أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - القناع في مسرحيتي الإعصار وكلكامش لطلال حسن -مقاربة في المكونين التقاني والثقافي-















المزيد.....



القناع في مسرحيتي الإعصار وكلكامش لطلال حسن -مقاربة في المكونين التقاني والثقافي-


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 8070 - 2024 / 8 / 15 - 11:44
المحور: الادب والفن
    


وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
جـامـعــة المـوصــل
مركز دراسات الموصل









القناع
في مسرحيتي الإعصار وكلكامش لطلال حسن
"مقاربة في المكونين التقاني والثقافي"








الدكتور
احمد قتيبه يونس







1428هـ 2007م


المقـدمـة:

مشكلة البحـث:
تتحدد مشكلة البحث في قراءة المكونين التقاني والثقافي للقناع في مسرحيات طلال حسن.

أهمية البحـث:
تتحدد أهمية البحث في الكشف عن المكونين التقاني والثقافي التي استخدمها طلال حسن في مسرحياته، وكيف وظفها؟

حدود البحـث:
يتحدد البحث بقراءة مسرحيتي الإعصار وجلجامش لطلال حسن الموجهة للفتيان.

هدف البحـث:
يهدف البحث إلى تحليل المكونين التقاني والثقافي في مسرحيات طلال حسن.

الخطــــة:
تشكلت خطة البحث في:
التمــــهيد: مقترب نظري.
المبحث الأول: المكون التقاني.
المبحث الثاني: المكون الثقافي.


















التمهيد: مقترب نظري.
القناع أداة لتجسيد المقدس، ويبدو أن هناك التباساً في المفهوم حاصل بسبب تحول الاستخدام بالانتقال من الطقس التعبدي إلى الأداء الوظيفي؛ ولأن المقدس يتجسد عبر الخصائص الأكثر إبهاراً في الجسد الإنساني، والمتمثلة في محاكاة الآلهة، فإن القناع يعبر رمزياً عن المظاهر الفوق طبيعية؛ لأنه يشكل وسيلة لضمان العيش والاستمرار في الحياة ودرء أخطار الطبيعة.(1) كما يعد عنصراً أساسياً في الطقوس والاحتفالات المقدسة للإنسان الذي يجعل من الطبيعة روحاً حية تتجلى في كل مفاصل الحياة، معلناً توحده فيها وامتداده اتجاه فاعليتها، حتى انه لا يستطيع أن ينفك من الإيمان بقدرتها على التأثير مباشرةً في صيرورتها، لتمتزج المظاهر والأشياء والكائنات فيصعب الفصل بينها فصلاً قاطعاً، بحيث يستطيع الإنسان أن يتشكل بأشكال الحيوانات المختلفة والعكس، وحيث يمكن للإنسان أيضاً إن يخاطب الحيوان ويقدم القرابين مثلما يقدمها لأحد الآلهة أو الأرباب.(2) فالتقدير الذي يحظى به القناع في المجتمعات القديمة لا يجد تفسيره إلا في العلاقة التي تربطه بالمقدس حيث يتجاوز كونه أداة حرفية ويتطلب تنفيذ طقوس خاصة أثناء صنعه أو عند وضعه، ويتجلى هذا الطابع المقدس في كون بعض الآلهة القديمة تتجسد عن طريق الأقنعة، وفي ذلك إيمان بوجود روح تسكنه وتؤثر على وجودهم ومصائرهم، لذا فإن عدم احترامه قد يؤدي إلى الخطر.(3) وقد يصبح فهم القناع مستعصياً، إذا لم يتم ربطه بخصوصيات الثقافة وبمظاهر تمثيلها للعالم، ويبدو أن هذا الرأي ينطبق إلى حد ما على المجتمعات التي يرتبط فيها أستخدم القناع بالطقوس الدينية أو الزراعية، فالاحتفالات التي تظهر فيها الأقنعة تستهدف الأحداث الأسطورية التي وقعت في الأصل وأدت إلى تنظيم العالم في شكله آنذاك.(4)
إن التعامل مع الأقنعة يبقى رهيناً بشكل ينظم الكون في فكر الإنساني القديم؛ لأن الاهتمام بالقناع وتقديره وتخصيص طقوس صنعه وحمله لا يجد تبريره إلا في الإيمان بالقوة أو الروح التي تسكنه والتي تتحكم في هذا الفكر الإنساني، فالقناع ألطقوسي ذاكرة أسطورية، تصل الإنسان بالقوة المقدسة للأجداد والآلهة وتسمح بالولادة من جديد.(1)
تحولت هذه الذاكرة الأسطورية من طقسها التعبدي إلى أداء وظيفي يعمل على تجسيد عنصر جمالي يؤدى بشكل راقص في العرض المسرحي، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود المعنى الطقسي للقناع الذي يعتمد الدور المنوط لحاملي هذه الأقنعة التي تحيل إلى إلوهية خيرة تحمل للناس مصدراً للسعادة؛ لأن تلك الرقصات المقنعة تمتلك القدرة على استحضار العطف الإلهي الذي يضمن الخصب ونمو الزراعة؛ ولأن القوة الإلهية مجسدةٌ في هذا القناع.(2)
من هذا التجسيد تطور مفهوم القناع فأصبح يدل على غطاء الرأس والجسد على السواء، كما أصبح مرادفاً لحامله أو للشخصية التي يجسدها أو الدور الذي يمثله، في حين يطلق لفظ (قناع) في المسرح على ذلك الجزء الذي يضعه الممثل على وجهه بشكل يبرز الأجزاء المكونة للوجه كالأنف والشفتين، فأصبح القناع وسيلة مرتبطة بالوجهة فقط، وعرف عدة تغيرات عبر تاريخ المسرح في الشرق والغرب(3)، حتى إنه أصبح يتداول في الوسط المسرحي لترجمة آثار التوتر بين ألفاظ متناقضة، كـ(الرعب والسخرية)، (الوحشية والثقافة)، (الواقع والوهم)، وفي هذه الحالات يتوازى استعماله ويضاعف (التلقي) (الضحك/بكاء)، تلقٍ محرِّر من رعب الموت، ومن مخاوف الحداد، ومن ضغط الممنوعات، وتلقٍ محِّرر للإنسانية من ضغوطها الاجتماعية.
أما الآن فنحن نعايش أزمنة تعدد الأقنعة بكل أنواعها وفاعليتها. ولنمسك بروح النص فعلينا أن نلبس واحداً من هذه الأقنعة.
إن النظر من خلال القناع لا يعني عزل الوعي ومنحه هوية سكونية، بل يعني اكتشاف (النص) بحيث نقترب منه كبنية تمنحه شكلاً وأبعاداً تقررها إمكانية القناع نفسه، فتجسدت هذه البنية عبر القناع بملامح جزئية غائبة في تلافيف الوعي.
فتاريخ الأقنعة يعود إلى أزمنة عتيقة، كان الفرد فيها يلبس القناع بلا تذمر ليجامل من هم في مراكز السلطة أو المال أو الجاه، لكن تاريخ هذه الأقنعة يدل على تدهور مضطرد في تنمية قدرة الوعي على اقل تقدير، فمنذ أن لبس أول قناع في التاريخ لم نرفعه إلا لنرتدي قناعاً آخراً بمسمى جديد وبملامح تختلف عن ملامح القناع السابق، فحين نرتدي القناع البنيوي مثلاً يتشكل (النص) على الورق فقط نظام من العلامات تكتفي بذاتها، أما إذا ارتدينا الأقنعة الاجتماعية فإن (النص) ينتقل من التشكيل ألعلامي إلى النمط التداولي؛ لأن كل هذه الأقنعة تمنحنا القدرة، على النظر إلى العالم.
إن خروج (مفهوم) القناع إلى حيز التداول، أعطى تعبيراً عن حالة أو صفة ملازمة للوجود للإنساني، وهو بهذا التعبير أصبح يعني الإخفاء أو الكذب أو التناقض مع الحركة الداخلية للفرد، وعليه: فإن كان الوجه البشري يشتغل كقناع، فما الجدوى من وضع قناع كاذب مثلاً. فالقناع في هذا المجال يسمح للفكر أن يتسرب من خلاله.















