أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - لبيب سلطان - بحث حول تراجع العلمانية في العالم العربي















المزيد.....


بحث حول تراجع العلمانية في العالم العربي


لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل

(Labib Sultan)


الحوار المتمدن-العدد: 8073 - 2024 / 8 / 18 - 03:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


1. مقدمة لابد منها
يسود اليوم نموذج الدول العلمانية اغلب بقاع الارض، كما ويشكل المنهج العقلي العلماني اساسا لسن لقوانينها وتنظيم أدارتها وحياة مجتمعاتها وتطوير ثقافتها وادارة التطور الحضاري والاقتصادي والمعاشي لها باضطراد وزخم مستمر. مقابله، تجد تراجعا مستمرا وتتّآكل وتختفي معالم وبقايا العلمانية في العالم العربي وبشكل زخمي ايضا للوراء وذلك منذ منتصف القرن الماضي تحديدا بقيام الانقلابات العسكرية واقامة النظم والدول الديكتاتورية ومنها والى اليوم اصبحت المنطقة العربية مرتعا للتخلف بكل اشكاله الاداري والحضاري والفكري والاقتصادي والثقافي ، وانتهت مجتمعاتنا تعيش اليوم في كهف سلفي اجتماعي وسياسي وفكري منعزل عن العالم وعن قوانين ومفاهيم حضارته العلمانية في بناء دولها وادارة شؤون مجتمعاتها على اسس عقلية وعلمية. انه تراجع مخيف للعلمانية اي للمنهج العقلي في اقامة وبناء دول وطنية حقوقية ديمقراطية تحترم حقوق وحريات مواطنيها وتضع نفسها فوق العقائد والايديولوجيات كي لاتميز بين مواطنيها ، وهو جوهر طروحات المنهج العلماني في تطوير مفهوم الدولة لتقود التطور الحضاري لمجتمعاتها على اسس عقلية ، وليس باختصار العلمانية المصطلحي الشائع "بفصل الدين عن الدولة " الذي يعود للقرن الثامن عشر حين كان الدين المسيس يمثل العقيدة السياسة الوحيدة التي تكسب الشرعية للدول ذات الحكم المطلق. ان العلمانية تمثل المنهج العقلي في تكوين وتشكيل مفهوم الدولة لتقود تحضر مجتمعاتها ، ومنها وعي خطر التراجع العلماني للمجتمعات والذي له يعود السبب الاساس لتخلفها وتراجعها على كافة المستويات ،وهو مانشهده واضحا في المنطقة العربية.
ولعل اشد مظاهر التخلف ايلاما في عالمنا العربي، عدا قمع النظم العربية الاستبدادية ، والفقر والتخلف الاقتصادي ،هو ذلك التحول الملفت حتى لشباب الجامعات ، وهم امل المستقبل، عن الفكر العلماني العقلاني لبناء المستقبل على اسس عقلية وعقلانية الى الافكار السلفية الدينية والخرافية. انه بلا شك النكسة الاكبر لمجتمعاتنا اليوم هو فقدان الايمان بقدرة الفكر العقلي العلماني في حل مشاكلها الكثيرة المتراكمة ومنه اللجوء للفكر الميتافيزيقي والى تراثها الروحي الديني عسى ان تجد فيه مرتعا يشفيها من واقعها المرير في حركة احتجاج لاشعوري ربما على ماشهدته من انجرارها من فشل الى فشل اخر اعمق وعلى مدى 75 عاما تقريبا ومنها يمكن فهم تراجع الفهم والوعي العقلاني العلماني وفقدانها الثقة بتكوين صورة فكرية واقعية عن اسباب التحضر بعد الفشل المتراكم ، ناهيك عن تكوين صورة واقعية عن الحياة والحضارة في العالم ، واسباب تقدمها، فانزوت في كهف الانقطاع والانعزال والانكماش على الذات ومنه صعود الفكر السلفي الديني وسيطرته على الوعي العام للمجتمعات العربية .
ومن مظاهر ومعالم ازمة وتراجع الفكر العلماني العقلاني العربي هو ذلك العداء والتحريض الواسع السافر على كره ثقافة الغرب العقلية العلمانية ومنها كنتيجة له رفض مفاهيم وجذور وانجازات الحضارة الانسانية المعاصرة القائمة عليه وبه حجب عنها اهم مصادر المعرفة التجريبية والعقلية العلمية لبناء مفاهيم تطورها كشكل الدولة واسس الحكم وعلاقته بتطوير حقوقها وشؤون حياتها ومعيشتها ، وهو اهم مهام المنهج العلماني الذي سسنتناوله تحت بالنقاش والتحليل) . ان هذه الحضارة التي يجري تشويهها وذمها وسبها من كل التيارات الدينية والايديولوجية في منطقتنا هي الحضارة التي فاقت بانجازاتها اي افق كان يمكن ان يتصوره خيال الانسان حتى قبل قرن واحد فقط، الخيال الانساني الحالم دوما بحياة افضل.
لقد ساهم كلا النهج الديني والايديولوجي السلفيين السائدين باغتيال الوعي العلماني العقلاني الحر ومنه ، ولمواقف وطروحات ايديولوجية ، بعزل مجتمعاتنا عن فهم حضارة العالم المعاصر وحجب اسباب وسب التحضر المستقبلي لها، ليس فقط من طروحات السلفية الدينية المعادية للحضارة العقلية عموما ، بل من تيارات تعتبر نفسها علمانية بينما تقوم يبث فكر الكراهية للحضارة المعاصرة باسسها ومفاهيمها وهي الاسس التي تقوم عليها نفس الحضارة العلمانية القائمة في العالم اليوم بكل انحازاتها العظيمة ( وسنأتي لتحليل هذه الظاهرة الغريبة حقا وهي تشبه كمن يدعو للصلاة ويسب الاسلام والمسلمين بنفس الوقت والناتجة عن التبني السلفي اي النصي الجامد للعقائد العقلية الوضعية كما سنتناوله لاحقا). وهناك عوامل عديدة اخرى ساهمت بالتراجع المستمر للعلمانية في منطقتنا منها التراجع التعليمي والفقر والقمع السلطوي عدا السلفي وسيتم تناولها تشريحا كعوامل موضوعية في الجزء الثاني من هذا البحث.عدا العامل الذاتي في قصر وفقر ‏وسطحية الفهم للمنهج العلماني في المنطقة العربية. ومنه لنتعرف بشكل اعمق على اهمية ومحتوى المنهج العلماني والعلمانية في تطوير اخطر واهم مفهوم تحضري للبشرية في صياغتها لمفهوم الدولة والحكم، والتي هي الاداة والعقل والالة التي تقود عملية التحضر لمجتمعاتها، ومنها تنطلق اهمية المنهج العلماني الذي يمكن اعادة تعريفه ، ومن دون مبالغة ، بانه المنهج الذي قاد عملية التحضر في العالم المعاصر باعادة طرح وتشكيل مفهوم الدولة المعاصرة، ومن هنا تأتي اهمية فهم هذه العملية المعقدة التي قادتها العلمانية على مدى 300 عام ولليوم في تكوين مفهوم الدولة.

