل منهما طابعه وخصائصه فالشعر عنده غير العلم، والعلم حكمة وفلسفة، والشاعر مصور، وليس حكيمًا أو فيلسوفًا، والصورة الأدبية تكون من اللفظ والمعنى، في حسن تأنٍ، وقرب مأخذ، واختيار الوضع المناسب لكل لفظ، الذي يطابق المعنى في الاستعمال المعتاد، من غير كلفة ولا صنعة، مع اللياقة في الاستعارة والتمثيل للمعنى، حتى لا يقع بينهما تأثر، وبذلك يكتسي النظم رونقًا وبهاء، وهذا هو الأصل في بلاغة الصورة، من إصابة المعنى بألفاظ سهلة بعيدة عن التكلف، لا تزيد عن الغرض، فإن اتفق للنظم معنى لطيف، زاد من روعته، وإلا - فالصورة غنية في نفسها ودلالاتها يقول وليس الشعر عند أهل العلم به، إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يُورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له، وغير مغافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسى بالبهاء والرونق، إلا إذا كان بهذا الوصف، وتلك طريقة للبحتري.... والبلاغة إنما هي إصابة المبنى، وإدراك الغرض، بألفاظ سهلة عذبة، مستعملة سليمة من التكلف لا تبلغ الهذر الزائد، على قدر الحاجة ... فإن اتفق مع هذا معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن، فذلك رائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق، فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه.... قالوا: وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة، وكانت عبارته مقصرة عنها، ولسانه غير مدرك لما يستمدّ دقيق المعاني من فلسفة اليونان، وحكمة الهند أو أدب الفرس، ويكون أكثر مما يُورده منها بألفاظ متعسفة ونسج مضطرب، قلنا له: قد جئت بحكمة وفلسفة، ومعانٍ لطيفة حسنة، فإن شئت دعوناك حكيمًا، أو سمعناك فيلسوفًا، ولكن لا نسميك شاعرًا، ولا ندعوك بليغًا1. ويلتقي الآمدي مع القاضي في النص السابق، في أن جلال الصورة وجمالها لا يرتبط بفخامة اللفظ، ومهارة الصنعة، وكثرة ألوان البيان والبديع. ثانيًا: يدرك الآمدي الجمال في اللغة، وسحره في الصورة، فيجعل اللغة غاية في ذاتها ولو مجردة عن حكمة أو فلسفة، فهي كفيلة في ذاتها بالروعة والجمال، لأن الغرض منها إصابة المعنى، وإدراك الهدف، لا أن يحمل الشاعر لغته ما لا تطيق، وهو متأثر في هذا يقول البحتري: والشعر لمح تكفي إشارته ... وليس بالهذر طولت خطبه يقول الآمدي: وإن اتفق له معنى لطيف، زاد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق قد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه ويرى د. مندور أن الآمدي اهتدى بهذا إلى أن اللغة ليست وسيلة، ولكنها غاية لأنها تتضمن عناصر التصوير والموسيقى: ويكون من حسن الذوق، وسلامة الحس بحيث يقيم للنسب الدقيق بين اللغة كوسيلة، واللغة كغاية في الأدب فلا يسرف في اعتبارها وسيلة لأنه يحرم نفسه بذلك من عناصر هامة في التأثير، عناصر التصوير، وعناصر الموسيقى 1. الجلال الحق في حسن التأليف، وبراعة اللفظ، ومهما يرتفع المعنى حتى يبدو غريبًا، وذلك مثل شعر البحتري، الذي هو عكس أبي تمام في شعره يقول: وينبغي أن تعلم أن سوء التأليف، ورديء اللفظ، يذهب طلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعميهنّ حتى يحتاج مستمعه إلى تأمّل، وهذا مذهب أبي تمام في معظم شعره، وحسن التأليف وبراعة اللفظ، يزيد المعنى المشكوف بهاء وحسنًا ورونقًا حتى كأنه أحدث فيه غرابة لم تكن وزيادة لم تعهد، وذلك مذهب البحتري، ولذلك قال الناس لشعره ديباجة، ولم يقولوا ذلك في شعر أبي تمام 2:
يقول الآمدي في الموازنة التي عقدها بين صناعة الشعر وغيره من الصناعات الأخرى زعموا أن صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات لا تجود وتستحكم إلا بأربعة أشياء: جودة الآلة وإصابة الغرض المقصود، وصحة التأليف، والانتهاء إلى نهاية الصنعة، من غير نقص فيها، ولا زيادة عليها، وهذه الخلال الأربع ليست في الصناعات وحدها، بل هي موجودة في جميع الحيوان والنبات. ذكرت الأوائل أن كل محدث مصنوع محتاج إلى أربعة اشياء، علة هيولانية وهي الأصل وعلة صورية، وعلة فاعلة، وعلة تمامية. وأما الهيولي فإنهم يمنون الطينة متى يبتدعها الباري تبارك وتعالى، ويخترعها ليصور ما يشار تصويره من رجل أو فرس أو غيرهما من الحيوان، أو برة أو كريمة من أنواع النبات. والعلة الفاعلة. هي تأليف الباري جل جلاله لتلك الصورة، والعلة التمامية هي أن ينميها تعالى ذكره، ويفرغ من تصويرها من غير انتقاص منها وكذلك الصانع المخلوق في مصنوعاته التي علمه الله -عز وجل- إيَّاها، لا تستقيم له وتجود إلا بهذه الأربعة. وهي آلة يستجيدها ويتخيرها مثل خشب النجار ... وألفاظ الشاعر والخطيب وهي العلة الهيولانية، التي قدموا ذكرها وجعلوها الأصل، ثم إصابة للغرض فيما يقصد الصانع صنعته، وهي العلة الفاعلة، ثم أن ينتهي الصانع إلى تمام صنعته، من غير نقص منها ولا زيادة عليها، وهي العلة التمامية فهذا قول جامع لكل الصناعات والمخلوقات، فإن اتفق الآن لكل صانع بعد هذه الدعائم الأربع أن يحدث في صنعته معنًى لطيفًا مستنريًا، كما قلنا في الشعر من حيث لا يخرج عن الغرض فذلك رائد في حسن صنعته وجودتها، وإلا فالصنعة قائمة بنفسها مستغنية عما سواها. وهكذا يوضح الآمدي، ما يعتمد عليه الشعر وغيره من سائر الصناعات والصور التي يسببها الشعر في التركيب والبناء، وينص أيضًا على الصورة الشعرية نصًّا واضحًا، ولا يكتفي بالنظم والتأليف والصياغة كالسابقين، الذين اكتفوا بمجرَّد الذكر أو بإشارات مهمة وهم يقصدون الصورة، ولكنه قطع شوطًا في توضيح الصورة وذكر معالمها لمرحلة نامية دافعة في أطوار مفهومها.
فصورة النابغة بلغت غاية الجمال على عكس صورة أبي تمام، فقد أحسن الشاعر الجاهلي التعبير بالقذف لغزارة الشحم المتزايد في تتابع كسرعة القذف والرمي واختيار لفظ القذف هنا لا بديل عنه، لأن كثرة الشحم وغزارته، كما هو مفهوم من لفظ دخيس ينقص من جمال المرأة، ويودي برشاقتها ويسوي النتوء في جسدها، فلا يكون لها ردف وخاصرة، ولا ثدي ظاهر، وتقاطيع بارزة، مما يزيد من جمال المرأة وفتنة جسدها، ولكن التي طغى عليها الشحم، تستحق، لإهمالها نفسها - ألفاظ السباب والشتم، وهو ما اختاره النابغة في صورته، حيث قال: مقذوفة ودخيس أظن أن ليس هناك صورة أروع من هذه الصورة، وخاصة وقد وقعت لشاعر جاهلي.
تأسيس النقد العربي الحديث كثيراً ما يشير الدارسون إلى الدكتور طه حسين كمؤسس النقد العربي الحديث، ولكن دارسين آخرين ينكرون عليه هذه الصفة ويرون أن تلميذه في الجامعة المصرية سابقاً الدكتور محمد مندور هو المؤسس الحقيقي لهذا النقد. يرى مندور أن كثيرا من الشبان يعتقدون أن النقد مهمة سهلة يستطيع كل من يعجز عن خلق الأدب، أن النقد لا يقلّ مشقة عن الأدب الإنساني، مذهب مندور في النقد يقوم على أساسين: أساس أيديولوجي ينظر في المصادر والأهداف وفي أسلوب العلاج، وأساس فني جمالي ينتظم في مرحلتين، حاول دائماً الجمع بينهما في كل نقد تطبيقي قام به وهما المرحلة التأثرية التي كان يبدؤها دائماً بأن يقرأ الكتاب المنقود قراءة دقيقة متأنية ليحاول أن يتبين الانطباعات التي خلّفها في نفسه وقد كان لمندور نزاهة وحرية ومرونة في معاييره كناقد، وفي أحد النصوص التي تركها حول النقد ما يؤكد كل ذلك. ومن واجب كل ناقد أن يذكر أن صور الأدب وفنونه لا بد أن تتغيّر بتغير مضامين ذلك الأدب ومفاهيم الحياة إذا ضاقت الصور القديمة عن احتوائها، أو كانت الصور الجديدة أكثر ملاءمة لها وقدرة على بلوغ الهدف المقصود منها. محمد مندور نظريته في النقد، تختلف بالطبع عن تلك الأفكار السابقة عليه والتي تُلتمس في كتب طه حسين وعباس محمود العقاد وجيلهما. ولا شك أن الذي هدى مندور إلى أفكاره هذه مكوثه الطويل في باريس واطلاعه على سوق النقد الأدبي فيها وفي الغرب عامة، ثم انفتاحه على الفكر اليساري وتأثره بنظرياته. وذلك أشاع في نقده أفكاراً ونظريات ومناهج وطرائق مختلفة لم تكن متوفرة لدى الجيل السابق، ووهبه وصف المؤسس للنقد العربي الحديث8
مدارس التجديد: بعد عصر النّهضة، دَبَّت حركة النهضة بالتجديد في بداية الفترة الّتي حصل فيها الاحتكاك بين الشرق والغرب، بقصد الغزو للحصول علي موارد جديدة في بقاع جديدة، حيث ارتبطت حركة الغزو بحركة فكرية في مجالات الحياة المختلفة، ومنها الحركة الفكرية النقدية للأدب، فتشكّل نتيجة الواقع تياران للنقد الأدبي العربي. الأوّل: محافظ وكان استمرارا للنقد العربي التقليدي القديم والثاني: مُجَدِّد أفاد في نقده من معرفته للآداب الأروبيّة. التيارالأوّل التقليدي: هو اكثر انتشارا وأقوي سلطانا، وكان يمثّله الشيخ حسين المرصفي في الوسيلة الأدبية ونقدُ المرصفي ضمن هذا التيار في الوسيلة الأدبيّة يقوم علي موازنات لها ثوابت علي وفق النقد العربي القديم، من هذه الثوابت. 1- توجيه بعض النقدات دونما تقليد، معتمدا علي الذوق الخاصّ 2- العناية بالنقد اللّغوي كما كان عندالقدامي 3- مؤاخذة الشاعر في السرقة من حيث اللفظ والمعني 4- عدم استحسانه للبيت الذّي يكثرلفظه، ويقلّ معناه كبيت أبي فراس الحَمد انّي طويل فما جازَهُ جُودٌ ولاحَلَّ دوُنَه ولكنْ يَصيرُ الجودُ حَيثُ يَصيرُ 5- عنايته بجزئيات العمل الأدبي دونَ وحدته، وشاهد ذلك الأبيات المتناثرة من القصائد المختلفة الّتي كان ينقدها ونظر اليها منفصلةعَمّا قبلها وعمّا بعدها. 6- تأكيده علي أن تكون القصيدة مترابطة الأجزاء متناسقة البناء لايقع منها بيت في غير موضعه. 7- إقراره بتباين شعر الشاعر الواحد بين الجودة والرداءة فهولا يري شعر الشاعر الواحد بمنزلة واحدة فقد يجوّد أحيانا وقد يَسِفُّ أحيانا أُخري. نلاحظ إذن اُنّ نقده فيه ملامح من التجديد، وان كان تقليدا لِمَن سبقه لَأنّ الوسيلة خلقت البارودي محمود سامي وأحمد شوق وحافظ ابراهيم و غيرهم والظاهر أنّ الوسيلة الأدبيّة للمرصفي بما فيها من شعر البارودي أنشأت أكثر من شوقي و حافظ وقد استمّر هذا التيار النقدي حتي تخطي القرن التاسع عشر الي القرن العشرين مستغرقا النصف الأوّل منه. التيار الثاني التجديدي: هذا التيار كان معاصرا للتيار المحافظ، وتميز عنه في أنّه أفاد من معرفة أُدبائه للآداب العالميّة كالآداب الاوروبيّة، والعثمانية، والفارسيّة، وغيرها. وكان يهدف: أوّلاً إلي تحرّر الشعر العربي من القيود القديمة. ثانيا الي معالجة الموضوعات الّتي تهم هذا الشعر. ويتميّز هذا التيار بمايأتي: 1- الأخذ بالانتقاص علي شعر المدح، وبدء القصائد بالغزل، فتري مثلاً أحمد فارس الشدّياق يتهكّم علي الشعر العربي، إذ يراه مغرقا بالمدح والتهاني في المناسبات 2- الدعوة إلي التخلّص من التقليد، والتمسك بالالتزام، خاصّة التزام الصدق، ومراعاة أحوال العصر. 3- الدعوة إلي وضع النظريات الشعرية والخروج إلي المحيط العربي بالتخلّص من الذاتية والانطواء - بالتقاط الأحداث الّتي ألمّت بالأمّة العربيّة. ويشمل هذا التيار مدارس التجديد وهي 1- المدرسة العراقية: وحملت شعلة النهوض والتجديد في موضوعات الشعر علي أيدي شعراء كثيرين منهم عبدالحسن الكاظمي ، جميل صدقي الزهاوي ، معروف عبدالغني الرصافي ، محمدرضا الشببي ، ومحمّد مهدي الجواهري 2- مدرسة المهجر الشمالي والجنوبي وكان يمثلها الكثيرون من الأدباءمنهم جبران خليل جبران ، إيليا أبوماضي،ميخائيل نعيمة، وعبدالمسيح حدّاد. ج: مدرسة الديوان في مصر: أنشأها مجموعة من الأدباء منهم أحمد شوقي والرافعي ، والمازني ابراهيم عبدالقادر وعبدالرحمن شكري ، والعقاد د مدرسة أبوللو في مصر وشمال أفريقا شكلّها أدباء كثيرون من المغرب العربي ومشرقه منهم أحمد شوقي وخليل مطران وإبراهيم ناجي ، وأحمد زكي أبوشادي والشابي أبوالقاسم والسيّاب بدرشاكر. 