المبحث الأول: المكون التقاني.
إذا كان نص إبداعي يخضع لفعل القصدية، فإنه لا يوجد نص بدون دافع؛ لأن الفن غير بريء من إخراج المكنونات التي تتداعى في خلجات المؤلف. من هنا يمكن أن نبني مفهوماً (للقناع الفني) الذي ينطلق من كون المؤلف حينما يريد أن يقول (شيئاً ما) فإنه يمرره من خلال جنس أدبي ووفق آليات بناء خاضعة لذلك الجنس، ومن ثم فإن التقانات المعتمدة تًتَشكل (أقنعةً) فنية لرؤية الكاتب، فاختيار الحدث المشغول والشخصية المرسومة وطبيعة ألحكي سواء أكان حوارياً أم سردياً.
فالقناع الفني يرتكز في الأساس على شكلنه العناصر المكونة للنص، تلك الشكلنه المعدة وفق ضوابط الجنس الأدبي بترسيم المنتج المتخفي وراءها، ومن ثم تصبح هذه الشكلنه عملية (تقنع) غير منظور يسقط الكاتب عليها مدلولاته، فهي صوت ينطق بلسان الكاتب فنياً.
تتجلى فاعلية القناع الفني في النصوص المعاد إنتاجها تاريخياً. فالنص المستلهم يعطي مساحةً لإنتاج (قناع فني)(1)؛ لأنه يفقد معيار الوظيفة أو الأهمية، فإذا قام الكاتب بإعادة إنتاج أو شرح وتفسير للنص أو الرمز التاريخي بأسلوب معاصر، فإنه يمكن أن يبلغ جمالية الشكل؛ لأن القناع لن يأخذ أهميته التاريخية وضرورتهِ الفنية والفكرية إذا لم يفتح لنا آفاقاً رؤيوية جديدة، فإذا لم يكن القناع وسيلة لإكساب الواقع دلالات جديدة، أو وسيلة لإسقاط التاريخ على واقع يؤدي إلى ربط الماضي بالحاضر ويفتح أفقاً للمستقبل، بما يشكل إضاءة وكشف لهذا الواقع في آنيتهِ وصيرورته وتحولاتهِ، فما الجدوى من هذه التقانة الحديثة؟؛ لأن الغاية تمكين المتلقي عن طريق عملية الإسقاط والتأويل الدلالي من الوصول إلى جوهر الدلالة المعاصرة التي أرادها الكاتب(2).
يمتلك النص المسرحي المتكئ على التاريخ إمكانية إنتاج قناع فني منصهر في عناصر البناء الدرامي، فيمكن للكاتب المسرحي أن يطوع هذه العناصر لتخطي بها، فقد يجد في التاريخ فجوات وفراغات يستطيع ملأها بفعل المخيلة من حيث المصادفات والاحتمالات والافتراضات في تحويل مسارات ألحكي(3) وإدارة الصراع بالكيفية التي يريدها من أجل تطويعها لإشكالية معاصرة يجد في عمقها التاريخي مقاربةً للتعبير، فتشكيل الصراع المسرحي بهذا المفهوم يعد قناعاً فنياً وفق تصوراته للمادة التاريخية.
ففي نصوص طلال حسن المسرحية تتجسد المجابهة مع الذكريات، فيحاول المؤلف هنا أن يلبس ذكرياته قناعاً (تاريخياً)؛ لأنه حريص على نفسه (منها)، فهو في مجابهة دائمة معها، يتخفى منها بصراعه الداخلي، يبحث عنها في الأفعال المنتجة للدلالة على اعتبارها كائناً حياً يُعايشه كما في الموقف الذي يجمع بين (شالتي) و(أنكيدو) ومحاولة الجنديين (الأول والثاني) للامساك بشالتي وتصدي أنكيدو لهما:
الثاني: "ينقض عليها" سنأخذك إلى الحلم رغماً عنك
شالتي: "تصرخ" النجدة
الأول: "ينقض عليها هو الآخر" سنأخذك إلى جلجامش وإلا عشنا في كابوس دائم
شالتي: "تصرخ ثانية" النجدة ... النجدة
الثاني: "يمسكها بعنف" كفى
الأول: لا تقس عليها "يمسكها من شعرها" ليتني جلجامش ولو للحظة واحدة
شالتي: "تصيح بأعلى صوتها" النجدة... النجدة... النجدة
أنكيدو يندفع داخلاً، الجنديان يقفان مذهولين
الثاني: "يتمتم مرعوباً" أيها ألآله شمش
الأول: "مذهولاً" ما هذا؟
الثاني: شمش وحده يعرف، "يهجم على شالتي" هيا
الأول: "يهجم في الوقت نفسه" لنمسك بها ونهرب بسرعة
أنكيدو: "يهجم عليهما صارخاً".. آ. آ. آ.
الأول: "يترك شالتي، ويتراجع متعثراً ثم يسقط على الأرض"....(1)
يرسم طلال حسن هذا الموقف البسيط بما يتلاءم ومتلقيه (الفتى)، ففعل الصراع واضح وغير مركب، يدور حول فتاة تستنجد ببطل يخلصها من بطش الجنديين، لكن المؤلف جعل من هذا الموقف ألصراعي قناعاً فنياً إذ تعمد تغييب السلطة الحقيقية من إدارة هذا الصراع (جلجامش) وأناب بها إلى الجهاز التنفيذي (الجنديان)، كذلك شخصية شالتي فهي رمز ممدود للشريحة المقهورة داخل (مجتمع جلجامش) فهي أولاً فتاة / وحيدة / بكر...الخ، أما أنكيدو فهو رمز إلى (البطل المنقذ) أو الحلم بالخلاص، ومن ثم فإن طلال حسن جعل من هذا الصراع الأسطوري بمساحته الزمنية البعيدة قناعاً ينفذ من خلاله إلى الكشف عن طبيعة السلطة في الواقع المعاش مستفيداً من التوافق المكاني في (أوروك)، في حاضرة واقعياً وتخيلاً.
يتداخل مفهوم القناع بمعناه الاصطلاحي مع مفهوم الشخصية بوصفها ظاهرة تتخذ اللفظ كتعبير عن المظهر الخارجي للإنسان، وأصبح أداة طيعة لإخفاء ذاتية الكاتب تحسباً للمعطيات الخارجية، فالقناع كما يحدده ألبياتي هو "الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجردا من ذاتيته، أي أن الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاته ولذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردى كثير من الشعر العربي فيها، فالانفعالات الأولى لم تعد شكل القصيدة ومضمونها، بل هي الوسيلة إلى الخلق الفني المستقل".