|
حصاد العقل العربي المر
بدورعبد الكريم
الحوار المتمدن-العدد: 8090 - 2024 / 9 / 4 - 18:47
المحور:
قضايا ثقافية
كانت أفضل الأوقات، وكانت أسوأ الأوقات. هكذا بدأ تشارلز ديكنز ( قصة مدينتين ) ، وهكذا كان الحال في الوطن العربي، أواخر القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين. لكن ليس الحال المقصود هو عقد مقارنة تشابه بين حالنا وحال مدينتي ديكنز، على وجود أوقات لنا وأوقات (لهم). فقد كان لنا مثلاً ما يمكن أن يُعتبر الآن، أنه كان، أفضل الأوقات، إذ بدأ فيها ما اعتبر فيما بعد، عصر النهضة العربية. وأسوأ الأوقات، لما ساد الوطن العربي إذ ذاك من استعمار تفشى ثآليل جدري على جسد الوطن العربي ما بين يمينه وشماله. لكن مع ذلك ليس القصد هو عقد مقارنة تشابه، في حالٍ لا يتشابه أصلاً، لا حقيقة ولا مجازاً، بين حالنا وحال مدينتي ديكنز. لماذا إذن (قصة مدينتين) مادامت القصة بين يدي البحث منفية ولاغية، تجر خلفها المكان، أو بالأحرى المكانين، باريس ولندن. لكن في (المدينتين) أو بشكل أدق في ربع الصوت الأخير منهما : مَ دي نَ تَيْن ، (التَيْن) ما هو مضمر، فما هو هذا المضمر؟ ما مبتداه وما خبره؟ وماذا لو استغنينا عن الأحرف في هذه ال (تَيْن) واستبدلنا بها معادلها الرقمي (٢) اثنين، فإن الأمر يبدو أوضح، ويغدو لافتاً للنظر أن لهذه الإثنين سحرها الخاص وحضورها الشرعي، بناء على قضاء المنجزات الحضارية، التي رافقت عصر التنوير في أوروبا، إذ درجت هذه الاثنينية على مدرج معبَّد، في مجالات الثقافة الغربية كافة، وبمعنىً ما متعادية: الذات- الموضوع، الذاتي- الموضوعي، المادة- الوعي، العقل- العاطفة، الفرد- المجتمع، الطبيعة- الإنسان، الحرية- الضرورة، التقدم- المحافظة، وهذه الإثنينية الأخيرة سوف تتحول فيما بعد في الوطن العربي إلى: التقدمية- الرجعية، كما ستستقر مثيلاتها في فضاءات الثقافة العربية، واللغة العربية، فالفكر العربي حكماً، ثم بعد هذا، التراث- المعاصرة، أو ما جمَّله المثقفون العرب إلى: الأصالة- المعاصرة، ثم لتذهب الأصالة مع ماذهب، ويحل محلها، الحداثة مقابل نقيضها اللاحداثة، والتي تضمر التخلف، والعقل مقابل نقيضه، كل ما يخالف العقل، والحرية، على إطلاقها، مقابل نقيضها، كل ما يقف في وجه انفلات الذات الواحدية، ثم الأنا- الآخر، دون مرجعية لهذه الأنا أو لهذا الآخر، ثم الإنسان شخصياً مقابل الطبيعة باعتبارها مثالاً للإنسان في البداية، ثم غير بعيد خصماً، رفع في وجهه سلاح العلم، والنظريات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، ما بين قتل الأب في التحليل النفسي، وقتال الطبيعة في الأدب، حتى امتلاكها ولو عظماً، مثله الصراع في (الشيخ والبحر) وإن غامر هذا العمل بتبني الإرادة إبنة أخلاقية بالتبني بمعنى ما ملحقة بذيل انتصار الإنسان على الطبيعة، إلى أن آلت تلك العلاقة إلى استعباد كامل للطبيعة، وشرعنة لنهبها، جرياً لاهثاً وراء المال. واعتدّ المثقفون الغربيون بهذه الإثنينيات الأحادية أو الواحدية، ومشوا على هديها من فوق حطام وغبار ما سبق، بحثاً