كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي
الحوار المتمدن-العدد: 8065 - 2024 / 8 / 10 - 11:56
المحور:
الادب والفن
نظرة للامام ج1
مذكرات
ليلة الدلالة ج1
غالبا يصحيني مهاتفا منذ الفجر (اصح يا رجل ... الشمس ساطعة والطبيعة تدعوك اليها .. بصوت هاتف حماسي وفيه الكثير من الطرافة لكني نادرا اصحيه ضاحكا (افق خفيف الظل )...هو يسبقني ابدا ذلك في بقية الفصول اما شتاء فلا يجدني لاني قبيل البزوغ اتلمس دربي وعدة صيدي الى الشاطيء ..دائما نبتكر مفاتيح لدروب الحوارلكنا منذ اسابيع بدأنا نختلف حول ثيمة ( تطور الدلالة ) والمجاز ...كان بيننا جفاء وهو منهج تعلق بنا منذ اربعين عاما وعدنا ... هو ابدا يعود اما انا فلا مرونة عندي (لست مخطئا وليزعل الاخرون ) هكذا تعودت ابرر تزمتي ...لكن قدرته على الرجوع الي وطبعي بالنسيان وتبسيط الامور عاملان جعلا صداقتنا لا تتجمد طويلا ...هاتفني يوما بعد برود (اريد نصيحتك : انوي اقدم للدراساات العليا باللغة الانكليزية ) وافقته الرأي وشجعته ... وتدافعنا لبعضنا بقوة كان حينها مهتما بالنقد وكنت منهمكا بالدلالة .. قلت له انا حاليا اغوص باستكشاف جذور الشعر الحر والمجاز وكان يطمح بايجاد علم نقد متكامل يلخص بمصطلحات ومنطلقات محددة ...قبل ليلتين الساعة الثانية بعد المنتصف توقف الحوار.. تركته يسهر باحثا ونمت....
صحوت صباح اليوم مبكرا المبايل قرب رإسي..ههه قلت كيف نمت اذن ..كان صاحبي يهاتفني..تعودنا ان ننظر لهواتفنا لحظة نصحو قبل ان نتذكر السماء..نتفقد المتفقدين والرسائل..لم نعد نتوقع اي انقلاب...ولا البيان الاول..هه..هاتفته بعد نصف( هل نمت انت) قال نعم ثم تذكر فاجاب مازحا مسرعا( لكني نمت بعدما سمعت انفاسك اولا اي انت اول من نام).. ههه..كل يتهم الاخر بانه نام قبل صاحبه لحظات المكالمة والحقيقة..كلانا مشى به العمر..
قلت له يمكن ننزل للدارجة لنستنبط ما نستطيع مثلا مفردة ( طگلي)..هي اصلا تعني ضرب.. لكن..هنا تحول مجازي واضح...لكن للدلالة ظواهر واسباب..كم تناول منها العلماء العرب وكم اضاف لها الغرب.. هكذا وجدنا انفسنا منهمكين بتحليل الاية بلاغيا ( واشتعل الراس شيبا)..فهل اشتعل بمعنى توقدت استخدمت في الشعر العربي او انها استخدمت بمعنى انتشر وانتشرت...وهرعنا الى المعاجم..وكل بحث بعدة قواميس..وتدفق العين ولسان العرب والوسيط ومفردات القران والمحيط ... لكني قلت له علينا ان نجدها هناك في الجاهلية وصدر الاسلام..اما العصور الاخرى فقد تكون استخدمت مجازا..وهل اشتعل اصل..واشتعل توقد اصل ايضا فلا علاقة بالتطور الدلالي بينهما..واحتدم الجدا ل بيننا مرة اخرى...صاحبي لا يقتنع بوجود مجاز..في اليوم الاخر قرإ( الملك بلط الشارع ) على انها مجاز عقلي فضحك على الفكرة ..فعدنا لنتفق قلت له [[ المجاز العقلي فكرة بطرة وانا اوافقك الرإي..]].
وإجلنا الحوار هو غرق باللسانيات وانا انهمكت وصمت عن مجازيات..بعد اسبوع وقع بين يدي كتاب ( تطور الدلالة) للدكتور ابراهيم انيس وفيه بحث معمق عن المجاز والتطور الدلالي..واخبرت صاحبي قائلا هذا رجل نال الماجستير والدكتوراه من بريطانيا..ولعله يفيد في مجال بحثي...ونسينا انا مختلفان بالنظرة لموضوع المجاز واحتدم الجدال وتمدد الحوار مرة اخرى...
مضى اسبوع وشرعنا بقراءة البيان والتبيين للجاحظ..اكملت اول يوم ٤٥صفحة فاخبرته فانزله على الحاسوب..وذكرته ببيت ورد في البيان( يتقارضون اذا التقوا في موقف...نظرا تزل به مواقع الاقدام)... وعدنا للمجاز مع - يتقارضون-
لندقق مستعينين بالمعاجم على اختلافها..
[تَقَارَضَ الرَّفِيقَانِ الْمَوْقِفَ : تَبَادَلاَهُ
تَقَارَضَ الْجَارَانِ الثَّنَاءَ : أَثْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآخَرِ
تَقَارَضَ الْخَصْمَانِ النَّظَرَ : نَظَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى الآخَرِ بِحِقْدٍ وَغَضَبٍ
تَقَارَضَ الشَّاعِرَانِ الشِّعْرَ: أَنْشدَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا الآخَرَ
تقارض الصَّديقان: الكتبَ أقرض كلّ منهما الآخرَ]..لكن هناك معنى يهمنا ..قرض بمعنى قطع ومنه اتت تسمية القارض..
الان روب غريه (الشيئية )ج2
اثناء تلفنة وزيارة مع صديقي الاديب عبد الرؤوف الشريفي تناولنا موضوع القاص البصري محمد خضير ,بعد ان نشر قصة ( الاختطاف)على صفحته بالفيس ...وكنا مفتخرين من قبل وما نزال بانجازه متمثلا بالمجموعتين ؟
عادة ما تكتب المذكرات من الطفولة صعودا... ساقلب تلك القاعدة وابدأ من النهايات , ولقد اجتزت الستين وعلي ان اقرأ علم نفس الكبار فانا منهم .
واعتاد صاحبي ان يكرر جملتي (جبتها الك) , ويشير الى كتاب جديد او احد الافلام ..
لقد استغرقنا نحو اكثر من شهرين وكل منا كان يكتب روايته , الحقيقة في البداية كانت روايتي (تعال معي لنطور فن الكره ) في طور الاختمار , لم استلم اشارة على بدء ولادتها, كل ما حدث رايتني غير مستقر وجدانيا , متحفزا فكريا, في حال شد نفسي, لقد سبقني صاحبي بالشروع بكتابة روايته وقرر ان تكتمل في عشرة اشهر وكان ينوي المشاركة بها في مسابقة عربية ... لكن عليّ ان اجيب كيف ومتى ولدت فكرة
كانت الفكرة قد انبثقت بعد ايام من اقتراح صديقي القديم ... زارني يوما وقال ( ما رايك ان نقرا انا وانت وثلاثة من اصدقائنا كتابا ونحلله ؟ )... لم ارحب بالاقتراح كنت اعتقد قد نسبب انا وعبد الرؤوف حرجا لبعضهم ... بعد اسبوع تقريبا قرات رواية (انهم يقتلون الجياد اليس كذلك ).. واعتدنا ان نرى الفلم الماخوذ من الرواية , لقد سمعت بتلك القصة اول مرة من احد الاصدقاء الذي ساتحول الى صديق عائلته لربع قرن .. نظر اليّ عبد الرؤوف وكان مختصا بالانكليزية وقال: they shoot horses don’t it ....... كان مختصا بالترجمة واضاف .