(1) ، ويبدو من تحديد ألبياتي لمفهوم القناع أن الكاتب يعمل على اختيار (أسم) أي شخصية يتخفى خلفها مجرداً ذاتيته الشخصية وليس ذاتيته التعبيرية ليجعل منها جسراً للوصول إلى المتلقي بما يضمن (سلامة) الناص والنص معاً، وهذا الاختيار غالباً ما يكون من الماضي بصوره الأسطورية أو التاريخية أو التاريخ القريب؛ لاختراقه من اجل تقديم تأويل يضمن المثاقفة بين الماضي والحاضر، فالمخترق للتاريخ عندما يستخدم الشخصية التاريخية، فأنه لا يستخدمها كما كانت في الماضي بل تستخدم لدلالة المعاصرة التي يريد أن يوجد من خلالها العلاقة بين هذا الماضي الحي وبين الواقع الذي لعبت فيه دوراً أهلها أن تكون (رمزاً تاريخياً)، ومن ثم أداة تصلح للتقنع، المشتمل على وجهين: الأول يتعلق بالجانب الفردي للشخصية المقنعة والثاني يتعلق بالجانب الجماعي للشخصية، وبذلك يرتبط بطريقة عرض التجربة الإبداعية التي تستعيد أدواتها التعبيرية من مختلف المعارف والفنون الأخرى. فالشخصية القناعية تضم صوتين: صوت الكاتب، وصوت الشخصية المجسدة وهما صوتان متفاعلان إلى درجة يصعب على القارئ أن يميز بينهما إلا من خلال استحضار المعطى الخارجي للكاتب ودلالة الماضي في الحاضر.(2)
يحاول طلال حسن أن يبني مساراً قناعياً في مسرحياته المستلهمة من تاريخ العراق القديم، فهو يلجأ لتوظيف الشخصية التاريخية التي يجد فيها مساحة لربط الحدث التاريخي بالحدث المتخيل إلا أنه لا يلتزم بنمط واحد أو باختيار واحد من شخصية تاريخية معينة يجعل منها (معادلاً) لذاته يكررها في نصوصه، ذلك أنه يفتح رؤاه على شخصيات كثيرة جاعلاً منها وسائط فكرية يشعر قارئه أنها تتكلم بلسانه هو أكثر من كونها شخصية مستلهمة تخضع لمعيار الحدث التاريخي أو الدور الدرامي المرسوم لها.
فطلال حسن ينتقي أنماطاً من الشخصيات الفاعلة في الماضي والتي يمكن أن توضع في دائرة (المعارض) لإرادة الشخصيات المتسلطة؛ لأنه يجد فيها متنفساً فنياً وفكرياً للاشتغال على هكذا نسق من الشخصيات موظفاً دورها المؤثر في التاريخ المحكي عنه داخل النص، ففي مسرحية (الإعصار) نجد أن طلال حسن قد ارتدى قناع سنحاريب محاولاٍ مخالفة المنقول تاريخياً عن هذا الملك الآشوري من سلوكيات الشدة الصرامة والقوة وذلك بإظهار هذا الملك بشكل مختلف عن واقعه التاريخي. فتخيل المؤلف قدمه لنا بتوصيف إنساني يحمل مقداراً من المرونة والليونة التي لا توجد عند الملوك عادةً؛ لأن صوت الكاتب يتدفق مع صوت الشخصية عند القراءة، إلى درجةٍ يخلق فيها الكاتب تعاطفاً نحو سنحاريب الملك الذي ينتهي بوصفه (ضحية) لقيمه ودفاعه عن بابل:
سنحاريب: أيها الإله العظيم آشور, لقد غضبت من بابل, لأنها خرجت عليك وعصتك, ولك الآن أن تغضب لها, فقد صارت خراباً. أنا أيضاً غاضب لبابل, مع أني غضبت منها, حين شقت عصا الطاعة, فأرسلت نادين على رأس جيش جرار لمعاقبتها, وإعادتها إلى سيادة آشور.‏
نادين: يدخل خلسة متمنطقاً بسيفه....‏
سنحاريب: فهاجمها كالإعصار, وكالإعصار أطاح بها, لم يترك من شيبها أو شبابها أي فرد, فملأ طرقاتها بجثثهم وأشلائهم, أمّا بابل نفسها, بابل الجميلة, المقدسة, وثاق السماء والأرض, فقد حطمها وخربها, ودمرها بالنيران من أسسها حتّى سقوفها, ثمّ سلط عليها مياه الفرات, فحولها إلى أرض خراب...‏
نادين : يمسك بيده مقبض سيفه....‏
سنحاريب: لو كان اسرحدون إلى جانبي في نينوى, لما دمرت بابل..‏
نادين: يقترب من سنحاريب ويده فوق مقبض سيفه...
سنحاريب: أيها الإله العظيم, اشهد أن نادين لم يعد ناديني, فهو قاتل, وحش, مدمر, لقد عصف ببابل, ودمرها..(1)
حاول المؤلف من عرض هذا الحدث التاريخي البعيد ولصقه بالواقع القريب، أن يخلق مناخاً سياسياً معيناً يجعل منه انتظاما لأحداث المسرحية، فجعل من شخصية سنحاريب قناعاً للفعل الدرامي وللقاعدة الأيديولوجية التي يريد عرضها للمتلقي، إلا أنه عرض هذا القناع بطريقة تتناسب مع الواقع الفكري الذي يحمله المؤلف، فجعل من شخصية سنحاريب قناعاً لمواقف خاصة ترتكز على إبراز صورة بطولية تتوافق مع شخصية (المؤلف) فهو يسعى جاهداً إلى خلق توازن بين ذاته وحقلها الفكري، بإضمار الجزء المظلم من الشخصية القناعية المستتر خلفها، ومحاولة خلق نقد ذاتي عن طريق الاستعانة بالصور المستمدة من الماضي، لتحديد مكانتها في العالم.
وقد ورد في نصوص طلال حسن ما يناظر هذه الصيغة لتمرير ملفوظه الذي يعكس داخله المأزوم بكل ما يعتريه من إحجام وخوف وربما انهزامية في بعض المقاطع، فبدلاً من أن يكشف الحوار عن الشخصية النصية، فأنه يكشف شخصية المؤلف، ذلك الكشف الذي يتراءى للقارئ في بنائية للملفوظ كتكرار مفردة معينة أكثر مما يتحمله دور الشخصية أو حينما تتلعثم الشخصية بملفوظ مبهم، لكنه علامة لآنية المؤلف في زمن الكتابة. فلو أحصينا ما لُفظ على لسان الحارس في مسرحية الإعصار، حينما كان يحاور الملك سنحاريب، لظهر تكرار المفردات التي تحيل إلى حالة الخضوع والخنوع، ولعل هذه الحالة تحيل إلى شخصية المؤلف المستتر من مواجهة سلطةٍ ما.(1)
الحارس : لعل الكاهن لم يتوقع قدومكم يا مولاي, فأشعل مشعلاً واحداً, سأشعل مشعلاً آخر, إذا أمرت يا مولاي.‏
الحارس : الجو هنا بارد يا مولاي, ولا بد لجلالتك من معطف يدفئك.‏
الحارس : (يبقى صامتاً).......‏
الحارس : مولاي, أرجوك, اسمح لي أن أذهب, وآتي بالمعطف‏
الحارس : (متوجساً) مولاي‏
الحارس : مولاي؟‏
الحارس : مولاي...‏
الحارس : (يلوذ بالصمت).......‏
الحارس : (يبقى صامتاً).....‏
الحارس : مولاي‏
الحارس : أمر مولاي (يخرج)(1)‏