1- المدرسة العراقيّة مدرسية التجديد: كانت حركة الشعر في العراق أبرز الأنواع الأدبيّة تطوّرا إبتداءً ونشاطا حيث شكلت مدرسة جددت في المضامين مع كونها قروية ومتعة لإشباع نفوس أصحابها. فقد وظّفت الشعر لخدمة الأمّة، وأرادمنه أن يتصدّي لحكم الطغاة والمستعمرين وكانت هذه المدرسة نفئات مصدورِ قبل الكاظمي، ثم صارت واضحة المعالم في شعره، فقد دعا الكاظمي عبدالمحسن إلي الوعي الوطني والقومي، ولمّ الشَمْلِ، ونفي من أجل ذلك من العراق إلي مصر، ثمّ واصل المسيرة من هناك حاثّا الشعب العراقي إلي ترصين تآلفه، فجعل للشعر هدفا ساميا، قال من قصيدته سيروابنا مجزوء مضمر الكامل. سيرو ابنا عَنَقا وشَدَّا سيرواِبنا مَمْسيومَغْدي سيروا نَذِبُّ عَنِ الحمِي ونَردُّ عَنَهُ المُسْتَبدّا ثمّ تتابع جيلٌ واع من الشعر المعاصر للكاظمي، أو لاحق له في متقدّمتهم الزهاوي جميل صدقي والرصافي معروف عبدالغني، والشبيبي محمدرضا 5619 م وغيرهم. ثمّ جاءت أجيال إقتفت أَثرهم وشاء القدر أن يعاصر الجواهري محمّد مهدي كلّ هذه الأجيال ويطغي عليها في شعر وطني وقومّي، وانسانيّ مُجّسَّد المعالم. هؤلاء جميعا انتظم شعرهم المجتمع لأوطانهم، والأمّة، والحضارة الجديدة من مخترعات كالقطار والسيّارة والساعة والطيّارة والكهرباء ونظريّة دارون في أصل الأنواع، وقضيّة الشكّ واليقين عند ديكارت، علاوة علي المعركة، في السفور والحجاب، وتجديد الشعر والخلاصة من ذلك أنّهم أرادو للشعر مفهوما، ووظيفة، ومتعة، تخدم الفرد والمجمتع والأمة، وتعينها علي خروجها من محنتها وتخلّفها، فالشعر في مفهوم الزهاوي جميل صدقي 6193 م يجب أن ينبعث من مشاعر قائله نزيها غير مقيّد، ينبعُ من مشاعرٍ صادقةٍ جريئة مدافعةٍ عن الحّقِ قال: إنّما الشّعُر من القا ئل لِلشّعر شُعُورْ وبه مُعتكفٌ في بَيتهِ وَهْوَ يَدوُرْ رمل والشعر له وظيفة مضافة إلي وظيفة التعبير عن المشاعر وهي السَّلْوي يلجأ إليها الشاعر ويلوذ بها لتحميه ممّا يري من مآسي المجمتع قال: رمل أيّها الشعرُ سُلُويّ أنت في ساعَةِ هَمِيّ أدرءالأحزانَ عنّي بأَبِي أنتَ وأُمِيّ وهو إبداع لأنّ عهد التقليد وَلّي، ولم يعدله مكانٌ في منازلِ الشّعرِ، حيث أنشد قائلاً مُجتث: الشِعرُ فيه هبُوطٌ والشعر فيه طِلاعُ ومنهُ تقليدُ مَنْ قَد مَضي ومِنهُ إقتراعُ والشعر له مستويان، وخيرهمان ما كان دفاعا عن الحقّ قال مجتثّ: الشِعر ليسَ سواءً مِنه سَمينٌ وغَثّْ وأحْسَنُ الشعر ماكان فيه للِحَقّ بَثّْ و الشعرُ في مفهوم الرّصافي معروف عبدالغني وظيفته خدمة الوطن و الأمّة والإنسانيّة، إذيجب علي الشاعر أن يطرح واقع المجتمع، ويدافع عن الأمّة ويتصدّي للظلم وحكم الإستبداد،والإستعمار في تسبحٍ مبدع جديد، مروّحا عن هموم قائله: عَلي أنّ لي طبعا لَبيِقا بِوَشْيِهِ نزوعا إلي أَبكاره دوُن عيُونِهِ لَعَمرُك إنّ الشعرَ صُمْصامُ حِكَمةٍ وإنّ النُهي مَعْدودةٌ من قُيونِهِ والشعر في رأي الشبيبي محمدرضا له أهداف، ومُثُلٌ، ومعان أشار إليها في قصائد كثيرة منها:لامية العرب الجديدة والهزار الشاعر و ذكري شاعروالإجتماع والشعراء والشعر عنده له غاية تفصل بين الحّق والباطل، وتقصد إلي الصدق، وتنسكب في معاني ألفاظه روح الإبتكار والخلود، وتسيل بين نسيج أبياته مُتعةُ السِّحْرِ أمّا الجواهري؟ فهو لسان الشعب، والأمّة والإنسانيّة قال: الكامل وأنا لسان الشَعب كلُّ بليّة تأتيه أحمِلُ ثِقلها وأُصَوِّرُ وإذا تقطّر من فُؤادي جانِبٌ حَدُبَت عَلَّي قلوبه تتقطّرُ ثمّ نبعت مدرسة جديدة من المدرسة السابقة وانسلخت عنها، وأخذت علي عاتقها سنة 7419 م بعد الحرب العالميّة الثانية التغيير في الأشكال مع التطوير في المضامين إبتداءً في شعر بدر شاكر السيّاب ثمّ نازك الملائكة وآخرين فكان الشعر الحديث المسمّي بالشعر الحرّ مرحلة جديدة، ومدرسة سرعان ماانتشرت في جميع الأقطار العربيّة باعثة شعلة النهوض في الفكر العربي المعاصر حاملة أشكالها ومضامينها هذا المفهوم العام لرسالة المواطن انطلق منه مضمون الشعر الحديث، وقامت الدعوة فيه علي أساس من تسخير الشعر لخدمة الأغراض الإجتماعيّة والسياسية، والحضارية، وشجب دعوة الفن للفن، لأنّه ارتبط بالواقع، وجَنَّدَنفسه لهذا الواقع وخدمته وتطويره وطرح النقاد في ظلّه شعار الأدب الهادف، لتحديد مضمون هذا الشعر الجديد، فلم يعد الشاعر في حركة هذا الشعر يعيش بعيدا عن الشعب والأمّة بل اندفع بكلّ قواه يشارك في المعركة المصيّرية، ويلهب أَتّونهابشعره المنبعث من تجربة حيّة، تمرّس الشاعر معها بأوضاع الكفاح، وحَمَلَ منها شَرَرَ القضيّة التي يؤمن بها. إذن يتميّزهذا الشعر الجديد بعودة الشاعر إلي الإرتباط بالحياة الإجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة. وقد أضاف، سبيلاً جديدة إلي ما كان مألوفا للتعبير عن هذه الرسالة الوطنيّة أو القوميّة، وهذا السبيل هو الغزل والحب الممزوج بالحرمان فهذا بدرشاكرالسياب في أَغلب قصائده مثل مطر... مطر والأسلحة والأطفال و غيرهما، يمزج هذا الحب والغزل بالقضايا الأساسية في رومانسية حالمة، فيلوّن صوره وينوعها ويبرزها في طرحٍ يصوّرفيه المجتمع العراقي، والظلم، و رفض أشكال الإستعمار. 2- مدرسة المهجر : مدرسة المهجر في حركة التجديد مع مدرسة الديوان، ثم تخطّتها أشواطا في تجديد الشعر، وتحريره من الجمهود، وتطوير مضمونه، والخروج به عمّا عرف قديما من موضوعات. وأضحي أثرها في توجيه الشعر قويّا وفاصلاً وكانت النماذج التي نسجها الشعر المهجري للوجدان قوّية التأثير في بعث روح الشعر بعد جموده حيثَ وجَّهت أفكارها إلي جوهره النَّقي، وشَقّت للشعر سبلاً لم يَعْهَدْها من قبل، علي أَنّها أخذت من التُّراث بحذر. ومدرسة الديوان مقارنة بمدرسة المهجر، محافظة، لأنّها أكثر إرتباطا بالتّراث، ولم تقطع الصّلة به، بل اعتمدت في معركتها مع التقليديين علي اطّلاع واسع من الشعر القديم، وتفاعل قوي مع الثقافة العربيّة بصفة عامّة ومع الثقافة الغربيّة بصفة خاصّة، في حين كانت مدرسة المهجر تعتمد أساسا علي الإلقاح الغربي، متعاملة في تفاعلها مع التراث العربي بقلّة وحذر. التجديد في الشعر المهجري تناول الصياغة والمضمون فسعي في الصياغة إلي التحرّر من الأشكال القديمة، وقصد البساطة في التعبير وتجنّب الزخرفة اللفظيّة، وجعل القيمة الإنسانية في الشعرأَعلي من القيمة اللسانية، وتخلّص من القوالب القديمة، وهدف إلي الأوزان الخفيفة، مع ميل إلي التنويع في الأوزان كما استغلّ أَساليب الموشّحات الأندلسيّة، وأَعطي اللفظة كلّ ما تحتاج إليه من الشاعرية في المعاني، والإشعاع الروحي مع لذّة السحر، وحلاوة الموسيقي، وعذوبة النطق، وجمال التصوير، وعبق التعبير، حيث جعل اللفظة حالمة ندية مفعمة بالجمال والأسي والحسرات. اتسم شعر المهجر، بومضات الغربة الرومانسية، والذاتية الفردية لأنّ الشاعر في الشعر المهجري حبيسٌ لوجدانه وذاته حتّي في حال اتصّاله بالشعور البشري العام. فالشاعر هنا بصير بالأعماق الوجدانية مع تعدد نظراته للحياة، وقد اختلفت هذه النظرة بإختلاف الشعراء إلّا أنّها كانت مشتركة في الذاتية الفردية عند الجميع. إذن يتميّز أدب المهجر بالتجديد الطامح إلي الكمال، بخصائص قوية في أشكاله ومضامينه، تحرّر من سيطرة القديم في الأشكال بعد أن استوفي مالابدّمنه للصياغة الحديثة ونزعة التجديد والانتقال من الإتباع إلي الإبداع والإعتداد بالشخصيّة الأدبيّة، لاجمود في القوالب الجاهزة، ولا ميوعة في المنابع المستحدثة نثرا أو شعرا. قد انعتق النثر من المدلولات الثابتة، والرواسب القديمة، وانطلق الشعر بأصوات كثيرة متنوّعة، وأوزان قصيرة كما أسلفنا وموشّحات تتباري بالفن مع ما خَلَّفَتْهُ الأندلسُ. 3- مدرسة الديوان كان نقد هذه المدرسة ينصب معظمه علي فنّ الشعر، لعراقته من جهة، ولعدم بروز الفنون الأخري من جهة ثانية، ونقدها أَغلبه نظري، وأقلّه تطبيقي و أعضاؤها كلّ منهم متأثّر بنظريّة غربيّة اتّخذها مَثَلاً له وأشهر مؤسّيسها: احمد شوقي 1932 م والمازني ابراهيم عبدالقادر9419 م وعبدالرحمن شكري 1958 م، والعقّاد عبّاس محمود 6419 م وغيرهم كثيرون وأهمّ مقاييسها: 1- الصدق: وهو التوافق بين شخصيّة الشاعر وشعره، ويقصدبه الصدق الفنّي الذّي يتضمّن صدق الشعور الذّي يعبّر عنه الشاعر ويصدر هذاالشعور منه عن مزاج أصيل لا تكلّف فيه وقد أوجب العّقاد علي الأديب التزام الحقيقة النفسية وليست الحقيقة المتجرّدة كما وضع كلّ من العقّاد والمزاني مقياسا لشعرالطبع يتلخّص في صدقه وتأثيره فإذا كان صادقا مؤثّرا، فهو مطبوع لا تكلّف فيه. 2- قوّة التعبير عن وجدان الأديب، فشعرالشخصيّة الذاتية الذّي أنتجه العقّاد والمازني هو من جوهر نظريتيمها القائل: إنّ شعرالشخصيّة: تعبير عن وجدان الشاعر وهو لفي قمّة الذاتية حيث يعبّرعن أغوار الوجدان للإنسان العربي، وتكون به حياة الشاعر وفنه متطابقين، أي شيئا واحدا لاينفصل أحدهما عن الآخر، بمعني لا ينفصل فيه الإنسان الحيّ عن الإنسان الناسج للنصّ. 3- الإعتراف بالتذوق الخاص الشخصي: أعترف أَعضاء مدرسة الديوان بالذوق وسيلة أساسيّة في النقد، ولكنّهم اختلفوا في تفسير هذا الذوق، فعبد الرحمن شكري مثلاً لايُسَلّمُ للذّوق الخاص وحده بل يري أنَّ هناك ذوقا عاما يضاف للذوق الخاص يمكن أن يلتزم الجميع حدوده، فيقول عن الذّوق: اجتمع أعظم المصوّرين فصنع كلٌّ صورةأَملاها عليه ذوقه، وزعم أَنّها بلغت غاية الجمال، إذا رأيتها، وَجَدْت إختلافا عظيما يَنَبِّي ءُ عن مثلِهِ في أذواق هؤلاء المصوّرين، ورُبّما كان بين الرسوم ما يستمجه بعضهم علي أنّك لَو قُلتَ لهم ما يَسْتَحلّوُنَ من معاني الجمال، عَجبْتَ لإختلافهم فيما يعرضون عليك» أمّا العقاد والمازني، فمع إعرافهما بالذوق العام يميلان دائما إلي الذوق الخاصّ، ويعطيان له الأولوّية في مسائل النقد والنتاج الأدبي. إنّ جماعة الديوان، النّقاد منهم يُقَوِّمونَ الجانب الفّني في العمل الأدبيّ من خلال انطباعاتهم الشخصيّة فهم في الحقيقة نُقّاد تأثريون. 4- الحرص علي التقويم: حرص أعضاء جماعة الديوان في نقدهم للنصوص الأدبيّة علي التقويم والتوجيه أكثر من حرصهم علي التفسير والتحليل وقديكون هذا الإتّجاه ممّا يتماشي مع طبيعة النقد الأدبي في تراثنا الأدبي. إنّ الظروف التّي تولّي فيها أعضاء جماعة الديوان مهمّة النقد الأدبي، ساعدت دونما شكّ علي دفعهم نحو هذا الإتّجاه فهم في الواقع لم يكونوا نُقّادا فحسب وإنّما كانوا يخوضون معارك التجديد، وهم يثورون علي الكلاسيكيّة القديمة في النقد العربي القديم. كما أنّ هؤلاء النقاد، قيّموا الأدب من خلال النظريّات الغربيّة التّي تأثّروابها، ونظروا إلي الأعمال الفنيّة كلّها من خلال مواقف فكريّة عامّة واحدة علي الرغم من خلافاتهم الفكريّة الأدبيّة فيما بينهم. علاوة علي أنهم كما أسلفنا من قبل يهتمون بالتقويم ويهملون أحيانا التحليل والربط للنماذج بعضها مع بعض، ويحتفلون بإطلاق الأحكام العامّة، و الأحكام التّي تعكس أذوافهم الشخصيّة. 5- الإهتمام بالمضمون: إنّ الإهتمام بالنقد عندأعضاء جماعة الديوان يقوم أساسا علي العناية بالمضمون والإهتمام به أكثر من الشكل وهذا الذي دفعهم الي القول بأنّ كلّ كلامٍ لم يكن مصدره صحّة الادراك، وصدق النظر في استشفاف العلاقات، يكون هُراءً ولا محلّ له في الأدب إذن تغيرالحياة الفكريّة، والإطلّاع علي الأدب الغربي وفلسفته، وعوامل أخري كثيرة؛ دفع أعضاء جماعة الديوان إلي الإهتمام بالمضامين أكثر من الأشكال، فقد شُغِلت أذهانهم بالثقافة العلميّة والفلسفية، من أجل ذلك نزعوا إلي مزج العلم بالفلسفة مع الكثيرمن المناذج الأدبيّة. 6- النقد العلمي الفلسفي: كان العقّادُ أسبقَ من المازني وعبدالرحمن شكري إلي النقد العلمي الفلسفي فهو يري أَنَّ الشكري والمازني، غَيَّرا منهجيها في القراءة حيث إلتفتا إلي النقد العلمّي والفلسفي بعد أنَ كانت القراءة عندهما شاخصةإلي النقد الأدبّي المحض علي أسلوب الغربيين من مثل ماكولي وماكس نوردووالمبروزو والسنج و نيشتهوغيرهم. وقد كان أدباء الديوان هؤلاء يعتزون بأصولهم، وتراثهم التاريخي، فهذا خليل مطران يصف قلعة بعلبكَّ ويفخربها متذكّرا أيّام صباه في مدينته الّتي عاش فيها أيّام الصّبا بأحلامه وآماله وطموحه فيقول: خفيف همّ فجر الحياة بالإدبار فإذامَرَّ فهي في الآثار والصّبا كالكري نعيمٌ ولكن ينقضي والفتي به غيرُ دارٍ 4- مدرسة أبولو كان مؤسّس هذه المدرسة الشاعر المصري الدكتور أَحمدزكي أَبوشادي 1892 م 1955 م وهي إمتداد لمدرسة الديوان، فقد تأثّرت بها، وانبعثت من خلال الصراع العنيف الذي داربين شعراء التقليد وشعراء هذه المدرسة ونقّادها، كانت مدرسة الديوان من قبل تهتم بصياغة النظريات التجديدّية أكثر من أهتمامها بصياغة النّص الشعري، وحينما جاءت مدرسة