وكانت تلك الرواية ادانة للراسمالية , لسحق الانسان , لصعوبة فرض البصمة او المشاركة في الجو الهليودي ..البطل والبطلة يحاولان الدخول الى ذلك الصرح العالمي , مصنع الافلام الاول في العالم , هوليود ,فتقف امامها الاسلاك الشائكة والجدران , فيقرران الاشتراك بمسابقة يمنح الفائز فيها جائزة نقدية ثمينة وعليهم ان يرقصوا بلا توقف يخيطون الليل بالنها ر لايام عدة ... فينهار الكثير اثناء ذلك ويموت البعض وتكتشف البطلة بان لا جدى من اي شيء فترجو البطل ان يطلق عليها النار .... الفلم يظهر لقطات من الراقصين يدورون في الحلبة بالتصوير البطيء , ويجسد اعلى درجات المرارة والانهيار في الاجساد ... وانشغلنا بالتحليل وباعتماد الرواية على الحوار واللغة البسيطة وتلك الادانة الصارخة لسحق الانسان خاصة ان الرواية كتبت ابان الازمة الاقتصادية التي ستقود لجحيم الحرب العالمية الثانية .
لم يكن صديقي قد اهتدى الى (جبتها الك ) عندما قال لي في منزله بصوت خفيض : ((<ايرينديرا البريئة > لماركيز طريفة ولافتة )), تقول لها جدتها واضاف وهو يبتسم ( لا يكفي ان تنفقي عمرك في البغاء لتسديد ما عليك من دين وقد تسببتي بحرق منزلي .)
هكذا تعرفت الى هذه القصة التي تفاعلت معها بحماس ولا ازال احب قراءتها بعد ان قراتها مرتين .
وعبر ( جبتلك سالفة ) , المتبادلة بيننا , نلفظها ونحن نبتسم تعرفت على كازو وروايته ( قادم الايام ) ذلك الروائي البريطاني الياباني الاصل ...صديقي رؤوف قد اكتشفها (جبتلك سالفة )... انه كازو حاصد نوبل وحملتها على اللابتوب وقرات 50 صفحة سالني في اليوم التالي عنها , اجبته (ما قراته عادي .. فلنصبر حتى نرى ). في اليوم الثاني اعدت قراءتها فسحني الكاتب بلا نفس ... كنت اقرا 30 الى 50 صفحة يوميا , متمنيا اللا تنتهي ... لكن صديقي لم يتقدم في قراءتها فقد كان له مزاج خاص بالقراءة انه ينطلق مما يسميه الاسلوب ولعله يقصد (جمالية اللغة )
ـ انه فن اخفاء الفن , قلت له.
(تبدأ الرواية في قصر اللورد دارلنغتون، وتعود بالذاكرة لما قبل وفي أثناء الحرب العالمية، وصعود النازي في ألمانيا والحرب المستمرة بين إنجلترا وألمانيا، وهذه مجرد خلفية تاريخية، تبدأ منها الرواية، وإذا دخلنا قصر دارلنغتون الذي يسرد منه مستر ستيفنز ما جرى من أحداث عظيمة، لديه ولدى العاملين به، سوف نجد كما الانقسام بين الأحياء: المسؤولين والأحياء أسفل القصر الذين ليس لهم شاغل إلَّا اتقان عملهم كما ينبغي، ولا اهتمام لهم بما يجري من أحداث سياسية، سواء في الخارج أم داخل القصر، وستيفنز المطلع على أمور كثيرة، ليس لديه كذلك اهتمام أكثر من متابعة العمل المنزلي، ورؤية كم هو المكان منظف ومرتب والأقداح لأي مستوى نظيفة والمشروبات الفاخرة، ولا يتدخل في شيء، إلَّا إذا طلب منه، وإذا تدخل كان ذلك في صرامة ودقة، وحذر، حتى إنه يخشى أن تظهر عليه العاطفة، وإذا حدث ووجد نفسه، قد ظهر عليه شيء غريب، عاد لسابق عهده، بالضبط كالآلة.).
(لو لم يمنحوه نوبل لكنت لمتهم .. )هكذا قلت لصاحبي .
بعدها حملنا الفلم (قادم الايام ) مثل بطولته أنتوني هوبكنز حيث جسد شخصية البطل رئيس الخدم باتقان وهو صاحب فلم (صمت الحملان ) ذلك الفلم الذي توقعت ان ينال الاوسكار واتذكر اني شاهدته اول مرة معا مع الاستاذ البريكان الذي لم يعجبه الفلم اما انا فقد عشقته حد الادمان وشاهدته اكثر من ثلاث عشرة مرة وما زلت احتفظ بنسخة منه كاثر ثمين لم يكتشفه غيري .
قلت لصاحبي ونحن نتحاور وجها لوجه او عبر الواتساب ( ان الفلم اضاء ما عتم من مقاطع في الرواية مثلا منظر ابيه في الحديقة وهو يتمشى قليلا فيعود لنقطة الانطلاق ويستانف المشي حيث شاهدته مساعدة رئيس الخدم من الطابق العلوي ودعت ابنه رئيس الخدم ليشاهد اباه وليدهشه ما يجري , فقد تهاوى العجوز عاثرا ببلاطات ارتفعت قليلا عن ارضية كان يتقدم عليها فهوت من يده صينية المثلجات والقناني قرب المخدوم وضيوفه ... تشاهد سقوطه بعرض بطيء مذهل بالفلم , وكيف تتطاير الاواني والقناني وغيرها , كان الاخراج متقنا ورغم اتفاقنا على اهمية الفلم الا اننا اختلفنا في تقييم الرواية .
ومن برغسون الى كتاب -حياتي مع بيكاسو- كل يوم كشف جديد , فان تاخرت يتلفن لي
ـ ها اليوم ماكو سالفة جديدة ؟
ولم يتاخر احدنا عن اكتشاف شيء , كان الحوار متواصلا والقراءة والمشاهدة في اوج حرارتها .
ضجة بعد سقوط النظام ج3
قال الدكتور حامد الظالمي وهو يسجل في ورقة الاسماء
هل تريد ان تكون صحفيا ؟
لم يخطر في بالي يوما باني ساكون صحفيا رغم معرفتي بان عددا كبيرا من الروائيين كان صحفيا .
لم اكن مستعدا لكتابة رواية الا انني جربت ذلك بعدما هجّرنا طوعا الى الناصرية اثر اقتحام الايرانيين ارض الفاو -اقصى جنوب العراق -واستاجرنا هناك منزلا متهالكا بلا ابواب او شبابيك , تحيطه مساحة من ماء آسن ومزابل ... هناك جربت ان اكتب اول رواية هكذا تبدا (عوعة الديج وايّست الزعلانة فنحى فرشاته جانبا..).
الا اني اكتشفت بانها رواية غير صالحة رغم اشادة صديقي علي عبد النبي بها وتاسفه على اهمالها وعدم تطويرها وكان يذكر المقطع الاول مرارا لاصدقائه ... كتبت اذن تلك الرواية بين 986-987 قلت للدكتور حامد (نعم ) فسجلني وهكذا اصبحت صحفيا .
جرى ذلك في مقر نقابة المعلمين القديم ... الذي تحول مسرحا لمختلف الفعاليات بعد سقوط النظام : اناس تهتف اخرى تنتخب البعض يخطب او يعلن .. كان المقر صاخبا لا يخلو يوم من الحشود التي تتدفق لا يخلو يوم من الحشود التي تتدفق .
واجتمع العقيلي الذي صار رئيسا لاتحاد الادباء لاحقا قبل ان يصاب بمرض ويختفي .. كان العقيلي خطيبا انفعاليا ولم اعرف عنه هذا الا بعد زيارته الى بيت البريكان مع زميلين او ثلاثة برفقته وفيما كانوا يتحاورون اندلع بارائه بصوت مجلجل وحركات يدين متوترتين .