يظهر في بنية حوار الحارس ثنائية تتشكل من مفردة (مولاي) وفعل (الصمت)، تصور الأولى -وبتكرارها المستمر- حالة الخوف المتجذرة في نفس الحارس والتي يحاول معادلتها ملفوظياً بمفردة توحي بالولاء المطلق والخضوع التام لسلطة الملك سنحاريب من أجل تحقيق توازنه النفسي وإشعار السلطة بالتبعية التامة لها، أما فعل (الصمت) فهو يصور مسكوت الحارس وعدم قدرته في مناقشة رأي السلطة وانكفائه إلى الداخل الذي يصبح موازياً لحالة الرفض والاحتجاج المعبر عنها بالمسكون اللفظي، مما يعني أن شخصية الحارس تتنازعها أرادتان، الأولى تتعلق بالخوف من السلطة، والثانية يتعلق بالتضاد بين السلطة ونفس الحارس الرافضة لها، وقد تم إيصال هاتين الإرادتين من قبل المؤلف بوصفهما أنموذجاً لسلوك الإنسان القابع تحت المؤثرات القمعية الخارجية لسلطة ما.
كما يقدم المكان والزمان حلا للمؤلف حين يريد (الهروب)، أو يعمد إلى تغريب واقعه، ليسقط عليه رؤاه التي يخشى معالجتها في زمن فعل الكتابة، إذ تشير خصوصية المكان والزمان إلى اختيار الخلفية التي يقصد الكاتب الدرامي إجراء أحداثه وصراعه عليها، ولا شك في أن التركيب الدرامي، بتكوينه ألزماني/المكاني، يعلي من خصوصية اللحظة الدرامية، إذ يشير هذا البعد (المرجوع إليه) إلى عالم بديل لعالم المؤلف، وهو بالضرورة جزء من عالم النص كله، وهنا يتحول المكان إلى قناع يُستر القصدية المباشرة، ويفتح المجال للدلالة الإيحائية ويسمح لفكر المؤلف أن يتسرب من خلاله. وقد يتحول الزمان/المكان(2) إلى تقنية استرجاعية يتجاوز بها الكاتب لحظته، ليبث قناعه بوصفه قناة للهروب والنفاذ؛ لأن القناع بهذا المفهوم يستر كل ما هو حقيقي، ويخفيه ليحلّ محله وجهاً مفتعلاً قصديا، يتحرك داخله المؤلف ليجعل الرفض والتمرد النصي المختبئ خلف الزمكان التاريخي، رفضاً وتمرداً واقعياً يوفر للكاتب حمايةً فنية تقيه من اتهامات التأويل الذي يفكك أبنية النص ليربط التاريخ والواقع أو الماضي بالحاضر للوصول إلى الفكرة التي أحجبها الكاتب عن متلقيه.
وقد وظف طلال حسن الزمان والمكان توظيفاً قناعيا، إذ أدار ترسيمته المسرحية في فضاء محلي حددته الشخصيات المستمدة من التاريخ الأسطوري لبلاد ما بين النهرين على سواء التاريخية منها (جلجامش /سنحاريب /أسرحدون....) أو الأسطورية المتخيلة شعبياً (أنكيدو/ شالتي/أوتونبشتنم...) كما حددته أسماء الأماكن التاريخية الصريحة (أوروك /بابل /نينوى /آشور....) فضلاً عن الحدث التاريخي المرجوع إليه الذي جعل منه وسيطاً للإطلال على الحاضر الموافق ذهنياً للتاريخ في مخيلة الكاتب، الذي ينتمي إلى أرض ما بين النهرين أولاً، وتحديداً بلاد آشور مما جعله يشعر باستمرارية التواصل مع الفعل المأزوم تاريخياً وآنياً، كما أن المكان النصي المحدد سلفاً في الذاكرة الجماعية للقارئ لا يزال قائماً في الزمن المعاش ولو بوصفه آثاراً أو بقايا تاريخية، مما يجعل البعد المادي للمكان يتواءم مع البعد النفسي لذات المكان داخل نفس الكاتب والمتلقي، وكذلك تواصلية الفضاء مع القارئ المحلي، في الأماكن التي أشتغل عليها طلال حسن بوصفها حيزاً تاريخياً فنياً، لا تزال حاضرةً خارج حدود النص، فنينوى وبابل كانتا عاصمتي في فترات مختلفة وهي لا تزال الآن تحتل مكانة متميزة وتمتلك عبقاً تاريخياً يجعل من متلقيها يتواصل مع مرجعيتها التي تحيل إلى الواقع القريب، وبالإحالة على مسرحية جلجامش أو مسرحية الإعصار أن المؤلف يكرر كثيراً لأسماء المدن (أوروك /نينوى / بابل)، ويبدو أنه قصد ذلك لغايتين، الأولى غاية فنية شكلية لتحديد الفضاء الذي تتحرك فيه شخصياته، والثانية فنية أيديولوجية وهي اتخاذه للمكان والزمان المحليين قناعاً لتمرير الحاضر داخل الماضي موظفاً جميع المعطيات التي ذكرت في بداية القفرة:
اسرحدون: كل ظني, أن في بابل, كما في نينوى, لا يوجد سوى قمر واحد.‏
الأميرة: تجول يا مولاي, فقد ترى قمراً آخر.‏
اسرحدون: مستحيل, إن من يرى القمر, لن يرى قمراً آخر, مهما تجول.‏
الأميرة: (تبتسم محرجة)....‏
اسرحدون: ما أروع الجو هنا, يبدو أن بابل ستنسيني نينوى.‏
الأميرة: (تطرق رأسها صامتة)....‏
اسرحدون: (يقترب منها) أيتها الأميرة, لقد حدثني نادين عنك, ولم أصدق ما قاله إلا الآن.‏
الأميرة: (ترفع عينيها إليه صامتة)....‏
اسرحدون: إن أخي, ملك بابل, رجل قتال, لا يعرف غير المعارك (يصمت محدقاً فيه) أنت معركة, محظوظ من يحرز النصر فيها.(1)‏
يجمع طلال حسن في هذا النص بين المكانين الرئيسيين في مسرحية الإعصار (بابل/ نينوى) محاولاً إلغاء التحديد الجغرافي/ التاريخي الفاصل بينهما وفق الوثيقة الزمنية الرسمية من خلال صوت (أسرحدون) الذي رأى نينوى في بابل، مما يعطي إشارةً بحضور المؤلف هنا، إذ يبدو أنه يحاول العزف على وتر جماعي يضم أرض وبلاد ما بين النهرين، فبابل تعوض عن نينوى، (ملفوظ) ومن ثم فإن نينوى هي الأخرى تعوض عن بابل (مضمر):
اسرحدون: ما أروع الجو هنا, يبدو أن بابل ستنسيني نينوى.‏
فإذا أخذنا بنظر الاعتبار المرجع التاريخي لهاتين المدينتين وما حل بهما من نكبات، وهو بالتأكيد حاضر في ذهن المؤلف، سنجد تخفي المؤلف وراء المكان للإعلاء عنه أولاً والاستشراف ما قد يحدث من مصير مشترك، ولكن في (بابل/ نينوى) الآن؛ لأن (نادين) لا يمتهن سوى القتل والعنف أسلوباً في التعامل بعكس أسرحدون الذي يأسره القمر، قمر بابل ونينوى بكل ما فيهما من ترميز إلى الحب والألفة.
