أبوللو عكست الأمر فاهتمت بصياغة النصّ الشعري أكثر من إهتمامها يصياغة النظريّات. مدرسة أبوللّو تيار نشأ منذ وفاة سعد زغلول 1927 م أو قبيل ذلك، وقد تميّز هذا التيار بشيئين مهمين: هما الوجدان الذاتي، والتعبير الرمزي. بدأت هذه المدرسة ترسل شعرها غناء ذاتيا متفجّرا عن عواطف جياشة، ووجدان منفصل حزين وقد تطوّرت هذه المدرسة عندما صدر العدد الأوّل من مجلّة أَبوللّوفي سبتمبر سنة 1932 م حيث أُعلنت جميّعة تتألّف مَن أحمد شوقي 1932 مرئيسا وخليل مطران وأحمد مُحَرَّم نائبين للرّئيس، والدكتور أحمد زكي أبوشادي 1955 م سكرتيرا، وأعضاؤها: الدكتور إبراهيم ناجي 1935 م، والدكتور علي العناني، وأحمد الشايب، وسيدابراهيم وعلي محمود طه 9419 م ومحمود أبوالوفا، وحسن القاياني وحسن كامل الصيرفي ثمّ جُدّد الإنتخاب سنة 1933 م، فأصبح خليل مطران رئيسا، وابراهيم ناجي وأحمد محرّم نابئين، للرّئيس، وأحمد زكي سكرتيرا، والبقيّة من الأدباء أعضاء ثمّ ضمّت هذه المدرسة الكثيرين من الشباب فيما بعد. إنّ التجديد في نظر هؤلاء الشبّان في البداية، لم يكن معنيً كامنا في نفوسهم قاصدين إليه قصدا، بل كان خواطرومضات فنيّة، وفورات يعبرون عنها من خلال نتاجهم الشعري المتنوّع النزعات ومن خلال نظراتهم النقديّة فهم يدعون إلي الوحدة العضويّة للقصيدة؛ ويؤكّدون علي التحرّر البياني و الطلاقة الفنيّة ويستحثون الشخصيّة الأدبيّة علي الإبداع والإبتكار، وينهونها عن اجترار الماضي، ويريدون منها الإبتعاد عن الأغراض التقليدية، و الوفا وللعصر الذّي تعيش فيه بأن تعكس الحياة والطبيعة. كانت الفكرة في نتاج هؤلاء الشعراء منسجمة مع الخيال والشعور العاطفة حيث مزج أفراد هذه المدرسة بين الوجدان والعقل، فخرجت تجارُبُهُمْ مشرقةمتّسمة بطبع دقيق تتوهج فيه الرؤيا الشعريّة والإنفعال الحارّ، فانطلقت مضامينهم، واتّسعت للشعر الوجداني، وشعر الطبيعة الّتي إمتزج بها بصورته الصوفية الفلسفيّة، عن طريق الإيحاء الرمزي. حاولت قوالب هذه المدرسة الإنفلات من أسراالتقليد والجمود، فنتوعت في القوا في والبحور، أحيانا، وتحررت من القوا في أحيانا أخري. وجدّدت في الأشكال حيث ظهر في نتاجها أنواع من القصص والمسرحيّات الشعريّة إلي جانب الفيض الشعري وهي لم تكن مدفوعة بفطرتها إلي التجديد بل بادراكها الحاجة إلي التجديد بعد تناولها النتاج الشعريالسابق بالدرس والتحليل الناقد. وكان أبوالقاسم الشابي يري:أنّ المدرسة الجديدة تدعو إلي أن يحدّد الشاعر ماشاء من أسلوبه وطريقته في التفكير، والعاطفة، والخيال، وإلي أن يستلهم ما يشاء من كلّ هذا التراث المعنوي الّذي يشمل ما ادّخرته الإنسانيّة من فَنّ، وفلسفة ورأي، ودين، لافرق في ذلك بين ما كان منه عربيّا أو أجنبيا، وبالجملة، فانّها تدعوإلي حرّية الفّن من كلّ قيديمنعه الحركة والحياة». ويمكن أن نلخّص عمليّة التجديد عند أصحاب هذه المدرسة في ثلاث نقاطٍ هي: 1- التجديد في البناء الفنّي 2- التجديد في البناء الدّاخلي. 3- الغاية الشعريّة هدف الشعر أوّلاً التجديد في البناء الفنّي الخارجيّ: ويشمل أنواعاكثيرة منها: 1- التجديد في الألفاظ: فقد ابتكر شعراء أبوللّوفي الألفاظ، وَحَمَّلُوها دلالات تختلف عن دلالاتها القديمة، وقد أعانهم علي ذلك استخدام التعبير الرمزي لمثل هذه الألفاظ في كثيرمن المواقف فقد رأينا ألفاظ أصحاب هذه المدرسة شيقة في قصائدهم السحرية، مليئة بالأطياف والظلال، والسكون الشمسي، والعطر المفضض، والشفق السحري، والليل الأبيض، والنور الهادئ والخواطر المذعورة وكان أبوشادي من أوائل الذين أدخلوا هذه الألفاظ في شعرنا الحديث، وله قصائد كثيرة تحمل ألفاظ من مثل بلوتو وبرسفون وإيليا وصموئيل وديوس وپودوبا 2- التجديد في العروض، ويمكن أن نلخصه في: أ: ألشعر الحرّ الحديث: وهو مالم يتقيّد بقافية، ولا بتوازن بين الشطرين ب: الشعر المرسل: وهوما يلتزم فيه البحر الواحد مع تحرر من القافية ج: الشعر المنثور: وهو ما لا يتقيّد بوزن ولا قافية د: الشعر القصصي: وهو قصص تعتمد علي نقش شاعريّة، تتجاوب إيقاعاتها مع أعماق الإنسانية الداخليّة.... نستطيع أن نجمل التجديد الذي نادي به شعراءأبوللّو بمايأتي: أ: ألألفاظ ب: الشعر الحرّ ج: الشعر المرسل د: الشعر المنثور ه: الشعر المترجم والمطولّات التأملّية و: الشعر القصصي ز: الشعر التمثيلي ح: الشعر العلمي غير أن هذه المحاولات التجديديّة في شعر أصحاب هذه المدرسة لم تكن بمستويً واحدٍ كما هي الحال عند معاصريهم من شعراء القصيدة العموديّة.9
النقد الأدبي في منظور سيد قطب من خلال قراءة وتحليل سمير لعفيسي العمل الأدبي عند سيد قطب هو: التعبير عن تجربة شعوريَّة في صورة موحيةوهذا التعريف في دلالته تَشترك فيه جميعُ فنون الأدب، وسيد قطب بحسِّه النقديِّ الثاقب في هذا التعريف، يُحاول أن يحدِّد المشتركات التي تَجمع الفنون الأدبيَّة، ويَبني عليها تعريفًا دقيقًا في خمس كلمات، ونحن لا ندَّعي أن هذا التعريف قد أوفى بجميع خصائص العمل الأدبي، ولكنه شاملٌ ودقيق من جهة التشارك بين الفنون ليس إلا؛ فسيد قطب نفسُه يقول: ومع أن التعريفات - وبخاصة في الأدب فالتجربة الشعورية هي العنصر الذي يَدفع إلى التعبير، ولكنها بذاتها ليست هي العملَ الأدبي؛ لأنها ما دامت مُضمَرة في النفس، لم تَظهر في صورة لفظية معيَّنة، فهي إحساس أو انفعال، لا يتحقَّق به وجود العمل الأدبي والتعبير في اللغة يشمل كلَّ صورة لفظيَّة ذات دلالة، ولكنه لا يصبح عملاً أدبيًّا إلا حين يتناول تجربة شعوريَّة معينة، فالتعبير لا يُقصد به مجرد التعبير، بل رسمُ صورة لفظية موحية للانفعال الوجداني في نفوس الآخرين؛ وهذا شرط العمل الأدبي وغايته، وبه يستحق صفته فمتى كان الانفعال الوجداني، والتعبير موحيًا مؤثرًا كان العمل الأدبيُّ حاضرًا، وغايته تَكمن في ذاته، فهو يحقِّق لونًا من ألوان الحركة الشعوريَّة، وهذه - في ذاتها - غاية إنسانيَّة وحيوية، تَدفع فجميعُ الفنون الأدبية تحقِّق ذاتها عن طريق التعبير الموحي المؤثِّر، فمتى كان الشعر أو القصة أو الرواية أو المقالة... إلخ، تترك تأثيرًا وتصورًا في نفس القارئ، وتصبح التجربةُ الشعورية مِلكًا للقارئ يتأثر بها كما تأثَّر بها صاحبها، وأضاف بها إلى رصيده من المشاعر صورة جديدة ممتازة - يكون العمل الأدبي قد حقَّق غايته المثلى هكذا يدعو سيد قطب إلى أصلٍ لا غِنى عنه في تكون العمل الأدبي، ألا وهو عنصر التأثير والشعور؛ الشعور الذي يَنقُلنا إلى تذوق عوالِمَ جديدة مع كل مرةٍ نَقرأ فيها لأديب عظيم، وما دمنا قادرين على أن نعيش تجاربَ هؤلاء الأدباء وننفعل بها؛ فإننا أضفنا إلى أعمارنا زادًا ورصيدًا إضافيًّا
ولكن أبا تمام على الرغم من إيغاله في حضارة الدولة الإسلامية وفي عصورها الذهبية أساء التقليد والفهم معًا لموطن الكلمة السابقة في صورته، وقد نقده الآمدي نقدًا لاذعًا. وتعقب الناقد صورة أبي تمام ليكشف عن عيبها، ويفضح عجزه فيها، ويبين فهمه الخاطئ لصورة أبي نواس، وهي وتلطلم الورد بعناب فلم يفهم الفرق بين المقامين، فمقام صورة أبي نواس يقتضي هذا، لأن المرأة التي صورها كانت في الحقيقة كذلك، تلطم في مأتم خدها الأحمر بأصابعها المخضبة كالخضاب. 4 .ظاهرة المدارس الشعرية : المقصود بالمدرسة الشعرية في العصر الجاهلي مجموعة من الشعراء يشتركون معا في بعض الميزات والخصائص الفنية أو اللغوية أو المنهجية التي تميّز شعرهم وأدبهم ... ولعل من أبرز هذه المدارس ؛ مدرسة عبيد الشعر وهم الذين يهتمون بتنقيح وتهذيب أشعارهم ـ كما تقدم ـ زعيم هذه المدرسة ورأسها كما ذكر صاحب الأغاني هو أوس بن حجر وعنه أخذ زهير بن أبي سلمة وعنه ابنه كعب وراويته الحطيئة وعن الحطيئة هُدْبَة بن خشْرم العُذري وعن هدبة أخذ جميل صاحب بثينة وعن جميل أخذ كثيَّر صاحب عزَّة يقول الدكتور شوقي ضيف ، وهو نص بالغ الخطورة إذ نطلع منه على نشوء فكرة المدارس الشعرية عند الجاهليين ويقول أيضا، نحن إذا بإزاء مدرسة تامة من الشعراء الرواة تتسلسل في طبقات أو حلقات وكلّ حلقة تأخذ عن سابقتها وتسلم إلى لا حقتها ومن أهمّ ما يلاحظ في هذه المدرسة أنّ شعراءها أو رواتها كانوا من قبائل مختلفة في شرقي الجزيرة وغربها وتقابل هذه المدرسة بمرتجلي الشعر ومن أشهرهم النابغة الذبياني وحسان بن ثابت وأحيانا شعراء القبيلة الواحدة يكونون مدرسة متميّزة لكثرة ما يأخذون عن بعضهم البعض ويتتلمذون على بعضهم البعض .كما يقول شوقي ضيف: ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إنّ شعراء القبيلة الواحدة كان يروي خلفهم شعر سلفهم ونصّ القدماء على ذلك في غير شاعر ...ومن يقرأ ديوان الهذليين يجد أواصر فنية قوية تجمعهم وتربط بينهم وعلى هذا القياس توجد وشائج واضحة بين شعراء قيس بن ثعلبة ولابدّ أنّ خصائص كلّ مدرسة كانت تختلف عن خصائص المدرسة الأخرى ولا بدّ أنّ هذا الاختلاف كان معروفا معلوما عند النقاد خاصتهم وعامتهم وعليه يتمّ التفاضل والتقديم والتمييز بين رديء الشعر وجيّده .. وهذه المدارس ليست متعلقة بالرواية فقط بحيث لا ندركها ولا نتعرّف عليها إلاّ من خلال ما يثبت من علاقة بين الشعراء ورواتهم ...بل النظر في أشعارهم وما فيها من الخصائص والميزات المشتركة هو الذي يحدّدها يقول الأستاذ شوقي ضيف دائما: ولو أنّ الرواة لم يرووا لنا هذه الصلات الجامعة أو الرابطة بين الشعراء الجاهليين لدسناها حدساً من اتفاقهم على تقاليد فنية واحدة مهما شرَّقنا وغرّبنا في الجزيرة وهي تقاليد جاءت من تمسّكهم بنماذج أسلافهم لا يحيدون عنها ولا ينحرفون فهي دائما الإمام المتّبع ظاهرة المعلقات : قال ابن عبد ربّه :قد بلغ من كلف العرب بالشعر وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة وعلّقتها بأستار الكعبة» وقد اختلفوا في حقيقة تعليقها على أستار الكعبة وقال بعض المحققين أنّ هذا التعليق إنّما من باب الأساطير وأنّه تفسيرُ وفهمُ بعض المتأخرين للفظة معلقات والحقيقة أنّ معناه تعلّق القلوب بها وعلقها هي في القلوب وقيل أنّ اختيار الرجل للشعر قطعة من عقله وهذا الاختيار يعكس تصور المختار للمثل الأعلى الذي يروقه كما أنّه يدل على تذوقه للصور الفنية الناضجة التي كانت عليها هذه القصائد مبنى ومعنى ، والتي ظلّ الذوق العربي يألفها وينسج على منوالها طوال عصور الأدب ... ظاهرة تسمية القصائد : المقصود بالتسمية ها هنا المبنية على أساس نقدي كالمعلقات السبع والسموط أو المسمَّطات والمقلَّدات والبتّارات ذكر صاحب الأغاني عن حماد الراوية قوله : كانت العرب تعرض أشعارها على قريش فما قبلوا منها كان مقبولا ، وما ردّوا منها كان مردودا فقدم عليها علقمة بن عبدة فأنشدهم : هل ما علمتَ وما استودعتَ مكتوم أم حَبْلُها أنْ نأتْكَ اليومَ مصرومُ فقالوا : هذه سمط الدهر ثمّ عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم : طحابك قلب في الحسان طروبُ بُعَيْد الشباب عصرحان مشيبُ فقالوا : هاتان سمطا الدهر ووصف الأمير الغساني لقصيدة حسان بقوله : هذه والله هي البتّارة التي بترت القصائد يقول الأستاذ قصي الحسين : فالعرب كانت لهم فكرة واسعة جدّاً عن تصنيف القصائد في مجالسهم وفي مواسمهم وليس من الغرابة أن يقولوا بالبتّارة وبالمعلّقة وبالسمط وهذه التسميات النقدية التي وصلتنا من مرحلة النقد المروي في العصر الجاهلي هي في الواقع أشبه بالمعالم البارزة التي تشير إلى مرحلة من النقد الأدبي كانت من الازدهار بحيث استطاعت أن تسيطر على جميع المجالس والمنابر والمواسم ... » ويقول أيضا إنّ الألقاب التي تطلق على القصائد مثل : سمط الدهر ، سمطا الدهر ، البتّارة ، المعلقة ، السبعية ، إنّما هي نوع من الأحكام في معظم الأحيان 7.ظاهرة تصنيف الشعراء : ذكرى الأصمعي أنّ العرب كانت تصنّف الشعراء بحسب قوة قريحتهم وتمكّنهم من ناصية الشعر فأوّلهم الفحل قال والفحولة هم الرواة ودون الفحل الخنذيذ الشاعر المفلّق ودون ذلك الشاعر فقط والرابع الشعرور ولذلك قال أحدهم في هجاء أحد الشعراء : يا رابع الشعراء فيم هجوتني وزعمت أني مفحم لا أنطق والمقصود بالرابع ها هنا أنّه شعرور في الطبقة الرابعة وقال الجاحظ في تصنيف آخر للشعراء : وسمعت بعض العلماء يقول طبقات الشعراء ثلاثة شاعر وشويعر وشعرور والشويعر مثل محمد بن أبي حمران سماه بذلك امرؤ القيس ومنهم من بني ضبّة المفوّض شاعر بني حميس ...ولذلك قال العبدي : ألا تنهى سراة بني حميس شويعرها فويليّة الأفاعي قبيلة تردد حيث شاءت كزائدة النعامة في الكراع والشويعر أيضا صفوان بن عبد ياليل من بني سعد بن ليث ويقال أنّ اسمه ربيعة بن عثمان ... وقد تقدّم تصنيفهم إلى عبيد الشعر فئة الصنعة والتكلّف وفئة أصحاب الطبع والسجية وممّا ذكره الجاحظ في هذا التصنيف: ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتا وزمنا طويلا يردد فيها نظره ويقلب فيها رأيه إتهاما لعقله وتتبعا على نفسه فيجعل عقله ذماما على رأيه ورأيه عيارا على شعره إشفاقا على أدبه وإحرازا لما خوله الله من نعمته وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمنقحات والمحكمات ليصير قائلها فحلا خنذيذا وشاعرا مفلقا وروي عن الحطيئة قوله : خير الشعر الحولي المحكّك وكان الأصمعي يقول : زهير بن أبي سلمة والحطيئةوأشباههما عبيد الشعر وكذلك كلّ من يجوّد في جميع شعره ويقف عند كلّ بيت قاله وأهاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلّها مستوية في الجودة فتصنيف النقاد في العصر الجاهلي لفئات الشعراء والخطباء هو الذي كان يدفع بالشاعر لينقد غيره ، وهذا النوع من النوع من النقد المبكّر هو الذي قلنا عنه إنّه النقد الذاتي . أماّ التصنيفي فهو النقد الذي كان يواكبه ويحاذيه فيخشاه الشاعر أشدّ الخشية فيعمد على تجويد شعره حتى لا تصيبه سهام النّقاد التصنيفيين
خصائص النقد في العصر الجاهلي الذاتية : المقصود بها البعد عن الموضوعية وتأثر الناقد بعوامل خارجة عن النصّ الأدبي وسنكتفي للتدليل على هذه الميزة والسمّة بنموذج حكومة أمّ جندب ، فقد اتّهمّ امرؤ القيس زوجته بعدم الموضوعية وأنّ حكمها إنّما أصدرته لصالح علقمة لتعلقها به وحبّها له لا لشاعريته وقوّة أدبه ولعل في زواجها به بعد هذه الحكومة إن صحّت الرواية ما يقوّي شكوك وظنّ امرئ القيس وإن نحن أحسنّا الظنّ بالمرأة فإنّ حكمها لا يخو من تأثيرات خارجية بعيدة عن الموضوعية فالمرأة تحت رحمة زوجها في الجاهلية وطبيعي أن تخشى على نفسها ممّن يعامل ناقته أو فرسه تلك المعاملة ... 2. الجزئية : فقد كان النقد لا يتتبع النصّ الأدبي كلّه يبحث في جميع مناحيه ويدققّ في كلّ أجزائه وجوانبه بل يقتصر على البيت والبيتين أو على اللفظة واللفظتين كما فعلت أم حندب في اقتصارها على مقابلة بيتين من القصيدتين لا غير يقول الأستاذ شوقي ضيف: وقد يكون أدخل هذه الأحكام في باب النقد حكم زوجة امرئ القيس ومع ذلك فإنّها وقفت عند جزئية وقد يكون علقمة أشعر في هذه الجزئية من زوجها ولكن زوجها أشعر منه في القصيدة جميعها ، على أنّ العيب قد يكون في فرس امرئ القيس ، فهو وصاحبه جميعا إنما يصفان الواقع ، وحتى إذا سلّمنا لها بأنّ قصيدة علقمة أجود من قصيدة زوجها ، فإنّ ذلك لا يعطيها الحقّ في أن تحكم له حكما عاماً بتفوقه في شاعريته عليه وأنّه أشعر منه . 3. عدم التعليل : أي أنّ الناقد الجاهلي كان يصدر أحكامه بالاستحسان أو الاستهجان دون أن يلزم نفسه بتعليل هذه الأحكام وبيان وجه استحسانه أو استهجانه للنّص الأدبي ...ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك حكومة ربيعة بن حِذار الأسدي بين الشعراء الأربعة ومنه مفاضلاتهم وتصنيفاتهم للشعر والشعراء وتقديماتهم لبعضهم على بعض دون بيان لعلّة أو سبب 4 .الإيجاز : ونعني به أنّ الناقد كثيرا ما يغلف حكمه النقدي بعبارة موجزة يفهم منها ما يراد ولكن دون شرح أو تفصيل ، وذلك يتّضح من نقد طرفة لشعر المتلمس السابق ، حينما قال : استنوق الجمل فهذه عبارة موجزة تحمل حكما نقديا عيب به على شعر المتلمس الذي وصف الجمل بسمة الناقة ومعظم النماذج النقدية التي وصلتنا من العصر الجاهلي إنّما كانت تتصف بالإيجاز الشديد والتركيز على ناحية معيّنة من نواحي القصيدة والاكتفاء باللمحة المقتضبة أو الإشارة السريعة التي تدلّ على استحسان الشعر أو بغضه ومقته 5. تحكّم العرف : أي أن عرف العرب والذوق العام هو المعلم الرئيس في النقد الجاهلي كلّ ما وافق العرف فهو حسن وكلّ ما خالف هذا العرف والذوق العام فهو القبيح يقول الأستاذ شوقي ضيف : ، وقد اندفع الشاعر يحاول إرضاء هذا الذوق وأن يقع منه موقع استحسان . وربما كان ذلك السبب الحقيقي في وقوفه بشعره عند موضوعات بعينها ، بل عند معان وألفاظ بعينها حتى ليقول زهير : ما أرانا نقول إلاّ مُعارا أو مُعادا من لفظنا مكرورا فهو مقيّد بأسلوب فني يتبعه ويقلّده ، وهو لا يستطيع أن ينحرف عنه ، فلابدّ له حين ينظم قصيدة أو مطولة أن يستهلها بالبكاء على الديار والأطلال ثم يتحدث عن رحلته في الصحراء ويصف في أثناء ذلك ناقته ، ثم يخرج إلى غرضه من مديح وغير مديح وهو لا يصنع ذلك حرّاً ، فلا بدّ له من التمسك بالمعاني والصيغ الثابتة التي يدور فيها الشعراء من قبله ومن حوله ، حتى لا ينصرف جمهور السامعين عنه وحتى يبلغ من التأثير فيهم ما يريد 6. الروح الشعرية في النصوص النقدية : المقصود ها هنا أنّ الناقد الجاهلي كان يصدر أحكامه في قوالب فنّية بديعة وبأساليب بيانية راقية فقد كانوا يحسنون ويجيدون الإعراب عن تأثّرهم بالنّص و الإفصاح عن إعجابهم به ...وانظر بإمعان إلى أحكام ربيعة بن حِذار الأسدي بل استمع جيّدا للكلمة الوجيزة التي صارت مثلا يضرب استنوق الجمل ، ولشدّة اشتقاق النقد من الشعر وشدّة اتّصاله به كاد النقد في العصر الجاهلي ...أن يكون قريبا في الروح من بعض الأغراض الشعرية فهو يعيب على الشاعر قوله كأنّه يهجوه كما يثني على الشاعر الآخر كأنّه يمدحه 7. النقد الفطري : الذي يعتمد على ذوق الشاعر وعلى سلامة سليقته يقول الأستاذ قصي حسين : ولا شكّ أنّ العربي كان يحسّ بأثر الشعر إحساسا فطريا وعفويا بعيدا كلّ البعد عن التعقيدات وأنواع التعليل والتبرير ، إنّه يتذوقه جبلّة وطبعا ، أما حكمه على الشعر فهو يستند إلى ذائقته الأدبية وحسن سليقته وبالاعتماد على ذلك يتمّ الحكم على الشعر والشعراء... اهـ إنّ طبيعة الأحكام النقدية في العصر الجاهلي اتّسمت بالذوق الفطري فلم تكن للنقد أصول معروفة ولا مقاييس مقررة ، بل كانت مجرد لمحات ذوقية ونظرات شخصية وتقوم على ما تلهمهم به طبائعهم الأدبية وسليقتهم العربية وأذواقهم الشاعرة وحسهم اللغوي الدقيق بلغتهم وإحاطتهم بأسرارها ووقوفهم على ما للألفاظ من دلالات وإيحاءات في شتّى صورها اهـ 8. تأثير العصبية القبلية : لا شكّ أنّ الجو العام الذي كان يسود البيئة العربية ويعمّها سيؤثّر ولا بدّ في النقد الأدبي ولعل أبرز ظاهرة اتّسم بها هذا العصر هي العصبية القبلية وما صاحبها من تفاخر وتنافر . ولهذا قال ابن سلاّم الجمحي : إنّ القبائل قد قالت بأهوائها 9. التعرض لأمور خارجة عن النّص : غالبا ما كان الناقد إنّما يتعرض لأمورٍ خارجة عن النّص كما فعل أحيحة بن الجُلاح مع ناقة الشماخ وكما فعلت أمّ جندب مع فرسي أو ناقتي زوجها وعلقمة ... خامسا : تقييم النقد في العصر الجاهلي : لنبدأ أوّلاً بنقل بعض أحكام أهل العلم والاختصاص متعلقة بالنقد الأدبي في العصر الجاهلي وتقييمه على العموم يقول الأستاذ شوقي ضيف: ...على أن لا نبالغ في تصوّر نقدهم فقد كان كما تشهد نصوصه نقد ذوق فطري بسيط اهـ ويقول الدكتور مصطفى عبد الرحمن : ... ومن هنا وجد النقد الأدبي في الجاهلية ولكنه وجد هينا يسيرا ملائما لروح العصر ملائما للشعر العربي نفسه فالشعر الجاهلي إحساس محض أو يكاد والنقد كذلك كلاهما قائم على الانفعال والتأثر فالشاعر مهتاج بما حوله من الأشياء والحوادث والناقد مهتاج بواقع الكلام في نفسه وكل نقد في نشأته لا بدّ أن يكون قائما على الانفعال بأثر الكلام المنقود . والنقد العربي لا يشذ عن تلك القاعدة بل هو من أصدق الأمثلة لها ، فالعربي حساس رقيق الحس تنال الكلم من نفسه ويحتاج لها اهتياجا فإذا حكم على الأدب حكم عليه تبعا لتأثره به وبمقدار ذلك التأثر هو يحكم على الأدب ببلاغة الأدب ويحكم عليه بالنظرة العجلى والأثر السريع . اهـ ويقول الأستاذ قصي حسين : ...هو مجرد آراء عفوية انطباعية ذات طبيعة نقدية هدفها تصوير ما يجول في نفس الناقد إزاء الشعر نفسه حتى يكون أكثر غنطباقا للصورة المتوخاة وقد كان هذا النوع من النقد العفوي الانطباعي هو السائد في المرحلة التأسيسية للنقد النموذجي ذي الطبيعة المدرسية فيما بعد . وهناك نماذج نقدية مشابهة ، تعود بجملتها إلى العصر الجاهلي وهي إنّما تتحدث عن شؤون خارجة عن الشعر نفسه ، أو هي جزئية فيه إنّها شؤون تكاد تكون متّصلة بالعرف أو بالمعارف التي يتضمّنها الشعر أو بلفظة معجبة هنا ولفظة معجبة هناك أو بيت محكم المعنى والسبك أو بيت مفكك في صورته ورديء في معناه . اهـ إنّ الحكم على النقد الأدبي في العصر الجاهلي وتقييمه ينبغي أن يتمّ من خلال أمرين اثنين: الأوّل: بيان خصائصه وميزاته وقد تمّ في المباحث المتقدمة ولعل الأحكام الثلاثة المتقدمة تنصب في هذا المجال والثاني: محاولة معرفة هل أدّى النقد الأدبي في العصر الجاهلي دوره المناط به وغايته إنّ دور النقد الأدبي وغايته مهما قيل فيها قديما وحديثا لا تخرج عن أربعة أمور هي : .1دراسة النصّ الأدبي : من جوانبه الثلاث : الشكل ، المضمون ، وصاحبه .2مساعدة القارئ على فهم النّص وتذوّقه .3الحكم على النصوص الأدبية وبيان جيّدها من رديئها .4توجيه الأدب وتطويره والناظر المتأمّل في الشواهد والنماذج النقدية التي وصلتنا ـ على قلّتها ـ يعلم يقينا أنّ النقد الأدبي قد أدّى دوره غاية الأداء وبلغ هدفه غاية البلوغ ... ألم يرتقي بالأدب إلى أسمى مراتبه حتى قيل أنّ أفضل ما قالته العرب إنّما قالته في جاهليتها ويؤيّد هذا الزعم أنّ القرآن الكريم نزل في بيئتهم وعصرهم يتحدّاهم في ميدانهم الذي برعوا فيه...وأبلغ ما يكون التحدّي مع قومٍ فاقوا غيرهم في صناعة الكلام ... ألم يحكم نقاد الجاهلية على أدبهم فميّزوا بين جيّده ورديئه وصنفوا قصائدهم ورتّبوا شعرائهم أليسوا هم أوّل من أبان عن درر الأدب العربي باختيارهم المعلقات السبع ... ثمّ ألم يساعد النقد الأدبي الجاهلي متمثلا في ظاهرة الرواة الإنسان العربي البسيط في الوصول إلى عيون أدبهم وفهمها وتذوقها ... ثمّ هذه الشواهد المتنوعة أليس مظاهر من مظاهر دراسة النّص الأدبي لكن وفق حاجيات الإنسان الجاهلي ... والخلاصة أنّ النقد الأدبي في العصر الجاهلي على بساطته وإيجازه وقلة تعليل أحكامه بالمقارنة مع النقد الحديث فإنّه كان نقدا مناسبا لبيئته متوافقا معها مستجيبا لمتطلباتها ارتقى بالأدب إلى أسمى مراتبه فنعم النقد كان ... والله أعلم بالحق والصواب