في مقر النقابة كان يواجه الادباء وهو على كرسيه فقال :
( هناك من يمضي الى مقر البريطانيين من مثقفين وادباء وخاطب المخرج فائز الكنعاني
ـ اليس كذلك يا فائز
فاجابه وهو واقف (نحن سمعنا طشار الكلام),
فقال العقيلي ( ونحن نلم الطشار ).
واعتلى المنصة الاستاذ احسان وفيق السامرائي بحضور عدد من الادباء الجالسين وكان قد رشح نفسه لرئاسة اتحاد الادباء ... فاعترضته اصوات مزمجرة
ـ انزل.. قال احدهم
ـ ايها البعثي اخرج من هنا .
واراد الاستاذ ان يوضح ونطق ببعض الجمل , لكن احد الجالسين (قيل توا عثر على جثة اخيه الذي اعدمه النظام السابق ) زمجر (اننزل ).
في تلك الاجواء المشحونة بعد سقوط النظام تدفق طوفان المشاعر والشجب والادانات , لم يكن الناس قد افيقوا من الصدمة ...بعد 35 عاما من الكبت والحصار والحروب ومسلسل الاغتيالات ومصائد الموت للمعارضين او لمن يطلق نكتتة سياسية لا احد يستجيب الى الحكمة او المنطق لانهم نسوا بان احسان السامرائي نفسه ضحية , فقد اقتادوه من قاعة الخلد , المصيدة المجزرة ومن الصعب ان تصدق بانه نجا من الموت بعد تعذيب وحشي تعرض له لحوالي سنتين خاصة في معبد البهائيين وقد افرج عنه صدفة وقدرا قبيل تنفيذ الاعدام به بليلة تحت التعذيب خاصة في معبد البهائيين ببغداد .سأله الصحفي بعد ذلك بسنوات : (ماذا فعلت وانت تسمعهم يقولون عنك : هذا سيعدم الليلة تعذيبا ؟ فاجاب (نمت )
لقد نشروا في اوراق ودفاتر اسماء البعثيين ورجال الامن المطلوبين والصقوها على اعمدة الكهرباء والجدران حتى ان احد البعثيين البسطاء المنتمين للحزب (لتمشية الحال) والذي كان يشاهد ببدلة خاكية والبندقية بوزنها تثقل كاهله , كان نحيلا مصفرا عيناه كمصابتين بالرمد هامسا ان نطق , يظهر للرائي كأنه مريض لكنهم زجوه في الجيش الشعبي .. هذا الرجل كسر رجله بنفسه وحين زرناه ورجله في الجبس حدثنا بقصته (فقد حلم ذات ليلة بجرذ يخرج من احشائه فانتفض جسده فعلا ورفس الحائط بعنف فكسرت ساقه ).
وفي مقر حزب العمل اشير لرجل بدين بان فلانا بعثي فقال ..
في مقر حزب العمل كانت البسط والاثاث بسيطة , يوزعون اكواب الشاي على الضيوف وكتب العالم .. ويتفوهون بارشادات سياسية
وسألت رجلا من اهالي الاهوار
ـ كم بعثيا قتلت فاجاب
ـ خير من الله (اي عددا كبيرا ).
الشاعرمهدي طه ج4
ادرك ان قيمة الماضي هي في الدروس وتمتين الارادة, ما عدا ذلك تفاصيل زائلة , يهمني التخطي والتطلع للامام , ولهذا اعمد دائما الى تضبيب الذاكرة , ولم احتفظ بالاشياء , ولم ازر الاموات الا قبرين لشاعرين في مقبرة الحسن البصري : بدر شاكر السياب والبريكان ,الضرورة قادتني لهناك فقد كان معسكري في الدريهمية وكنا نقصده انا وصديقي الشاعر كريم جخيور ونمر عبر المقبرة ..
بعد فترة وجيزة من لقائي بالشاعر حيدر الكعبي في المكتبة المركزية عام 1973تم الحكم عليه لمدة سنة في سجن البصرة فكان لزاما علي ان اقوي الاواصر مع صديقه الشاعر مهدي طه , كنا نزوره معا في السجن ونعقد هناك الندوات الادبية المختزلة وفي يوم ما استعار مهدي مني قلم حبروبعد فترة خط فيه شعره , و عاد ممسكا دفترا مخططا صغيرا قرات منه قصائد مختلفة , عميقة ومتنوعة : هذا الديوان قيل احرقه ابوه احتجاجا على غياب مهدي دون ان يدرك بان نجله ذهب في رحلة الموت .. وكانت قصيدته المطولة (اغنية حب ) من ابرز القصائد في الديوان :
(كيف أَشْـحَـذُ حُبَّـكِ؟ إنّي نسيتُ اللغات
بأيِّ اللغاتِ أُصَـعِّـدُ هذا اللهيبَ؟ بأيِّ اللغات؟
الفراغُ هو الحَلْقةُ الذهبيةُ بيني وبينكِ، مأذونُ عرسٍ يزاوجنا
الفراغُ يَدُقُّ، الفراغُ يجيشُ، الفراغُ يقول
الفراغُ هو البحرُ، هل تبصرين اشتعالي؟
الفراغُ هو النارُ، نفسيَ عنقاؤُهُ
ومبلولةً تخرجين
دون أن يوجد النهر مبلولةً تخرجين
أيَّ جِسْرٍ من الوَهْمِ أبني إليكِ؟ وأيَّ طَوَافٍ على الكلمات؟
ما أنا غَيْرَ صَمْتٍ يُفَتِّشُ عن كَلِمة
كذبةٍ تتغذّى على اللهبِ المتورِّدِ،
شيءٍ بلا أيِّ شيءٍ،
وجودٍ يطوِّفُ محترقاً،
لعبةٍ،
ضِعْتُ، ضُيِّعْتُ، عِشْتُ،
نُقِشْتُ على حائطٍ،
لم يكن لي زمانٌ
أنا هو تأريخُ موتْ . .
ورمادٌ صديءٌ على عُـلْبـةٍ فاخرة.).
وبحكم طبعي كنت اكثر اصدقائه تواصلا مع عائلته بعد رحيله واحمل عاطفة فياضة دفعتهما و دفعوا للشك بصدقي واقنعهم احد اقربائه من رجال الامن ان يشهدا علي في محكمة الثورة ... فقضيت عاما في سجن ابي غريب سنة 1976بتهمة (قذف السلطة ).
كيف نستطيع ان نقنع الاخرين بان مهدي طه كان طاقة شعرية خلاقة , اجهز عليه غرقا بنهر الرباط في ظروف غامضة حيث اكد تقرير الطب الشرعي الذي قراته بان اثار كدمات على جسده , وان تفسخ الجثمان كان في بدايته قبل ان يطفو .
استقرت في البصرة ظاهرتان :موت الطاقات الادبية في ظروف مريبة وفقدان نتاجاتهم وعزوفهم عن نشر اعمالهم .
لقد تنبأ مهدي بموته كطبيعة الشعراء البصريين فقال مخاطبا حيدر الكعبي: (اذا ابتكر الموت ثانية لعبة للغرق
ساضمخ كفي بدمّي
واصرخ من غرقي ابتعد ).
