تمخضت مبادرة بضعة من شباب اليسار ، إستجاب لها العديد من الاتجاهات اليسارية عن عقد مؤتمر تأسيس وإعلان تشكيل "المجموعة المصرية لمناهضة العولمة" . ليدخل المثقفون المصريون طرفا فاعلاً في الحركة العالمية المناهضة للعولمة التي تقودها الشركات المتعدية الجنسيات المعتمدة على القوة العسكرية الأمريكية لنهب ثروات الكوكب وإستعباد البشرية .
كانت هناك محاولات عديدة سابقة لتأسيس حركة مصرية لمناهضة العولمة ، لكنها تعثرت ، ليس فقط بسبب ما يعانيه اليسار في مصر من حصار على مدي نصف القرن الماضي ، ولكن أيضا ، والأهم ، ضعف الروابط والعلاقات مع الحركة العالمية لليسار ، في ظل سيادة التوجهات القومية التي تنظر بعين الشك ، وتتهم أحيانا بالخيانة ، مثل هذه العلاقات . يعززها في الوقت نفسه ، نظرة سائدة متعالية لدي الإشتراكية الأوروبية ، إلى مثقفي العالم الثالث باعتبارهم مناضلين المستعمرات ، لا ينتظر منهم سوى الولاء والتبعية .
على أية حال ، كانت اللحظة التاريخية المناسبة باندلاع الانتفاضة الفلسطينية ، التي أعادت لليسار المصري والعربي ، قدر من الفاعلية في الساحة السياسية ، وأحيت تجمعات كانت إنفرطت . في نفس الوقت ، لعبت الحركة العالمية المناهضة للعولمة دوراً لفت الأنظار في "مؤتمر دربان" بجنوب أفريقيا ، ضد النظام العنصري الإسرائيلي ، دفع أمريكا وإسرائيل لمقاطعته ، كان ذلك قبل أيام من أحداث 11 سبتمبر . وكانت المفاجأة الكبرى ، مبادرة هذه الحركة بكسر الحصار الإسرائيلي على "رام الله" و "ياسر عرفات" ، ودخول عناصر منها إلى مقره في اليوم التالي للاجتياح ، فضلا عن تنظيمها لمظاهرات بعشرات الألوف في معظم العواصم والمدن الكبرى في العالم . مما دفع المثقفين المصريين لتعجيل المساعي للانخراط في هذه الظاهرة العالمية الجديدة والجادة .
من ناحية أخرى ، كانت المنتديات والحركات الدولية الكبرى المناهضة للعولمة الرأسمالية ، تطرح بالحاح تساؤلات حول غياب العرب وأفريقيا وجنوب غرب أسيا عن الحركة ، وضعف منظمات المجتمع المدني في هذه المناطق ، طرح السؤال بجدية ، بعد أن لجأت منظمة التجارة العالمية إلى المنطقة ، لتعقد مؤتمرها في "الدوحة" ، بعيداً عن مظاهرات المعارضين . هنا ، شعرت الحركات العالمية بخطورة أن تصبح هذه المناطق فناء خلفي ، وملاذاً أمناً لمؤسسات العولمة الرأسمالية ، وتحولت التساؤلات إلى مهام ، وشرعت في مساعيها لمد الجسور والروابط مع المناطق الثلاثة . فدعمت مؤتمراً عقد في "بيروت" في نوفمبر الماضي على هامش "مؤتمر الدوحة" ، ومدت الجسور مع المثقفين في تونس والمغرب والجزائر الذين تشكلت فيهم حركات لمناهضة العولمة ، وكانت أكبر خطوة ، تشكيل المنتدى الاجتماعي الأفريقي ، الذي دخلته البلدان الأفريقية جنوب الصحراء ، وبذلك تشكلت بدايات حركة في المناطق الثلاثة ، عليها أن تواجه تحدي غياب الديمقراطية كي تمارس دوراً في إطار الحركة العالمية .
التحدي الثاني الذي يواجه "المجموعة المصرية لمناهضة العولمة" ، مد الجسور مع كل القوي اليسارية والديمقراطية ، وقوى المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية التي لعبت دوراً كبيراً في السنوات الماضية سواء في الداخل أو في المؤتمرات والمنتديات الدولية.
ننتقل لجانب هام ، يتعلق بمستقبل العلاقات بين المجموعة المصرية وبين الحركة العالمية لمناهضة العولمة .. حيث أن طبيعة الصراع اليوم على الصعيد العالمي ، تتجاوز المنطق والإطار القومي الذي كان يحكم الصراعات في السابق ، فعالم اليوم ، عالم واحد ، يحكمه الصراع بين دعاة العولمة الرأسمالية ، وهو المشروع الذي تفرضه الشركات المتعدية الجنسيات مدعومة بالقوة العسكرية ونفوذ الدولة الأمريكية من أجل السيطرة على ثروات الكوكب وإخضاع سكانه . وفي هذا الإطار تصبح المواجهة على أساس قومي أمر شبه مستحيل ، محكوم عليها بالفشل أو التعثر على أقل تقدير.