النقد العربي الحديث والأجناس الأدبية لقد جاء اهتمام النقد العربي الحديث بمباحث الأجناس متأخرا نسبيا، ويرجع ذلك إلى البواعث الإيديولوجية، التي وجهت عناية المعاصرين إلى الإكباب على التراث فحصا وتنقيبا، يحدوهم في ذلك طموح إلى إبراز سمات الحداثة في هذا التراث إثباتا لأسبقية العرب إلى الكشوفات الأدبية والنقدية دفعا لتهمة التأخر عن الغرب. أما البداية الفعلية للاهتمام بمباحث الأجناس فلم تنطلق، عربيا، إلا في الثمانينات لتبدأ في التنامي منذ ذلك الحين، حتى استوت في السنوات الأخيرة في دراسات متخصصة محضها أصحابها لفحص قضايا الأجناس من وجهة أنظار متغايرة. وقد رأينا أن نصرف بعض جهدنا في هذا البحث إلى فحص المسألة الأنواعية في المنجز النقدي لباحثين ثلاثة من المغرب العربي عبد الفتاح – سعيد يقطين – فرج بن رمضان في سعي لاستخلاص معالم الدرس الأنواعي في النقد العربي الحديث. 1-عبد الفتاح : النص الأدبي وقواعد النوع لعلي لست مغاليا إذا اعتبرت أعمال الناقد المغربي عبد الفتاح مفصلا هاما في الدراسات النقدية الحديثة، التي اهتمت بمجال نقد الموروث السردي استنادا إلى المنهجيات الحديثة، فقد بذل جهدا في هذا المجال خصيبا منذ أعماله الأولى التي كتبها بالفرنسية، ثم ما لبثت أن ظهرت بالعربية تباعا في وقت متقارب خلال العقود الأربعة الأخيرة مثل الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلف في الثقافة العربية والمقامات – دراسة في السرد والأنساق والعين والإبرة، دراسة في ألف ليلة وليلة. بعد ذلك توجه إلى الكتابة بالعربية، فظهرت له جملة أعمال أكب فيها على فحص ودراسة بعض الجوانب الجزئية المتصلة بقضايا السرديات، التي تفرغ لها فشكلت مشروع عمره الذي خصه بكل وقته وجهده. ويمكن التمثيل لدراسات التي انشغلت بجوانب جزئية من الموروث السردي بـ الأدب والغرابة. وإلى جانب ذلك اختص السرد العربي بمعالجات على نحو كلي كما هي الحال في كتابيه: الغائب: دراسة في مقامة للحريري والحكاية والتأويل: دراسة في السرد العربي. وفي جميع هذه الدراسات كانت المسألة الأجناسية حاضرة، إذ غالبا ما كان يعمد إلى بحث الضوابط الأجناسية للأعمال التي عني بدرسها. غير أن تتبع هذه الدراسات للوقوف على تصور لقضية الأجناس أمر يطول لتوزعها في مواضع من مؤلفاته متفرقة، لكل ذلك رأينا أن نقتصر على الدراسة الموجزة التي ضمنها فصلا من كتابه الأدب والغرابة، وهو الفصل الذي وسمه بـ تصنيف الأنواع. في سياق دراسته لغرابة النص الأدبي وعلاقته بالجنس الذي يندرج ضمنه رأى أن تحديد مفهوم النص قد يكون مفيدا لتحقيق هذا المقصد، ومن هنا قدم تصوره لـ النص باعتباره تنظيما لغويا فريدا، يتميز من اللانص بكونه ذا مدلول ثقافي، حيث الكلام، من منظور ، لا يصير نصا إلا داخل ثقافة معينة؛ أي أنه لا يمنح صفة نص إلا من منظور ثقافة معينة، بما يفيد أن الكلام الذي توافرت له خصائص النصية فاعتبر نصا، من منظور ثقافة معينة، قد لا يعتبر كذلك في ثقافة أخرى تنظر إليه بوصفه لا نصا. وبذلك يكون النص عند إنما يتحدد في مقابل اللانص، فإذا كان النص يتميز بكونه ليس له تنظيم ولا مدلول ثقافي، ومن ثم لا يفسر ولا يعلم ولا يحظى بأي اهتمام، فإن النص يتميز بأنه تنظيم له مدلول ثقافي وأدبي، وهو ما يمكنه من أن يدخل في علاقة مع الخطاب الأدبي ليحقق من خلال هذه العلاقة نمطا داخل ذلك الخطاب، حيث النص الذي يطغى عليه المنحى التعليمي مثلا، تهيمن فيه صيغة الأمر والنهي. وهو ما ينقل هذه النصوص إلى أجناس تمثل الموعظة والحكمة وخطبة الجمعة. إن هذه الصيغ المتميزة هي التي وسمت الحكم والأمثال، فيما يرى ، بسمات خاصة فرقتها عما ليس نصا، ومن ثم سميت نصوصا. وبالرغم من هذه الفروق الموجودة بين هذه الأنواع، فقد لحظ أن نفس القاعدة تعمل فيها جميعا. إن هذه التحديدات التي يسوق بغية تمييز النص من اللانص لتدفعنا إلى التساؤل عن علاقة النص بالجنس الذي يرتقي إليه. إن الجنس الأدبي عبارة عن محددات سابقة على النص؛ أي بنيات نصية مجردة. أما النص فهو بنيات نصية منجزة تتحقق فيها ومن خلالها البنيات المجردة، وبذلك تكون العلاقة بين النص والجنس أن الأول تحقيق للأخير وتكوين له، ويتم ذلك عندما تشترك مجموعة من النصوص في نفس السمات الجوهرية، التي تؤشر على ارتقائها إلى جنس أدبي بعينه، سواء كان هذا الجنس موجودا أو محتملا أو مفترضا. يقول : النوع يتكون عندما تشترك مجموعة من النصوص في إبراز نفس العناصر، مما يعني أن ظهور مفهوم النوع الأدبي يقتضي تعددا في النصوص، شريطة أن يقوم هذا التعدد النصي على التواتر والتكرار؛ أي أن مكونات نصية بعينها تظهر في جميع النصوص المندرجة تحت نفس الجنس، إن القارئ لا يشعر أنه قد خرج من نوع إلى آخر إلا في اللحظة التي يواجه بعناصر جديدة تلقي به خارج حدود التقاليد التي كرستها سلسلة التلقيات التي خضع لها النوع. وكذا الآفاق المتعاقبة عليه تاريخيا. ولكن ما هي هذه العناصر التي تستطيع، بتوافرها في النص، أن تجعله مندرجا في نوع محدد، فإذا غابت أدرج في غيره؟. قضية الأنواع الأدبية، تقرر مبدأين أساسين تقوم عليهما الأنواع: يتمثل المبدأ الأول في الاستناد إلى تكرار عناصر بعينها في مجموعة من النصوص لترتيبها في أجناس وأنواع. أما المبدأ الثاني فيتمثل في تحول الأنواع عند انتهاك العناصر المعتبرة جوهرية في النوع، حيث إن خرقها أو تعديلها يفضي إلى ظهور أنواع جديدة. إن خصائص النوع، ، لا تتحدد إلا من خلال تعارضها مع الخصائص المعتمدة في أنواع أخرى، ويشبه مبدأ التعارض الذي تقوم عليه الأنواع بالعلامة اللغوية عند سوسير، ليستخلص أن النوع يتحدد قبل كل شيء بما ليس واردا في الأنواع الأخرى. وهو ما يقتضي الدارس، الذي يروم دراسة نوع مفرد، أن يأخذ بعين الاعتبار المقومات الأنواعية في الأجناس الأخرى، لأن دراسة نوع تكون في نفس الوقت دراسة للأنواع المجاورة. وبعد أن أشار إلى تقسيم الكلام عند القدامى إلى نظم ونثر قدم مقترحه الخاص لتصنيف الأنواع استنادا إلى تحليل علاقة المتكلم بالخطاب، حيث رأى أن الأنماط الخطابية لا تتعدى أربعة هي: 1/ المتكلم يتحدث باسمه: الرسائل، والخطب، والعديد من الأنواع الشعرية التقليدية. 2/ المتكلم يروي لغيره: الحديث، وكتب الأخبار. 3/ المتكلم ينسب خطابا لغيره. 4/ المتكلم ينسب لغيره خطابا يكون هو منشئه. لعل ما يثير انتباهنا في هذا التصنيف استناده إلى مرتكز أساس هو علاقة المتكلم بالمخاطب أكثر من استناده إلى علاقة المتكلم بالخطاب، أما فيما يخص الصيغة التي يعتمدها كل نمط خطابي فإننا نلحظ أن الصيغ الأربع التي قررها ليست خالصة تماما، وهو ما أشار إليه نفسه عندما لحظ تداخل الصيغ في قول امرئ القيس مثلا: ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة فقالت لك الويلات إنك مرجلي فقد سجل أن هذا البيت يتضمن نمطين من الخطاب: كلام الشاعر من الصنف الأول، أما كلام حبيبته فإنه من الصنف الثاني إن كان الأمر يتعلق برواية أو من الصنف الرابع إن كان الأمر يتعلق بنسبة. كما يمكننا أن نضيف ملحظا على هذا التصنيف آخر مؤداه أن الصيغة لا تكون دائما ملائمة للجنس، ويمكن التمثيل لذلك بالرسالة، فالصيغة التي يفترض اعتمادها في هذا الجنس، حسب ، هي الأولى لأن المتكلم يتحدث، في هذا الجنس، باسمه وهو ما لا يتحقق دائما، فلسنا نعدم بعض الرسائل الذي يتوارى فيه منشئه تماما، كما هي الحال في الرسائل التي يتولى المنشئ كتابتها نيابة عن السلطان مثلا. إن لا يقدم، في هذا المقترح، تصنيفا للنصوص. ويبدو أن هذا الأمر لم يكن من مشاغله في هذه الدراسة، التي سعى من خلالها إلى تقديم مبادئ عامة من شأنها أن تسعف من يتصدى لتصنيف النصوص في تحقيق مسعاه. ومما يؤكد انشغال أساسا بالسعي إلى استخلاص المبادئ العامة ما وجدناه عنده من محاولة لاختزال الأنماط الخطابية الأربعة بعد تحليلها إلى نمطين رئيسيين هما: I/ الخطاب الشخصي II/ الخطاب المروي وهذا النمط من الخطاب يتفرع عنده إلى: 1- بدون نسبة 2- بنسبة: أ/ صحيحة ب/ زائفة ج/ خيالية وقد اتخذ من مقامات الهمذاني حقلا تطبيقيا لاختبار هذه العلائق، ليخلص في النهاية إلى اعتبار المقامات مندرجة في الخطاب المروي بنسبة خيالية. بالرغم من الجهد الخصيب الذي بذله الباحث لتدقيق مفهوم النوع، فقد بقي هذا المفهوم ملتبسا وغير دقيق. وهو أمر يمكن أن يرتد إلى توسيع مفهوم النوع بحيث شمل، في تشغيله، الخطب والرسائل والقصة والمقامة والمثل والموعظة والحكمة والسير والتراجم والأخبار والشرح والحديث والحكايات والروايات البوليسية، فكل هذه المخاطبات عنده أنواع. وهو ما يتعذر معه تحديد الأسس الخاصة بكل نوع على حدة، كما يؤدي إلى تداخل الأنواع بشكل يصعب معه التمييز بينها بدقة. فالحكمة مثلا عند نوع مستقل وقائم بذاته، وذلك أمر يحتاج تقريره إلى مراجعة وتمحيص لترسيم الحدود بين الحكمة في شعر زهير والحكمة في كليلة ودمنة مثلا، وقل الشيء نفسه عن الموعظة التي يعتبرها نوعا، في حين نجدها تتحول إلى صفة موضوعية في العديد من الأنواع الأدبية الأخرى مثل الخطبة والخبر وكتب الحديث والمقامة والمقام. إن فحص تصور لمفهوم الجنس الأدبي ليكشف عن موقف متشدد، حيث جميع النصوص، فيما يقرر ، مندرج بالضرورة ضمن جنس محدد، وليس هناك من نص يمكنه الإفلات من قبضة الجنس. وليس يخفى ما ينطوي عليه هذا التصور من شطط، إذ يتجاهل حقيقة بدهية لا نخالها تخفى على الباحث، وهي أنه ليس جميع النصوص خاضع لسلطة الجنس، فقد بقي العديد منها متعاليا لا يقبل الانصياع لضوابط التجنيس والتصنيف، كما هي الحال بالنسبة للقرآن الكريم، الذي مثل في السياق العربي نصا لغويا يتجاوز، بلاغيا، سائر التجليات اللفظية التي أنتجتها العربي، وقد شكل بذلك حالة متميزة ومفردة في تاريخ الأجناس الأدبية، فلا هو بالشعر ولا هو بالنثر ولكنه قرآن باصطلاح العميد. وقد ذهب بعيدا في تكريس سلطة الجنس الأدبي، إذ يرى أن المبدع يفقد حريته تماما أمام قواعد النوع التي يخضع لها خضوعا مطلقا من دون أن تكون لديه إمكانية التعديل في مقتضياته أو تغييرها. وهو صريح قوله: إن أنواع الحكاية كثيرة وهناك أنواع تفرض تسلسلا معينا يكون على القائم بالسرد أن يحترمه [...] فالمعروف أن منشئي المقامات احترموا بصفة عامة التسلسل الثابت للأفعال السردية كما وضعه الهمذاني، وهنا لابد من الإشارة إلى أن تحقيق الإمكانية النهائية الذي قلنا بأنه المجال الوحيد، الذي تظهر فيه حرية القائم بالسرد، يكون بدوره مقيدا بالنوع، بحيث تنعدم تماما حرية الاختيار. إذا كان المبدع يخضع لمقتضيات النوع ويتقيد بعناصره الأساس، فإن خضوعه ليس مطلقا ولكنه امتثال جزئي لقواعد النوع الجوهرية. فالمبدع دائما يصارع القيود التي يفرضها النوع، في مسعى لتعديلها بما يوائم نصه من جهة، ويساير التطور الأدبي من جهة مقابلة. و نفسه يقرر، كما سبق التنويه، أن النوع لا يتضرر إذا اقتصر التعديل على العناصر الثانوية فيه. 2-سعيد يقطين: النص الأدبي ومشكلة التصنيف من الدراسات الهامة التي وقفت من قضية الأجناس الأدبية وقفة جادة، دراسة سعيد يقطين، الذي نخصص هذا الحيز للتعريف بجهده الأبرز في هذا المجال من خلال دراسته الموسومة بـ الكلام والخبر، التي يمكن اعتبارها تكملة للدراسة التي كان يقطين أنجزها عن كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي. لقد جاءت دراسة يقطين رائدة في بابها، فخطت بالتصورات النقدية العربية خطوات متقدمة في القضايا المتصلة بنظرية الأجناس الأدبية، فقد كشف في هذه الدراسة عن وعي متطور بالإشكالات العميقة المطروحة على بساط البحث في أنواع الكلام العربي تجنيسا وتصنيفا. ولهذا الاعتبار يمكن النظر إلى الاجتهادات التي بلورها يقطين بوصفها مقترحات جادة يمكن اتخاذها، بعد تطويرها، أساسا لإرساء معايير تصنيفية تستجيب لخصوصية أجناس الأدب العربي. ومما يساعد على بلوغ هذا المقصد العزيز أن يقطين يظهر وعيا متقدما وهو يخوض في قضايا تجنيس النصوص الثراثية وتصنيفها، فقد استشعر، شأن العديد من المحدثين، أن المعايير التصنيفية المعتمدة في نظرية الأجناس الغربية قاصرة عن استيعاب التجليات النصية المختلفة التي يزخر بها التراث العربي. وانطلاقا من هذا الوعي، الذي تحصل للباحث، سعى إلى إنجاز تركيب عبر الإفادة من التصورات التي تتيحها نظرية الأجناس الغربية، بعد تطويعها بما يتلاءم وخصوصية الأدب العربي. ونظرا للتنوع الذي يسم هذه الانتاجات فقد استشعر يقطين أنه سيكون من الصعوبة بمكان تصنيفها اعتمادا على أنموذج أجناسي جاهز، ولذلك رأى أنه من الأنسب استحداث معايير تصنيفية تراعي الطبيعة الخاصة لهذه النصوص، مع قدرتها، في نفس الآن، على استيعاب جميع التجليات اللفظية شفوية وكتابية. لقد بنى يقطين تصوره لمسألة الأجناس الأدبية على أطروحة أساس شكلت عصب كتابه مؤداها بناء نظرية عامة للكلام العربي انطلاقا من المزاوجة بين المأثور العربي واجتهادات الغرب. ويتبين من فحص الكتاب مدى الجهد الخصيب الذي بذله الدارس إسهاما منه في التأسيس لنظرية أجناسية، تستوعب شساعة وخصوصية المادة النصية التراثية ذات الطبيعة المخصوصة والمقاصد المتباينة. وقد أفاد الباحث في صوغ مقترحاته، في هذا المجال، من الاجتهادات الباهرة التي راكمتها نظرية الأجناس في الغرب، بعدما وفق إلى تطويعها بما يستجيب لطموحه في تطوير نظرية أجناسية تراعي الخصوصية المحلية للموروث العربي، حيث تلطف يقطين في تحقيق مسماه بالتفاعل الإيجابي والخلاق بين المرجعية العربية والغربية من أجل تأصيل تصورات اجتهادية تنشد الإبداع بدل الارتهان إلى التقليد. يقول: إن تجديد علاقتنا بالمرجعية العربية أو الغربية يجب أن يتأسس على قاعدة الحوار العميق؛ أي التفاعل الإيجابي الذي ينشد التأصيل والإبداع بدون أية عقدة ثقافية أو حضارية. يتخذ الباحث من الكلام العربي باعتباره الجنس الجامع الذي أدرج تحته القدماء