|
لحظة أخرى ، سيدي الجلاد -
الحسن علاج
الحوار المتمدن-العدد: 8075 - 2024 / 8 / 20 - 16:30
المحور:
الادب والفن
لا يتوقف إدغار موران (Edgar Morin) وهو البالغ من العمر مائة وثلاث سنوات عن التأثر بالعالم والحياة . لماذا نحن أحياء ؟ ولماذا ينبغي علينا الرحيل ؟ هذه الأسئلة الأولية لم تفارق المفكر أبدا ، ثم إنها تستمر في بعث فضول قوي بداخله وهذا المقتطف خير شاهد على ذلك . إدغار موران : ترجمة : الحسن علاج
" كيف يمكن التعبير عن هذا الإحساس بالذهول ، بالفرح والأسى الذي يجتاحني أثناء تحديقي في الطبيعة ، الأشجار والسماء ؟ إمعان النظر ـ في ظل هذه الأثناء ـ في عصفور صغير أجهل فصيلته ، ضئيل الحجم أكثر رشاقة من حمامة ، ممشوق وضامر الرقبة ، يتهادى برشاقة ، ينقر مخبّاً على العشب ؟ الاندهاش من الحياة : ليس فقط لأني مازلت على قيد الحياة في عمر مائة سنة وسنة واحدة ، بل بكل بساطة أن تكون موجودا في قلب الحياة التي أستمتع بها في نفس الوقت مثل عصفور ، آلاف شفرات العشب ، زيتونة قريبة ، أشجار النخيل الأكثر بعدا ؛ في بستان ، يمارسون نشاطهم ، بما فيهم أنا ، من أجل العيش بدون استثناء . لماذا هذا التكاثر ، هذه الإبداعية حتى في ورقة أشد صغرا ، معمل صغير ليَخْضور مُلتقط لطاقة شمسية ؟ فوراء هذه الدهشة أمام الحياة ، دهشة أن تكون على قيد الحياة ، ليس فقط كوني جئت إلى الحياة عبر ضربة حظ حيوان منوي سريع تسرب إلى بويضة والدتي ، وليس فقط لأنني قاومت عمليات الإجهاض الفاشلة التي أملاها الداء الذي ألم بها في القلب ، وليس فقط لأني ولدت مخنوقا بالحبل السّري ، بل فقط لأني حي وسط الأحياء ، والأهم من ذلك لأنني أوجد على ظهر البسيطة . ثم إن الحياة على الأرض تذهلني بطريقة مغايرة منذ أن وعيت نظامها البيئي الخرافي ، عبر العداوات والتضامن ، الشراسة والتعايش . تشكل هذا النظام البيئي بين الطبيعة الحية والطبيعة الفيزيائية للأرض ، المياه ، الجبال والوديان . لغز نظام الكون الذي يربط ويصل العناصر الخاضعة للارتجاجات والفوضى ، ثم يبدع ذرات ، جزيئات ، نجوماً وأنظمة شمسية . وعلى الكوكب الثالث لشمسنا حدثت أعجوبة تنظيم بيئي ذاتي رائع تولدت عن لقاءات بين مكونات جزيئية مختلفة ، فيزيائية كيميائية خالصة حيث تنبثق المميزات الخاصة لما يُسمى الحياة : الإدراك ، التكاثر الذاتي ، التصليح الذاتي ، الحركية ، الامتصاص المستمر للطاقات الخارجية لمقاومة ، بلا توقف ، للتحلل والموت. والأكثر إدهاشا هو ضآلة الاندهاش من الحياة . فوراء اندهاشي بكوني حيّا أرزق في هذا العالم ، ثمة اندهاش بضخامة هذا العالم ، الذي لا نعرف عنه أسباب حدوثه وإلى أين يقود تمدده . ليس هذا الكون نظاما متقيّدا بقوانين ثابتة ، مثلما اعتقد بذلك العلم الحتمي على غرار بيار سيمون دو لابلاس (Pierre-Simon de Laplace) . فإذا كان يتضمن مبادئ تسمح ، مع ذلك ، للعناصر بالخضوع لفوضى الاضطرابات ، التكتل في تنظيمات ، أو خلافا لذلك أن تقوض بعضها بعضا ، فعبر تلك التفاعلات والارتكاسات ، فإن الكون يعتبر ، بشكل غير قابل