عن أساس جديد، من ميراث رخام قديم، تم تسويقه بضاعة عالية الجودة تحت شعار(المعجزة اليونانية). كان هذا ضروريا، فقد كانت البضاعة المهشمة بقطع العلاقة ليس مع الكنيسة وحدها وإنما مع ما تمثله، والتي تم الاستغناء عنها أصلاً، غير صالحة للاستخدام، كانت منتهية الصلاحية. وعلى هذا فقد أُخذ ما لزم من (المعجزة اليونانية) وما لزم من العلوم والحضارة العربية، ولكن بعد أن غسلت من أصولها ومناهجها وأفكارها العربية الإسلامية، ثم طُحنت، كما وصف د. طيب تيزيني، في أحد لقاءاته، وخلطت بالفكر الغربي الحديث، فتشكل هذا الفكر وانبنى على عظمٍ ولحم قديم جديد، كان قد تم اعتماده مما سمي العالم الجديد. ربما يخطر للبعض أن هذا التوصيف، لا يتحلّى بما يكفي من الموضوعية، لكن وقد تم الاعتراض المسبق على ثنائية ذاتي- موضوعي، وقد حذفها العلم أيضاً من قائمة منجزاته الحديثة، يبقى أن ما تمت محض إشارة إلى بعضه، يضع بين يدي البحث، نقلاً منسوخاً للعلاقة العربية بالإثنينية من أصل غربي، ظلاً من غير أصل.
وفي الوقت الذي راح الغرب، انسجاماً مع علومه الحديثة، يتخلص من إثنينيته، عدواً إلى البنيوية والتفكيكية، إلى ما بعد الحداثة، سمع المثقفون العرب صافرة القطار الغربي، الذي راح يبتعد مخلفاً وراءه محطات ومحطات، لم ينتبهوا إلى أنها غير لازمة لهم أصلاً، فراحوا يقفزون الحواجز بين العربات، سعياً إلى العربة الأخيرة، وقد تم غض الطرف عن الأقدام التي كانت قد شُدت إلى الثقافة الغربية بحبل الإثنينية القديم. وعلى فسحة القرن التاسع عشر، كان محمد علي باشا، وقد استتب له أمر الحكم، طامحاً إلى بناء دولة في مصر يمكن وصفها بالعصرية في حينه، وكان محقاً، ولم يكن أمامه إذ ذاك إلا سبيل واحد، وهو أن يقتدي بالغرب الصاعد حينذاك، فأرسل البعثات إلى أوروبا، في مختلف الاختصاصات. وكان الغرب فعلاً قد مشى قدماً على صعيد التجارة والصناعة، مستفيداً من نهب المستعمرات في العالم الجديد، والقديم بطبيعة الحال، وكذلك من تقدم العلوم المرافق، وفورة ذاك الغرب في تصعيد الإنسان أو صعوده على أكتاف الطبيعة. ربما لم يخطر ببال محمد على باشا حينذاك، أو ربما خطر، أن تقدم أوروبا إنما هو قائم ليس فقط على فهمهم والتقاطهم لمجاهيل هذا الكون، وإنما على ما جُمع من ذهب أصفر أو أبيض من المستعمرات، تم استخدامه فعلاً في مرحلة الصعود تلك، ومثلما النجاح يجر النجاح، فكذلك لم تخب آمال محمد علي باشا، فقد كانت الأفكار طازجة، والمشاريع طازجة، ولم تزل صالحة للاستخدام، فاستخدمها وآتت أكلها، فقد عاد المبعوثون بسلال الثمار. رفاعة الطهطاوي مثلاً، عاد وفي جعبته مشاريع تجديدية للتعليم، وهو المجال الذي سيكون الأخطر على مر السنوات، من حيث المحصلة النهائية التي سيقود إليها، فقد حمل معه كل إثنينيات الغرب المتعادية، ورماها في حقل التعليم، فأثمرت جيلاً بعد جيل من الإثنينيات، وعاد المبعوثون الآخرون في كل اختصاص، وتمكن محمد علي باشا من نمذجته، وبالإضافة إلى الإصلاحات الداخلية، كانت الإصلاحات التحديثية التي قام بها فعالة ومثمرة، إذ حركت مياه بحيرة