جميع الممارسات اللفظية، التي أبدعها العربي منطلقا للتفكير في مختلف التجليات النصية التي يتحقق من خلالها الكلام. وقد اقتضاه ذلك التوقف عند الاجتهادات التي بلورها القدماء، من أجل بناء تصور متكامل لأجناس الكلام العربي وأنواعه وأنماطه، فانتدب الباحث الفصل الرابع من كتابه للنهوض بهذا المسعى، حيث أداره على فحص قضية النص والجنس في الكلام العربي. ففي هذا الفصل قدم الباحث مقترحه الخاص بتجنيس الكلام العربي استنادا إلى إجراءات ثلاثة رئيسة هي: المبادئ، والمقولات، والتجليات. يقصد بالمبادئ الكليات العامة المجردة والمتعالية على الزمان والمكان، وتتميز بأنها موجودة دائما وإن اختلفت طرائق إدراكها. ونظرا لتعدد هذه المبادئ فقد رأى الباحث أن يكتفي بالتوقف عند ثلاثة منها بدت له مفيدة بالنسبة للإشكال الذي يخوض فيه: يتصل المبدأ الأول: بـ الثبات، وهو الذي يحدد العناصر الجوهرية التي نميز بوساطتها ماهية الشيء من غيرها. والثاني متعلق: بـالتحول، وهو مبدأ كلي مثل الأول، وإن تميز عنه بكونه غير متصل بالعناصر الجوهرية المتصفة بالثبات، ولكنه متصل بالصفات البنيوية القابلة للتحول. أما المبدأ الثالث: فله علاقة بـ التغير لاتصاله بالظواهر، التي تتعرض للتغير بفعل عوامل محددة زمنية أو تاريخية من شأنها أن تنقل الظاهرة من وضع إلى وضع. لقد تمكن الباحث باعتماد هذه المبادئ الثلاثة الكلية والمترابطة من ترصد العناصر المختلفة التي تدخل في تشكيل متصور الكلام، حيث نظر إليه في ذاته من خلال عناصره البنيوية، وإلى جانب ذلك درس الكلام في علاقاته وصيروراته، في مسعى لترصد تفاعلاته مع غيره. إن هذه المبادئ العامة التي يشغل يقطين عبارة عن أدوات إجرائية حاول الباحث من خلالها رصد المستويات المختلفة للكلام، ومن هنا حرص الباحث في اصطفائه لهذه المبادئ أن تكون قادرة على ضبط مستويات الكلام الثلاثة. ويقتضيها النهوض بهذه المهمة التوفر على كفاية إجرائية عالية، تقدرها على الإحاطة، في الكلام، بالثابت الجوهري، والبنيوي المتحول، والمتغير العرضي. وفي مسعى للتخفيف من طغيان التجريد الذي وسم هذه المبادئ الكلية الثلاثة، عمد الباحث إلى استدعاء مفهوم إجرائي آخر هو المقولات، الذي رآه ناجعا بالنسبة للمقصد الذي ينشد، والمتمثل في تدقيق المراتب الثلاثة التي مفصل إليها الكلام لتمييز بعضها من بعض. ويقصد بالمقولات مختلف التصورات والمفاهيم التي نستعملها لرصد الظواهر ووصفها. ولما كانت هذه التصورات والمفاهيم مرتبطة بتمثلاتنا للأشياء، فإن المقولات تكون متحولة، لأن طرائق تمثل الأشياء مختلفة حسب الأعمار والبيئات. وبهذا الاعتبار تكون التصورات المتصلة بالأجناس عند العرب مختلفة عن تلك التي تبلورت في الغرب. إن المقولات مشغلة، عند الباحث، في علاقة بـالمبادئ التي سبق له تقريرها، حيث يجعل كل مقولة مرتبطة بـمبدأ من المبادئ الثلاثة، فجاءت المقولات مثل المبادئ ثلاثة: ثابتة ومتحولة ومتغيرة. ويحددها يقطين على النحو التالي: 1- المقولات الثابتة: تضطلع بالنظر إلى الكلام في ذاته لتحديد العناصر الثابتة فيه التي تجعل منه أجناسا. 2- المقولات المتحولة: ترصد الصفات البنيوية المتحولة في الأجناس والتي تجعلها متفرعة إلى أنواع. 3- المقولات المتغيرة: تمكن من رصد مختلف الصيرورات التي تتعرض لها الأنواع في تطورها التاريخي، فتدمغ كل نوع بسمات فارقة تجعله موزعا إلى أنماط. لقد تمكن الباحث بهذا الربط بين المبادئ والمقولات من ضبط المعايير العامة المتحكمة في تصنيف الأجناس. فاعتماد هذه المعايير يقدر الدارس الأدبي على تمييز مختلف التجليات الخطابية باعتبار تعالقاتها وتفاعلاتها. إن فاعلية هذا الإجراء التصنيفي ماثلة في قدرته على رصد الثابت الأجناس والمتحول الأنواع والمتغير الأنماط. وقد صاغ الباحث هذه المفاهيم الثلاثة الأساس الناتجة عن ربط المبادئ بـ المقولات في الجدول التالي: المبادئ المقولات الثبات التحول التغير الثابتة الأجناس المتحولة الأنواع المتغيرة الأنماط وقد لحظ الباحث أن هذه الخطاطة تبقى مغرقة في التجريد ما لم يتم ربطها بالتحققات النصية الملموسة، وهو ما هفا إلى تحقيقه تفاديا للانتقادات التي توجه عادة لكل بحث في الأجناس لا يصدر عن مشغل الربط بين الجنسية والنصية إذ يعتبر، في هذه الحال، مجرد بنيات تجريدية متعالية عن التحققات النصية المنجزة، التي اصطلح عليها يقطين بـ التجليات. وتعني، عنده، التحققات النصية الملموسة التي يتم بوساطتها ربط المجرد بالملموس، وتتفرع التجليات هي الأخرى إلى ثابتة ومتحولة ومتغيرة. استقدم الباحث مفهوم معمارية النص من الناقد الفرنسي جيرار جونيت ليحدد من خلاله التجليات الثابتة، باعتبارها مجموعة من المقولات العامة أو المتعالية، التي تحدد الجنس الذي يندرج ضمنه النص. أما التجليات المتحولة فمقصود بها، عند الباحث، تلك المتصلة بـ التناص بمختلف صوره وأشكاله، لأن تفاعل النص مع غيره من النصوص يدمغه بسمات فارقة تجعله متميزا من غيره من النصوص الأخرى، التي يتداخل معها، سواء على مستوى الجنس أو النوع أو النمط، في حين يقصد بـ التجليات المتغيرة جميع أنواع التفاعل النصي التي حددها جيرار جونيت المناص، والتعلق النصي، والميتانص. لقد تدرج الباحث، في تحديده لمراتب الكلام، من العام المبادئ مرورا بالخاصالمقولات وصولا إلى الأخص التجليات، فجاءت صورتها على الشكل التالي: المبادئ الثبات التحول التغير التجليات المقولات التجليات الثابتة التجليات المتحولة التجليات المتغيرة الثابتة الأجناس: معمارية النص المتحولة الأنواع: التناص المتغيرة الأنماط: المتناصات لقد ساق الباحث هذه المقدمات بوصفها مداخل نظرية تفيده فيما يروم من تأسيس لنظرية أجناسية قادرة على استيعاب مختلف التجليات النصية، التي تزخر بها المكتبة التراثية العربية. وقد تقصد يقطين من بسط القول في هذه المقدمات ضبط المعايير التصنيفية الدقيقة الكفيلة بتمييز الأدب، وتفريعه إلى أجناس وأنواع وأنماط، التفريع الذي شكل مشغلا رئيسا لصاحب هذه الدراسة، فبعد أن قرر هذه التصورات والمفهومات النظرية، سعى الباحث إلى تطبيقها على الكلام العربي معتمدا الصيغة، بمفهومها عند جونيت، معيارا للتمييز بين أجناس الكلام العربي وتحديد تصنيفاته. وقد استطاع الباحث، باعتماد الصيغة معيارا ضابطا في تصنيف الكلام، من تحديد جنسين كبيرين في الكلام العربي، هما القول و الخبر، ويتم التمييز بينهما باعتبار الصيغة والزمن ووضع المتكلم والمخاطب في علاقتهما بالكلام: فصيغة الأول: قال، وهو متصل بالزمن الحاضر ويتعلق بما هو قيد الوقوع، والعلاقة بين القائل والقول والمخاطب علاقة اتصال مباشرة، ويتحقق في أنواع مثل المحاورات والخطب. أما الخبر فصيغته أخبر ويتصل غالبا بالزمن الماضي ما وقع، والعلاقة بين المخبر والإخبار والمخاطب علاقة انفصال، لأن المخبر يعلم مخاطبه بما وقع بطريق غير مباشرة، حتى وإن كان صاحب الكلام، لأن إنجاز الكلام يتم على مسافة تفصل المتخاطبين، وهو ما يتحقق في أنواع الحكايات والتواريخ والأخبار. غير أن أقسام الكلام تصبح ثلاثة بعد أن يعمد الباحث إلى تعويض القول بـ الحديث، ويضيف إلى هذين الجنسين الخبر والحديث جنسا ثالثا هو الشعر، الذي يتميز باعتماد مكونات خاصة، تجعله يقترب من الخبر حينا ومن الحديث حينا آخر. وبهذا الإجراء تصبح الأجناس، في مقترح الباحث، ثلاثة رئيسة، هي: الخبر والحديث والشعر. وتتميز هذه الأجناس بقدرتها على استيعاب جميع التجليات النصية المعروفة في كلام العرب، بفضل ما توافر لها من خصائص ذاتية، جعلت منها أجناسا متعالية على الزمان والمكان. ومن أجل التمييز بين الأنواع استند يقطين إلى مفهوم النمط، الذي يقترب عنده مما دعاه القدماء صفات الكلام. وهو ما يميزها من الأجناس والأنواع التي تتصل بالكلام ذاته. وقد انحصرت الأنماط، عند الباحث، هي الأخرى في ثلاثة: 1- الأنماط الثابتة: تتعلق بالتجربة الإنسانية، ويقسمها باعتبار علاقتها بالواقع إلى ثلاثة: أ/ الأليف – الواقعي. ب/ الغريب – التخييلي. ج/ العجيب – التخيلي. 2- الأنماط المتحولة: تتصل بالمقاصد التي رسمها المتكلم لخطابه؛ أي الأثر الذي يروم إحداثه في مخاطبيه، وتتوزع هذه المقاصد ما بين مواضع الجد التعرف والتدبر الذي يمثل له بـقصص الزهاد والصالحين، ومواضع الهزل الضحك والمفاكهة كما هي الحال في أخبار الحمقى والمغفلين. 3- الأنماط المتغيرة: لا ترتبط بتجربة إنسانية ولا يقصد منها إلى تحقيق أثر أو وظيفة. يتعلق الأمر هنا بالأداة المستعملة لتمثيل التجربة أو تحقيق الوظيفة. إنه الأسلوب المستخدم في النص أو لغته، والأسلوب لا يعدو أن يكون ساميا أو منحطا أو مختلطا. لقد جاءت اجتهادات سعيد يقطين رائدة في سعيها إلى التأسيس لمعايير تصنيفية دقيقة، قادرة على استيعاب مختلف التجليات النصية التي حفل بها المتن التراثي، حيث انطلق من الكلام الذي اعتبره جنسا جامعا، فنظر إليه في ذاته الأجناس، وفي صفاته الأنواع، وفي علاقاته الأنماط، في محاولة لتحقيق المقصد العزيز الذي هفا إليه: بناء تصور متكامل لدراسة الكلام العربي عبر مقولات إجرائية ثلاث هي: المبادئ والمقولات والتجليات، حيث ربط كل واحدة منها بقسم من أقسام الكلام، فوصل المبادئ بالجنس، ووصل المقولات بالنوع، ووصل التجليات بالأنماط. وباعتماد الصيغة تمكن الباحث من حصر الأجناس في ثلاثة هي الخبر والحديث والشعر. وبذلك يكون الباحث قد فتح آفاقا جديدة للتفكير في قضية تجنيس النصوص التراثية وتصنيفها، انطلاقا من تصورات حديثة ومتطورة تستلهم نظرية الأجناس الأدبية كما تبلورت في الغرب، وتراعي خصوصية المتن التراثي العربي. وتتمثل أهمية الجهد الذي بذله الباحث من خلال تنظيراته وتطبيقاته، في الوعي العميق الذي تحصل لديه بأن التقسيمات التي ورثها الغرب عن اليونان وشكلت عماد نظريته في الأجناس، غير مسعفة في الوفاء بمطالب تجنيس الخطابات العربية وتصنيفها. ومن هنا اعتمد الباحث على منطق الأجناس كما استخلصه من المادة النصية التراثية. كما يحسب للباحث استئناسه بالمرجعية العربية في تحديد المفهومات الأجناسية وضبط مجالات استعمالها. وبالرغم من متانة الأسس التي أقام عليها الباحث تصوره، فإن تعقد القضية المطروحة على بساط البحث، وتشعب مباحثها واتساع مداها، جعل عددا من آرائه قابلا للمراجعة والتدقيق. ولعل المأخذ الأهم على مقاربته متعلق بالمنطلقات النظرية والاختيارات المنهجية التي أثرت حتما فيما توصل إليه من مواقف وما استخلص من نتائج. فقد تأرجح عمل الباحث، من الناحية النظرية، بين مناهج غربية عدة حاول التوليف بينها، متقصدا الإفادة من إيجابياتها واطراح النقائص. وهو ما عرض عمله لشوائب التذبذب والتناقض، ونمثل لذلك بتشغيل الباحث الصيغة بمفهومها عند السرديين، فقد انتهى من ذلك إلى حصر الأجناس في ثلاثة هي الشعر والحديث والخبر، بل إنه يجزم أن كل كلام العرب يدخل بهذا الشكل أو ذاك ضمن هذا الجنس أو ذاك. وهي نتيجة توصل إليها يقطين من حصره لصيغ الكلام في صيغتين اثنتين هما القول والإخبار، ونرى أن الفوارق التي أقامها الباحث بين الصيغتين تحتاج إلى مزيد مراجعة وتدقيق، لأنها ليست واضحة بالقدر الكافي الذي يسوغ تعميمها في تطبيقات أخرى تبحث السرد العربي الذي ينظر له يقطين. ومن المفاهيم التي تحتاج كذلك إلى ضبط مفهوم النمط، الذي شاب تشغليه في الدراسة بعض غموض وتناقض، فقد ألحقه الباحث بكل من الجنس والنوع وجعل علاقته بهما مختلفة، لكنه لا يذكر من أمر هذه العلاقة المخصوصة التي تجمع النمط بالجنس والنوع سوى أنها من طبيعة أخرى. وإذا كان الباحث يعتبر التغير سمة ملازمة للنمط، فإننا لا نرى من مسوغ بعد ذلك لتفريع الأنماط إلى ثابتة ومتحولة ومتغيرة، اللهم الهوس التقنيني الذي استبد بعقل الباحث وجعله يصر على إخضاع تصوره، وكذلك فروع هذا التصور إلى تقسيم ثلاثي الأبعاد لا يحيد عنه مهما كلف الأمر بحثه من شوائب ومآزق منهجية، حدت – ولا شك- من فعالية مقترحاته التنظيرية. ومن الناحية المنهجية، نرى أنه من الجرأة والطرافة بمكان أن يسعى الباحث إلى إرساء نظرية عامة للكلام العربي في فصلين من دراسة وحيدة متوجهة أصلا إلى بحث جنس أدبي مخصوص هو السيرة الشعبية. ومن مظاهر القصور المنهجي في هذه الدراسة أن الباحث لا يحدد المفهومات التي يشغل مثل الجنس والنوع بما هما وإنما اعتمد تجليات هذين المفهومين في كتب الأدب والبلاغة والنقد، كما طارد تجليات المفهومين في المصنفات الجامعة لما شعر به من حاجة إلى ضرورة اعتبار النصوص في ضبط المفاهيم، وهو ما جعل الباحث مترددا بين مصنفات مختلفة ونصوص متباينة، لا نظن أحدا يستطيع الزعم أن بمكنته تحصيل ما فيها جميعا في فصل أو حتى في دراسة متخصصة، إن لم يعمد منهجيا إلى اجتباء ما يوافق تصوره وإقصاء ما عداه. وبالجملة، فإن هذه المؤاخذات لا تؤثر على جدية العمل وجرأة ما استخلص من نتائج. 