|
الحبل-لبودلير
محمد الإحسليني
الحوار المتمدن-العدد: 1771 - 2006 / 12 / 21 - 06:40
المحور:
الادب والفن
إلى إدوار مانيه كان صديقي يقول لي:"إن الأوهام أيضاً لاتُحصى لعلها مثلُ علاقات البشر فيما بينهم، أوعلاقاتِ البشر بالأشياء. وعندما يغيب الوهم، يعني عندما نرى الكائن أو الحدث على علاته خارج أنفسنا،فإننا نكابد إحساساً غريباً، مركباً نصفه من الحسرة بالنسبة للشبح المختفي،ونصفه الآخر من الدهشة المستساغة إزاء التجديد وإزاء الحدث الواقعي.إذا ما وُجدت ظاهرة جلية، ومبتذلة،ومتشابهة دائماً،ومن طبيعة يستحيل الشك فيها،فهي الحب الأمومي.ويصعب أيضاً تصور أمّ بلا حب أمومي سوى مثل نور بلا حرارة؛ أوَليس مشروعاً تماماً، إسنادُ جميع الأعمال والأقوال الصادرة عن إحدى الأمهات والمتعلقة بولدها إلى الحب الأمومي؟ ومع ذلك، فاستمع إلى هذه الأقصوصة، وقد حدثت خلال اللحظة التي كنتُ فيها على انفراد منخدعاً بوهم ذلك الحب الأكثر فطرة. " تدفعني مهنتي التشكيلية لأنظر بحذر إلى الوجوه وأقرأ سيماءاتها التي تستعرض نفسها في طريقي،فأنت تعلم أي متعة نجنيها من هذه الموهبة التي تسعف أنطارنا بالحياة الأكثر احتراماً والأكثر دلالة ومغزىً، شأني في ذلك شأن جميع البشر.ففي الحي النائي الذي أسكنه، وعند الفضاء الفسيح المخضوضرالذي مازالت تتباعد فيه العمارات عن بعضها، لاحظت غالب الأحيان طفلاً ذا سحنة متوهجة، فسحنته أكيس من السحنات الأخرى، وكان يغويني أكثر من مرة بهيئته،تارة حوّلتُه إلى بويهمي، وتارة أخرى إلى ملاك،وطوراً إلى حبيب أسطوري.قلدته كمان المطربين الجوالين، وإكليل الشوك، و مساميرآلام المسيح،وشعلة إيروس.وأخيراً اتخذت من ذلك الغلام، بكل طرافة، متعة حية، فاتفق أن طلبتُ من أقربائه، وهم من الناس الفقراء، أن يتفضلوا بالتخلي عنه لي، فأتعهدَ بإكسائه ومنحه شيئاً من المال، وألاّ أفرض عليه من عمل شاق آخر سوى أن ينظف لي فراشي، ويؤدي لي خدماتي.أصبح هذا الطفل المغسول الوجه فاتناً،فأما الحياة التي كان يعيشها وهو فيبيتي،فكانت تبدو له فردوساً مقارنة ً مع تلك الحياة التي كان يكابدها في كوخ والده.سأقول فقط إن ذلك الصبي قد أدهشني أحياناً خلال أزمات حزن مبكر شاذة ، وإنه قد أظهر سريعاً تذوقاً فعالاً في تناول السكر والخمور الغذبة؛ولذلك يوم تحققتُ فيه أنه قد اقترف أيضاً اختلاساً من هذا القبيل رغماً من تحذيري له، هددته بإرساله إلى أقاربه. ثم حدث أن خرجت ،وقدشغلتني أمور خارج بيتي. "فما أشد هولي واندهاشي وأنا داخل البيت إذكان أول ما استرعى انتباهي غلامي،ورفيق حياتي الخبيث المعلق في ماطور الخزانة! تكاد قدماه تلمسان الأرضية؛وكان كرسي قد دفعه بدون شك بقدمه مقلوباً بجانبه؛كان رأسه مائلاً باختلاج على أحد كتفيه؛قبل كل شيئ ، وجهه المتورم،وعيناه الواسعتان المفتوحتان بكاملهما، الشاخصتان بشكل مرعب،أحدثت لي كلها هلوسات في حياتي.فإنزاله أيضاً ليس عملاً سهلاً كما تظن. كان جد متصلب بعد،وكنت أشعر بنفور غامض من أن أقوم على حين غرة، بإسقاطه على الأرض.كان ينبغي مساندته كاملاً بساعد، وقطع الحبل باليد الأخرى.