السنوات الطويلة الساكنة. حوصر محمد علي باشا، ثم راح محمد علي باشا، وسارت العربة العربية الإسلامية على سكتين لا تلتقيان، في مصر كما في بلاد الشام، وهما القلب من الوطن العربي. كان هذا حال الجزء الأهم من الوطن العربي حينذاك، أما مغربه فقد كان في غالبيته، يراوح بين احتلال بمعنى ما، من اليمين في الدولة العثمانية، واحتلال صريح من الشمال في أوروبا، وما تبقى من أجزاء هذا الوطن، فقد كان لكل جزء منه مشكلة وحكاية، سواء ما تبع الإمبراطورية العثمانية، أو شق عصا الطاعة عليها، ولكل طاحون تطحن مشكلة وهمّاً. كانت بذرة الغرب الأولى في التعليم، قد أثمرت ما عرف فيما بعد بعصر النهضة، لكنه كان قد حمل معه في بياض قطنه دودة قطنه. وبدأت تصعد إلى السطح أولى إشكاليات الإثنينية المتعادية، لتستمر ما يزيد على مئة عام، وهي تغيّر أسماءها وثيابها، وتختلف وتتقاتل على زيها، فتخلع هذا وتلبس ذاك، وبين هذا وذاك ربما تعرى من هذا ومن ذاك. وبالتزامن مع هذا الحصاد المر الذي راح يتحول إلى طحين مر، فخبز مر، ينضج في فرن الخطاب التعليمي والثقافي العربي، وما تضخه المطابع من كتب مترجمة، تحمل معها بذور سلالتهاالفكرية، وتلقي بها في أرض غير أرضها نباتاً حرّيف الطعم، فاتح شهية، سمي الأثر، لم يتضح سمُّه إلا على مدى يزيد على مئة عام، وإن انتبهت بعض الشخصيات المحافظة في وقت مبكر إلى خطورة الأفكار الليبرالية القادمة من الغرب، لكن ليس على أساس سلالتها، وإنما على أساس غربتها عن التاريخ العربي الإسلامي. فلم يخطر في بال أي من الفئتين المتعارضتين المتناكفتين على طرفي القطيعة بينهما في الوطن العربي الانتباه إلى أصل الداء، وما كان لأحد في ذاك الحين أن ينتبه إلى ذلك، فقد كانت دائرة العلوم واستصدار التصاريح العلمية الغربية، قد أقرت ذلك حتى حينه، وعلى هذا ما كان لرواد عصر النهضة بالتالي أن يفكروا أو حتى يظنوا أن تلك السكة، ما كان لها أن تؤدي إلا إلى اثنين لا ثالث لهما، على خلاف الاختلافات التي كانت عبر التاريخ الإسلامي، متعددة علائقية غير إلغائية، تختلف بين بعضها، لكن لا يلغي أي منها الآخر. ومع أن ذلك التاريخ، قد عرف ترجمات مختلفة عن اليونان والهند وفارس، إلا أن تلك الترجمات، لم تؤثر على الهوية العربية الإسلامية، فقد كانت قادرة على هضمها وتمثلها، أولاً لسعة التوسع والحيوية في فهم ومناقشة آيات القرآن الكريم، وثانياً لعدم إمكانية خروج تلك الأفكار على مفاهيم ولغة القرآن الكريم، وثالثاً لأن الدولة العربية الإسلامية حينها كانت صاعدة متماسكة قوية، ليس سياسياً فحسب، وإنما فكرياً واجتماعياً أيضاً، ومع ذلك فإن اللافت للنظر، أن الفلسفة تلك، مستندة كأحد أسسها الهامة إلى الفلسفة اليونانية، فإنها لم تفلح في أن تحفر لجذورها عميقاً في الأرض العربية الإسلامية، وبقيت بعيدة أو ربما غريبة على الوجدان الجمعي العربي الإسلامي، بينما استطاع علم الكلام أن يؤسس لنفسه مذاهب، من قبل الغزالي، وإلى الغزالي، ثم ما بعد الغزالي، على الرغم مما شاع دون دراية ربما بالنصوص الأصلية للرجل، ونقلاً باحثاً عن