3-فرج بن رمضان: الأدب العربي ونظرية الأجناس أنجز الباحث التونسي فرج بن رمضان دراسة جادة ورصينة عن الأدب العربي القديم ونظرية الأجناس– القصص، وفيها يستأنف الباحث ما كان قد بدأه في دراسات سابقة اختصت جنس السرد في السياق العربي بالمراجعة والتقويم، صنيعه في دراسة له شهيرة موسومة بـ محاولة في تحديد وضع القصص في الأدب العربي القديم، وهي الدراسة التي رصد فيها هامشية القصص في الأدب العربي، فبحث أسبابه وتقصي مظاهره. وقد قدم الباحث في هذه الدراسة مقترحا تصنيفيا لأنواع القصص استنادا إلى صلتها بما يسميه منظومة الأشكال المؤسسة. وفي هذا التصنيف يزاوج فرج بن رمضان بين التاريخ والإيديولوجيا منطلقا من فكر جدلي يرى في الصراع المحرك الأساس للتاريخ، وتساوقا مع هذا التمشي نظر الباحث في أنواع القصص من زاوية تطورها ومواكبتها لمفهوم الأدب في مسار تحوله، فاستخلص من تدبره تاريخ هذه الأنواع، من منظور جدلي تاريخي، أن الأدب العربي القديم توزعته ثنائيتان متقابلتان، طرفها الأول السلطة وتمثلها منظومة الأشكال المؤسسة، وطرفها الثاني المعارضة وتمثلها أنواع من القصص عرف بـ القصص الشعبي، الذي ظل إنتاجه وتداوله يتمان على هامش الدرس النقدي والبلاغي العربي. وقد انتهى الباحث من فحصه العلاقة بين الأنواع التي تنتجها المعارضة، وتلك التي تنتجها السلطة، إلى رصد حركتين اثنتين جسدتا هذه الصلة: 1 – حركة أولى تتنزل خارج منظومة الأشكال المؤسسة، وهذه الحركة هي المسؤولة عن ظهور ألوان قصصية متنوعة، مما يدخل في باب القصص الشعبي قصص بطولي، وقصص ديني، وقصص غرامي، وفي هذا المستوى أيضا تتنزل المدونة القصصية الفصيحة، التي تحفل بها أنواع من التأليف التي لا تدخل تحت طائلة التصنيف الأدبي الرسمي ككتب الأخبار والنوادر 2 – حركة ثانية تقع داخل منظومة الأشكال المؤسسة في دائرة التفكير النقدي. إن هذه الحركة قد جعلت القصص يتسلل عبر مسالك التصنيف الرسمي وينتزع مشروعية حضوره من داخل البنية الرسمية. وإذا كان لابد من صراع ومواجهة بين أشكال الأدب الرسمي والمعارض، فإن هذه المواجهة كانت تنتهي دائما، فيما يقرر الباحث، باحتواء أشكال الأدب التي تنتج في حضن السلطة، للأشكال التي تنتج في دائرة المعارضة أو لأجزاء منها على الأقل. لقد صدر فرج بن رمضان في دراسته للقصص العربي القديم في ضوء نظرية الأجناس عن موقف طائفة من الباحثين العرب، رأت أن الأجناس مبحث شائك متشعب، متداخل الأبواب، بالنظر إلى تعدد وجهات النظر المتأتي أولا وأساسا من تعدد ضروب المعرفة الأدبية ذات الصلة به: النقد، الإنشائية، تاريخ الأدب، الأدب المقارن. لكن إقرار الباحث بالصعاب التي تواجه تطبيق نظرية الأجناس على الأدب العربي القديم لم يمنعه من الحماس لهذا الضرب من الدرس بالنظر إلى الفائدة الجلى، في تقدير الباحث، التي يمكن أن تعود على هذا الأدب من محاولة فهمه استنادا إلى مقررات نظرية الأجناس، ومن ثم وقر في نفسه أنه أصبح من المهم التأكيد على القيمة القصوى للجنس الأدبي كمفهوم مركزي في تأسيس المعرفة الأدبية، وكأداة في رصد وفهم الواقع الأدبي بشتى قطاعاته وظواهره وقضاياه. قسم الباحث دراسته إلى قسمين، اختص الأول بإشكالية المقاربة الأجناسية لنصوص الأدب العربي القديم، فيما عني في الثاني بأصول الأجناس القصصية ومكانتها في نظام أجناس الأدب العربي القديم. مدار القسم الأول على سعي اقتنع الباحث بجداوه وإمكان تحقيقه، فوضع له غرضا الوصول إلى نظرية عربية للأجناس الأدبية. وقد عين الباحث مقصوده بصفة عربية التي ألحقها بنظرية الأجناس فهي لا تعني، عنده، نظرية فريدة من نوعها أصلا وفرعا، وجملة وتفصيلا، بدعوى خصوصية لا تدرك إلا على أنها ضديد للكونية. إن هذا الفهم من شأنه أن يوقعنا، كما تفطن لذلك الباحث، في مفارقة، إذ نستبدل المركزية العربية بالمركزية الغربية، وفي ذلك تجاهل للبعد الكوني الذي وسم الأجناسية. ، صدع الباحث بأن النظرية الأجناسية العربية المطلوبة، في تقديري، ليست عربية إلا من قبل أن العنصر الفاعل والحاسم فيها هو المفكر العربي أولا، ثم من قبل أن المدونة أو الموضوع الذي تشتغل عليه أو يشتغل عليه الفكر بواسطتها هو الأدب العربي. غير أن إقامة نظرية عربية للأجناس الأدبية ليس متاحا في يسر لمن يحاوله إلا إذا أفاد، في تصور الباحث، من المنجزات التي راكمتها نظرية الأجناس في الغرب، بعد تطويعها بما يتلاءم وخصوصية الأدب العربي. ويكون ذلك، في مقترح الباحث، بفك الارتباط المبدئي بين نظرية الأجناس والمدونة الأدبية التي استمدت منها، أو أقيمت على دراستها في الغرب قديما وحديثا، حتى يتيسر تطويعها للتطبيق على الأدب العربي في اتجاه متحرر، بالتالي، من هاجس المطابقة مع التعبيرة الغربية من جهة، وقابل في الوقت نفسه، من جهة أخرى، لرصد وتمثل وتفسير مختلف مظاهر الخصوصية في الأدب العربي القديم . في القسم الثاني من الدراسة يقدم فرج بن رمضان مقترحا تصنيفيا تنتظم بمقتضاه أجناس القصص العربي القديم في مسالك، باصطلاح الباحث، حصرها في ثلاثة، قاصدا من ذلك مختلف المسارات وشتى الآليات التي خضعت لها الأجناس القصصية في رحلة تشكلها بما يسلم، في المحصلة، إلى تكوين خطاطة تصنيفية عامة لأجناس القصص. المسلك الأول: يتصل بـ أجناس قصصية ناشئة من خطابات غير أدبية. وقد اختص ابن رمضان هذا المسلك بضبط نشأة أجناس أدبية عبر مختلف عمليات التحويل في بنية الملفوظ، وما يواكبها أو يترتب عليها من انتقال في مقام التلفظ والتداول من مجال الخطابات اللا أدبية إلى مجال الأدب. وقد أدرج الباحث ضمن هذا المسلك: أ- جنس الخبر الأدبي: انحدر إلى مجال الأدب من ميداني الحديث الديني والخبر التاريخي. ب- جنس الكرامة الصوفية: جاء إلى الأدب بطريق التحول عن مصادر غير أدبية مثل معجزات الأنبياء والمتحققة نصيا في السيرة بالنسبة إلى الرسول ص، وفي القرآن وما اشتق منه وتولد عنه من تفاسير، ثم القصص الديني الذي يعود لتراث الأمم السابقة على الإسلام. ج- جنس النادرة: تناول ابن رمضان هذا الجنس في صيغته الجاحظية منجزة نصيا ومنظرا لها من خلال كتاب يعتبره مؤسسا لجنس النادرة في الأدب العربي هو البخلاء. ويدرج ابن رمضان النادرة ضمن مجال الأخبار متابعا في ذلك محمد القاضي. وتأسيسا على ذلك قرر الباحث أنه يجري على جنس النادرة، من حيث النشأة والتحول، ما يجري على الخبر، وإن كان الأمر لا يسلم لابن رمضان باليسر الذي يطمئن إليه، فقد سجل تحفظه على هذا الوصل بين النادرة والخبر لما رأى في النادرة من مقومات عديدة تكفي لاعتبارها جنسا قائم الذات. المسلك الثاني: حاول فيه ابن رمضان ضبط نشأة بعض الأجناس القصصية في السياق العربي بفعل الترجمة وتأثير الآداب غير العربية، وقد مثل الباحث لهذا المسلك بالحكاية المثلية وأنموذجها كليلة ودمنة، الذي اعتبره ابن رمضان نصا تأسيسيا لهذا الجنس في الأدب العربي، كما أدرج ضمن هذا المسلك ألف ليلة وليلة والحكاية العجيبة. المسلك الثالث: اختصه الباحث بتحديد نشأة الأجناس القصصية عبر شتى صيغ التفاعل والتحاور بين الأجناس الأدبية العربية عامة، صادرا في ذلك عن تصور يرى أن الأجناس تشتق من الأجناس، وأنه ليس ثمة أصل للأجناس إلا الأجناس، ويدخل في هذا المسلك: أ- قصص أصول الأمثال التي أعاد الباحث النظر في تسميتها، فرأى أنها ليست من الأصول في شيء وإنما هي، عنده، فروع منحدرة من نواة-أم هي نصوص الأمثال. ب- قصص تنبثق من الشعر على وجه التعليل والتفسير وبالعكس، إذ يمكن للقصص أن تتحول إلى علة أو مصدر يتولد منه الشعر. ج- الرسالة القصصية: تسمية جامعة يطلقها الباحث على صنف من الرسائل مخصوص، ينبثق فيه القصصي من الرسائلي، ويمثل له بـرسالة الغفران للمعري والتوابع والزوابع لابن شهيد وحي بن يقطان لابن طفيل. لقد شكلت نشأة الأجناس القصصية وتحولاتها في الأدب العربي القديم نقطة البحث في دراسة فرج بن رمضان، الذي أفاد في بحث هذه القضية من تنظيرات نقاد غربيين لامعين مثل تودوروف، الذي اقتبس منه فكرة التناسب بين نظام الأجناس والإيديولوجيا السائدة لتفسير نظام الأجناس في الأدب العربي، وميخائيل باختين الذي أخذ عنه عديد آراء وتصورات يخص منشأ الأجناس وتحولاتها، كما أفاد الباحث من المناهج النقدية الحديثة من إنشائية وأسلوبية وبنيوية. ولعل نظرية التلقي أن تكون المثال الأظهر على ذلك فقد استلهمها الباحث عند حديثه مثلا عن مقامات القص العربي القديم التي توزعت عنده إلى: أ- مقام التندر. ب- مقام القص. ج- مقام الحكاية. وهي مقامات نظر إليها الناقد في ضوء خصوصيتها الثقافية، حيث راعى تنزلها في سياق ثقافي مخصوص هو المجتمع العربي عامة والوسط المديني خاصة. إن اختصاص الباحث جنس القصص ـ القطاع الهامشي في الأدب العربي- بهذه الدراسة الجادة ليعد إضافة نوعية إلى السرديات العربية، بما جلت من خصوصية السرد العربي القديم، وما سلطت على مناطقه المعتمة من أضواء كاشفة، يتهدى بها ناشئة الباحثين في مسالك وممالك المأثور النثري. إذا كانت هذه الدراسات، التي تناولنا بالعرض والمراجعة، مختلفة في المنطلقات والمناهج المصطنعة في وصف وتفسير قضية الأنواع الأدبية بدرجات ونسب متفاوتة، فإنها تلتقي مع ذلك في استنادها جميعا، بشكل معلن أو مضمر، إلى خلفية نظرية غربية تستلهم بعض مناهجها، وقد تستقدم أحيانا بعض نتائجها لكنها ، وهو ما يحسب لأصحابها، لم تسقط في القراءة الاستنساخية لمقررات نظرية الأنواع الغربية، بل حاورتها وأفادت من مناهجها ونتائجها، فكان حاصل ذلك، في الأعم الأغلب، قراءة أنواعية للتراث العربي واعية بصفتها ومقاصدها. والمتحصل، من النظر في هذه الدراسات التي محضها أصحابها للمسألة الأنواعية، إقرارها بالجدوى العلمية والمنهجية التي تعود على الأدب العربي، وهو الذي لم يعرف نظرية للأنواع نضيجة، من البحث في طبيعة أنواعه وفي تاريخها والصلات بينها؛ فمن شأن هذا الضرب من البحث، متى أحكمت مناهحه، أن يقود إلى ضبط خارطة دقيقة تظهر وضع الأنواع في أدب العرب قديما وحديثا، ما أهمل منها فتلاشى، أو عاود الظهور، أومازال منها مستمرا، مع كشف الأسباب التي حكمت، في الحالين، مسير ومصير الأنواع على صعيدي الإنتاج والتقبل. ولا منازعة في أن الباحث الأدبي يتحصل من هذا الصنف من الدرس على فوائد لا تنكر، ليس أقلها المساهمة في قيام حفريات قد تقود إلى استكشاف التضاريس الأنواعية في منطقة عربية منسية. غير أن الناظر في مجمل دراسات المعاصرين التي اهتمت بأجناس الأدب، عرب وغربيين، يستلفته، من غير شك، تركيز الجهود في قديم الأدب العربي عامة ونثريه خاصة. فهذا التوجه ظاهر في مجمل دراسات المعاصرين التي وقفنا عليها. من هذه الدراسات يمكن أن نذكر مكتفين بدلالة التمثيل دراسات ويقطين وابن رمضان، التي عرضنا لها في المطلب السابق، بالإضافة إلى دراسات رشيد يحياوي عن الشعرية العربية القديمة من جهة الأنواع والأغراض، وأطروحة عبد العزيز شبيل عن نظرية الأجناس في التراث النثري، وأطروحة بسمة عروس حول التفاعل في الأجناس الأدبية: مشروع قراءة لنماذج من الأجناس النثرية القديمة من القرن الثالث إلى السادس هجريا. وليس هذا النهج بمقصور على الدراسات العربية، ولكنه سار في البحوث الغربية أيضا، كما هو بين من الدراسات التي تضمنها الكتاب الجماعي نظرية الأجناس الذي ترجم شبيل، فالناظر فيه يستوقفه الاهتمام بالنظرية الأجناسية القديمة، كما هو ظاهر بخاصة، في مقال ياوس عن الأدب الوسيط ونظرية الأجناس، وفي مقال شولز عن صيغ التلقي، والمنحى ذاته ظاهر في كتاب شايفر ما الجنس الأدبي، الذي أرخ فيه صاحبه لمباحث الدراسة الأجناسية بدءا من الإنشائية الأرسطية وصولا إلى النظرية التطورية عند داروين.