لكن ذلك يطول،فكل شيء لم ينته بعدُ؛وظل المشوه الصغير مشدوداً بحبل رقيق جداً داخل لحمه،وكان ينبغي الآن البحث عن الحبل الرقيق الرفيع بين شريطي الانتفاخ من اللباد كي أخلص له عنقه بالمقص. " تهاونتُ في أن أقول لكم إنني قد طلبت النجدة سريعاً غير أن كل جيراني كانوا قد رفضوا أن يسعفوني، وقد أخلصوا قي ذلك لعادات الإنسان المتحضر الذي لايريد أبداً، ولسبب ما،أن يتدخل في شؤون إنسان معلق. واخيراً ، جاء طبيب صرح أن الطفل قد مات منذ عدة ساعات. ولما أزلنا عنه ثيابه للدفن فيما بعدُ،كان التيبُّس الجُثي ليزال كما هو،فوجب علينا، ونحن يائسون من ثني أعضائه،أن نمزق ونقطع ثيابه لإزالتها عنه. " نظر اليّ شزراً، عميد الشرطة الذي كان عليّ طبعاً أن أصرح له بالحادث،فقال لي:"ها هوذا أحد المشبوه فيهم!"، وقد حرّكه بلا ريب،رغبة متأصلة،واعتياده على التخويف للأبرياء، والمذنبين على السواء، تحسباً لكل طارئ. ظلت مهمة سامية في حاجة إلى الإنجاز،من ذلك أن الفكرة التي كانت تسبب لي غماً مرعباًهي: أنه كان عليّ أن أخطر أقاربه بما حدث،وما زالت قدماي ترفضان أن تقوداني إليهم. وأخيراً، واتتني تلك الشجاعة،لكن عند اندهاشي الكبير،كانت أم الطفل هادئة الأعصاب،فلا دمعة جادت بها،أوذرفتها من زاوية عينها، عزوت هذا الأمر الغريب إلى الرعب ذاته الذي كان عليها أن تعانيه، فتذكرتُ المثل المعروف:"أشد الآلام رعباً هي الآلام الصامتة".أما الأب ، فقد اكتفى بأن قال في هيئة نصف بلهاء، ونصف حالمة:" ربما ذلك أحسن، بعد كل ما حدث؛ فقد ينتهي الأمر دائماً نهاية سيئة!" والحال، أن الجسد كان ممدداً على أريكتي ساعدته خادمة على ذلك،فلم انشغل بالاستعدادات الأخيرة،عندما دخلت الأم إلى معملي فقالت إنها تريد أن ترى جثة ابنها، ولم أستطع حقاً أن أحاذرها من أن تنغص حياتها غماً بمصيبتها، ولا أن أفض لها ذلك العزاء الأخير والمغتم،ثم توسلتْ إليّ أن أ ُريها الموضع الذي كان فيه ولدها معلقاً، فأجبتها:"واهاً! كلا! سيدتي،سيؤلمك ذلك."وبما أن عينيّ قد التفتتا إلى الخزانة المحزنة، فإنني شاهدتُ بتقززمشوب بالهول والغضب أن المسمار ظل مغروزاً في الجدارمع قطعة طويلة من الحبل لاتزال مسترسلة.وثبتُ بمهارة لأزيل تلك الآثار الأخيرة التي خلفتها تلك المصيبة، وحيث إنني أوشكت أن أرميه في الخارج عبر النافذة المفتوحة، فإن المرأةالمسكينة ظلت تمسك بيدي فقالت لي بصوت لايقاوم:ط واسيداه!ألا دع لي ذلك!أرجوكَ!أتوسل إليك! وبدا لي بأسها بدون شك،قد أذهلها كلية، فأخذت تتوله الآن حناناً بسبب ما استخدم من أداة فيموت ابنها،وتود أن تحتفظ بها تحفة ً غالية من آثار الماضي ـ فما لبثت أن استولت على المسمار والخيط ." أحيراً! أخيراً! كان كل شيء قد أنجز، ولم يبق لي سوى أن أعمد إلى الاشتغال برشاقة اكبر من المعتاد،لأزيل هذه الجثة الصغيرة شيئاً فشيئاً وقدظلت تتردد صورتها في تجاويف دماغي، وما فتئ شبحها يتبعني بعينيه الواسعتين الجامدتين. بيد أنني توصلتُ في اليوم التالي برزمة من الرسائل: بعضها من أصحاب البيت الذي أسكنه؛ والبعض الآخر؛ من بيوت مجاورة،إحدى الرسائل من الطابق الأول؛ الثانية من الطابق الثاني؛ الثالثة من الطابق الثالث،وهكذا دواليك، فبعض تلك الرسائل جاء في أسلوب نصف ممتع،كأنما تحاول إخفاء صراحة طلبها تحت دعاية ظاهرة؛الرسائل الأخرى الوقحة ثقالة ً وبدون مراعاة إملاء، لكنها كلها تميل إلى نفس الهدف، يعني الحصول مني على قطعة من الشؤم وحبل طوباوي. يوجد من بين الموقعين، سأقول ذلك صراحة،النساء أكثر من الرجال، ولكن الجميع، وكن على يقين من ذلك،كانوا لاينتمون إلى الطبقة الوضيعة والعامية،وقد احتفظت بهذه الرسائل. " وبعدُ،فقد سطع نور في عقلي فجأة فعرفتُ لماذا كانت الأم تحرص كثيراً على أن تسلب مني الخيط،وأي صفقة كانت تقصد بها العزاء."
ترجمة محمد الإحسايني
#محمد_الإحسليني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|