المبحث الثاني: المكون الثقافي.
إن الثقافة الإنسانية تفهم بالاتصال (الفردي) أو (الجمعي) داخل مؤسستها التي لا تسمح لهاجس التعالي أن يتسلط على هوية الآخر. ولأن الإنسان دائم البحث عن المطلق، فقد حاول التعرف على الجذور المعرفية التي لا تظهر إلا في حركية الفعل المحَرر من سلطة الاحتكار، وحدد وجوده المادي بنسقيه تتجه في (بنية = نظام)؛ لأنه يتصل بالآخر بشبكة معقدة من العلاقات، فلجأ إلى [الكذب/ التقنع/ التبرير/ الرياء/ المجاملة....الخ = (قناع)] لكي يحافظ على هذه العلاقة المحكومة بالبنية الثقافية التي تبدو في سطوحها الأولى ثقافةً تتجاوز سلطة الإمكان، ولكنها تخفي في ثناياها خطاباً لا تطاله الوصايا القامعة، لتتحول إلى تجربة سببية تنتقل من دالة التردي إلى دالة الانبعاث، وهذا يعني أن العلاقات الإنسانية تلتمس وجودها وحضورها من الذاكرة التي تعمل لحساب الوعي المفارق الذي يحاول أن يتمرد أو يسعى إلى التمرد، ليسقط ذاته المعطلة على (فعل) يعمل على إخراج [الكذب/ التقنع/ التبرير/ المجاملة... = (قناع)] من حيز الممنوع أو المحرم إلى إستراتيجية التواصل، لكنها بالضرورة ستفرض سطوتها لتشكل ذاتها.(1)
ولأن هذه الأقنعة ترتقي إلى مستوى الإخبار من دلالة إلى دلالة، وتعمل في نطاق مجموعة إنسانية تحمل في هاجسها الثقافي نشاطاً تصورياً مشتركاً، فقد مكن (القناع الثقافي) الإنسان من منح الكائنات والأفعال والأشياء تسميات تتنوع من حالات وجودها الخام، إلى إحالاتها (ثقافية) مرتبط بالممارسة.(2)
وهذا ما لجأ إليه طلال حسن في بناء مسرحياته، فقد جعل من (التأريخ) بكل تفاصيله القديمة (قناعاً ثقافياً) يُمَكِنهُ من عرض (فعل) [الكذب/التقنع/التبرير/الرياء/المجاملة....الخ] بصيغة الفعل الماضي، فالتأريخ ليس حقلاً مكتملاً؛ لأنه مملوء بالفجوات، وهذا على وجه التحديد هو ما يرغب فيه المؤلف؛ لأنه يجعل من هذا ميدان فعل للمخيلة حيث المصادفات والاحتمالات والافتراضات التي تمكنه من بناء الفعل المسرحي.
في مسرحية جلجامش حاول طلال حسن أن يجعل من تأريخ صيرورة تدفعه لتحرر من اللحظة المرهونة بمدى اقتناصه للرغبة، وتساعده في الهروب دوماً من خطوطٍ تحده وتحدده، فجعل من التأريخ بوصفه ثقافةً قناعاً له، ثم استنطق الشخصيات التي ترتاد صيرورته (ثقافةً) معاصرة تتناسب وما يقتضيه الحال.
ننسون: (عند النافذة) ها هو جلجامش، لقد عاد أخيراً، من غابة الأرز.
الكاهنة: بطل أوروك عاد منتصراً. فهنيئاً لأوروك، وهنيئاً لأهل أوروك بهذا النصر
ننسون: يا له من نصر فادح الثمن!
الكاهنة: لكل نصرٍ ثمنه، يا مولاتي، ومن أجل أوروك ولعيني بطلها جلجامش، يرخص كل شيء(1)
يظهر في هذا النص استعارة شخصيات من الماضي العراقي البعيد والتعبير من خلالها باعتبارها قناعا، فالمؤلف لم يستخدم هذه الشخصيات كما كانت في الماضي بل أستخدمها لدلالة على الحاضر، وهو يريد بذلك أن يحاول أن يوجد علاقة بين الماضي القديم وبين الواقع (الحاضر) الذي هَمَ عليه، ويحاول أن يخلق ذلك لكي يستطيع أن يحدد هذه العلاقة ويقويها، ولم يستخدم القناع بالمطابقة مع الصورة التاريخية تماما لإيجاد الروابط والوشائج المتقاربة بين الماضي الحاضر.
يقدم طلال حسن قناعاً يمكن أن تظهر شخصيته من خلاله، وهذا القناع لا تتشكل ملامحه من تأريخ أو تاريخ محدد أو أسطورة معينة أو حتى شخصية ما، بل هو مزيج من كل هذه المرجعيات، يظهر بوصفه شخصية لا تحتوي على مرجعية معلومة ثابتة، بل هو من اختراع الكاتب وفق سياقات فنية وفكرية يحمل مرجعيات وتداعيات توصف بأنها إنسانية عامة ويمكن أن يطلق على هذا النوع من الأقنعة بالقناع الناقص؛ لأنه لم يخفي شخصية المؤلف بالكامل، فإذا ما كشف القناع عن الشخصية بَطل وفقد فاعليته.(2)
فالقناع الناقص ليس له امتداد تاريخي مرجعي، فهو يخرج عن دائرة التنميط أو القناع التقليدي؛ لأنه لا يحمل سمات الموروث، بل يأتي عبر هوية المؤلف الخاصة التي يتجسد عمقها الإنساني في البيئة النصية التي يتحرك فيها ومن خلال الحدث الذي يواجهه.(3)
ففي مسرحية (جلجامش) يحاول طلال حسن أن يتخفى خلف شخصية (الصوت الثاني)، وهي شخصية مبتكرة من قبل المؤلف، وقد ورد على لسانها (كلام المؤلف نفسه)، فلو تتبعنا ما نطق به الصوت الثاني في المسرحية، لوجدنا أن هذا المنطوق يتناسب وصوت طلال حسن نفسه:
الصوت الثاني: بل كذاب أوروك
الصوت الثاني: مكرهين
الصوت الثاني: أنهم يعرفون من هو الشاعر الحقيقي لأوروك
الصوت الثاني: "مهمهما" هم م م م
الصوت الثاني: "مهمهما" هم م م م
الصوت الثاني: كذب
الصوت الثاني: نحن من بناها
الصوت الثاني: وتعرف كيف بنيناها
الصوت الثاني: علونا الأسوار وستعلوها
الصوت الثاني: علوناها عندما علونا بها آجره بعد آجره، وستعلوها ثانيةًًً، دفاعاً عن جلجامش، أوروك أوروكنا
الصوت الثاني: "بمرارة" نعم أوروكنا فنحن لا نملك فيها حتى زريبة، نعيش بين جدرانها
الصوت الثاني: "ساخراً بمرارة" نعم لقد عانى جلجامش، عانى كثيراً،
الصوت الثاني: صدقت أيها الكذاب
الصوت الثاني: لقد صدق جلجامش يحمي أتباعه، الذين يحمونه من شعب أوروك
الصوت الثاني: آه شاعر شعب أوروك "يصيح" أين أنت؟
الصوت الثاني: الملك جلجامش، آه شاعر أوروك، حتى لو انتهيت ومضيت إلى العالم الأسفل، فإن كلماتك في هذا جلجامش، لن تنتهي، وستبقى ما بقي العالم.
الصوت الثاني: أسمع
الصوت الثاني: سيأتي المخلص
الصوت الثاني: لا(1)
يُوظف الحوار بوصفه بنية لغوية تواصلية في سياق النص الدرامي، ولعل اللغة هي الوسيلة الأكثر فاعليةً لهذه التقانة، بوصفها علامة لسانية، فضلاً عن كونها مشحونة بطاقة تستطيع من خلالها حمل التأزم والتوتر لاسيما في حالات الوصف والتحليل المنطقي. ويبنى الحوار في شكله الأكثر شيوعا بنظام الدور أي ثنائية (المتحدث–المستمع) التفاعلية، التي تخلق جدلاً متبادلاً ضمن زمان الخطاب ومكانه، فالحوار يشتغل لإنتاج دلالة النص، وتجسيدها في الملفوظ، الذي قد يتحول إلى نوعٍ من التقنع بحسب طبيعة الخطاب المرتبط بحالة الشخصية داخل النص، وليس المقصود هنا أن تكون الشخصية بأبعادها وملامحها قناعاً، بل في مستوى خطابها، إذ قد يجد الكاتب فجوة في نمطية الخطاب نفسهِ، ينفذ صوته من خلالها، ومن ثم يتحول الملفوظ إلى نسق تعبيري يعكس درجات المتحاورين، بوصفه سمة أسلوبية لصيقة للناطق به، يجد المؤلف في هذه التراتبية الملفوظية مستوى لملفوظه الذي يختفي وراء الملفوظ النصي الكامل للشخصيات. كما في الصيغة التي تنطق ثنائية العبد والسيد.


