يهمني كتابة النص ولهذا يتناول كتابي (البريكان )المجال النقدي واراءه ومواقفه محاذرا الكتابة عن سيرتة الا تلميحا رغم اني زاملته لاكثر من خمسة عشر عاما , وعشت في داره لسنوات , ولا ازعم ان الكتابة عن الاخرين او الذات معيبة لكن مزاجي هكذا , اصهرني في النص واطور مرشحات الماضي , ولهذا لم استطع ان افضح عن الشاعر مهدي طه سوى قصيدة شاء القدر ان تنجو من القدر, ان يعفو عنها وتقع بين يديّ.. وبالامكان الخص مهدي ب (كان سلوكا شعريا متفردا ):
(خذ كلابك للصيد يا سيدي
فالقطيع الذي صدْتـَه جالباً لقطيعْ
دعْه يرقدْ هناك بأمنْ
دعْ عصايَ ، خطايَ ، تجدْ نبعها
فماذا أقول لهذي الليالي
وهي تجري أمامي بعري ٍ شهيّ
سوى أنّ لي سيـّداً ولديّ قطيعْ؟
تمرّغنَ باللحم ِ يا نزواتْ ،
تلفـّعْـنَ بالضحـِكاتْ ،
تثنـّيْـنَ ... كـُـوْرٌ محَـمَّـلْ ،
تراقصْـنَ كالصَـبَـواتْ.
آه ِ ما أبعدَ الإشتهاءَ وما أوحشَ الطرُقاتْ!
خذ كلابَك للصيد يا سيدي
تحفّ مهللةً بكَ ،
منذا يلـفــّعـني ،
إذا جُـنـّتِ الريحُ ، هذا الرداء؟
وماذا يطاردني ،
وقوسي يفتـّـش عن صيده ِ ، وسَـط َ الغابةِ المُـسْـتكنـّةِ ،
يجعل من جنحِ عصفورةٍ كفناً للضياء؟
صرخاتي التي لستَ تعرفها ،
ذبالة خيلي وصيدي ،
ومائدتي في العراء مرقـّصةً برنين الكؤوس.).
احد الايام كنا نمضي في كوت الحجاج ضحى , شتاء ,بين صفين من النخيل في الدرب الترابي , اشرقت بدفيء بهي فرأيت الى مهدي طه يتسمر وهو يحدجها , ثم بدأ جسمه يرتعش حتى سجد
خانته الذاكره الصديق حيدر الكعبي حين كتب (قضّيت الليلة في خيمة العزاء المنصوبة قبالة بيت الشاعر فيما سمي بمحلة حسينية العبيد في منطقة الجمهورية. قلتُ "قضيت الليلة" ولم أقل "نمت." كنتُ وحيداً في الخيمة وأرقاً ) فلقد كنت معه في تلك الليلة .
في جامعة البصرة / بمنطقة التنومة دعينا لالقاء القصائد .. كنا انا والكعبي ومهدي نفضل الجلوس في المقاعد الخلفية ...واعتلى المنصة مهدي فيما كان يعالج انفه بمنديل .. رأيتهم ,بعض الحضور, يستهجن منه ولم يعلموا بانه كان ينزف اثر ضربة تلقاها ...زمرة من الطلاب المؤدلجين اعترضوا سبيلنا في الحرم الجامعي .واجهزوا عليه ضربا .
صرح يوما (الكتاب الوحيد الذي تعذر علي تفكيكه هو (اسس الاستقراء ).كنا مبكرين على الحياة مندفعين بحماس دافق لالتهام المعارف والاداب , ورغم ان شراعنا نحو الحداثة ,فان التراث كان موضع استقطاب ,في القصيدة التي اشترك بها ح الكعبي بمسابقات الطلاب (القول بعروة الصعاليك ) / التي فازت بالجائزة الاولى / تدرك تأثير التراث...فقد استهلها باستعارة من الشاعر الجاهلي تأبط شرا (واني امرؤ عافى انائي شركة .. وانت امرؤ عافى انائك واحد , افرق جسمي في جسوم كثيرة واحسو قراح الماء والماء بارد ).مبكرا استوعبنا علم العروض وتجاوزنا محنة الايقاع .
<< كل ما املك من دنياي ما قلت اذن صفري قبري / مهدي طه >>.
مجزرة قاعة الخلد/احسان وفيق السامرائي. ج5
نحن نمتلك ذاكرة هشة , لهذا نكرر اخطاءنا,اتذكر بعد السقوط قلت لهم .
بعد ان افرج عن الكاتب احسان السامرائي الذي نجا باعجوبة من مجزرة الخلد , التقيته مرات في منزله بالجزائر .. ولانه كان يسكن بالقرب من الشاعر الرائد البريكان / الذي لم انقطع اكثر من ثلاثة ايام عن زيارته وطالما كنت امكث في منزله لايام فقد تكررت زياراتي لاحسان السامرائي ... لفت البريكان نظري ــ عليك الا تتفقد من هم تحت المراقبة ـ لكني لم اكن مهتما بتلك الملاحظة ..وكان احسان يقصد البريكان في منزله .. اعرف كيف يفكر البريكان ..انه يلمح للسلطة (بابي مشرعة للجميع لكني لا اقصد احدا حتى من وضعتهم تحت المراقبة ).ورأيت السامرائي انيق الروح والمظهر في غرفة الاستقبال التي صممت لتكون مكتبة زاخرة وتحفة فنية .كنت استعير من كتبه النادرة التي فقد الكثير منها بسبب الاعارة حتى اني حين طلبت مرة اخرى كتاب (الايطاليون ) قال متاسفا اسفت مثله فهو كتاب في غاية الاهمية يتناول فيه الكاتب الظواهر الاجتماعية.في المجتمع الايطالي ويربطها بجذرها التاريخي مثلا اصحاب القرون الذين يجلسون جوار منازلهم للدعارة .
كان الاستاذ احسان دؤوبا غزير الانتاج ورايت العشرات من مسودات الكتب بعناوين عدة مركونة على الرفوف, منها كتاب ضخم بعنوان (الفوال ) اعدته له لاني لم اتمكن من تنقيحه وطباعته ...ورأيته يتملل من كثرة الزائرين (كلما شرعت بالكتابة طرق زائر بابي ) . / كما كان البريكان يتضايق من الزائرين المتعاقبين كلما هم ان يستحم لانه ينتظر وقتا ليفور الماء في قدرين شتاء اذا الضيوف يشغلونه حتى يبرد ./ كان يدخن بالغليون تبغا فاخرا لكنه عانى ابان الحصار فكان يخلط التبغ المحلي مع الايطالي ويتأفف من ذلك .
ـ هل كتبت شيئا عن النظام
ـ كتبت
وتوقعت ان يكون كتابا مهما لانه يملك الاسرار..بعد سنوات طويله وقد انهار النظام دعاني يوما لمنزله وطلب مني ان انقح الكتاب ..بعد يومين اكملت التنقيح اللغوي ..الكتاب يلقي الضوء على مجزرة <قاعة الخلد > .
مرات زرته وهو ماسك فرشاته واقفا امام مسند اللوحة يتدرع بقطعة قماش (صدرية ) فوق ملابسة الانيقة وقد تبقعت بالالوان ,...
مبكر الحكم على تلك اللوحات التي تذكرك بطبيعة اوربا.. وهي تتمتع بالتناسق وتدرج الالوان وقوة الاضاءة . ومن غير المعروف ان كانت محاكاة او بعضها او هي ابتكار خالص , الا انها ذكرتني برسوم الطبيعة في القرن التاسع عشر . ـ اكتب بعد المنتصف والكهرباء مطفأة .. ودرجة الحرارة في البصرة نصف درجة الغليان .هناك رأيت القاص محمود عبد الوهاب يتوّجه شعر فضي , يجتاز الحديقة الصغيرة المزهرة ويصعد السلم حيث يسكن في الطابق الثاني من منزل احسان , مطويا على روح اضاءتها روح الدعابة والتطلع للجمال :< يحسبون النقد المرسل اليهم بالدينار اما انا فاحسبه بالدولار لاني افكر بالسفر > .. مع هذا لم التق به هنا في غرفة الاستقبال المترفة بالمصنفات والتحف الخشبية والمسودات ..قال احسان يوما معتذرا (اضطر لاودعك .. علي ّ ان اطهو ).
حين اهداني روايته / شتاء اللقالق / قال (لست اهديها لاشخاص يركنونها على الرف ).
