|
الهروب إلى اللامكان
زكية خيرهم
الحوار المتمدن-العدد: 8078 - 2024 / 8 / 23 - 22:14
المحور:
الادب والفن
جلس رحيم على ضفاف المحيط، يراقب الأمواج المتلاطمة كأنها أحلام تتكسر على صخور الواقع القاسي. كانت الأمواج، في حركتها المتواصلة والمتغيرة، تشبه حياته الهاربة من وطنه العراق، الذي لم يعد وطنًا بل تحول إلى قفص حديدي، يلتهم كل روح تحلم بالحرية. هرب رحيم من ذلك القفص، باحثًا عن السلام في بلاد أخرى، لكنه لم يكن يعلم أن العالم كله قد بات قفصًا أكبر، تغمره الغربة ويطغى عليه الحنين. سافر إلى سوريا في سبعينيات القرن الماضي، ظنًا منه أنه سيجد فيها نجمة الأمان تلمع في سماء ملبدة بالغيوم، لكنه سرعان ما اكتشف أن الحلم لم يكن سوى سراب، وسوريا امتداد لصحراء حياته، حيث كان الكابوس يرافقه في كل خطوة. تركها وراءه واتجه إلى ليبيا، آملاً أن يجد استقرارًا يحذف من ذاكرته تمائم الخرافة. غير أنه وجد ليبيا معسكرًا ضخمًا محاطًا بالجدران والأسوار العالية، حيث الأوهام تحاصر كل زاوية والشواطئ بدت كالصحراء، صامتة، تجسد عزلته الداخلية. وفي المغرب، جلس رحيم على حافة المحيط، وسط تيه الأقاصي، محاطًا بعالم يتغير من حوله، لكنه يظل ثابتًا كشرارة في بلاد الحطب، تنطفئ لتشرق من جديد. كان الوطن قد خنق صوته منذ سنوات، لكن ذكراه لم تبرح قلبه، كدمعة الأرض التي كلما أمطرت نشرت الصحو في مدائن الغضب. والآن، وهو مثقل بذاكرته التي تضيء ثم تنطفئ في مدارات روحه، يراقب العالم يغرق في صمت مطبق، غريبًا في أرض لا تعرف سوى التيه. جلس رحيم على ضفاف المحيط، متأملاً الأمواج المتلاطمة أمامه، كأنها قطع من أحلامه التي تحطمت على صخور الواقع القاسي. كانت الأمواج، في انكساراتها المتكررة، تُذكّره بحياته المتغيرة، التي قضى معظمها هاربًا من قفص كبير، وطنه العراق، الذي لم يعد وطنًا بل تحول إلى سجن من الحديد، يلتهم الأرواح الحالمة بالحرية. كأنه يترك وجهه المحترق تحت مداس الوقت، محاولاً الخروج من غمد اسمه المستعار، لعبور هذا الموت الرمزي الذي يطارد روحه. ترك العراق وراءه، بحثًا عن السلام في مكان آخر، لكن العالم بأسره كان قفصًا أكبر، تمتد قضبانه في كل اتجاه، يلفه الغربة ويغمره الحنين. سافر رحيم إلى سوريا في سبعينيات القرن الماضي، باحثًا عن الأمان والحرية. كانت سوريا في مخيلته كنجمة بعيدة تلمع في سماء ملبدة بالغيوم، حلم مضيء وسط ظلمة، لكنه سرعان ما اكتشف أن ذلك الحلم لم يكن سوى سراب. كأنه يراقص طرائد الوجع على إيقاع الكوابيس، كانت سوريا امتدادًا لصحراء حياته، حيث كانت كل خطوة فيها تحمل معها عبء الكوابيس الماضية. ثم انتقل بعدها إلى ليبيا، ظانًا أنها ستكون واحة هدوء في صحراء التيه، لكنها لم تكن سوى معسكر ضخم تحيطه الأسوار العالية، غارقة في عزلة موحشة. كانت الشواطئ هناك كالصحراء القاحلة، صامتة، تفتقد الحياة، كأنها لوحة فارغة تعكس الصمت والوحدة التي اجتاحت كل زاوية من روحه. وكأن العالم مجذوب بالهذيان، بينما رحيم يركض خلف خطاه المتعثرة، محاولًا أن يحلق في رؤى قلبه الممزق. كان هو الخيال الضاحك التعيس، والانتظار يلتهم أنفاسه بين أنيابه. في وسط هذه الرحلة، كان هو ضوء الخرافة، بينما قنديله المتمثل في تجاعيد الوداع لا يتخطى مداه، يظل عالقًا بين الماضي والحاضر، بين الحياة والموت، يغمره صمت الكون العميق. الجزائر كانت محطته الثالثة، ولكن حتى هناك لم يجد ما يبحث عنه. المدن بدت وكأنها غارقة في نوم عميق، صمت طويل يخيم على أرواح الناس، وكأنها طوت نفسها في سباتٍ أبدي. كانت أرواحهم مغتربة، وقلوبهم موصدة أمام نسائم الحرية، وكأن الاستعمار قد رحل بجنوده، لكنه ترك خلفه ظله الثقيل، يُرزَح به على أكتاف الناس كعبء لا يُحتمل. وكأن المدن نُسجت من ثوب عقلٍ ملطخ بالسكون، غارقة في رتابة الأيام، فيما العصافير جفاها الوسن وتبدد غناؤها في مفترقات الحزن. وفي نهاية الرحلة، وقف رحيم على أعتاب المغرب، حيث لم تكن وجدة مجرد مدينة أخرى في مسار هروبه، بل كانت نقطة تحول في حياته. هناك، التقى بابتسامة شرطي مغربي على الحدود، وكأن تلك الابتسامة كانت أشرعة الإبحار نحو عالم جديد، عالم لم يعهده من قبل، لكنه أحس فيه بألفة غريبة، كأنه عاد إلى حضنٍ كان يفتقده طيلة العجاف من عمره المسكين. في تلك اللحظة، استشعر رحيم أنه يبتعد عن فحيح الوقت وصدى الريح، يقترب من نقطة سكون جديدة. استقر رحيم في المغرب، وبنى هناك حياة جديدة، لكنها لم تكن مجرد حياة عابرة؛ كان ينسج من خيوط الأيام وشاحًا من الصداقات، يجتمع فيه مع آخرين هاربين من أوطانهم، تمامًا كما هرب هو، كأنهم كلهم قد أغتسلوا برائحة الصمت، وأخذوا يتلمسون وجوههم الموغلة في الحزن، يبحثون عن دفء في مدائن الغروب. المغرب جمعهم كأنهم فلاسفة يلتقون في مقهى ليخططوا لعالم جديد، عالم ينشد فيه الإنسان الحرية ويتنفس دون قيود. ورغم بناء حياته الجديدة، ظل العراق محفورًا في قلب رحيم، كجبل شامخ يطل من بعيد على أيامه الجديدة، لكنه كان جبلًا غارقًا في الضباب، بعيدًا، مستحيلاً العودة إليه. وعندما جاءه خبر إعدام صدام حسين، كانت دموعه تتساقط كأمطار حزينة على أرض جرداء. لم يكن يبكي على صدام، بل كان يبكي على العراق، على وطن أُعدم معه في تلك اللحظة. في كل مرة يعود فيها رحيم إلى المغرب، كان الأمر أشبه بفتح نافذة تطل على ماضٍ ضائع، يتجول في شوارع وجدة ومراكش وتارودانت وكأنه يستكشفها لأول مرة. تلك المدن كانت تحتفظ بذكرياتها كلوحات زيتية معلقة على جدران الزمن، تعيش في ذاكرته، تمامًا كما ظل العراق يعيش في قلبه. لكنه كان عراقًا منسيًا، موجودًا فقط في الأحلام، بعيدًا عن متناول الواقع. استقر رحيم في كندا في نهاية المطاف، ولكن حتى في تلك البلاد الشاسعة لم يجد دفء الشوق الذي اعتنقته أنامله في المغرب. كانت كندا بالنسبة له قفصًا آخر، قفصًا من جليد لا يذوب، بارد وقاسٍ، كأنه يحفر في تقاسيم روحه مداه، يغمره الصقيع الذي امتد ليعانق كل زوايا قلبه. في تلك البلاد البعيدة، حيث الصمت يبتلع الأصوات، والثلج يغطي كل ذكرى، كان رحيم كمن يطوف بصمت في جنائن رعشته، يسأل نفسه: "إلام نطوف بصمتٍ جنائن رعشتنا؟". ومع كل ذلك، كان يعود إلى المغرب من حين لآخر، وكأن تلك العودة تحمل رائحة ماضيه الدافئة، أو كأنها شرفة يطل منها على حياته التي لم تكتمل. يجلس على تلك الشرفة، حيث كل أمس مضى كان يضج بهمسات الشجون، يعيد تشكيل الصور التي بُنيت في خياله، لكنه لم يستطع يومًا أن يكتمل. كان الزمن يتسرب من بين يديه كالرمال، كأنه يحاول أن يضمّ نبضات قلبه المتشظية في سواقي الجنون. "ربما سأعود إلى العراق يومًا ما"، فكر في نفسه، لكن صوته كان خافتًا كصدى بعيد، يعلم في أعماقه أن العراق الذي عرفه لم يعد كما كان. اختفى العراق مثل النجوم التي تخفت خلف غيوم الزمن، ابتلعه النسيان كما يبتلع غبار الأحلام فوق صحراء لا نهاية لها.
#زكية_خيرهم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفاتيح القائد
-
تماوج الأرواح
-
الزمرد الأخضر
-
السياسات الجزائرية بين دعم الانفصال وتعطيل الوحدة المغاربية
-
الجزائر: العقبة الكبرى أمام حلم الوحدة المغاربية
-
نداء للعالم: إنهاء معاناة سكان مخيمات تندوف
-
لألقٍ لا بدّ أن يأتي: قصيدة تعكس وجدان الإنسان في ظل الأزمات
...
-
الصراع والهجرة في أدب سيمون سترانجر: نظرة على ثلاثية الشباب
-
تكريم البروفسور جعفر عبد المهدي صاحب: رائد الفلسفة السياسية
...
-
قراءة في ... مسودن العراق للاديب زهير شليبة
-
تأثير المشاركة المغربية في منتدى أوسلو للحرية: دور الدكتور ل
...
-
ديناميكيات العوامل النحوية في اللغة العربية: استكشاف البنية
...
-
فلسفة العلاقات في شعر الحسين العبويدي: تأملات في الصداقة وال
...
-
الجمال الفني والثقافي المغربي يلتقي بالأدب الإنجليزي في -حكم
...
-
مذكرات زوج مفكر في بلاد الفايكنغ
-
صدى الاغتراب: تأملات في قصيدة أوراق من سيرة تأبَّطَ منْفى لل
...
-
بين الإسلام والتحديث: النساء في مجتمع ماليزيا الساحلي
-
لغة الحب والفراق: قراءة لقصيدة افتراق للأديب والشاعر حمودي ع
...
-
تحليل العمق الفني والأدبي: رحلة داخل تحديد الرمز الرئيسي
-
صمود وأمل: قصيدة الحج لغزة هذا العام للشاعر ماجد أحمد النصير
...
المزيد.....
-
الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
-
فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف
...
-
تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|