2. لمحة عن تطور العلمانية كمنهج لتشكيل وبناء الدولة المعاصرة
لعل اخطر واهم قضية في تاريخ الانسانية على الاطلاق ، هو طرح العلمانية لاقامة الدولة الحديثة على اسس عقلية وحقوقية وذلك مايقرب من 300 عام ، منذ نهاية القرن السابع عشر على يد الفيلسوف البريطاني العظيم جون لوك ( 1645 ـ 1704) ) الذي طرح اساسين للانتقال الى الدولة الحديثة ، اولهما كسب شرعية الحكم من المحكومين مباشرة كبديل للحكم باسم الشرعية الالهية المستمدة من التفوض الديني للحاكم ، وهو الاساس والنموذج للحكم المطلق الذي ساد منذ عصر السلالات وسارت عليه جميع الدول والامبراطوريات على مدى 5000 عام تقريبا او على مدى 97% من عمر البشرية المدون ، ومنه استنبط اول مفهوم للعلمانية حول كسب الشرعية للحكم من مفهوم المواطنة وجعلها حقا وربطهما معا ، وليس وفق تفويض الهي للملوك والخلفاء والاباطرة ( وربما منها تم ربط العلمانية بالدعوة لفصل الدين عن الدولة ويقصد به طبعا الدين السياسي الذي باسمه تعطى الشرعية للحكم ) ، والثاني تقييد الحكم والدولة بدستور يضمن الالتزام القانوني للحاكم بحقوق طبيعية محددة للمواطن الفرد ( اصبح يدعى مواطنا بعد ان كان رعية للحاكم ) والمساواة في المواطنة بعدم التمييز في العقائد بين المواطنين. لقد تم صياغة هذين المبدئين العقليين المؤسسين لمفهوم الدولة العلمانية الحقوقية المعاصرة منذ عام 1691 رغم ان تسميته بالعلمانية اتت بعد 150 عاما كمصطلح عام 1850 على يد الكاتب البريطاني جورج هوليوك ، ولكن ذلك لايعني ان ولادة المنهج العلماني بدء من هذه الفترة بل واقعا قبلها ب150 عاما ، وربما ابعد من ذلك، ولكن الطرح الواضح لتشكيل اهم اساسين لمفهوم الدولة الحديثة قد جاء من جون لوك تحديدا). لقد جاء اول نجاح احرزه هذا الطرح العقلي لمفهوم الدولة بعد 100 عام منذ طرح لوك لافكاره ، اتى اولها في الولايات المتحدة باقرارها اول دستور علماني في التاريخ عام 1885 والثانية بعدها بست سنوات فقط في فرنسا باقرارها ثاني دستورعلماني عام 1791 بعد نجاح الثورة الفرنسية عام 1789 ، وقام كلاهما بانهاء الحكم المطلق والتحول للجمهورية القائمة على مبادئ اقامة شرعية الحكم والسلطة بالانتخاب المباشر من الشعب واقرار مفهوم المواطنة وحقوقها ومساواتها بعدم التمييز بينهم بسبب العقائد. شكلت هذه النقلة نقطة الانطلاق لاقامة وانتشار "نموذج الحكم المقيد " اي الحكم بدستور حقوقي ( بمعنى ينص على حقوق المواطنة وطريقة كسب الشرعية ) على مدى القرن التاسع عشر ليقام نموذج الدول القومية الحديثة بدل الدولة الدينية التي سادت منذ فجر التاريخ.
اتى التطوير القادم لمفهوم الدولة وفق المنهج العقلي العلماني منذ منتصف القرن العشرين تقريبا وذلك بعد الخلل الكبير الذي تم تشخيصه في مفهومها السابق بفصل الدين عن الدولة في الدولة الحديثة كبديل للدولة الدينية. اتضح هذا الخلل بعد الماسي التي جرها صعود احزاب تمثل التيارات العقائدية العقلية الايديولوجية للسلطة ومنها بسطت سيطرتها على الدولة لتقيم نظم حكم ديكتاتورية قمعية صبغت الدولة بلون عقائدها مثلما رآه العالم بسيطرة الايديولوجيا القومية على المانيا وايطاليا والايديولوجيا الماركسية على روسيا وصبغت دولها بلون ايديولوجياتها ومارست القمع والتمييز ضد عقائد مواطنيها واقامت دولا "دينية وضعية " ذات حكم مطلق بدل الدول " الدينية السماوية " ، اي هذه المرة اخذت الدول تدين بديانات وضعية عقلية بدل السماوية ،واضحت تقدس القائد وتمنحه سلطات مطلقة مثل تلك التي امتلكها ومارسها الاباطرة والملوك في نظم الحكم