|
كيف تستغل الصهيونية التوراة؟ مضامين التوراة وتدوينها
محمد الهلالي
(Mohamed El Hilali)
الحوار المتمدن-العدد: 8069 - 2024 / 8 / 14 - 04:49
المحور:
القضية الفلسطينية
1
كانت المضامين الدينية العِبْرية تُنقلُ شفويا لمدة طويلة قبل أن تبدأ عمليات التدوين، في سنة 722 قبل الميلاد، تلك العمليات التي دامت عدة قرون. وتعتبر مرحلة المنفى (نفي جزء من اليهود من فلسطين إلى بلاد بابل) ومرحلة الحكم الفارسي أخصب فترة لتدوين القصص اليهودية لأنها الفترة التي كان فيها اليهود بدون أرض ولا هيكل ولا ملك، وكان من أهداف تدوين المعتقدات الدينية التعويض عن فقدان كل ذلك. وكانت تلك المعتقدات تُتداول فيما بينهم منذ القرن العاشر قبل الميلاد. ولم يتم الحسم في النسخة النهاية المتداولة اليوم إلا في القرن الثاني بعد الميلاد: أي استمرت عملية التداول والكتابة والتدقيق ثم الحسم: من القرن العاشر قبل الميلاد إلى القرن الثاني بعد الميلاد. لا يوجد أي نص أصلي للتوراة (بأسفاره الخمسة والتي هي: سفر التكوين، سفر الخروج، سفر اللاويين، سفر العدد وسفر التثنية) ولا للكتابيْن الآخرين (وهما: الأنبياء والكتابات). فأساسُ كل هذه النصوص الدينية (التي تسمى مجتمعة: التَّنَاخْ) هو العديد من النسخ تعود لمراحل تاريخية مختلفة. وأقدم نسخة وأهمها هي التي عثر عليها في فلسطين، في منطقة الضفة الغربية على الشاطئ الشمالي للبحر الميت ما بين 1946 و1956 والتي تعرف بمخطوطات قمران أو مخطوطات البحر الميت. وتجدر الإشارة إلى وجود صيغتين للنصوص الدينية اليهودية: النص اليوناني (الترجمة السبعينية) والنص العبري.
2
يقدم سِفر الخروج في فصوله الأولى تصورا أسطوريا بدون أية تواريخ للخلق. وسيقوم البعض فيما بعد بتحديد سنة خلق الكون والإنسان: فلوقا الإنجيلي قال بأن المدة الزمنية التي تفصل آدم عن عيسى المسيح هي خمسة وسبعون جيلا فقط. أما "أوشر" فحدد بداية الخلق في 22 أكتوبر سنة 4004 قبل الميلاد على الساعة السادسة والنصف مساء. أما آدم وحواء فخلقا في 19 نونبر من نفس السنة. أما "جون لايتفوت" فحدد تاريخ الخلق في 21 شتنبر سنة 3229 قبل الميلاد. وقد اعتمدَت الكنيسة هذه التواريخ سنة 1701 بعد الميلاد. تروي التوراة في سفر الخروج أن الله خلق العالم خلقا تاما وشاملا في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع. وأن لآدم وحواء ابنان هما قابيل وهابيل. وأن قابيل قتل هابيل. واتخذ له امرأة. وأن نسله امتد حتى نوح عبر عشرة أجيال. ثم حدث الطوفان في عهد نوح. ثم نصل إلى ابراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف. ثم أتت مسألة الوعد المرتبطة بظهور الله لبعض الأفراد منذ ابراهيم (الذي هو من ذرية نوح) الذي اشتهر بحدث التضحية بابنه إسحاق حيث قبل أن يضحي به ذبحا قبل أن ينقذه الله من فعل ذلك في آخر لحظة. وبعد ابراهيم يأتي إسحاق ثم يعقوب الذي سيسمى "إسرائيل"، وسيكون له اثنى عشر ولدا، ستتشكل منهم القبائل الإسرائيلية الإثني عشر. ثم نصل إلى قصة