الخاتمة:
حاول طلال حسن أن يجعل من عمله كله قناعاً له، فهو يتخفى (في) عناصر البناء الدرامي، فالنص المسرحي المتكئ على التاريخ يمتلك إمكانية إنتاج قناع منصهر في عناصر البناء الدرامي، فتمكن المؤلف من تطويع هذه العناصر ليتخفي بها.
استطاع المؤلف أن يجد في التاريخ فجوات وفراغات يستطيع ملأها بفعل المخيلة من حيث المصادفات والاحتمالات والافتراضات في تحويل مسارات ألحكي في مسرحياته.
حاول المؤلف أن يبني مساراً قناعياً في مسرحياته المستلهمة من تاريخ العراق القديم، فهو يلجأ لتوظيف الشخصية التاريخية التي يجد فيها مساحة لربط الحدث التاريخي بالحدث المتخيل.
لم يلتزم المؤلف بنمط واحد من الشخصيات التاريخية، لأنه جعل منها (قناعاً) يكررها في نصوصه، فقد فتح رؤاه على شخصيات كثيرة جاعلاً منها وسائط فكرية يشعر القارئ أنها تتكلم بلسانه هو أكثر من كونها شخصية مستلهمة تخضع لمعيار الحدث التاريخي أو الدور الدرامي المرسوم لها.
في نصوص طلال حسن تتجسد المجابهة مع الذكريات، فحاول في مسرحياته أن يلبس ذكرياته قناعاً (تاريخياً)؛ لأنه حريص على نفسه (منها)، فهو في مجابهة دائمة معها، يتخفى منها بصراعه الداخلي، يبحث عنها في الأفعال المنتجة للدلالة.
ينتقي طلال حسن أنماطاً من الشخصيات الفاعلة في الماضي والتي يمكن أن توضع في دائرة (المعارض) لإرادة الشخصيات المتسلطة؛ لأنه وجد فيها متنفساً فنياً وفكرياً للاشتغال على هكذا نسق من الشخصيات موظفاً دورها المؤثر في التأريخ ألمحكي عنه داخل النص.
حاول المؤلف من عرض الحدث التاريخي البعيد ولصقه بالواقع القريب، أن يخلق مناخاً سياسياً معيناً يجعل منه انتظاما لأحداث المسرحية، فجعل من الشخصيات التاريخية أو الأسطورية قناعاً للفعل الدرامي والقاعدة الأيديولوجية التي يريد عرضها للمتلقي، إلا أنه عرض هذا القناع بطريقة تتناسب مع الواقع الفكري الذي يحمله، فجعل من شخصية سنحاريب (مثلاً) قناعاً لمواقف خاصة ترتكز على إبراز صورة بطولية تتوافق مع شخصية (المؤلف) فهو يسعى جاهداً إلى خلق توازن بين ذاته وحقلها الفكري، بإضمار الجزء المظلم من الشخصية القناعية المتخفي بها.
يقدم طلال حسن المكان والزمان حلا له حين يريد (الهروب)، أو يعمد إلى تغريب واقعه، ليسقط عليه رؤاه التي يخشى معالجتها في زمن فعل الكتابة، إذ تشير خصوصية المكان والزمان إلى اختيار الخلفية التي يقصدها بإجراء أحداثه وصراعه عليها، فحاول أن يخلق من ألتكوينه الزمكانية في مسرحياته عالماٍ بديلاً لعالمه، وهو بالضرورة جزء من عالم النص كله، وهنا يتحول المكان إلى وقناع يُخفي ألقصديه المباشرة، ويفتح المجال للدلالة الإيحائية ويسمح لفكر المؤلف أن يتسرب من خلاله.
تمنكن طلال حسن من خلق أقنعة ترتقي إلى مستوى الإخبار من دلالة إلى دلالة، وتعمل في نطاق مجموعة إنسانية وتحمل في هاجسها ثقافةً تنعكس في (قناع) منح الكائنات والأفعال والأشياء تسميات تتنوع من حالات وجودها الخام، إلى إحالاتها (ثقافية) مرتبط بالممارسة.
قدم طلال حسن شكلاً آخراً للقناع الثقافي، لا تتشكل ملامحه من تأريخ أو تاريخ محدد أو أسطورة معينة أو حتى شخصية ما، بل هو مزيج من كل هذه المرجعيات، يظهر بوصفه شخصية لا تحتوي على مرجعية معلومة ثابتة، بل هو من اختراع المؤلف وفق سياقات فنية وفكرية يحمل مرجعياتها وتداعياتها التي توصف بأنها إنسانية عامة، فهو قناع ليس له امتداد مرجعي يخرج عن دائرة التنميط أو القناع التقليدي؛ لأنه لا يحمل سمات الموروث، بل يأتي عبر هوية المؤلف الخاصة التي يتجسد عمقها الإنساني في البيئة النصية التي يتحرك فيها من خلال الحدث الذي يواجهه.