وإنطلاقا من الطبيعة الكوكبية للمواجهة ، قامت الحركة المناهضة للعولمة أو الداعية لعولمة مغايرة على أساس أن ثروات الكوكب ملك لكل البشر ، وللجميع فيها حقوق متساوية . وفي هذا الإطار ، لا يمكن تصور أن شعبا بمفرده يستطيع أن يواجه العولمة الرأسمالية منفرداً ، فكل ما يمكن تحقيقه لو فعل ذلك ، هو أن ينعزل عن الحركة العالمية ، ويتقوقع خلف الدولية القومية لدعمها في مواجهة ضغوط العولمة الرأسمالية ، وأمامنا بعض المجتمعات التي تختار هذا المسار ، ويزداد تهميشها يوما بعد يوم ، أو تلهث فجأة في نيل رضا المؤسسات الدولية للعولمة الرأسمالية.
في هذا الإطار ، يبرز إتجاهان أساسيان في الحركة العالمية المناهضة للعولمة ، وبدا واضحا أيضا في داخل المجموعة المصرية ، بشأن مواجهة القوة المهيمنة على العولمة الرأسمالية : أحدهما يعمل على تعزيز هيمنة الدول القومية كحواجز دفاعية ضد سيطرة رأس المال الأجنبي والكوكبي ، بينما يكافح الموقف الثاني من أجل بديل كوكبي (غير قومي) لخلق شكل من العولمة ينعم فيه العالم كله بالمساواة.
يري أصحاب الموقف الأول أن الليبرالية الجديدة مقولة أساسية ، وأن العدو هو النشاط الرأسمالي الكوكبي الذي لا تحده قيود ويضعف من سيطرة الدولة . أما الموقف الثاني فيعلن بوضوح أكثر عداءه للرأسمالية أيا كان شكلها ، سواء كانت تضبطها الدولة أو تعبر عنها المؤسسات الدولية والعسكرية الأمريكية .
ويدعي أصحاب الموقف الأول بحق أن الموقف ضد العولمة ، حتى ولو كان مرتبطا بتضامن كوكبي ، فإنه يخدم السلطات القومية ، بقدر ما ينجح في ضبط وتقييد قوي العولمة الرأسمالية . وبالتالي يبقي التحرر القومي من هيمنة العولمة الرأسمالية هدفاً أساسيا لهذا الموقف ، كما كان هدفاً للنضال ضد الاستعمار القديم والإمبريالية في زمن سابق . في المقابل يعارض أصحاب الموقف الثاني أية حلول قومية ويبحث عن سبيل أخر من أجل العولمة الديمقراطية ، والمساواة ، والعدالة.
وفي "بورتو اليجرى" كانت قيادات حزب العمال البرازيلي وقيادات المنظمة الفرنسية "أتاك" الأكثر دفاعا وتعبيراً عن الموقف الأول ، بينما دافعت غالبية المشاركين عن الموقف الثاني .
على ضوء ذلك ، تجابه المجموعة المصرية نفس الإشكالية ، وإذا كانت الحركة العالمية نجحت في مجملها في احتضان الموقفين معاً والتعبير عنهما بشكل متساو ، نجحت المجموعة المصرية أيضا في ذلك ، وانعكس ذلك في الآليات التي أقرتها وفي الممارسة الفعلية ، والتي تسمح للجميع بالتواجد جنبا إلى جنب ، وبالتعاون والعمل المشترك ، وتجلى ذلك في نبذ القواعد القديمة في العمل الديمقراطي ، مثل إنصياع الأقلية للأغلبية ، والتي كانت تعني واقعيا إستبعاد الأقلية.
على أية حال ، سيبقي الموقفان مطروحان داخل الحركة العالمية ، وتطورهما رهنا بقدرة الحركة على تحقيق إنتصارات في مواجهة العولمة الرأسمالية ، ولا شك أن تفاعلهما سيساعد في بناء حلم جديد للبشرية بالحرية والمساواة والعدالة .