النقد المعاصر التّجديد الشعري: يرى النّقد الحديث أنّ للتّحول والتّجديد تيّاران. الأول هو التّيّار الّذي يبدأ أصوليّا ثمّ يثور من داخل الأصولية وهذا النّوع من التّجديد هو الّذي يعترف بأنّ لكلّ زمن خصوصياته. والثّاني هو الّذي يغيّر في الأصول تغييرا جذريا يعتبر تحوّلا حقيقيا عن المسار المعروف والتّقاليد المتداولة والمرتبطة بشكل الفنّ وطرائق التّعبير، وأدوات هذا التّعبير سواء كانت هذه الأدوات في لغته أم في أساليبه التّعبيرية المختلفة أم في هيكله البنائي أم في مضمونه الفكري وأدرك الشّاعر المعاصر أنّ الأسلوب القديم بطريقته الملتزمة وشكله القديم لم يعد قادرا على استيعاب مفاهيم الشّعر الجديد، ومن هنا ظهرت محاولات جادة عرفت بالشّعر الحرّ. وكانت هذه المحاولة أكثر نجاحا من سابقاتها كمحاولة الشّعر المرسل، أو نظام المقطوعات وقد تجاوزت الحدود الإقليمية لتصبح نقلة فنّية وحضارية عامة في الشّعر العربي، وقد حطّمت هذه المدرسة الشّعرية الجديدة كل القيود المفروضة عليها وانتقلت بها من الجمود إلى الحيوية والانطلاق وبدأ رواد هذه المدرسة في إرساء قواعد ودعائم للشّعر الحرّ. وللنقاد العرب رأي واضح في هذه القضية. على سبيل المثال، قال الشاعر صلاح عبد الصبور: "لقد تغيّر العالم كلّه منذ عصر النّهضة، فتميّز الشّعر عن النّثر ووجد نقّاد جدد ووجدت فنون محدثة كالقصّة القصيرة والرّواية، وطولب الشّاعر أن يكون كلّ ما يقوله شعرا، وتغيّرت صورة الأدب تغيّرا جذريا، وأعيد النّظر في التّراث العربي كلّه واتّسعت أبعاد الـتّجربة الإنسانية واكتشف الإنسان اكتشافا جديدا معنى هذا أن حتمية التّغيير والتّجديد أصبحت أمرا ضروريا كردّ فعل على الشّكل القديم. وتقول نازك الملائكة حول تعريف الشعر الحر: "هو شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت وإنما يصح أن يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر ويكون هذا التغيير وفق قانون عروضي يتحكم فيه ومن أهم مظاهر التّجديد الّتي نادت بها هذه المدرسة كردّ فعل مباشر على الأشكال القديمة، هي : أ.تحوّلات اللّغة الشّعرية. ب.اللّغة والشّعر. ج.التّجديد في الصّورة. د.التّشكيل الموسيقي. ذ.توظيف الرّمز الأسطوري. تحوّلات اللّغة الشّعرية: اللّغة هي أداة الشّاعر كما الرّيشة والألوان بالنّسبة للرّسام، فلا وجود للشعر دون لغة، واللّغة وسيلة تؤدي المعنى وتخلق فنّا وهي الأداة الّتي يترجم من خلالها الشّاعر انفعالاته وتجاربه، ولها كيانها المستقل ودورها في بناء النّص الشعري. يقول علي قاسم الزّبيدي: "تمثلت استعانة الإنسان الأول باللّغة في إطار الشّعر باعتباره صومعة الاعتراف الذّاتي الشّفاف عن خوالج النّفس، فأول وسيلة يفلسف بها الإنسان ذاته كانت هي الشّعر، وظلّ التعامل مع اللّغة لتؤدّي مهمة الكشف عن كوامن الذّات وإبرازها أمام الآخر بل أمام الذّات نفسها، وبالأحرى لا زالت وسيلة من وسائل التواصل الإنساني الذي نبرز من خلاله علاقاتنا الفكرية والفنية. اللّغة والشّعر يرتبط جوهر الشّعر بالوجود اللّغوي ويرتبط وجودهما معا بإثارة النّشوة والدّهشة والهزّة النّفسية والإعجاب. "إنّ من البيان لسحرا"، ولا يتحقق الإبداع الشّعري إلاّ بالخلق اللّغوي، أي لا يكون للشّعر فعل السّحر إلاّ إذا أحسسنا أنّه خلق جديد، وذلك عن طريق اللّغة الخالقة، أي اللّغة البكر. كما تفقد اللّغة الفاعلية السّاحرة والقدرة الخالقة بفعل استخدامها المتكرّر وألفتها، ولا سبيل إلى إعادة توهج الحياة إليها إلاّ عن طريق الإبداع الشّعري، ليس بانتقاء مفردات غير مألوفة وإنّما يرصفها بشكل مفاجئ وغير مألوف "فالكلمة رماد بركان ابترد، يغلغله الشّاعر في كلمات أخرى لكي يخلق المناخ الّذي يعود فيه هذا الرّماد للغليان من جديد"، في راي عبد الله العشي ويرى يوسف الخال أنّ حركة الشّعر الحديث كانت تظنّ أنّ تحطيم الأوزان التّقليدية هو الّذي يحقق النّقل العفوي الصّادر. غير أنّ هذه الخطوة لم تحقق الغاية إلاّ بعضا منها، لأنّها اصطدمت بجدار اللّغة، فإمّا أن تخترقه وإمّا أن تقع أمامه، فقد تبيّن للشّعراء المحدثين أنّ إشكالية شعرهم في اللّغة الّتي وصلت إليهم جاهزة بمفردات وتراكيب، عن الحاضر والواقع، أي أنّ إشكالية اللّغة تكمن في كون المفردات والمعاني تصل إلى الشّاعر بصوت آخر حاملة نبرته وانفعالاته وتفسيراته. ويدرك الشّاعر أهمية التّجديد اللّغوي حتّى يكون ذلك مؤشرا جماليا على مستوى القصيدة الحديثة وقد أصبح الإنسان الحديث يدرك مدى إمكانات اللّغة واكتنازها لأسرار الخلق والإبداع. وكما يشرح أدونيس، فإن "لغة الشّعر ليست لغة تعبير بقدر ما هي لغة خلق، فالشّعر ليس مسارا للعالم وليس الشّاعر الشّخص الّذي لديه شيء يعبر عنه وحسب، بل هو الشّخص الّذي يخلق أشياء بطريقة جديدة، إنّه يمزج بها بين الواقع والخيال. ومن هنا بدأ البحث عن بديل للغة الشّعر العمودية وانقسم بذلك الشّعراء إلى قسمين: فريق يدعو إلى العودة إلى لغة البكارة الأولى، أي ابتكار لغة جديدة للشّعر الحديث ويتحقق ذلك بمحاكاة نسيج التّكوين الأول أي كما أنّ الشّاعر هو الكائن الأول يبتدع علاقاته ويبدأ تسمية الأشياء بعد أن يكتشفها بدهشة كأنّه يراها لأول مرّة فيعبر عن تجربته بكلمات متجددة. أدّى هذا الاتّجاه إلى ظهور موقف ضدّي وظهر اتّجاه آخر هو اللّجوء إلى لغة الحديث اليومي دعا أصحابه إلى استمداد لغة الشّعر من قلب الحياة. ومن هؤلاء يوسف الخال الّذي يرى أنّ الأدب لا يكون حديثا ما لم يكتب بلغة حديثة ويستمد عبقريته ومعانيه من حديث النّاس. صلاح عبد الصبور مثلا في ديوانه "النّاس في بلادي" نجده يلامس الحياة الواقعية إلى حدّ كبير وتعتمل في نفسية الشّاعر قضايا معايشة اجتماعية، يقول متألما: ما زلت حيّا، فرحتي، ما زلت، والكلام، والسّباب والسّعال، فالمقام هنا مقام حديث عن ميلاد جديد لنفسه وحيويته يجدها الشّاعر في فجر كلّ يوم جديد. التجديد في الصّورة تشكّل الصّورة أحد المكونات الأساسية في العمل الأدبي عامة والشّعر خاصة وهي ليست مستحدثة فيه بل هي جزء من مبنى القصيدة، بل حسب ما يرى جابر عصفور "هي الجوهر الثّابت والدّائم فيه، وترتبط الصّورة ارتباطا وثيقا بالتّجربة الشّعرية وهي "طريقة من طرق التّعبير ووجه من أوجه الدّلالة، ارتبطت الصّورة في القصيدة العمودية ببعض القيود والقوالب الخارجية المفروضة عليها، الأمر الّذي جعل الشّاعر يسعى إلى بلورة فكرتة في صورة جزئية لا تخرج عن إطار البيت الشّعري ولا تتجاوز أسسه وأبعاده المألوفة ومن ثمّة جاءت صورة جزئية محصورة في الاستعارة والكناية والتّشبيه. وعندما تحرّرت القصيدة المعاصرة من هذه القيود أخذ الشّاعر يعبر عن قضاياه في صورة فنّية تتوافق وحالاته النّفسية والشّعورية، فقد تخلص من وحدة القافية الّتي كانت تقيّد في بعض الأحيان صوره ومشاعره وأفكاره وأطلق العنان للصّورة الشّعرية. خرجت الصّورة في الشّعر الحديث من مجرد علاقة جزئية بين مشبّه ومشبّه به، ومن مجرّد المهارة والبراعة في الدّقة إلى نوع من المشاهد أو اللّقطات الموحية المتتالية في سرعة تنقل لنا صورا متلاحقة مرئية ومسموعة، أشبه بما نشاهده في أفلام السّينما ولذلك أطلقوا عليها كلمة "المونتاج، بحكم كونها مشاهد متلاحقة. يستخدم صلاح عبد الصبور هذا النّوع، فينشد قائلا: مطر يهمي وبرد وضباب ورعود عاصفة قطّة تصرخ من هول المطر وكلاب تتعاوى مطر يهمي وبرد وضباب وأتينا بوعاء حجري وملأناه ترابا نأكل الخبز المقدّد وضحكنا لفكاهة قالها جدّي العجوز وتسلّل من ضياء الشّمس موعد فتفاءلنا وحيّينا الصّباح وبأقدم تجرّ الأحذية وتدقّ الأرض من وقع المنفر طرقوا الباب علينا. تكشف هذه الأبيات عن هذا النّوع من الصّور السّريعة المتتابعة والّتي تعبّر عن حالات ذهنية وعن رؤية تفصح عن نفسها من خلال هذه الومضات الخاطفة في خطوط سريعة ولكنّها حيّة. التّشكيل الموسيقي تعدّ الموسيقى الشّعرية من أكثر الظّواهر الفنّية بروزا في الشّعر العربي المعاصر وأشدّها ارتباطا بمفهوم التّجديد والّتي كانت تنحصر عند القدامى في الوزن والقافية والبحور الخليلية. وقد وجد الشّاعر المعاصر نفسه في أمسّ الحاجة إلى التّغيير في الشّعر فظهرت محاولات جادّة في سبيل هذا التّغيير "إلاّ أنّ هذا التّغيير" في رأي عز الدّين إسماعيل "لم يكن جزئيا أو سطحيا وإنّما كان جوهريا شاملا وكان تشكيلا جديدا للقصيدة العربية من حيث المبنى والمعنى، إنّ هذا التّغيير لم يكن نتيجة عجز الشّعراء وإنّما كان دافعه الحقيقي، في رأي عز الدّين إسماعيل، "جعل التّشكيل الموسيقي في مجمله خاضعا خضوعا مباشرا للحالة النّفسية أو الشّعورية الّتي يصدر عنها الشّاعر، فالقصيدة في هذا الاعتبار صورة موسيقية متكاملة، تتلاقا فيها الأنغام المختلفة وتفترق محدثة نوعا من الإيقاع الّذي يساعد على تنسيق المشاعر والأحاسيس المشتّتة، إنّ الموسيقى القصيدة العربية المعاصرة قائمة على أساس أنّ القصيدة بنية إيقاعية خاصّة ترتبط بحالة معيّنة للشّاعر بذاته، فقد تشبث الشّاعر المعاصر بالحرّية المطلقة كما كان يرفض التقيد وهذا ما يمثّله أدق تمثيل قول أبي القاسم الشّابي: "إنّ روح الشّاعر حرة لا تطمئن إلى القيد ولا تسكن إليه، حرّة كالطّائر في السّماء، والموجة في البحر والنّشد الهائم في آفاق الفضاء، حرّة فسيحة، وأصبح الشّاعر حرا في استعمال عدد التّفعيلة في السّطر. إنّ الشّعر الحر لم يلغ الوزن ولا القافية، لكنّه أباح لنفسه أن يدخل تعديلا جوهريا عليها حتّى يحقّق الشّاعر لنفسه ذبذبات لمشاعره الّتي كان الإطار القديم يقف أمام تحقيقها. وهذه التّغيّرات الّتي طرأت على شكل العربي وموسيقاه إنّما هي نتيجة لمتغيّرات حضارية جديدة طرأت على المجتمع. توظيف الرّمز الأسطوري: يعدّ الرّمز من أبرز الظّواهر الفنّية، وهذا ما أكّده عز الدّين إسماعيل في قوله: "من أبرز القضايا الفنّية الّتي لفتت الانتباه في تجربة الشّعر الجديد ظاهرة الاستخدام المكثّف للرّمز كأداة تعبيرية استعملها الشّاعر لإيصال فكرته إلى القارئ ، فالرّمز يقوم على إخراج اللّغة من وظيفتها الأولى وهي التّواصل وإدخالها في الوظيفة الإيحائية "لأنّ النّفس إذا وقفت على تمام المقصود لم يبقى بها شوق إليه أصلا أمّا إذا أجهد المبدع نفسه في التّخيّر شدّ انتباه المتلقي وجعله متعطشا لمتابعته، تعدّدت مفاهيم الرّمز فنجد غنيمي هلال يعرفه قائلا: "الرّمز هو الإيحاء، أي التعبير الغير المباشر عن النّواحي النّفسية المستمرّة الّتي لا تقوم على أدائها اللّغة في دلالاتها، فالرّمز هو الصلة بين الذّات والأشياء بحيث تتولّد المشاعر عن طريق الإثارة النّفسية لا عن طريق التّسمية والتصريح على سبيل المثال: شتاء هذا العام يخبرني بأنّني سأقضي وحيدا ذات شتاء وأنّ ما مضى من حياتي مضى هباء في هذه القصيدة "أغنية للشّتاء" استمدّ شاعرنا رموزه من الطّبيعة، فهو يتّخذ فصول السّنة رموزا لحالات الشّعور النّفسية، فالشّتاء يوحي ببرودة العواطف والمشاعر والخريف ينذر بذبولها والصّيف يشير إلى يقظتها. والشّعر العربي وجد في الأسطورة متنفسا يعبّر من خلاله الشّاعر عن قضاياه ومواقفه ومصدرا من مصادر إلهامه ومجالا من مجالات إبداعاته، ومعنى ذلك الشّاعر المعاصر اتّخذ من الأسطورة جسرا يرتقي إليه كلّما أراد أن يخط قصيدة، فكان له عونا وطريقا يهتدي به كلّما غاص في بحر الشّعر والإبداع، جاعلا من التّراث الشّعبي منبعا لكتاباته الشّعرية.
#ابراهيم_محمد_جبريل (هاشتاغ)
Ibrahim_Mahmat#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دراسة الاسلوبية في قصيدة الفلانية -جَبًرْد نٌلاَط- إعداد وتق
...
-
صور الرثاء في الشعر الجاهلي دراسة أدبية تحليلية
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
-
أسلوب مقامات الحريري ودوره في جذب رواد القصص العربية في الكا
...
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
-
دور القياس في بناء اللغة العربية -النحو العربي أنموذجا- إعدا
...
-
تعريف الرومانسية
-
الحب بين القديم والمعاصر
-
المرأة بين العلمنة والعصرنة في ظل التحول الرقمي
-
تحديات اللغة العربية في بحيرة تشاد - نيجر وتشاد-
-
تحديات العالم العربي والإسلامي
-
التعليم في الحلقات القرآنية بجمهورية تشاد اعداد: أحمد عمر أب
...
-
مفهوم التنوير
-
واقع الغزو الفكري في المجتمع العربي والإسلامي (1)
-
الخطابة في العصر الجاهلي
-
تاريخ الأدب الجاهلي مفهومه وعناصره وخصائصه ودواوينه
-
تاريخ الأدب الجاهلي( النثر الجاهلي)
-
التعايش الفكري في المؤسسات التعليمية لأحمد عمر أبكر
-
الأديب الإفريقي بين الأسلوب والواقع الاجتماعي
-
الهوية اللّغوية والدينية في الكاميرون دراسة وصفية تحليلية
المزيد.....
-
الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
-
فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف
...
-
تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|