يوسف ابن يعقوب. يتم الانتقال من قصة عائلة إلى قصة "شعب" من خلال الأحداث التي وقعت في مصر والمتمثلة في الهروب من مصر والاتجاه نحو "أرض الميعاد" بقيادة موسى. سيقود موسى "شعبه" للخلاص، وتتدخل مياه البحر للإنقاذ. سيتبع "الشعب" موسى في رحلة الخلاص التي ستدون أربعين سنة، وهي مرحلة اختبار لقوم يعصون الله باستمرار ويعفو عنهم الله باستمرار أيضا، وينقذهم من الآفات مثل إنقاذهم من المجاعة بمدهم بالمنّ. ولأول مرة يُظهر الله هويته في جبل سيناء لموسى. ويمنحه الوصايا لقيادة وهدي "شعبه". لكن موسى سيموت قبل الوصول لـ"الأرض الموعودة". وقبل موته عين خليفة له هو يوشع الذي سيقود "الشعب" للوصول لـ"الأرض الموعودة". كانت الأرض الموعودة آهلة بالسكان. وهي أرض كنعان. أرسل يوشع "جواسيس" قبل الاقتحام. ثم تم عبور نهر الأردن والاستيلاء على أرض كنعان بدءا بالاستيلاء على أريحا، التي سقطت أسوارها بمجرد النفخ في الأبواق (وستثبت الحفريات عدم وجود أية أسوار لأريحا). وتتوالى حكايات الغزو المتتالية وصولا إلى استيلاء القبائل الإثني عشر على البلاد (فلسطين). ثم تأتي مرحلة البحث عن كيفية تنظيم الإقامة وتنظيم المجتمع واختيار نظام الحكم الملائم (الذي سيكون هو النظام الملكي). ولقد رفض جدعون (الذي كان من بين القضاة الإثني عشر إلى جانب شمشون ودبوره...) اقتراحا قدم له بأن يكون ملكا. وتميزت هذه المرحلة بعدم وجود نبي أو قائد أو ملك. تم تأسيس النظام الملكي على "الأرض الموعودة" واختيرت القدس عاصمة له (قد تكون أحداث هذه المرحلة وقعت ما بين 1050 قبل الميلاد و931 قبل الميلاد). تعاقب على الحكم في هذه المرحلة ثلاثة ملوك هم: شاوُل، داود وسليمان. بالنسبة لشاوُل: هو أول ملك لـ"شعب إسرائيل"، ينحدر من قبيلة "بنيامين"، وهو قائد عسكري لم يسيطر إلا على عدد قليل من قبائل الشمال، ولم تكن له حكومة مركزية. بالنسبة لداود: استطاع أن يجمع أنصارا كثيرين حوله. صار في البداية ملكا على "يهوذا"، ثم سيطر على مناطق أخرى كثيرة. وكان أضعف وأصغر أشقائه، لذلك قيل "أن الله هو الذي اختاره وليس الناس". بالنسبة لسليمان: هو الابن الثاني لداود. (وقد خُصصت له في سفر الملوك فصول عديدة). دام حكمه أربعين سنة (من 970 قبل الميلاد إلى 931 قبل الميلاد). وساد في عهده الرخاء والسلام. اشتُهر بكونه حكيما ومسالما. (ومن الأمور التي نُسبت إليه واشتُهر بها ما يسمى بحكم سليمان: أمّان تقدمتا إليه بطفلين، أحدهما ميت والآخر حي، كل واحدة تدعي أن ابنها هو الحي، ولمعرفة الحقيقة والحكم وفقها اقترح سليمان قطْع الطفل الحي إلى جزئين، كل واحدة منهما تحصل على جزء منه، فقالت إحداهما أنها تفضل أن يظل الولد حيا مع امرأة أخرى عوض أن يقتل، فعرف أنها الأم الحقيقية للولد). وتنسب إليه العديد من النصوص التوراتية مثل: المزامير، نشيد الإنشاد، الأمثال، سفر الحكمة). ثم تعرضت المملكة للتقسيم لأسباب اقتصادية (تردي الوضع المالي) وأسباب ثقافية (تبني سليمان لطقوس بلدان زوجاته العديدات