الانفصال ، نظاما ، فوضى ، تنظيما ، بمعنى كونا مركبا . بالإمكان رؤية الشمس الغاربة ـ حيث أنا ـ مباشرة ، عبر ستار ضبابي يقيني من الإصابة بالعمى ؛ إنه أشبه ما يكون بقمر أشد إضاءة ، شمسي وقمري في الوقت نفسه . نحن لا نرى النجم يحيا ، يتغذى وينظم نفسه بواسطة النار ، يقذف بدون توقف بشواظه الشمسي . كذلك فإن ملايير النجوم تحيا بالنار وبواسطة النار . وبالتأكيد ، فإنه من المعروف أن الحرارة تزداد قوة من جراء تركيز المادة النجمية تنتج الانفجار ، ثم إن ثمة تضادا تكامليا بين قوى الجاذبية المركزية والقوى الطاردة للنار التي تحافظ طيلة مليارات السنين على هذاالتنظيم بالنار وعبر النار . إلا إنني لا أتوقف من أن أندهش أكثر ، أنذهل ، من أن هذه النار التي تدمر كل شيء على الأرض ، ولاسيما في أصياف حرائق الغابات ، لا تتوقف أو تكل عن بناء شمسنا . لذلك فإن كل شيء يبعث على دهشتي : حياتي ، الحياة ، العالم . في نفس الوقت يخالجني فرح غامر ، نوع من السعادة المطمئنة في تأمل الحياة النباتية من حولي . وبما أنها تتغذى على الطاقة الشمسية عبر تفرعاتها وعبر المواد المعدنية من خلال جذورها ، فإن الحياة النباتية ليست من العدوانية والافتراس في شيء . لكني أعشق أيضا الحياة الحيوانية ، رشاقة القطط ، مهابة السِّباع ، وسرعة الغزلان . يزعجني البعوض الذي يتشبث بوجهي ، لكني معجب بالذبابة التي تعتبر آية صغيرة للطبيعة . كما إني كنت أقابل يوميا ذبابة أثناء وجبة الإفطار على مائدتي ، والتي أصبحت معتادا عليها . كان لدي ثمة إحساس ببداية ارتباط بيننا . "ارتباط " هو الكلمة الإيثولوجية éthologique) ( للإشارة إلى الصداقة والحب ، مصطلحان لا يتوجب علينا الاحتفاظ بهما للبشرية بعدُ . إننا لا نلاحظ فقط تلك المشاعر بالنسبة لنا لدى كلابنا أو قططنا الأليفة ، بل أيضا بين أفراد من نفس النوع وأحيانا من فصائل مختلفة ، وهو ما لا يمنع ، علاوة على ذلك ، كماهو الحال لدينا من العدوانية والقتل . أحب أولا وقبل كل شيء العصافير ، من طائر الدوري إلى الكوندور ( النسر الأمريكي ) ، لاسيما طيور السنونو التي تمخر عباب السماء عاليا أحيانا ، وفجأة تمر كالشهاب أمام ناظريّ . أنتظرها بفارغ الصبر كل ربيع . وكم كنت سعيدا وأنا أرى ظهور جولاتها . من بين كل الديانات ، أفضل تلك التي تبجل الشمس وتلك التي تعظم القمر . وهكذا أشعر بداخلي بالسلطان المطلق للإله إنتي Inti) ( ، الإله شمس لشعب الإنكا . لقد وجدت أن التبتل الدائم لرهبانه وتُقاته ، على قمة مدينة ماتشو بيتشو ، أمرا بديهيا . يعود عشقي الصوفي للقمر إلى والدتي ، لونا Luna) ( ، التي غادرت الحياة وأنا في العاشرة من عمري . إني أتأمله بورع لمّا يكون بدراً ، مثل البارحة مساء . أؤدي بنفسي الصلاة إلى الإلهة تانيت في رواية سلامبو :" عندما بدوت ، ساد هدوء على الأرض ؛ الأزهار تتفتح ، وتسكن السيول ، يمد الناس المتعبون صدرهم نحوك ، والعالم بمحيطاته وجباله ، كمرآة ، ينظر في وجهك 1 " . أدين أيضا بدين آتون ، إله الشمس ، الذي عبده إخناتون وجعل منه إلها موحدا . أليس هو من يمسك بكوكب الأرض في مداره ؟ أليس هو من يمنح الطاقة الضرورية للحياة ؟ أليس هو من يسود في سمائنا ؟ أليس هو من تتعذر رؤيته وهو العلي القدير الذي نستند عليه تماما ؟ يغمرني السرور الإستثيقي حقيقة وأنا أتأمل جماليات الحياة ، طبيعة الشمس ، القمر والنجوم . أشعر في نفس الوقت بحماسة تواصل وتكامل شبه صوفي بداخلي وبأناي في العالم. ثم إني ـ وبصفة دائمة ـ أحس ببساطة أن أكون حيا أرزق الذي هو شيء آخر غير متعة الحياة ، التي تتضمن بداخلها اتقادا والتي لا أدركها الآن إلا وهي في تقلص . ولئن كنت أشعر بالامتلاء كوني على قيد الحياة والاستمتاع بالحياة التي يداهمني الإحساس بفقدان الحياة عما قريب ، وأكبر من الحياة بكثير ، هو أن العالم برمته سوف يتلاشى معي وإلى الأبد . إن أناي الذاتية وأناي الموضوعية سوف تزولان في نفس الوقت ، ثم إن هذا الإفناء سوف يكون في الوقت نفسه إفناء للعالم بداخلي. سوف يواصل العالم مغامرته من دون أن نعرف ما إذا كانت منذورة إلى التبدد النهائي أو أنها تكون دائمة التجدد ، سوف تنطفئ شمسنا وسوف تتوقف الحياة . لكن حتى ذلك الحين ما الذي سوف ينجم عن تقاطع الأزمات العظمى التي تكابدها الإنسانية . أتحسر على كوني قد أغيب لمدة عام أو عامين لإدراك ما الذي يتبلور ، ينهار ، يتشكل . أخشى من أن تطرأ فترة طويلة ، تراجعية ، مع العلم أن غير المحتمل يمكن أن يغير كل شيء إلى ما هو أفضل أو إلى ما هو أسوأ على حد سواء . سوف أرحل في خضم إثارة تاريخية كبيرة . " ــ 1 ـ غوستاف فلوبير ، سلامبو ، فصل 3 ، 1862 . مصدرالنص : مقتطف من كتاب : Encore Un moment … Denoél,2023 مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية Sciences Humaines عدد ممتاز (30) غشت ـ شتنبر 2024
#الحسن_علاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ت ذريعة هذيان راهب صحراء ،يستكشف الكاتب ، الذي يمقت الكهنة و
...
-
سلامبو : قصيدة ذات نبرات سادية
-
فلوبير رجل العصر
-
مفاتيح السعادة المسيحية
-
هل يخضع تاريخ الفلسفة إلى دورات ؟
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
-
فرويد والدين
-
أمثلة عن الأجساد :أمكنة النوم في رواية الأستريا
-
على ساحات المعركة
-
الشر الكوني
-
العقدة الأخوية العتيقة
-
حوار مع جان بول سارتر حياة من أجل الفلسفة
-
أفلوطين : نوم النفس واستيقاظها من تلقاء ذاتها
-
يمتدح نيتشه ديونيزوس ، إله المعاناة واللذة
-
الوباء في الأدب ، من خلال 6 روايات عظيمة
-
نحن كلنا إلى حد ما ، جزء من شخصيات ألبير كامو
-
وار معجورج أرثور غولدشميث .. قلق الصفحة الممتلئة
-
الجسد ، طريق موصل إلى الآخر
-
المغارة
-
العود الأبدي ، تكوين وتأويل
المزيد.....
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
-
مدينة حلب تنفض ركام الحرب عن تراثها العريق
-
الأكاديمي والشاعر المغربي حسن الأمراني: أنا ولوع بالبحث في ا
...
-
-الحريفة 2: الريمونتادا-.. فيلم يعبر عن الجيل -زد- ولا عزاء
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|