تقرأ قائمة بمؤلفاته ((الأنهار السبعة (قصص قصيرة).
«حركة الفنون التشكيلية والعمارة التراثية».
رواية (تلك النيران الزرقاء 1978).
لوحات من البصرة: عبير التوابل والموانئ البعيدة (2008).
(الموت والشاعر)
رسائل إلى ابنة الشمس.
للأطفال أن يحبوا).
الانتظار عند العشب. )) .
حولت ا لطائرات الاسرائيلية مائة ألف كتاب إلى رماد حين اغارت على مكتبة سمير منصور الشهيرة في قطاع غزة فعبر عن حزنه لوكالات بقوله "40 عاما من حياتي دمرت في أقل من ثانية"، وهو يقف يتأمل ما تبقى من المكتبة . في كتاب "إبادة الكتب"، للألمانية ربيكا نوث، تقول "إن المكتبات تكون أحيانا هي الحصون الأساسية ضد الاندثار الثقافي، وتدمير هذه المكتبات آلية يسعى عن طريقها نظام سياسي ما إلى إضفاء شرعية على هيمنتهم على أقليات متنافسة، أو تأكيد مزاعم بأحقيتهم في إقليم أو موارد، وقد يسعى أيضا إلى تدمير أي سجلات أو مدونات يمكن أن تشكل تهديدا لموقفهم".نحن هنا تدمر مكتباتنا بطرق اضافية اخرى فضلا عن الحروب ..بالتجويع والتهجير والاهمال .. فكم اديب ومثقف باع كتبه ابان الحصار على العراق لاجل الرغيف ..هل من الانصاف ان تكون البصرة وفيها هذا الكم اللافت من الكتاب بلا مطبعة ..او مكتبات ..صدمت من اسابيع حين شرعت ببحث عن تقييم القصة الستينية بالعراق بان لا مصادر في مدينتي ..وحين كتبت نصا لم يكتمل عن القاص احمد خلف حول قصته التي نشرها في الاداب ولفتت النقاد / خوذة لرجل نصف ميت / توقفت لندرة المصادر فكاتبته وليس من طبعي وصادف ان اقيمت ندوة ادبية في قاعة هندال احتفاء به فتكرم باهدائي مجموعته الاولى (نزهة في شوارع مهجورة ) ومجموعة اخرى ...
قيل (كفى من القلادة ما لاح على الجيد) , مثل لا ينطبق على مؤلفات احسان السامرائي ..فهو شاهد على العصر في اكثر الحقبات العراقية توترا . العشرات من مؤلفاته تغلفها الفولكسات بانتظار الفجر . لقد فقد مجموعته الستينية الى الابد في ظروف جائرة , كما فقدنا كتب البريكان بعد مقتله .. وان تأكد لي بانها نجت من المحرقة ومحفوظة باياد امينة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ ليلة السكاكين الطويلة أو «عملية الطائر الطنان» أو ما يعرف بالألمانية بـ«روم بوتش»، هي عملية تطهير وقعت في ألمانيا النازية بين 30 يونيو و 2 يوليو 1934، نفذ فيها أدولف هتلر وبتشجيع من هيرمان غورينغ وهاينريش هيملر سلسلة من عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء لأجل تعزيز قبضته على السلطة في ألمانيا، وكذلك للتخفيف من مخاوف الجيش الألماني حول دور إرنست روم وكتيبة العاصفة(إس أ)، التي هي قوة شبه عسكرية تابعة للحزب النازي. ولقد عرضت الدعاية النازية عمليات القتل كإجراء وقائي ضد انقلاب وشيك مزعوم من قبل إس أ تحت قيادة روم.
معظم عمليات القتل نفذت بواسطة القوات شبه العسكرية شوتزشتافل (إس إس) تحت قيادة هملر، والغيستابو والشرطة سرية. كان القتلى مجموعة من قادة كتيبة العاصفة، وأبرزهم إرنست روم، الذي يعد من أبرز حلفاء وداعمي هتلر.
منتدى الجمعة الادبي ج6
لم يخطر في بالي اني ساكتب مذكرات يوما , ليس حذرا ولا خوفا او تحرجا او انها لم تكن تجربة حياة غنية , انما اعتقدت بان على الاديب ان يحول الاحداث لجمال الفن .. وانت مضطر لذكر اسماء ما يضعك على احتكاك معهم , وهو ما تصورتني في غنى عنه. اجبت صديقي الاديب باني ما جادلت احدا في الضحى الا وتحاشى مصافحتي في المساء .في عمر مبكر اشتبكنا بصراع مر مع الاخرين تمركز في الافق الثقافي .. شيئا فشيئا فقدنا حماس الميدان حتى اصبحنا نندهش من الفروسية الثقافية .قال لي البريكان (وكنت انقل له احداث الصراع في المنتدى الادبي الذي اسسه اتحاد الادباء في البصرة ) : قال .في تلك المرحلة كانت نظرية الاجيال مهيمنة ولونا من الخرافة درعا يحتمي به الاكبر سنا من الادباء . انهم يزنون المواهب بالسن متناسين الشاعر الفرنسي رامبو وعشرات غيره ممن اذهلوا العالم بمواهبهم في اعمارهم المبكرة ..فكنا نحن الشباب نقيم ندواتنا ضحى يوم الجمعة اما هم اولئك الكبار فندواتهم مساء .وقد بلغت فكرة المجايلة حد التندر حين ترى رجلا ستينيا يطلقون عليه
المنتدى الذي اسسه واشرف عليه الشاعر الراحل حسين عبد اللطيف,لم يدم طويلا فقد وجهت جامعة البصرة دعوة لادباء البصرة لاقامة مهرجان ... وتفاجأنا ـ نحن الاصغر عمرا , اعضاء المنتدى بان لا احد منا سيشارك .ليلتها قال لي الناقد غفار العطوي (هؤلاء يتجاهلوننا وسوف ننسحب عنهم وسنؤسس اتحادا ادبيا او منتدى وستكون انت فيه سكرتيرا ) , قاطعنا الاتحاد بعد جلسة مكاشفة ساخنة جرت في مقر اتحاد الادباء . وسمعت الراحل حسين عبد اللطيف يقول ونحن نغادر وهو محتدم ويشير بيده المتوترة الينا (انظر اليهم انهم يتكتلون ).كان الادباء البصريون الشبان يلتقون مجموعات في المشارب والمقاهي يشعلون هناك حواراتهم , لم اكن معهم حين دعاهم الراحل حسين عبد اللطيف لينشيء بهم (منتدى الجمعة الادبي) مطلع التسعينيات .لقد ادرت عشرات الندوات هناك حتى احتج احد صحفيي البصرة اثناء ادارة احدى الجلسات (الا يوجد غير هذا الولد ؟).ذات يوم زارني المخرج فائز الكنعاني في منزلي وقد تقرر ان اقدمه غدا في جلسة المنتدى ..قرات له المقدمة ..فرفع لي بصره مستغربا (اهكذا تقدمني ؟!).كنت خطيبا حينها .وسمعت رئيس اتحاد الادباء يقول عن بعضنا (هؤلاء لدي معلومات عنهم تقودهم الى حبل المشنقة ).
حدثان علقا في ذاكرتي عن مجموعتنا : اعتقالنا في الرضوانية ومشاركتنا بمهرجان اقامته كلية الطب بجامعة البصرة .اتذكر ليلتها المثلجة لم انم .. لم اكن املك اجرة التكسي وعلي ان استقل الباصات متنقلا بين بقع آسنة , متقيا المطر جوار جدران البيوت ... في شبه ظلمة جائرة ...وصلت المستشفى التعليمي مبكرا .. لم يسمحوا لي بالدخول حتى سمح للمراجعين .. عانيت من برودة الطقس وشعور من يستضاف ويقيد في ساعة للمرور ..بعد حوالي ساعة دخلت القاعة ورأيت بعدها زملائي المدعوين...