اللواتي بلغ عددهن سبعمائة زوجة وثلاثمائة خليلة). انقسمت المملكة ابتداء من سنة 931 قبل الميلاد. وكانت البداية برفض "يربعام" الخضوع لـ"رحبعام بن سليمان". فظهرت مملكة في الشمال وأخرى في الجنوب. في الشمال كانت هناك مملكة "إسرائيل" وعاصمتها "ترصة" ثم السامرة. وفي الجنوب كانت هناك مملكة "يهوذا" وعاصمتها "القدس". وفي سنة 722 قبل الميلاد، انتهت مملكة الشمال وسيطرت سوريا على السامرة. أما مملكة الجنوب فاستمرت عشرات السنين بعد ذلك، إلى أن قام ملك بابل، "نبوخذ نصر"، سنة 587 قبل الميلاد، بالاستيلاء على "القدس" وهدم "الهيكل الأول"، وبذلك دشّن بداية النفي والمنفى. استمرت مرحلة النفي القسرية من سنة 587 قبل الميلاد إلى سنة 538 قبل الميلاد. وفي هذه المرحلة لم تعد لـ"شعب إسرائيل" أرض ولا ملِك ولا "هيكل"، بقي معهم فقط: "كلام الله". كانت تلك المرحلة هي بداية الدياسبورا اليهودية، الشتات الجغرافي لليهود. ولا توجد معلومات كثيرة عن هذه المرحلة في التوراة. أما بخصوص عملية النفي: فهناك من بقوا في "الأرض الموعودة" وهم في الغالب من الذين يعملون في الزراعة، وهناك من اختاروا المغادرة طوعا، وهم في الغالب من اختاروا الذهاب للبلدان المجاورة مثل مصر، وهناك من أجبروا على الرحيل، وهم النخبة. وتمت العملية عبر أفواج وقدر عدد المنفيين بـ 30°/° من مجموع "شعب إسرائيل". ولقد تم العمل في مرحلة النفي على تدوين المضامين والتقاليد الدينية العبرية التي كانت لا تزال شفوية. ولما احتل الفرس بابل بقيادة ملكهم كورش (سنة 538 قبل الميلاد) سمح لـ"شعب إسرائيل" بالعودة إلى "يهودا" إذا رغب في ذلك، على أن تظل "يهوذا" تحت سيطرة الفرس. وقرر البعض من "الإسرائيليين" العودة، وتسبب ذلك الوضع في حدوث توترات فيما بينهم. وفي المرحلة الفارسية لم يعد الحديث عن "شعب إسرائيل"، وإنما عن "اليهود"، "سكان يهودا". وفي سنة 322 قبل الميلاد، سيستولي الإسكندر الأكبر (المقدوني) على فلسطين. وبعد موته (323 قبل الميلاد) ستظل فلسطين تابعة للحكم اليوناني الهلنستي. وتمت في هذه المرحلة ترجمة النصوص الدينية إلى اللغة اليونانية وهو ما تُوج بالترجمة السبعينية للنصوص التوراتية. ولكن ابتداء من سنة 175 قبل الميلاد، تم فرض الثقافة اليونانية بالقوة، وفي سنة 166 قبل الميلاد اندلعت ثورة الإخوة المكابيين. وكان الدافع المباشر هو قتل أحد القادة العسكريين من طرف كاهن يهودي، لأنه أراد فرض طقوس وثنية على الإسرائيليين. وأدى ذلك إلى عدة معارك توجت بحرب أهلية. وفي هذه المرحلة أيضا تشكلت ثلاثة تيارات داخل الدين اليهودي وهي: الصدوقيون (الأرستقراطية ورجال الدين الكبار)، الفريسيون (الكتاب النساخ المرتبطون ارتباطا وثيقا بدراسة النصوص الدينية)، الإسينيون (الذين ينتظرون نهاية الزمان يمارسون حياة العزوبية ويعيشون حياة متقشفة). ثم يلي ذلك العهد الروماني حيث قام بومبيوس الروماني سنة 63 قبل الميلاد بإلحاق القدس بإقليم سوريا. وصار هيرودوس ملكا لـ"يهودا" سنة 39 قبل الميلاد.