المطلق باسم الشرعية الدينية الالهية الذي ساد قبل طرح العلمانية لمفهوم اقامة الدولة على اسس عقلية. وبقدر ما شكل ذلك نكسة عميقة وكبيرة للنموذج العلماني للدولة الحديثة حيث وقع في مطب سيطرة الديانات الايديولوجية التي انتجها العقل لتتحكم بمصير الانسان والشعوب ،تماما كما تحكمت به النظم المطلقة ذات الشرعية الالهية . هنا اتى المنهج العلماني بطرح مفهوم عام "فصل الدولة عن جميع العقائد " ، اي على عدم تبنيها لاية عقيدة سواء دينية أو وضعية معا ، او مايمكن تسميته "الدولة اللاعقائدية المحايدة "، والحياد هنا بمعنى حيادية الدولة تجاه عقائد مواطنيها وذلك بمنع ادلجة اجهزتها باي لون لتكون محايدة وغير منحازة فعلا تحاه عقائد مواطنيها ( والواقع انه الرجوع فعلا لاطروحة جون لوك عام 1691 بالتزام الدولة بعدم التمييز بين عقائد مواطنيها وفق مفهوم الحقوق الطبيعية للفرد التي وضعها ومنها الحق في العقيدة ) وتعهد الدولة باحترام جميع عقائد مواطنيها وترجمة المساواة بعدم التمييزبينهم بسبب العقائد ، وهو مايتطلب حيادية الدولة واجهزتها التي وقفت وراء مفهوم " الدولة اللاعقائدية". ولتطبيق هذا المبدأ لمعالجة الخلل الاختراقي لمنع الايديولوجيات من التأثير،دعك عن السيطرة ، على أجهزة الدولة ، خطا المنهج العقلي العلماني خطوة جريئة اخرى بطرح مبدأ " فصل اجهزة الدولة عن لون الاحزاب الفائزة التي تشكل الحكومات " التي اصبحت اجهزة وطنية محايدة وعدلت دساتيرها لتضمن حيادية الدولة وابعادها عن التلون الايديولوجي للاحزاب الحاكمة التي تفوز في الانتخابات العامة ، وفعلا فدولا مثل اميركا وبريطانيا والمانيا وفرنسا هي ليست دولا مسيحية ولا تدين بعقيدة وضعية ايديولوحية حتى لو شكلت حكوماتها احزابا يمينية محافظة او يسارية ليبرالية او اشتراكية. لقد نجح هذا النموذج العلماني " الدولة اللاعقائدية المحايدة " وانتشر واسعا ليسود اليوم عشرات الدول في القارات الاربع ، ولكنه وللاسف لم ينل العالم العربي منه حتى محرما كونه لايميز لليوم بين مفهوم الدولة والسلطة بل ولاحتى في فهم مفهوم الدولة الحديثة بشكلها المعاصر " بفصل الدولة عن العقائد بكافة اشكالها الدينية او الوضعية" وجعلها جهازا وطنيا محايدا ولاتنافس عقائد مواطنيها كما ولاتميز بينهم ولاتقمعهم بسبب عقائدهم ومعتقداتهم كونها تمثل حقوق المواطنة بل وتمثل كرامة الذات الانسانية للانسان بحقه في رأيه وعقائده والتي يتم اغتيالها يوميا في العالم العربي. لقد غابت هذه المفاهيم التي استند اليها المنهج العقلاني العلماني في اقامة مفوم الدولة والحكم المعاصر من خلال تشكيله على اساس علاقة الدولة بالعقائد وبحقوق المواطنة الخاصة والعانة للمجتمع وربطها بمهمة دولا لاعقائدية حديثة تقود عملية التحضر لمجتمعاتنا العربية، بل طغى مفهوم الدولة الايديولوجية على الوعي النخبوي والجمعي العربي، ومنه غاب الوعي العلماني العقلي في المجتمعات العربية وهو ربما من اهم اسباب وقوعها بسهولة في شباك السلفية الدينية الذي نراه اليوم.
لنرسم صورة المسار التطوري لمفهوم الدولة الذي قاده المنهج العقلي العلماني الذي يمكن تلخيص مراحله وتطور طروحاته وفق ثلاثة مراحل ونماذج لشكل الدولة وصولا للمعاصرة.
1. نموذج الدولة الدينية ذات نظم الحكم المطلقة ذات الشرعية للحكم بالتفويض الالهي الذي اتت طروحات العلمانية الاولى ومنذ نهاية القرن السابع عشر بفصل الدين عن الدولة لاقامتها على اسس كسب الشرعية من المحكومين واقرار حقوق طبيعية لهم من الدولة وضمان مساواتهم بعدم التمييز بسبب العقائد كونها حقا طبيعيا لهم.