عندما اعتليت المنصة كنت في اعلى درجات الانهاك و الغضب .. لم يكن يهمني الانشاد , طاقة شجب بركانية تحاول النفاذ..لقد غطسنا في مستنقعات الحروب ..وظهرت علامات التصدع في المجتمع .واجهت الجمهور , ابعدت المكبرة عني ..حدقت في الصف الاول بتمعن ..كنت اعلم بان عددا من طلاب كلية الطب واساتذتها قد انخرطوا في تنظيمات معارضة : هيكلية وخيطية فقلت سابدأ بالحجاج وانتهي بالمناسبة (عن يوم الشهيد )...وقرأت بصوت جهوري بعدما ذكرت المصادر (لَمَّا رأى عيونَ الناسِ إليه مشرعة حَسَرَ اللِّثامَ عن فِيْهِ، ونَهَضَ، فقال :
أَنَا ابنُ جَلا وطَلاَّعِ الثَّنَايَا متى أَضَعِ العِمَامَةَ تَعْرِفُونِي ,
يا أهلَ الكوفةِ، أَمَا واللهِ إِنِّي لأَحْمِلُ الشَّرَّ بِحِمْلِهِ، وَأَحْذُوهُ بِنَعْلِهِ، وَأَجْزِيهِ بِمِثْلِهِ، وَإِنِّي لأَرَى أَبْصارًا طَامِحَةَ ، وأعْنَاقًا مُتَطَاوِلَةً، ورُؤُوسًا قد أَيْنَعَتْ وحانَ قِطَافُها، وَإِنِّي لَصَاحِبُها وكَأَنِّي أَنْظُرُ إلى الدِّمَاءِ بينَ العَمَائِمِ واللِّحَى تَتَرَقْرَقُ، ثم قال :
هذا أَوَانُ الحرب فَاشْتَدِي زِيَمْ .. قد لَفَّها اللَّيلُ بِسَوَّاقٍ حُطَم
ليس بِرَاعِي إِبِلٍ ولا غَنَمْ .. ولا بِجَزَّارٍ على ظَهْرٍ وَضَمّْ
....
ثم قال :
قَدْ شَمَّرَتْ عن سَاقِهَا فَشَدُّوا وَجَدَّتِ الحَرْبُ بكمْ فَجِدُّوا
وَالقَوْسُ فيها وَتَرٌ عَرَدُّ مِثْلُ ذِرَاعِ البَكْرِ أو أَشَدُّ
لا بُدَّ مِمَّا ليسَ منه بُدُّ
إِنِّي واللهِ يا أهلَ العراقِ، ما يُقَعْقَعُ لي بالشَّنَانِ، ولا يُغْمَزُ جَانِبِي كَتَغْمَازِ التِّيْنِ، ولقد فُرِرْتُ عن ذَكَاءٍ، وفُتِّشْتُ عن تجربةٍ، وجريتُ إلى الغايةِ القُصْوى، وَإِنَّ أميرَ المؤمنينَ أطالَ اللهَ بقاءَه نَثْرَ كِنَانَتَهُ بينَ يَدَيْهِ، فَعَجَمَ عِيدَانَها، فَوَجَدَنِي أَمَرَّها عُودًا وَأَصْلَبَها مَكْسَرًا، فرماكم بي لأنَّكم طَالَمَا أَوْضَعْتُم في الفتنِ، واضْطَجَعْتُم في مَرَاقِدِ الضَّلالِ).
القاء تلك الخطبة في مثل ذلك الجو المتوتر كان اندفاعا الى التهلكة ...الجمهور يهتف ويصفق الجلاس في الصفوف الامامية يرفعون ايديهم مشجعين...القيت الخطبة كاملة وغادرت المنصة ...
اخبرني الصديق عبد الكريم سلمان (احد اعضاء منتدى الجمعة الادبي ) , ان مسؤولين في المعارضة ارسلوه الى ليبيا ليلتقي مظفر النواب هناك وكانت التنظيمات الاسلامية المعارضة شرعت بالتقرب الى اليسار(على حد قوله ) ..<التقيت النواب في شقته واطلعته على قصيدتي ( تعلل فالهوى علل .. وصادى انه ثمل .. وفيما كان في حلم .. تساقط حوله الزجل .. تذكر اهله فبكى .. وكابر دمعه الخضل ) فلما قراها النواب قال (ساجاريها فتنتشر ) > .وهكذا استمعنا الى الفنان البصري رياض احمد يؤدي مقطعا منها ...(عراقي هواه وميزة فينا الهوى خبل -يدب العشق فينا في المهود وتبدأالرسل ) .. واستغربت مما ذكره لي سلمان < وكنت اعرفه نقيا صادقا > .. لانه في كتاباته الشعرية كان يعاني بعضا من الضعف العروضي .
بعدها كتبت ابيات نظمية اجاريها والقيتها في احتفال بجامعة البصرة بعنوان :<الاخوة كرمازوف>
(ترى من يذكر بن جبير والاصحاب قد ثملوا
ومن سيديم صرخته وملؤ قلوبنا الطلل.. )
في مهرجان السياب شارك عدد من اعضاء المنتدى .. كان الجو ممطرا .. نقلونا الى بيت السياب بالحافلات .. هناك عبثا بحثت عن نهر بويب في جيكور وسألت مسنّا اجاب <لقد طمر ... كان هنا ..> مشيرا بيده لبقعة حزينة .. انقذها شعر السياب من مجزرة النسيان . (وتنضح الجرار أجراسًا من المطر
بلورها يذوب في أنين
«بويب يا بويب!»
فيدلهم في دمي حنينْ
إليك يا بويب
يا نهريَ الحزين كالمطر).
اذهب الى جيكور في يوم مطير بشعور رجل ستيني وستعرف كيف كتبت (انشودة المطر ).حيث تغرق القناطرمن سيول الانهار التي اتخمها المطر.. وتحكم الظلمة الا من فانوس ..وتحجم الحركة بعد المغيب ,تدفق الاشباح , الصمت ,سوى ما يصدر من السعف والاشجار والكلاب .البعد العميق عن المركز .شحة الزاد وبدائية الحياة .
(اتعلمين أي حزن يبعث المطر
وكيف تنشج المزاريب اذا انهمر
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ..؟.)
في طريق العودة من جيكور حين هممت ان اصعد للباص تزاحمت مع مدعوة فاعتذرت فسألتها (انت فلانة ؟). فنفت وذكرت اسمها وعرّفت بانها الرسامة التدريسية في جامعة البصرة .. ما احرجني اني ذكرت اسما لسيدة تكبرها بسنوات ..انها الدكتورة جنان محمد دكتوراه فنون تشكيلية (رسم ) من جامعة بغداد .كلية الفنون الجميلة ومن معارضها الشخصية:
في بابل عام ١٩٨٧
بغداد عام ١٩٩٢
وفي البصرة عام ١٩٩٢
زرتها بعد ايام في الحرم الجامعي وكان لقاء مثمرا .
في الحافلة وقع بين يدي كتاب طهمازي (سيادة الفراغ.. محمود البريكان دراسة ومختارات عبد الرحمن طهمازي/1989.).. لم اتفاعل مع الكتاب .. بعد اقل من اسبوع قلت للبريكان < كتاب الطهمازي عنك غير منصف > فقال -لو قرأت مقالته الاولى عني ؟!). وكان يشير الى مقالة طهمازي : < محمود البريكان الاحتكام الى الاسرار المنشورة في المثقف العربي ايلول- تشرين الاول- 1969.. المقالة الوحيدة التي حركت البريكان فنشر ردا عليها .