3
لا توجد وثائق تؤيد ما تضمنته التوراة. لكن الرأاي الوسط السائد لدى الباحثين هو الذي يرى أن قصص التوراة ليست نصوصا تاريخية، لكنها ليست في نفس الوقت خرافات. وإلى حدود القرن السابع عشر لم تكن هناك مساءلة نقدية لقصص التوراة. كان الاعتقاد السائد هو أن موسى هو الذي كتب التوراة وأن ما تضمنته هو الحقيقة. أي أن التساؤلات النقدية الموجهة للتوراة بدأت في أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر. وكان أول نقد مهم ومؤثر هو النقد الذي قدمه "باروخ سبينوزا" سنة 1670. ثم النقد الذي صاغه القس الكاثوليكي الفرنسي "ريشار سيمون" متبنيا توجه "سبينوزا" في كتابه الصادر سنة 1681 بعنوان "التاريخ النقدي للعهد القديم". ومن الملاحظات التي قدمها كل من سبينوزا وريشار سيمون: وجود صيغ مختلفة لنفس القضية المثارة، وجود تناقضات، تعدد الأساليب الأدبية. وتبلورت معهما الفكرة القائلة بأن التوراة كتبت عبر مراحل تاريخية طويلة. وتطور هذا الاتجاه مؤكدا أن التوراة هي "نتيجة عملية تجميع العديد من النصوص المختلفة". وكانت مساهمة الأركيولوجيا حاسمة في الدراسة النقدية للتوراة والكتب الدينية العبرية عموما. ففي البداية، اي قبل السبعينات من القرن العشرين، كان هدف الأركيولوجيين العاملين في فلسطين هو البرهنة على صحة مضامين التوراة، أي كانوا لا يقومون بأبحاث وحفريات للبحث عن الحقيقة، وإنما كانوا يبحثون عن الآثار التي تؤيد التوراة. أي أن الأركيولوجيا كانت إلى حدود بداية السبعينات في خدمة الصهيونية المسيحية واليهودية. لكن منذ بداية السبعينات أثبتت الأركيولوجيا رويدا رويدا وجود تناقضات كثيرة ما بين القصص التوراتية والآثار الأركيولوجية، تناقضات تمنع قبول ما تتضمنه التوراة كمعطيات تاريخية: فالمعارك التي تصفها التوراة بين الإسرائيليين وشعب كنعان، وأسوار أريحا التي قالت التوراة أنها سقطت لما نفخ في الأبواق، واحتلال أريحا، ومملكة داود... كلها أمور لا تؤيدها الوثائق التاريخية ولا الأبحاث الأركيولوجيا. فالوثائق تقول أن كنعان في القرن الرابع عشر قبل الميلاد كانت إقليما مصريا تابعا للسلطة الفرعونية وأن الحضور المصري في المنطقة ظل مستمرا حتى القرن الثاني عشر قبل الميلاد (عصر رمسيس الرابع). ولا توجد أية وثيقة تتحدث عن وقوع هذه المعركة على أرض كنعان. كما أن الحفريات أثبتت أنه لم تكن هناك أية أسوار لمدينة أريحا، وبذلك تتبخر قصة سقوط أسوار أريحا لما نفخ الكهان الإسرائيليون في الأبواق، وتؤكد أنه لا أثر لاحتلال أريحا قبل القون 13 الثالث عشر قبل الميلاد. كما تشكك الوثائق في ما قيل عن مملكة داود لأنه لم توجد أية وثيقة صادرة عن الدول المجاورة تشير إلى تلك المملكة، فأرشيف مصر لا يذكرها بالرغم من أن التوراة تقول أن داود تزوج أميرة من عائلة فرعونية. كما لم تتمكن العمليات الأركيولوجية من إثبات أن منطقة سيناء المصرية وجبل موسى هما نفس المكانين المذكورين في التوراة لعدم العثور على "أية آثار أو بقايا قديمة من الأزمنة التوراتية في هذه المنطقة". فكل ما قيل عن صلة هذه الأماكن بما كتب عنها في التوراة "يبقى من عالم الفولكلور والتخمين الجغرافي، لا عالم علم الآثار". ولا بد من الإشارة لتأثير ملحمة غلغامش على نصوص التوراة. فهذه الملحمة هي أقدم عمل أدبي في التاريخ، هي حكاية من بلاد ما بين النهرين حول الوضع البشري وعلاقته بالموت والحياة والصداقة: تضمنت الحديث عن انتصارات غلغامش وصديقه الحميم إنكيدو، ولما توفي هذا الأخير تأثر غلغامش تأثرا بالغا، لكنه قرر عدم الاستسلام. قرر المقاومة والبحث عن الخلود، لذلك سافر إلى أقصى العالم حيث يوجد كائن يتمتع بالخلود (هو أوتنابيشتيم)، والذي سيخبر غلغامش أنه يستحيل أن يحصل على الخلود، لكن يمكنه أن يقص عليه قصة الطوفان التي سيتمكن من حكيها لبقية البشر.