2. نموذج الدولة القومية الحديثة ذات الحكم المقيد التي فصلت الدولة عن الدين ولكن خللها انها تعرضت لسيطرة الايديولوجيات الوضعية التي اقامت نظما علمانية ( بمفهوم فصل الدين عن الدولة ) ولكنها ادت لاقامة ديكتاتورية ذات نظم حكم مطلق يستمد شرعيته من نفس ايديولوجيته وهو نفسه الرجوع الى نموذج الدولة ذات التفويض الديني بالحكم المطلق. ومثلت المانيا الهتلرية وروسيا الستالينية وعشرات الدول الديكتاتورية العلمانية نماذج لهذه السيطرة الايديولوجية على الدولة. وضحت هذه التجارب النقص والخلل البنيوي من تطبيق الاكتفاء العقلي العلماني "بفصل الدين عن الدولة" الذي شكل اساس الطرح والمنهج العلماني خلال القرن التاسع عشر.
3. طرح نموذج الدولة اللاعقائدية المحايدة التي فصلت الدولة واجهزتها عن جميع العقائد ( دينية او وضعية ) وجعلت الالتزام بحقوق المواطن الطبيعية وبالمساواة في المواطنة (ومنها تم اطلاق تسمية الدولة الوطنية اي التي لاتمييز بين مواطنيها بسبب العقائد) واطلاق حرية الرأي والفكر للمجتمع (سواسية لكل مواطنيها ) ومنعت اجهزتها الحكومية من تبني اية عقيدة تؤدي للتمييز بين مواطنيها بسبب عقائدهم وهو ما أدى لتطوير مبدأ فصل الدولة عن التلون بلون حكومتها واحزابها الحاكمة الفائزة في الانتخابات الديمقراطية وفق المبدأ العلماني بحيادية اجهزة الدولة تجاه عقائد وانتماءات مواطنيها الفكرية او الدينية او القومية.