شارك في بيت السياب بتلك المناسبة بعض الشعراء ..اشترطوا علينا ان نختصر كسبا للوقت ..انهم يسلقون المناسبات .. صعدت ولم اقرا شعرا قلت (كسبا للوقت ساتخلى عن الالقاء.. لكن الشاعر البصري عبد الرزاق صالح كان محتدما فواجه الجمهور وقال بصوت جهوري مفردا يديه جاحظا (من حقي ولن اختصر ).
اتذكر في كلية الادارة والاقتصاد دعينا مرة وحذفوا بعض اسمائنا فقلنا جميعا بانا لن نقرأ شعرا .. تدفقت ضجة واعتذروا وسمحوا للجميع ..مرة في قاعة عتبة منعني المقدم ان اكمل اخر صفحة من محاضرتي حول البريكان ...وساطلق على هذا السلوك بظاهرة (اختصار الجلسة ).
الشاعر البصري المترجم علي عبد الكريم. ج7
السنة 1968.. شتاء.. الصف السادس الابتدائي في الطابق العلوي من مدرسة اوراس الابتدائية ..المطر يبلل زجاج النوافذ, تقدم الاستاذ علي عبد الكريم وكتب بالطبشور على سواد الصبورة (البدل )بخط جميل والتفت الينا وقال : .وكنت تعرفت اليه قبل سنتين اذ دخل يوما للصف الرابع الابتدائي مستبدلا بمدرس الرسم المجاز , واخذ طبشورا ورسم فتاة كدمية تحيطها خطوط عشوائية كاعشاب , وطلب منا رسمها وتلوينها ..بعد فترة صمت التقط دفتر رسم لاحد الطلاب وتوجه للصبورة وقال وهو يعرضها (انظروا ..سيكون رساما ).. حقا صيّر منها ذلك الطالب الموهوب تحفة فنية .
بعدها علقت في لوحة الاعلانات..جوار النشرة المدرسية التي عرضت لوحة طبيعية لطالب رسخت بذاكرتي لسنوات : صفان من النخل يتوسطهما نهر مزرق بهي ربط بضفته زورق حزين.
اخطأت مرة بالاعراب فخاطبني (اتتأخر تدريجا تدريجا حتى تصبح مثل اخيك ) , كان يمنعنا من التكلم بالدارجة ..
اشار له طالب جريء ... كان المطر ينهمرلكن البرد رحيم , اجابه (حقا شرط ان يكون الدماغ صافيا ), مشيرا بسبابته الى رأسه. كنا نشاهد من النافذة بقالا نشتري منه لعبا للاطفال وقرطاسية وحلوى .. محل رسمة للفوضى ..
تقع اوراس في منطقة الطويسة وقتها كانت تجمعا سكانيا للاثرياء وميسوري الحال, منطقة جميلة ونظيفة .. لكل منزل حديقة .. ترى شجيرات البرتقال والليمون من خلال الاسيجة الواطئة المزينة بالمتسلقات من الرازقي والجهنمي ..طالما برزت نسوة سافرات بلا حجاب يمسكن انبوب الماء ويرشن مدخل المنزل . في الطريق اليها نعبر الجسر ونمر على اشجار النخل فنتسلق لنقلع الطلع .لكني امر من زقاق ترابي يقع يسار معمل الطحين فالتقط النبق والتوت والرطب . من هنا ,من باب المدرسة للدخول نجتاز ممرا على جانبيه نبتات الآس والجوري تظلها البمبر وسدرتان ونخلة .. منه غادرنا بنظام نحن الصغار لنتوزع على شارع دينار في استقبال الرئيس عبد السلام عارف يوم 11 نيسان 1966م،حيث ظهر في سيارة شفروليت مكشوفة ليتفقد الميناء ومنطقة المعقل ووضع حجر الأساس لمصنع الأسمدة الكيمياوية، وافتتاح مصنع الأسمنت وكان أكبر معمل إسمنت في الشرق الأوسط ونحن نهتف : (احنة جنودك يا سلام )...لكنه لقي حتفه اثر خلل بالطائرة ولم يكن الاهالي مهتمين باسباب الخلل وهل كانت الطائرة إنكليزية الصنع من نوع (Westland Weesex) ام روسية من طراز ميل موسكو. وهي واحدة من ثلاث طائرات كانت في موكب الرئيس... فتسمع معتوها يقطع الدرب ذهابا وايابا على الدرب الترابي جوار سدة طينية شاهقة .. وهو يقول (صعد لحم نزل فحم من قدرة الله ).. ويردد الناس < اتلاثة طارن فد سوة اثنين رجعن للوا والثالثة قائدنة بيها اشتوا >.
عودة لمدرسة اوراس
الدوام بعدنا لمدرسة عتبة بن غزوان ...ويجذب نظرك اسماء الشوارع والمدارس والاحياء تخلد العلماء والقادة العرب , في احد الايام دخل الاستاذ علي عبد الكريم واستفسر عن طالب خطه انيق .. فرفع احد يده وقدم له دفترا واخذ يتلو اليه .. فسّرت ذلك عندما وجدت كتاب (الورد لا يرضع الدموع : علي عبد الكريم 1968 ) وهو كتاب نثري اقرب للخواطر .. بعدها عثرت على كتاب (ديوان النار ) . حفظت منه (لا نبتغي اوراده تلك التي -لم يختف الثعبان تحت ترابها -كي يلدغ الاعداء عند الشمة . وعلقت ببالي مفردة <المياه الزرقة >.. مستقبلا سالتقيه واساله عن هذا الديوان الصغير الحجم فقال(ارجوك لا تسالني عنه فقد كتبته لاستفادة مادية )...في مطلع السبعينيات .. اخبرني احد بان علي عبد الكريم كتب قصيدة منها -امش على درب الصلاة لعالم ..
كتب البقاء على البقاء خلود-.جذبتني النغمة وحيرني الاعراب -خاصة مفردة خلود-..وسألته عنها بعد حوالي نصف قرن فقال لا اتذكر الا انها خطت على لوحة بيضاء من الورق المقوى وهي مودعة لدى الصحفي الكاتب (محمد صالح عبد الرضا )..الذي يظهر انه اضاعها حين استفسرت منه عنها.
في الاعمار المبكرة ترتبط اشياء في الذاكرة كوشم لا يمحى .عام 1975 ارسل علي الاستاذ علي عبد الكريم فالتقيته في مدرسة بمنطقة التميمية قال (رأيت فيك صمت الشعراء لكني لم اتوقع منك شاعرا )... واتفقنا على موعد باحدى مقاهي البصرة .. كان معنا صديقي الشاعر حيدر خضير الكعبي .. كان لقاء حماسيا ومثمرا الا انه كان يمجد البياتي فيما كنت غير ميّال لهذا الشاعر .علق الكعبي بعد ذلك < انت فاجأته فهو معجب بالبياتي >.اتذكر كلمته الاخيرة لي قبل الوداع :(( اهنئك على هذا المستوى الثقافي الذي توصلت اليه ))
افتتح الاستاذ محلا للترجمة القانونية مقابل سينما الكرنك في موقع ملهى السندباد التي ازيلت .. كنت ازوره في فترات متباعدة ..احيانا لديه طلاب في محله: واحد او اثنان يشرح لهم في سبورة صغيرة .. لم اسأله كيف صار مترجما.. قيل دخل مدرسة الامريكان في البصرة .. كان يسكن في قلب العشار ثم انتقل .. التقيته مرة فحدثني انه اقتنى عودا وهو يستمتع به .. انه هاديء الطبع , متزن , جميل الروح , انيق.لا يمكن ان انسى يوم التقيته في موقع الترجمة بعد سقوط النظام ـــ كنت اعمل في اذاعة المستقبل ومراسلا لاذاعة العراق الحر في الجيك ــــ وسالني <هل قرات بعض قصائدي ..نشرتها >قلت لا <قال بحزن :-اذن لمن نكتب ؟ ! -شعرت بخجل واحراج .كان اخر لقاء بيننا يوم قصدته في معهد لتعليم اللغات مقابل نهر العشار .. وجدت لديه كتابا باللغة الانكليزية (ذ بيست اوف امريكان شورت ستوري -افضل القصص الامريكية القصيرة -) وكنت اقتني هذا الكتاب الذي صدر اول الثمانينيات ولاني لا اجيد الانكليزية كم تمنيت ان يترجمه الا انه ترجم كتيبات للاطفال.. فليس من طبعه ان يشرع بعمل مجهد. في ذلك اللقاء اهداني كتابين من شعره .. وقبل ان اودّعه وجدت على الرف كتاب علم الاجتماع يقع بحوالي 900 صفحة للعالم والمؤلف الاشهر حول العالم انتوني غدنز, كنت بحاجة للكتاب الذي لا يتوفر بمكتبات البصرة .. قال هو هدية لك فرفضت قال (لا نظريساعدني لاقرأه وانت افضل من يقتنيه ).