المصادر والمراجع:
أولاً: نماذج التطبيق
- الإعصار (مسرحية للفتيان)/ طلال حسن/ الاتحاد العام للكتاب العرب/دمشق / 2000م.
- جلجامش (مسرحية للفتيان)/ طلال حسن/ دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد/ 2004م.
ثانياً: الكتب
- بيرندللو في سيرته ومسرحياته /إيليا الحاوي / سلسلة أعلام المسرح الغربي /مج1/ دار الكتاب اللبناني-بيروت / ط1 / 1980.
- تجربتي الشعرية / عبد الوهاب ألبياتي/
- جماليات المكان / غاستون باشلار / ترجمة: غالب هلسا / المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت / ط2 / 1984.
- سيمياء المسرح والدراما/ كيري إيلام/ ترجمة: رئيف كرم/ المركز الثقافي العربي/ بيروت، لبنان / ط1 / 1992.
- المسرح والعلامات / ألين أسنون / ت : سباعي السيد . مطابع المجلس الأعلى للآثار / القاهرة / 1996م.
- الهوية والاختلاف في المرأة والكتابة والهامش / محمد نور الدين أفاية /
ثالثاً: الرسائل الأكاديمية
- القناع في الشعر العراقي الحديث/ عبد الستار عبد الله صالح/ 19/ أطروحة دكتوراه/ كلية الآداب–جامعة الموصل/ 1992.
رابعاً: الدوريات
- الرمز والأسطورة والشعائر في المجتمعات البدائية/ فر يدريك كارل ارنكتون /عالم الفكر/ ع4/1979/183.
- الشعوب البدائية/ روبرت فورنو/ عالم الفكر/ ع4 /1979.
- مفاهيم فلسفية في الثقافات الأفريقية التعليمية /احمد أبو زيد/ عالم الفكر / ع 1 /1988
خامساً: مواقع شبكة المعلومات
- التكوين في العرض المسرحي / أحمد الشرجي / موقع مسرحيون.
- السحر المضاد: دراسة انثروبولوجية في المكونات الأولى للقناع/ عبد الستار عبد الله/ موقع محمد أسليم.
- القناع بين المقدس والمتخيل / مجلة علامات / موقع سعيد بنكراد /ع21/ 2004.
- هوامش اللغة: الخبز الحافي والعوالم العارية / سعيد بنكراد / موقع سعيد بنكراد/ ع21/ 2004.