ساد النموذج الثالث للدولة العلمانية " الدولة الوطنية اللاعقائدية" خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية وانتشر الى القارات الاربعة تباعا على مدى 75 عاما الماضية ( انتقل من اميركا وبريطانيا الى اوربا ومنه الى اليابان وكوريا والهند وصولا الى جنوب افريقيا والارجنتين والبرازيل) . لقد شهدت هذه الدول نجاحات في ترسيخ الديمقراطية السياسية والاجتماعية وشهدت تطورا عظيما في تطوير دولها وخدماتها وتعليمها وثقافتها الوطنية وحققت قفزات في تطوير اقتصادها ومنه رفعت المستوى المعاشي لسكانها وقضت على فاقات وموجات كانت تقصم بالملايين مثل الفقر والجوع وتفشي الامراض والاوبئة في البلدان التي كانت حتى منتصف القرن الماضي تتعرض لمجاعات تحصد الملايين ( كالهند واندونيسيا والبرازيل امثلة) ،عدا عن التطور العلمي والتعليمي والقفزة الهائلة بالاقتصاد مترافقة مع تقدم هائل في مجال ممارسة الحريات المدنية والفكرية والعامة واطلاق الحرية للاعلام وتطوير المستوى الثقافي والمعرفي والتحضر الاجتماعي العام لسكانها.
ان نموذج الدولة العلمانية اللاعقائدية اقيم على اساس الالتزام الكامل من الدولة باحترام الدولة لحقوق وحريات مواطنيها وعدم التمييز بينهم بسبب الاصول والعقائد ، وهو اساسا طرحا حقوقيا ليبراليا باقامة شكل الدولة والحكم على اساس حقوق وحريات مواطنيها ،كما طرحه جون لوك عند نهاية القرن السابع عشر . ولقاء الدعوة الليبرالية والمنهج العلماني في وضع الحقوق اساسا للحكم ولتشكيل مفهوم الدولة ليس مصادفة ، لقد طورت العلمانية مفهوم الدولة الحديثة على اساس فصل الدين عن الدولة بتبني طروحات الليبرالية الفكرية الاولى في وضع الحقوق والحريات اساسا لشكل الحكم والدولة ( وهنا تبرز العلاقة العضوية بين العلمانية والليبرالية ، وواقعا يصعب التمييز بينهما وهل ان العلمانية ادت لولادة الليبرالية كفكر حقوقي ام ان الليبرالية ادت لطرح العلمانية في تشكيل مفهوم الدولة الحديثة والمعاصرة) . والواقع ان درجة تطور نموذج "الدولة اللاعقائدية المحايدة" تقاس بمقياس دقيق جدا هو مدى تطورها الديمقراطي الليبرالي في تبني حقوق وحريات مواطنيها ،ومنها تجد واقعا امكانية اطلاق تسميتين على نموذج الدول العلمانية المعاصرة و:
ـ الدول العلمانية الديمقراطية التي قطعت شوطا متقدما في ترسيخ الديمقراطية السياسية وقدرا متواضعا من تطوير الديمقراطية الاجتماعية التي تغطي الحقوق والحريات الفردية والعامة، ويسود هذا النموذج الذي يدعى بالدول العلمانية الديمقراطية طيفا واسعالامن بلدان العالم الثالث سابقا ( مثل الهند والبرازيل والارجنتين وشيلي وماليزيا واندونيسيا وجنوب افريقيا امثلة ) اضافة للدول الحديثة العهد بالديمقراطية بعد التحول اليها من النظم المؤدلحة الديكتاتورية التي قامت في اوربا الشرقية وتحولت بداية القرن الحالي لنموذج الدول العلمانية الديمقراطية .
ـ الدول الديمقراطية الليبرالية وهي التي قطعت شوطا بعيدا في ترسيخ وتطوير الديمقراطية السياسية والاجتماعية معا نظرا لقدم تحولها لنموذج الدولة العلمانية اللاعقائدية ترسيخ حقوق وحريات المواطنة فيها اساسا لتطوير حياتها السياسية والاجتماعية معا وتشمل اليوم امثر دول العالم تطورا حضاريا واقتصاديا مثل الولايات المتحدة وبريطانيا (وتشكلان النموذج التاريخي الناجح لتطور مفهوم الدولة اللاعقائدية المحايدة كونهما لم يتعرضا لهزات ايديولوجية في القرن العشرين كبقية الدول ) اضافة لدول اوربا الغربية وكندا واستراليا حيث تشكل تجاربها نموذجا لتطور مفهوم الدولة اللاعقائدية المحايدة ونموذجا لتطور مفاهيم الديمقراطية الاجتماعية والحقوقية اضافة للسياسية.

