|
عودة الاغتيال السياسي إلى أميركا: خطر الحرب الأهليّة
ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8069 - 2024 / 8 / 14 - 23:15
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
العنف في الولايات المتحدة ليس مجرد ظاهرة عابرة في تاريخها، بل هو جزء لا يتجزأ من تكوينها وهويتها الوطنية. من اللحظة التي وطئت فيها أقدام المستوطنين الأوروبيين أراضي القارة الجديدة، كان العنف هو الوسيلة الأساسية التي اعتمدوا عليها لتحقيق أهدافهم. السكان الأصليون كانوا أول ضحايا هذا العنف، إذ تعرضوا لإبادة جماعية وتشريد ممنهج لتأمين الأرض للمستعمرين. هذا الأساس العنيف ساهم في ترسيخ ثقافة سياسية تؤمن بأن القوة والعنف هما الطريق الأمثل لتحقيق الأهداف، سواء كانت هذه الأهداف داخلية أو خارجية.
العنف كأداة للسيطرة والتوسع: في الداخل الأمريكي، شكل العنف أداة حاسمة لتحقيق الوحدة الوطنية. الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) كانت مثالاً بارزاً على ذلك، حيث استخدم الشمال القوة العسكرية المفرطة لفرض الوحدة على الجنوب، مما أدى إلى مقتل مئات الآلاف وتدمير البنية التحتية للجنوب. على الرغم من أن السردية التاريخية تركز عادة على الجانب الأخلاقي للحرب من ناحية إلغاء الرق، إلا أن الحقيقة هي أن الشمال كان مستعداً لاستخدام أي وسيلة، بما في ذلك العنف الوحشي، للحفاظ على وحدة البلاد ومنع الانفصال.
هذا العنف ليس مقتصراً على الحروب الكبرى، بل كان أيضاً جزءاً من الحياة السياسية اليومية. بين عامي 1830 و1860، سُجلت حوالي 70 حادثة عنف بين أعضاء الكونغرس الأمريكي، مما يعكس مدى استعداد السياسيين الأمريكيين للجوء إلى القوة لحسم الخلافات. هذا الاتجاه العنيف في السياسة الأمريكية لم يتغير بشكل جذري مع مرور الوقت، بل استمر بشكل أو بآخر.
السياسة الخارجية: تصدير العنف على الصعيد الخارجي، كانت الولايات المتحدة، منذ نشأتها، نشطة في التدخلات العسكرية والحروب. لم تكتفِ بتأمين حدودها، بل سعت إلى توسيع نفوذها عبر العالم باستخدام القوة العسكرية. خلال القرن العشرين، أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الأولى، مستخدمة جيشها وقوتها الاقتصادية لفرض إرادتها على الدول الأخرى. الشرق الأوسط كان ولا يزال مسرحاً رئيسياً لهذه التدخلات، حيث لم يكن هناك صراع كبير منذ منتصف القرن العشرين إلا وكانت الولايات المتحدة ضالعة فيه، سواء بشكل مباشر أو عبر وكلائها المحليين.
اللافت في هذا السياق هو التناقض الكبير بين ما تدعيه الولايات المتحدة من نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وما تمارسه فعلياً من سياسات عنيفة وقمعية. تتهم دولاً أخرى، مثل العرب والمسلمين، بالعنف والإرهاب، بينما هي نفسها تتورط في أعمال عنف واسعة النطاق، غالباً بذريعة محاربة الإرهاب.
الانقسامات الداخلية: صعود التطرف في الداخل الأمريكي، ازدادت الانقسامات السياسية حدةً منذ بداية القرن الحادي والعشرين، خاصة بعد انتخابات عام 2000. هذه الانتخابات كانت بمثابة نقطة تحول، حيث أدت نتائجها المتقاربة للغاية إلى أزمة ثقة كبيرة في النظام الانتخابي الأمريكي. التلاعب بالدوائر الانتخابية، الذي تمارسه الأحزاب لضمان السيطرة على مناطق معينة، جعل من الصعب على المرشحين الوسطيين الفوز، مما أدى إلى تزايد الاستقطاب السياسي.
لم تعد هناك مساحة للوسط السياسي في الكونغرس، حيث أصبح الانقسام بين الليبراليين الديمقراطيين والمحافظين الجمهوريين هو السمة السائدة. هذا الانقسام الحاد أضعف قدرة النظام السياسي الأمريكي على التوصل إلى تسويات وحلول وسط، مما زاد من حدة الصراعات الداخلية.
الإعلام، الذي كان يُفترض أن يلعب دوراً في تهدئة الأمور وتحليل الأحداث بموضوعية، تحول إلى ساحة معركة أخرى. أصبح الإعلام الأمريكي منقسماً بشكل واضح بين وسائط مؤيدة للديمقراطيين وأخرى مؤيدة للجمهوريين، مما زاد من حدة الاستقطاب. الإعلام لم يعد يكتفي بنقل الأخبار، بل أصبح يغذي الكراهية والانقسامات، حيث يُصور كل طرف الطرف الآخر على أنه عدو يجب التخلص منه.
تسييس المؤسسات واستهداف الخصوم تعدى الانقسام السياسي الولايات المتحدة إلى تسييس المؤسسات التي كانت تُعتبر سابقاً مستقلة ومحايدة. أجهزة الأمن والاستخبارات، التي كان يُفترض أن تعمل بعيداً عن التأثيرات الحزبية، أصبحت هي الأخرى مسيسة. في السنوات الأخيرة، ظهرت أدلة على تواطؤ بين بعض قادة الجيش والديمقراطيين للحد من سلطة الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو ما يضعف الثقة في هذه المؤسسات ويزيد من حدة الانقسامات.