باحث، بعيداً عن الأصل، أًو تأثراً ربما واقتداء بالمستشرقين، أو المذاهب الفلسفية شرقية وغربية، من أن الغزالي كان ضد العلم أو العقل، وأنه أغلق باب الاجتهاد، وانسحب الحكم ذاته على سواه، ممن لم يعجب تلك المذاهب، التي لم تكن إلا اعتراضات خارجة في أحسن الاحتمالات من عباءة عدم النظرفي المرحلة الزمنية لمفكرين كالغزالي أو ابن تيمية مثلاً، وما لابسها من حوادث وأحداث سياسية بالدرجة الأولى، وما تبعها من خلاف واختلاف في الرؤى الدينية المقاصدية، هذا إذا لم تكن العباءة غير عربية وغير إسلامية أصلاً، فحاكمت ما شاء لها من الأفكار في محاكم الفكر غربية وشرقية. أما على الطرف الآخر من إثنينية الفكر العربي الإسلامي، وقد مضى على هذه الازدواجية ما يكفي لنضجها في النصف الأول من القرن العشرين، وكردة فعل ربما على ما اعتبره الفكر المتشدد غربة عن دينه وبالتالي غربة عن نفسه، فقد سعى إلى استصدار هويته في مطبعته الخاصة، متشدداً في خصوصيتها أكثر فأكثر، مستفيداً من التربة الدينية الخصبة في مصر على وجه الخصوص ، بحيث أدخلها، ثم الوطن العربي في عنق زجاجة السياسة والحكم والسلطة، منذ أن شكل حسن البنا تنظيم الإخوان المسلمين، لتُفتح مذ ذاك أبواب جهنم على الوطن العربي. على الجانب الآخر، صحيح أن الشيخ محمد عبده كان قد حاول أن يخطو على حذر، في حقل ألغام التحديث، وتحديداً في إلحاحه على الجانب العلمي الغربي، والذي كان أحد مؤيديه، للخروج من حالة الجمود والتخلف طويل المدى، لكن حذره ذاك، لم يجْد كثيرا في نجاته من سكة الإثنينية المتعادية، لا باختياره، وإنما باختيار غيره من المتشددين على الطرف الآخر، والذين سريعاً ما ألقوه في مركب التحديثيين المتغربنين، ودفعوا بهم بعيداً في بحر الغرب. وسواء أراد أم لم يرد، فقد كان الحكم قد صدر بإخراجه من الملة مكفراً. من ناحية أخرى لم تنج محاولته للربط بين القديم العربي الإسلامي، والحديث الغربي العلماني، المتهم بالإلحاد، لم تنج من فشل جمع ما لا يجمع، والخروج بنتيجة حسابية أو حتى جبرية صحيحة، فطرفاها غربي عربي، متنافران في جذورهما، متعاديان في مآلهما، كان هذا جانب، الجانب الآخر أن الشيخ محمد عبده وعلى حذره الشديد، ربما رأى أن الأخذ من هذا ومن ذاك، أو تأويل هذا بمعنى ذاك، قد يجدي في الوصول إلى نوع من الوسطية المجدية بين القديم العربي، والحديث الغربي، لكن الوسطية هذه، في منبعها ومصبها، إنما تنحل إلى الوسط الأرسطي، والتي لم تكن لتخلو من غربة وهجنة، غير قابلة للذوبان، في كوثر النبع العربي الإسلامي، والذي عنى بالوسط والوسطية مدعماً بالقرآن الكريم، التميز والمركز، وليس الوسط بمعنى الأخذ من مصدرين متخالفين . ففي الآية السابعة والستين من سورة (الفرقان) (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) فضبطت الوسطية بلفظ (قواما). أما عندما استخدم القرآن لفظ الوسط، فقد جاء بمعنى التميز. ففي الآية مئة وثلاثة وأربعين من سورة البقرة (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول شهيداً عليكم…). كما كان قد جاء في ما عرف عن السيدة