لابد قبل الانتهاء من الاستعراض اعلاه الخروج ببعض النتائج في فهم العلمانية من خلال المسار التطوري للمنهج العلماني في طروحاته بتشكيل الدولة المعاصرة :
1. ان العلمانية ليست ايديولوجية بل هي منهجا عقليا علميا* يبحث في تشكيل الدول المعاصرة التي تحترم حقوق وحريات مواطنيها وتجعلها الركن الاساس في اقامة نظمها وسن قوانينها وتحييد اجهزتها عن التمييز بين عقائد مواطنيها وتنظيم ادارة حياتها السياسية والاجتماعية والثقافية وفق احترام ذات مواطنيها والحريات الخاصة والعامة لمجتمعاتها.
2. ان اطروحة "فصل الدولة عن الدين " ليست ايديولوحية ضد الدين فهي تفتقر، وربما بسبب الترجمة النصية ، الى امرين هما التمييز بين الدين الروحاني والدين السياسي والطرح المنهجي يقول انها يجب ان تكون "فصل الدولة عن الدين السياسي " لتكون متناسقة مع المنهج العلماني الذي يقوم على فصل الدولة عن جميع العقائد دينية او وضعية كي تكون دولة وطنية لجميع مواطنيها ولاتمييز بينهم بسبب العقيدة والعقائد، تلتزم باحترامها كحقوق لمواكنيها بممارسة عقائدهم الدينية والفكرية وابعاد الدولة عن تبني اية عقيدة رسمية لها عدا الوطنية كونها دولة لجميع مواطنيها.
3. ان الدول التي تتبنى ايديولوجيات وضعية تفرضها على اجهزتها ومجتمعها لايمكن تصنيفها علمانية رغم انها تقوم بفصل الدولة عن الدين والدين السياسي كون النظم الايديولوحية تؤدي للديكتاتورية المطلقة وبها تناضر نفس نماذج الحكم المطلقة للدولة الدينية ، كلاهما تبرره العقائد التي تحكم ، وكلاهما يستبيح ويصادر حقوق المواطنة الاساسية الطبيعية والحريات الخاصة والعامة لمواطنيها ويمارس التمييز والقمع لمن يخالف عقائد الدولة سواء كانت دينية او ايديولوجية كالدول القومية اوالماركسية او اية عقائد تتبناها الدولة رسميا ، فالعلمانية منهج يطرح مفهوم اقامة الدولة على التزامها واحترامها لحقوق المواطنة ومنه فهي تبعد العقائد عن اختراقها كي لاتميز بين مواطنيها وهذه اهم اسس المنهج العلماني في صياغة مفهوم الدولة.
سنقوم في الجزء الثاني بطرح ومناقشة ازمة وتراجع الفكر والمنهج العلماني في المنطقة العربية وفرز الظروف والاسباب الموضوعية والذاتية التي وقفت وراء الفشل العلماني العربي الواسع .
د. لبيب سلطان ، كاليفورنيا
18/8/2024
----------------------------------------------------
* هناك فروقات بين المنهجين العقلي والعلمي في عملية تكوين المعرفة، وتحول طروحات المنهج العقلي للعلمانية الى منهح علمي هو مثالا جيدا ساهم في تكوين وتطوير مفهوم الدولة المعاصرة وتتم مناقشته في الفصل الثاني الخاص بالمنهجين في كتاب للكاتب بعنوان " فهم حضارة العالم المعاصر" سيصدر قريبا في شهر سبتمبر القادم عن دار مدبولي في القاهرة.