هذا التسييس لم يكن محصوراً في الأجهزة الأمنية، بل امتد ليشمل المؤسسات القضائية، حيث أصبحت تعيينات القضاة في المحكمة العليا مسألة سياسية بحتة، مما يجعل من الصعب الوثوق في نزاهة النظام القضائي.
الانتخابات والمصداقية المتلاشية الانتخابات الرئاسية لعام 2000 كانت لحظة مفصلية في تاريخ الولايات المتحدة، حيث شهدت أقرب تنافس انتخابي في تاريخ البلاد. حصل آل غور على أغلبية الأصوات الشعبية، لكن النظام الانتخابي الأمريكي منح الرئاسة لجورج دبليو بوش بفارق مئات الأصوات في ولاية فلوريدا. هذا التنافس الشديد والتدخل القضائي في العملية الانتخابية أثارا شكوكاً واسعة في نزاهة الانتخابات، وهي شكوك ما زالت تلازم الانتخابات الأمريكية حتى اليوم.
منذ ذلك الحين، أصبح التشكيك في نتائج الانتخابات سمة بارزة في السياسة الأمريكية، خاصة بعد انتخابات 2016 و2020. في عام 2016، رفضت هيلاري كلينتون قبول هزيمتها بشكل كامل، مدعية أن روسيا تدخلت لصالح ترامب، وهو ادعاء أثار انقسامات عميقة في البلاد. وفي 2020، رفض ترامب قبول هزيمته، مدعياً أن الانتخابات سُرقت منه، مما أدى إلى أعمال عنف مثل اقتحام مبنى الكابيتول في يناير 2021.
تصاعد العنف: نحو حرب أهلية جديدة؟ كل هذه العوامل تشير إلى أن الولايات المتحدة تقف اليوم على شفا أزمة داخلية خطيرة قد تؤدي إلى نشوب حرب أهلية جديدة. انتشار السلاح بشكل واسع بين المواطنين يزيد من احتمالية تحول الخلافات السياسية إلى مواجهات مسلحة. وفقاً لبعض التقديرات، هناك أكثر من 400 مليون قطعة سلاح في أيدي المدنيين الأمريكيين، مما يجعل من السهل تحويل أي شجار إلى مجزرة.
محاولة اغتيال ترامب مؤخراً تعكس مدى تأزم الوضع السياسي في البلاد. لم تكن هذه المحاولة حادثة معزولة، بل هي نتيجة طبيعية للأجواء المشحونة بالكراهية والعنف. إذا استمر هذا الاتجاه دون تدخل حاسم، فقد تجد الولايات المتحدة نفسها في مواجهة نزاع داخلي مسلح، حيث لن يكون هناك أي طرف قادر على السيطرة على الوضع.
خاتمة: المستقبل المجهول: تواجه الولايات المتحدة اليوم واحدة من أصعب مراحل تاريخها الحديث. الانقسامات السياسية والعرقية، وتزايد الكراهية بين المواطنين، وانتشار السلاح بشكل غير مسبوق، كلها عوامل تجعل من المستقبل غامضاً ومليئاً بالمخاطر. إذا لم تُتخذ خطوات جادة لتهدئة الأوضاع وإعادة بناء الثقة بين الأمريكيين، فإن البلاد قد تجد نفسها على حافة الهاوية، مع احتمالية حقيقية لنشوب صراع داخلي مدمر.
في النهاية، يظل السؤال مفتوحاً: هل ستتمكن الولايات المتحدة من تجاوز هذه الأزمة كما فعلت في الماضي، أم أن العنف المتجذر في تاريخها سيقودها إلى كارثة جديدة؟ الوقت وحده سيكشف الإجابة.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشروع 2025.. خطة للحكم أم وصفة لتدمير أميركا؟
-
كاميلا هاريس رئيسة ام شرارة في برميل البارود؟
-
نساء!
-
مفارقة -الابن- أكبر من أبيه!
-
تجربة آينشتاين معَ الحقيقة!
-
سأقولُ ما لمْ يقلْهُ أحد!
-
الخير والشَّر!
-
دراسة في فكر مهدي عامل!
-
اذكريني!
-
نقض الفلسفة الوجودية !
-
نحن الظالمون!
-
في ماركسية ماركس!
-
الاقتصاد السياسي للنقود!
-
ولما أشرق وجهك
-
فلسفة أكسل هونيث!
-
الديالكيك ...فهماً وتحليلاً!
-
على ضفافِ طَيْفِكِ!
-
فوز اليسار في فرنسا ...واقع وتحديات
-
هل الوعي البشري هو الذي اخترع اللغة؟
-
فلسفة جاك دريدا!
المزيد.....
-
-معاد للإسلام-.. هكذا وصفت وزيرة داخلية ألمانيا المشتبه به ا
...
-
-القسام-: مقاتلونا أجهزوا على 3 جنود إسرائيليين طعنا بالسكاك
...
-
من -هيئة تحرير الشام- إلى وزارة الخارجية السورية.. ماذا تعرف
...
-
جزيرة مايوت المنسيّة في مواجهة إعصار شيدو.. أكثر من 21 قتيلا
...
-
فوائد صحية كبيرة للمشمش المجفف
-
براتيسلافا تعزز إجراءاتها الأمنية بعد الهجوم الإرهابي في ماغ
...
-
تغريدة إعلامية خليجية شهيرة عن -أفضل عمل قام به بشار الأسد
...
-
إعلام غربي: أوروبا فقدت تحمسها لدعم أوكرانيا
-
زعيم حزب هولندي متطرف يدعو لإنهاء سياسة الحدود المفتوحة بعد
...
-
أسعد الشيباني.. المكلف بحقيبة وزارة الخارجية في الحكومة السو
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|