الخلاصة ، إننا إزاء عالم جديد ، تختلف طبيعة صراعاته بشكل جذري ، عما كان سائداً في العالم الرأسمالي – القومي السابق ، فقد تراجع دور الدولة القومية والمجتمع القومي ، وسيستمر في تراجعه ، ولن يعود ، وإن كان من الممكن أن يشهد صحوة الموت . فنحن الآن إزاء عالم واحد ، دمجه تطور قوي الإنتاج (المتجلي في ما يسمي بثورة الاتصالات) في العقدين الماضيين ، وتجاوز الأطر القومية التي كان عليها العالم السابق ، إنطلقت قوي الإنتاج لتدمج الكوكب ، بينما لازالت الأبنية القومية (المؤسسات الدولية والقومية والدول والأيديولوجية القديمة) قائمة تتعثر ، ويعي الجميع أنها لن تدوم ، ويجرى الصراع الراهن على نطاق الكوكب من أجل السيطرة على قوي الإنتاج الجديدة ، في هذا الإطار تطرح الشركات المتعدية الجنسيات المعتمدة والمندمجة مع المؤسسة العسكرية الأمريكية ، مشروعا يجري فرضه على الكوكب ، عرف باسم العولمة ، يستهدف تحكم بضعة مئات من أثرياء العالم في ثروات الكوكب ، ويديره سياسيا "بوش" وحفنة عرفت مؤخراً بأنها "حكومة خفية" داخل الإدارة الأمريكية . في المقابل ، هناك الحركة العالمية الساعية من أجل بناء عولمة بديلة ، وتشكل القطب الأخر في الصراع الدائر على نطاق الكوكب.
في هذا الإطار ، تواجه الحركة المصرية المناهضة العولمة ، شأنها في ذلك شأن الحركة العالمية ، إما أن تتطور على أسس قومية ، فتسعي لمواجهة أثار – مجرد أثار – العولمة الرأسمالية ، وتحسين الشروط التي تفرضها المؤسسات الدولية للعولمة الرأسمالية ، وتغرق وتستنزف في قضايا ذات طابع محلى وإقليمي ، تعمق من إنعزالها وإنفصالها عن الحركة العالمية ، أو أن تنطلق من مفهوم أننا نحيا في عالم واحد ، مشكلاته واحدة ، وأن بناء عولمة بديلة على أسس المساواة والعدالة ، التي تتجاوز إشتراكية عصر الدول القومية ، ستتم بمساهمة البشر على نطاق الكوكب ، ولن تجدي معها التحركات ذات الطابع القومي.
تدخل المجموعة المصرية ساحة الصراع العالمي الدائر ، في لحظة دقيقة تواجه فيها الحركة العالمية تحديات خطيرة في أعقاب 11 سبتمبر وإغتنام أمريكا صدمة الأحداث ، لتنفيذ برنامج مسبق ، وشن حرب كوكبية ، يقولون أنها "بلا نهاية" ، ويدعون أنها "حرب ضد الإرهاب" .. حرب تتسع كل يوم ، ويتزايد نصيبنا مما تخلفه من دمار .. حرب عنصرية بربرية ترفع رايات العصور الوسطي ، وتبذر الصراعات على أوهام دينية ، وتسعي لتقسيم شعوب الأرض إلى "طيبين" و "أشرار" ، ولا تستهدف سوى إخضاع البشر واحتكار ثروات الأرض.
وتتزايد النزعة العسكرية في زمن الحرب ، وتعصف تدريجيا وبسرعة بالحقوق الديمقراطية في أمريكا وأوروبا . ويتقدم اليمين الأمريكي والأوروبي بخطوات سريعة ليتولى الحكم.
تدخل المجموعة المصرية طرفا في الحركة العالمية لبناء عولمة مغايرة ، في لحظة مجابهة حاسمة ، تصادر فيها الحريات الديمقراطية ، وتفرض الرقابة على التجمعات والمنظمات الأهلية ، وعلى وسائل الإتصال عبر الأنترنت ، ويتهم المناهضون للحرب بأنهم إرهابيين ، وتلقى هذه الحملة بثقلها علينا ، لفرض المزيد من القيود ، ومنع الهوامش المحدودة المتاحة ، ولعل القانون الأخير للجمعيات الأهلية مجرد بداية على هذا المنحى.
في هذا الإطار ، تولد المجموعة المصرية في مفترق طرق ، إما أن تنشغل بالمعركة الكبرى الدائرة بين العولمة الرأسمالية الفاشية ، وبين حركات العولمة البديلة .. وتنمو كجزء فاعل في النهوض العالمي ضد الحرب والفاشية .. وتستعين بقوي الحركة العالمية لتعزيز مواقعها المحلية ، حيث لا يمكن في عالم اليوم تحقيق تقدم على المستوى المحلى بمعزل عن السياق العالمي.. إما هذا ، أو أن تنشغل بقضايا ذات طابع محلي ، وإصلاحي ، فتنعزل عن المسار العالمي ، وتنحسر ، وتحاصر.
في هذا الإطار ، يجب أن توحد جهودها مع الحركة العالمية من أجل جبهة عالمية ضد الحرب والفاشية.