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفضاء في مسرح طلال حسن -مسرحية الإعصار- نموذجاً
- هيلة يارمانه
- رواية للفتيان الفتاة الغزالة ...
- حكايات من التراث حكايات موصلية طل ...
- حكايات من الموصل طلال حسن
- حكايات من الموصل طلال حسن
- حكايات شعبية جنجل وجناجل
- مسرحة الموروث الشعبي -قراءة في مسرحيات (هيلا يارمانه) لطلال ...
- خمس مسرحيات من التراث الموصلي ...
- رواية للفتيان الغزالة ...
- قصص قصيرة جداً أنا الذي رأى ...
- رواية للفتيان الملكة كوبابا ط ...
- مطاردة حوت العنبر
- سيناريوهات قصيرة قيس وزينب طلال حسن
- سيناريو عرس النار طلال حسن
- علي بابا
- رواية للأطفال الثعلب العجوز ...
- رواية للأطفال بيت بين الأشجار ...
- رواية للفتيان روح الغابة طلال حسن
- مسرح صفحات مطوية من الحركة المسرحي ...


المزيد.....




- عائشة القذافي تخص روسيا بفعالية فنية -تجعل القلوب تنبض بشكل ...
- بوتين يتحدث عن أهمية السينما الهندية
- افتتاح مهرجان الموسيقى الروسية السادس في هنغاريا
- صور| بيت المدى ومعهد غوتا يقيمان جلسة فن المصغرات للفنان طلا ...
- -القلم أقوى من المدافع-.. رسالة ناشرين لبنانيين من معرض كتاب ...
- ما الذي كشف عنه التشريح الأولي لجثة ليام باين؟
- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- مصر.. عرض قطع أثرية تعود لـ700 ألف سنة بالمتحف الكبير (صور) ...
- إعلان الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشر ...
- روسيا.. العثور على آثار كنائس كاثوليكية في القرم تعود إلى ال ...


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - القناع في مسرحيتي الإعصار وكلكامش لطلال حسن -مقاربة في المكونين التقاني والثقافي-