4
لا ينفصل نقد سبينوزا للتوراة عن دفاعه عن حرية التفكير والتعبير، أي أن الهدف من نقده للتوراة هو الدفاع عن الحرية. لذلك عمل على الإجابة في كتابه (الرسالة السياسية اللاهوتية) عن السؤال التالي: لماذا وكيف يتحول الدين إلى خرافات؟ يرى سبينوزا "أن حرية التفلسف لا ينتج عنها أي ضرر على التقوى والسلم. لكن منع حرية التفلسف سيؤدي إلى زوال التقوى وانعدام السلم". إن حرية التفلسف شرط ضروري للتقوى الدينية وللسلم المجتمعي، إنها الضامنة لهما. فزوال السلم يؤدي إلى اضطرابات وتمردات وحروب، أما زوال التقوى فيؤدي إلى تصرفات غير أخلاقية، وارتكاب المظالم، والعصيان. ومعنى حرية التفلسف هنا هو: حرية كل فرد في التعبير عن رأيه وإصدار حكمه وعبادة الله حسب طبعه، اي أنه لا وجود لأي انفصال بين حرية التفلسف وحرية التفكير. يرى سبينوزا أن هناك ضرورة ملحة لنقد ونقض الأفكار المسبقة عن الدين، تلك الأفكار المسبقة التي تحوّل الناس إلى بهائم، وتحرم كل شخص من استعمال عقله بحرية للتمييز بين الصواب والخطأ، ودفعه إلى إخماد نور العقل. وهذه الأفكار المسبقة حول الدين هي أفكار رجال الدين وليست أفكار الدين. إنها مخلفات "العبودية العتيقة" لأنها تنشر أفكارا تجسيمية ومظنونة مستمدة من الأساطير والألغاز الدينية الغريبة والباطنية. إنها أفكار خادعة وخاطئة حول طبيعة الله وطبيعة الإنسان وحول العلاقة بين الله والإنسان. لذلك فالدفاع عن حرية التفكير (حرية التفلسف) يقتضي مواجهة هذه الأفكار المسبقة الظنية والوثوقية وتفنيدها. إن اللاهوتيين حوّلوا الدين إلى مجرد مظاهر خارجية، بل حوّلوه إلى عدو للعقل ومصدر للحسد والحقد والبخل وكل الأهواء السلبية، وصاروا يتصرفون من أجل حماية سلطتهم باسم الدين. فما يشغلهم ليس الخوف من الوقوع في أخطاء دينية أو الزيغان عن الطريق القويم المؤدي للخلاص، وإنما فقدان سلطتهم واحتقار الناس لهم. لذلك فهم يكرهون العقل ويعملون على ترسيخ المعتقدات الانفعالية وغير العقلانية. فما قام به اللاهوتيون هو ملاءمة النصوص الدينية مع أحكامهم المسبقة التي تعكس معتقداتهم الخيالية. يرى سبينوزا (وهو ما يؤكده سيلفان زاك) أن كلام الله كما هو معبّر عنه في النصوص الدينية هو "كلام عن المحبة"، لكن اللاهوتيين أفسدوا معناه. لذلك يقترح سبينوزا تغيير منهج تأويل النصوص الدينية، لأن المناهج المتبعة من طرف اللاهوتيين فاسدة وأدت إلى "تدمير معنى كلام الله". ولقد نتج عن ذلك الدمار أنه لم يتبق من الدين إلا المظاهر الخارجية والتصديق الساذج للأفكار المسبقة المظنونة. لقد بلغت الوقاحة باللاهوتيين أن جعلوا من العقل، هذا النور الطبيعي، مصدرا للكفر، وجعلوا من منجزات البشر أعمالا إلهية، وخلطوا بين الإيمان والتصديق الساذج. إن نقد النصوص الدينية أمر ضروري حسب سبينوزا من أجل إعادة الاعتبار للمعنى الحقيقي لهذه النصوص، ذلك المعنى الذي زيفه وحرفه اللاهوتيون. لقد احتكر هؤلاء حرية التفكير وصاروا يتهمون كل من يستعملها بطرق تختلف عن طريقتهم بأنه عدو الله. اعتمد سبينوزا على منهج جديد هو المنهج التاريخي النقدي الفيلولوجي. وهو منهج محايد ومستقل يمارس التأويل، ويقتضي تحرير الفكر من كل الأفكار اللاهوتية المسبقة، ويستهدف بلوغ معرفة يقينية بالنصوص الدينية، ويتعامل مع هذه الأخيرة باعتبارها نصوصا ووثائق مثلها في ذلك مثل بقية النصوص والوثائق. وبما