#لبيب_سلطان (هاشتاغ)       Labib_Sultan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في دحض الشعبويات المتاجرة بالقضية الفلسطينية
- تحليل للظاهرة الترامبوية
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
- نافالني رمزا لادانة الاستبداد والدولة البوليسية
- الاسس الخمسة لبناء الدول القوية والمجتمعات الناجحة
- مطالعة اضافية في سبل اصلاح اليسارالعربي
- أليسار الاجتماعي واليسار الماركسي عالميا وعربيا
- مناقشة لمقترح السيسي في حل الدولتين
- ‏ نقد الخطاب السياسي العربي
- حول علاقة الفلسفة بالعلم واللاهوت والايديولوجيا
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
- حماس وحزب الله لايمثلون قضية الشعب الفلسطيني بل قضية اية الل ...
- العولمة السياسية وتحديات القرن 21
- قراءة (1) في تحديات القرن الحادي والعشرين
- في نقد الماركسية العربية
- حلول العلم والايديولوجيا للتخلف العربي 2
- المنهج العلمي والايديولوجي لحلول التخلف العربي
- فهم نظرية تعدد الاقطاب وانعكاسها على العالم العربي
- معركة اليمين واليسار في الهجرة الى الشمال
- فهم اليمين واليسار في عالمنا المعاصر


المزيد.....




- وزيرة داخلية ألمانيا: منفذ هجوم ماغديبورغ له مواقف معادية لل ...
- استبعاد الدوافع الإسلامية للسعودي مرتكب عملية الدهس في ألمان ...
- حماس والجهاد الاسلامي تشيدان بالقصف الصاروخي اليمني ضد كيان ...
- المرجعية الدينية العليا تقوم بمساعدة النازحين السوريين
- حرس الثورة الاسلامية يفكك خلية تكفيرية بمحافظة كرمانشاه غرب ...
- ماما جابت بيبي ياولاد تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر ...
- ماما جابت بيبي..سلي أطفالك استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي ...
- سلطات غواتيمالا تقتحم مجمع طائفة يهودية متطرفة وتحرر محتجزين ...
- قد تعيد كتابة التاريخ المسيحي بأوروبا.. اكتشاف تميمة فضية وم ...
- مصر.. مفتي الجمهورية يحذر من أزمة أخلاقية عميقة بسبب اختلاط ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - لبيب سلطان - بحث حول تراجع العلمانية في العالم العربي