خديجة زوجة النبي (ص) من أنها كانت امرأة وسطة في قومها، لمعنى أنها منميزة وذات مكانة مرموقة. كان الاستقطاب حاداً، خاصة على جانب المحافظين الذين ربطوا بين الثقافة والعلم والاستعمار، كله في سلة واحدة، ألقيت في وجه محمد عبده، حتى أن أحد أهم تلامذته، وهو رشيد رضا، عاد واختلف مع أفكاره التي سبق أن تبناها، ورحل بعيداً عنها، متخذاً مقعده بين المحافظين في مجرى نهر الثقافة. حينئذ كانت الأسباب كثيرة ومتداخلة، ما بين استعمار يعمل من خلال جيوشه ودوائر استخباراته ومراكز استشراقه من جهة، ومن جهة أخرى، تحالفاته في ما يتعلق بإحكام السيطرة على مركز استراتيجي من العالم، يتحكم بالممرات المائية الأساسية فيه، إلى حد أنه يمكن أن يضع خلافاته جانباً عندما يلزم الأمر، ليقتسم الجسد العربي بعدل أو بدون عدل، يرضى به كلما تطلبت المصلحة ذلك. كان للاستعمار أثر مباشر وواضح، تضافرت الجهود كلها على محاربته، وبالتالي فقد كان على مخاطره، هو الأقل خطراً، أما الأثر الأخطر والذي عمل على المدى البعيد، متعمقاً أكثر فأكثر، فقد كان ما تعلق باللغة، وبالتالي في منهج العقل وطريقة التفكير، وفي الناتج النهائي في اللغة ذاتها، متداخلة مع التفكير ذاته، فقد كانت بذرته الإثنينية، والصراع المضمر داخلها، هي أول ما راح يتداخل مع اللغة ونمط التفكير، والذي عمل بما يشبه السوس نخراً، في الألفاظ والمصطلحات أولاً لينتج لغةً هجينة، لم تطَل الألفاظ وحدها، وإنما طالت أسلوب التفكير وصولاً إلى النتائج، مشوشة وعكرة، لدى الفرد والمجتمع على حد سواء. ثم زاد الأمر سوءاً، ظهور وسائل الإعلام بدءاً بالإذاعة التي فتحت أول الأبواب على عالم كان بعيداً، فساكن الناس في بيوتها وغرف نومها، دون استئذان مسبق، يجهز لاستقبال الغرباء، ثم خطواً سريعاً باتجاه التلفزيون، فالفضائيات، فعصر المعلوماتية والإنترنيت، وانفلات اللغة من عقالها وقواعدها وأخلاقياتها، بدءاً (بالفن) في ساحاته المختلفة، والذي راح يهوي متسارعاً في ميزان الألفاظ مثلما في ميزان الأخلاق، ثم في ضعف اللغة خصوصاً في معاقلها الأساسية المدارس والجامعات، وهبوط السوية العامة للفكر، وقبول ما لم يكن يقبل، والتطبيع مع الانفلات، الذي كان قد مهد له الطريق عمل وزارتي الثقافة والإعلام، والذي لم يكن عملاً سيء النية بالتأكيد، إلا أنه بالتأكيد، وقد فتح الباب للترجمات والمصطلحات والأفكار من كل صنف ولون، دون حصانة فكرية عربية، كان سيء النتيجة والمآل، في الثقافة كما في السياسة، فالمصطلحات راحت تسير خلف ما تنتج وسائل الإعلام الكبرى والسياسات الدولية وتدور بالغصب أو الرضا حيث دارت، خارجة سريعاً من عباءة الوطن العربي، إلى العالم العربي، إلى الشرق الأوسط و(إسرائيل) ضمناً، وقد حظيت باسمها أولا ثم بصوتها وصورتها ثانياً داخل كل بيت وفي كل رأس قَبِلَ بكل ما كان يظن أنه لن يقبل به، وخصوصاً في زمن كم الأفواه والعيون والآذان متى ما شاء الحاكم والسلطان. كانت الإثنينية، منذ قرن مضى قد حفرت مجرىً عميقاً تدفقت إليه وفيه مياه البحر المالح، الآتي من الغرب، وصار