أن النصوص الدينية التوراتية، التي هي موضوع نقد سبينوزا، نصوص تمت صياغتها تاريخيا، فلا بد من أدوات علمية فيلولوجيه للتفكير في تكونها التاريخي، وهو ما سيضمن الحياد التأويلي: أي التخلص من قصد المؤول لكي تعبر هذه النصوص عن نفسها بنفسها، أي للوصول لروح النص التي هي الفكر المتضمن في هذه النصوص التوراتية. لذلك، ينبغي أن تفسر النصوص الدينية نفسها بنفسها، وأن تستمد كل معرفة عنها منها. على المؤول أن يشتغل كمؤرخ وكمحقق ومستكشف. إن تأويل هذه النصوص ينبغي أن يتبع نموذج تأويل الطبيعة، أي عدم إضافة أي عنصر إلى هذه النصوص الدينية ما لم يتم التعرف على وجوده بوضوح، فالاهتمام سينصب فقط على معنى الجمل وليس على حقيقتها، لأن طبيعة النصوص التوراتية لا تسمح بأن نستنج منها أية حقائق كما تسمح بذلك نصوص الخطاب التأملي. ليست النصوص الدينية التوراتية دراسات فلسفية تأملية، وإنما هي مجموعة نصوص تقدم خطابا غامضا من منظور العقل، يتجاوز فهم البشر، تضم حكايات، ولا تستعمل براهين واستدلالات. يتكون الاستقصاء التاريخي الذي هو تطبيق للمنهج التاريخي النقدي من عدة خطوات هي: ضرورة معرفة لغة النصوص الدينية المعنية، تجميع مضامين كل نص وترتيبها حسب الموضوع، تجميع كل الوثائق المتعلقة بحياة كتاب تلك النصوص، الاهتمام بتاريخ ظروف كتابة كل نص من تلك النصوص الدينية، تحديد المفاهيم المستعملة في تلك النصوص الدينية (النبي، النبوة، المعجزة، الوحي...).
5
تكونت التوراة طيلة عدة قرون وهي لم تنزل من السماء (كما قال توماس رومير)، لذلك فهي تتضمن العديد من التناقضات. إنها ثمرة عدد كبير من الإضافات والتغييرات. لقد شبه توماس رومير (في محاضرته الافتتاحية بالكوليج دو فرانس، بمناسبة إحداث كرسي خاص بالدراسات التوراتية) نصوص التوراة بالفيلم الشعبي (ماما مِيّا، 2008) الذي يحكي قصة المجموعة الغنائية "آبا". وعنى بذلك طابع الترقيع الذي يميز نصوص التوراة، حيث لا وجود لروابط معقولة بينها: خلق العالم، خلق الإنسان، الطوفان، برج بابل، حكايات عن الآباء يعقوب وإسحاق وإبراهيم ويوسف، (وبالرغم من أن يعقوب هو الأقدم وإبراهيم هو الأحدث فإن التوراة فضلت أن تجعل ابراهيم هو البداية)، كما ان حكايات الآباء لم تكن لها صلة بحكايات الخروج... لقد تم استعمال التوراة كسلاح فتاك بالانطلاق من فهمها فهما حرفيا، وهذا ما تؤكده أحداث تاريخية عدة: - اعتمد المستوطنون الذين استوطنوا أمريكا الشمالية على سفر يوشع (أو يشوع) (الذي يحكي كيفية استيلاء الإسرائيليين على "الأرض الموعودة") لإضفاء الشرعية على إبادة السكان الأصليين. - إضفاء الشرعية على استعباد واسترقاق ذوي البشرة السوداء اعتمادا على نص توراتي من سفر التكوين لعن فيه نوح ابنه حام، ذا البشرة السوداء، وحكم عليه بأن يكون عبدا لأخويه ذوي البشرة البيضاء، علما بأن حام هو جد شعوب إفريقيا. - الصهاينة اليهود اليوم يبررون استيطانهم لأرض الفلسطينيين بما جاء في التوراة حول "الارض الموعودة" - استعمل مجرم الحرب بنيامين ناتنياهو سِفر إشعياء (الإصحاح 9 و11 و60) لتبرير حرب التدمير في فلسطين، والتبشير بالنصر والخلاص. ولقد انتقدت "آن ماري بيليتبيه" الباحث المتخصصة في النصوص الدينية العبرية استعمال نتنياهو لهذا السفر واعتبرت فهمه له "مبتذلا" وأكدت ان معنى هذا النص لا يؤيد ما قاله، وأن سفر إشعياء معقد ولا يمكن فهمه خارج سياقه التاريخي. - كما يستعمل الصهاينة سفر صموئيل الأول (الإصحاح 15) الذي جاء فيه: "وقال صموئيل لشاوُل: أنا الذي ارسلني الرب لأمسَحك ملكا على شعبه بني إسرائيل، فاسمع الآن قول الرب. هذا ما يقول الرب القدير: تذكرتُ ما فعل بنو عماليق ببني إسرائيل حيم خرجوا من مصر، وكيف هاجموهم في الطريق، فاذهب الآن واضرب بني عماليق، واهلك جميع ما لهم ولا تعفُ عنهم، بل اقتل الرجال والنساء والأطفال والرضع والبقر والغنم والجمال والحمير" (العهد القديم العبري، ترجمة الأبوان بولس الفغالي وأنطوان عَوكر، الجامعة الأنطونية، لبنان، 2007). - ونجد نفس المضامين في سفر يشوع، الإصحاح 6: "فاقتحم الشعب المدينة لا يلوي أحدهم على شيء، واستولوا عليها، وقتلوا بحدّ السيف إكراما للرب جميع ما في المدينة من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، حتى البقر والغنم والحمير... وأحرقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار إلا الذهب والفضة وآنية النحاس والحديد، إذ وضعوها في خزانة الرب" (العهد القديم العبري، ترجمة الأبوان بولس الفغالي وأنطوان عَوكر، الجامعة الأنطونية، لبنان، 2007).
6
منذ احتلال فلسطين سنة 1917 بالإعلان عن وعد بلفور، والغرب الاستعماري يدعم بكل الطرق والوسائل الصهيونية اليهودية، وييسرُ نشر دعايتها المزيفة عن تاريخ فلسطين وعن أساطير التوراة حول "أرض الميعاد"، ويحمي دولة إسرائيل الإجرامية ويبرر جرائمها. وإذا كان البعد العربي والإسلامي، ولا يزال، بعدا أساسيا في الدفاع عن تحرير فلسطين وتفكيك الدولة الصهيونية، فإن طوفان الاقصى، ملحمة غزة الاستثنائية بزعامة قادة فلسطينيي مقاتلين استراتيجيين مميزين (محمد ضيف ويحيى السنوار واسماعيل هنية وآخرون من حركة الجهاد والجبهة الشعبية والفصائل المقاومة الأخرى)، قد جعل قضية فلسطين قضية عالمية إنسانية، قضية شعوب العالم قاطبة وخصوصا شعوب الغرب التي بدأت تتخلص من الغسل الصهيوني للعقول، وهذا المعطى الجديد الذي نقل مستوى النضالات إلى ساحات دولية مهمة، قطع الطريق على الدول العربية التابعة للدولة الأمريكية الصهيونية، بحزبيها الجمهوري والديمقراطي، والتابعة للصهيونية اليهودية، وقطع الطريق على شرذمة من المتصهينين العرب والمغاربة، الذين لا تساوي خدماتهم للدولة العبرية المجرمة مرتكبة أكبر إبادة جماعية في هذا القرن شيئا. وفي هذا السياق، يمكن فهم تفاؤل إيلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي المساند للقضية الفلسطينية، الذي عبر عنه في آخر كتاب صدر له (Lobbying for Zionism on Both Sides of the Atlantic - juin 2024) حيث يقول: "لقد نجح اللوبي الصهيوني الغربي في تجميع مجموعات لها مصالح مختلفة لتشكل درعا يتمكن من حماية إسرائيل بجعلها لا تتحمل المسؤولية عن خروقاتها للعدالة والقانون الإنسانيين. لكن هذا الدرع الدولي يعاني اليوم من عدة تصدعات قد تكبر أكثر فأكثر في المستقبل. ويمكن القول، في آخر المطاف، أن العديد من الناس في القرن الواحد والعشرين لن يستطيعوا الاستمرارية في تقبل مشروع استيطان يحتاج لاحتلال عسكري وقوانين تمييزية للاستمرار في البقاء. ستأتي لحظة لن يتمكن فيها اللوبي الغربي من تحمل هذا الواقع والاستمرار في النظر إليه كواقع أخلاقي في نظر العالم. أعتقد وآمل أن هذه اللحظة ستحل وأنا لا زلت على قيد الحياة".