الغرب قدوة، من الثقافة إلى الثياب، مروراً متسارعاً إلى أساليب العيش إلى الطعام إلى مصطلحات السياسة، كله موجود خليط دون ترتيب، تقوده المجتمعات الثرية التي صارت حلماً صالحاً للتحقق بمعزل عن الوسيلة والسبيل. ومع أن الوطن العربي قد عرف فترة صعود، أيام صعود القومية العربية بين منتصف الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ثم أيام ثورات الربيع العربي، في العشرية الثانية من هذا القرن، لكن وقد كسر أحد الجناحين، وهو الجناح الذي سيس الإسلام، سواء في السابق أو اللاحق، فقد تعذر على الطائر الطيران بجناح واحد، عاجلته القوى المتضررة من هذا الصعود، فأجهزت على الطرفين، ولم تبق منهما إلا على إثنينيات، رقماً متعادياً، إسلامي- علماني، وشرساً دموياً، شيعي- سني، تخندقت فيه أحادية هنا وأحادية هناك، خلف المصالح الشخصية، وقد حلت محل المواقف والأفكار، تحت شعار (نحن ضدهم) وانفلتت كل أشكال الإثنينيات، حتى شملت الأسر، لايكاد يلتقي فيها اثنان على رأي واحد، واجتاحت اللغة، بحيث غدا فريق كبير من المثقفين، لا يكتفي بتطعيم لغته بلغة أجنبية، وإنما راح يشرح مفردات العربية بمفردات وجمل غير عربية، فالمصطلحات الأجنبية أصبحت تدخل دون استئذان، فلا باب مغلق، أو مفتوح، إذ لا جدار أصلاً ليكون فيه باب. عشريات ثلاث أو أربع منذ نهايات القرن الماضي، وكل ماهو عربي، تحت مطرقة الخارج والداخل، واللغة وهي في العمق أهم المسائل لأنها الإنسان، غدا حالها كأنما هو أهون الشرور في نهر الدم، فالنظريات ذات المنهج غير العربي، غربي وشرقي، على أطراف نهر الدم، تزرع وإن بحسن نية في تربة الفكر العربي الإسلامي، ماهو غير عربي وإسلامي، مثالاً المفكر محمد عابد الجابري، منهج غربي، الباحث طيب تيزيني منهج شرقي، لكن هذا لا ينفي وجود محاولات جادة ترقى إلى مستوى العمل على إبداع نظرية عربية إسلامية بعمق تاريخي وجناحين، مثالاً د. طه عبد الرحمن في المغرب، ود. محمد شحرور في المشرق، فقد قاد هؤلاء مشاريع عربية الوجه واليد واللسان، ومع أن السيل العارم يغرق مدناً ويجرف ناساً، إلا أن الزبد على سطح السيل، دائماً ما يذهب جفاءً، وما ينفع الناس يمكث في الأرض.
#بدورعبد_الكريم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زورق صغير بين بحرين
المزيد.....
-
الجيش الأوكراني يتهم روسيا بشن هجوم بصاروخ باليستي عابر للقا
...
-
شاهد.. رجل يربط مئات العناكب والحشرات حول جسده لتهريبها
-
استبعاد نجم منتخب فرنسا ستالوارت ألدرت من الاختبار أمام الأر
...
-
لبنان يريد -دولة عربية-.. لماذا تشكّل -آلية المراقبة- عقبة أ
...
-
ملك وملكة إسبانيا يعودان إلى تشيفا: من الغضب إلى الترحيب
-
قصف إسرائيلي في شمال غزة يسفر عن عشرات القتلى بينهم نساء وأط
...
-
رشوة بملايين الدولارات.. ماذا تكشف الاتهامات الأمريكية ضد مج
...
-
-حزب الله- يعلن استهداف تجمعات للجيش الإسرائيلي
-
قائد الجيش اللبناني: لا نزال منتشرين في الجنوب ولن نتركه
-
استخبارات كييف وأجهزتها العسكرية تتدرب على جمع -أدلة الهجوم
...
المزيد.....
|