****
المراجع:
- بولس الفغالي وأنطوان عوكر(مترجمان)، العهد العبري القديم، الجامعة الأنطوانية، لبنان، 2007. - الأنبا إبيقانيوس، سفر إشعياء، دار مجلة مرقس، القاهرة، 2020. - إسرائيل فنكلشتاين وفيل أشر سيلبرمان، ترجمة سعد رستم، التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها (رؤية جديدة لإسرائيل القديمة وأصول نصوصها المقدسة على ضوء اكتشاف علم الآثار)، صفحات للدراسات والنشر، دمشق، 2017. - توماس رومير، ترجمة يوسف سمير، الله الغامض (العنف والجنس في قصص العهد القديم)، دار الثقافة، القاهرة، 2014. - Thomas Römer, Léonie Bischoff, naissance de la bible, Editions Lombard, Bruxelles, 2018. - Israël Finkelstein, Thomas Römer, Aux origines de la Torah (nouvelles rencontres, nouvelles perspectives), Bayar éditions, 2019. - Thomas Römer et autres, Introduction à l’ancien Testament, Editions Labor et Fides, Genève, 2004. - Jean-Louis Ska, le livre de l’Exode, les éditions du Cerf, paris, 2021. - Ilan Pappe, Lobbying for Zionism on Both Sides of the Atlantic, Oneworld publications, England, 2024.
#محمد_الهلالي (هاشتاغ)
Mohamed_El_Hilali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وداعا فيلسوف الامبراطورية والحشود: أنطونيو نيغري
-
جيلْ دولوزْ الفيلسوف المُعجبُ بالشعبِ الفلسْطينِي والمُعادِي
...
-
سيجموند فرويد والصهيونية
-
دروسُ غزّة مِن إدوارد سَعيد إلى مُحمد ضيفْ
-
طوفان الأقصى وبداية نهاية الصهيونية
-
المثقف المغربي والنقد الجذري - نصوص لحُسين أسْكوري من خلال ر
...
-
ميشال وِلبِك - كيفَ تَشكلَ موقفُ أشهر الروائيين الفرنسين الم
...
-
وفاةُ ألان تورين عالمُ اجتماعِ الحركات الاجتماعية والفاعلين
...
-
-شات جي بي تي- في مواجهة اللسانيات والفلسفة
-
عَنْ -قرآن المؤرخين-
-
الأمة، القرآن والإعجاز، مساهمة من منظور التحليل النفسي اللاك
...
-
فكرة الثورة عند لينين (من خلال أعماله الكاملة)
-
ما هي أهمية كتاب -رأس المال- لكارل ماركس؟
-
شرح أفكار كتاب رأس المال لماركس
-
البلاشفة والإسلام
-
التأويل الماركسي للإسلام: نموذج بندلي جوزي
-
مارسيل كونش: وفاة فيلسوف الطبيعة في عصرنا
-
الأحزابُ السياسية المغربيّة كيْفَ نشأتْ ولماذا فشلتْ ومَا عل
...
-
عَيْنُ الاِخْتِلَافْ (الجزء الخامس والأخير)
-
عَـــــيْـــنُ الاِخْتِلَافْ (الجزء الرابع)
المزيد.....
-
الجيش الأوكراني يتهم روسيا بشن هجوم بصاروخ باليستي عابر للقا
...
-
شاهد.. رجل يربط مئات العناكب والحشرات حول جسده لتهريبها
-
استبعاد نجم منتخب فرنسا ستالوارت ألدرت من الاختبار أمام الأر
...
-
لبنان يريد -دولة عربية-.. لماذا تشكّل -آلية المراقبة- عقبة أ
...
-
ملك وملكة إسبانيا يعودان إلى تشيفا: من الغضب إلى الترحيب
-
قصف إسرائيلي في شمال غزة يسفر عن عشرات القتلى بينهم نساء وأط
...
-
رشوة بملايين الدولارات.. ماذا تكشف الاتهامات الأمريكية ضد مج
...
-
-حزب الله- يعلن استهداف تجمعات للجيش الإسرائيلي
-
قائد الجيش اللبناني: لا نزال منتشرين في الجنوب ولن نتركه
-
استخبارات كييف وأجهزتها العسكرية تتدرب على جمع -أدلة الهجوم
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|