هذا الاديب لم يمنحه اتحاد الادباء هوية ولم يسألوا عنه (انا في مكاني ان منحوني هوية فاهلا اما ان اسعى اليها فلا .).
الفنان منقذ الشريدة ج8
(وماذا تركتم سوى عزلتي وذاكرة تتصدع ,
وروح تقاوم في لجة القوقعة ,
ايها الراحلون
غفلة , بعدكم اين انقش ظلي ؟!! - ك.ح .س).
في الطريق المؤدي الى مركز تجمع السينمات في البصرة , اجبتهم بغضب (ما علاقة قراءة قصيدة بهذا ؟),ولم يسمحوا لي بالاشتراك .العطلة الصيفية من عام 1973 بعد ان اجتزت الثالث المتوسط , مررت بفترة تسامي وشعور بالانتفاخ المعرفي .. لم يكن احد يمنحني بوصلة فعمت وحدي خطأ في بحر المعارف فقرات فرويد ورأس المال انجلز ولينين وفلسفتنا واطلعت على فلسفة العلوم وسير الثوريين ومجلدات الوجودية منها ثلاثية سارتر وكتابه العصي واللامنتمي لكولن ولسن ..في لقاء مع الشاعر حيدر الكعبي وسط السبعينيات باحدى المقاهي جوار منزله في شارع الكويت , التفت اليّ مستغربا (اراك تسعل ؟!)..لم يكن زكاما انها الحمى التي يصاب بها كل من قرأ رواية الجريمة والعقاب بوقت مبكر .كم كنت مخطئا حين اقترحت على صديقي علي عبد النبي في اول شبابه ان يقرا كرمازوف والجريمة والعقاب لدستوفسكي .. فقد اصيب بما تعرضت له من حب العزلة ومناخ التوتر. لست وحدي فقد حدثني الرائد البريكان يوما (رواية الجريمة والعقاب قرأتها فعرّضتني لهزة عنيفة -م). في هذا الطقس كان صديقنا الفقيد الشاعر مهدي طه يقول (اسس الاستقراء هو الكتاب الوحيد الذي تعذر عليّ هضمه )..
محل خياطة التربية
لاول مرة ساكشف السر , لقد احتملته لاكثر من اربعين عاما ...ارسل لي القاص الصديق غضبان رسالة ما زلت احتفظ بها قال فيها (ادعوك تساند فكرتي : ننخرط في حزب البعث وندمر التنظيم من الداخل ) افزعتني هذه الفكرة السريالية .. كان النظام باوج قوته .. الاف اعدموا او اعتقلوا على الشبه او الطرفة او جملة عابرة ..وقد شهدت عددا هائلا تم اعتقالهم بتهمة (السب والشتم -التي كانت تحكم بسنة او ثلاث ) .. ورأيتهم في سجن ابي غريب لا حصر لهم .. بعضهم لا علاقة له بالسياسة : مجرد زلة لسان او حالة سكر ..فكيف لا افزع من فكرة صديقي غضبان وكان منخرطا في الحزب الشيوعي .بعدها باشهر تم اعتقاله واعدم .
في هذا المكان -خياطة التربية -.. دخل علينا منقذ الشريدة بهيأة اثارت فضولي ولهجة اقرب الى السورية ....من الصعب ان تسجل مذكراتك عن احداث مر عليها نصف قرن مستعينا بذاكرة اجهدتها المصنفات وعجلات الزمن وانت تحاول ان تكون موضوعيا منصفا .لا اعرف كيف ولكن العلاقة مع الفنان الشريدة تطورت ..وكان شارع الوطن - مركز البارات -وضفة شط العرب ميدانا للقاءاتنا ..صحبني عصرا ذات يوم لمنزله في ابي الخصيب .. وصلنا قبيل المغرب وكنا في حالة افلاس .. لحظات واتى بقدر كبير وضعه امامي وقال ساعود , بعد ذهابه رأيت طبخة تشريب متخمة بالعظام واللحوم .. تثير لديك طبخات اهل الخصيب شهية الطعام ..بعد نصف دخل بخطوات عسكرية وصخب ..يحمل قنينة خمر لاذع (بطل عرق مسيّح ).منتصف الليل اتى بكتاب منعني ان اراه ..معروف عن منقذ مزجه ايات وابيات في لوحاته..صباحا عثر علي بيض تحت السلم فالتقطه ومضينا معا في القرية وهو ينادي (من اضاع دجاجة تبيض , < منو الضايعله ..؟ > .تناديك هناك علب الطرشي الخصيبية معلقة في الشبابيك الخشبية الثقيلة .تغريك نكهتها في الحوش الواسع الذي تقتحمه الشمس طيلة النهار .هنا عثرت امه عليه ممدودا تحت سريرها وحين استفسرت مستغربة اجابها (الجنة تحت اقدام الامهات )... تجولت هناك في محترفه المسخم..حيث تنتشر ادوات النحت بفوضى واهمال .
اتفقنا انا والشاعر حيدر الكعبي وبعض زملائنا على مقاطعة منقذ لعله يحد من طبعه الفوضوي .. لكنه داهمني يوما في نقابة الفنانين قبيل منتصف الليل واراد ان يصل لي لكنهم منعوه فقد اتخذوا قرارا بمنعه وهكذا حصل التدافع في النقابة .. واخرجوه ..شعرت بالاطمئنان .. لكنه فاجأني لحظة مغادرتي , كان يقف على ساحة اسد بابل - الذي سينسفه متشددون بعد السقوط – لم اقف... وهو يصرخ بي بصوت مدوي مشمرا يديه , مهتزا : (خمر شيراز نفط اسود .. خمر يروي العدو ويرويك يا روح الحبايب هم )..لم تنجح محاولاتنا بالحد من طبعه .. كان يتنقل وقنينة الخمر في جيبه فيحتسي وقت يشاء .
في شارع الوطن كنا نلتقي في مكتب من اسماه منقذ (الشيخ منذر ), وهو من كنعان .. قال لي -لست شيخا انه لقب ابتكره منقذ- ,منذر شاب نحيل لا يتمكن من النوم الا بتناول حبوب مهدئة .. عمل في المقاولات وخسر مرارا وكان ابوه عالم دين ..كان يغيب فيعود للمحل بكتب بودلير وكولن ولسن .منقذ كان يستهجن شراءه الكتب ويرى في سلوك صاحبه بطرا (لا شغل له .. من سنة لم اقرأ كتابا بجد .).
في كوت الحجاج حين وصلت الباب الهائل للضيوف شعرت بان قبضة الفن تشلني فسالت منذر من صمم هذا الباب ؟ّ !! أجابني منذر ( انه منقذ الشريدة .. ).اي ازميل متفرد واي خيال !.. في البيت مصنفات وعناوين لا حصر له صفت في رفوف من الصاج . ساعود لهذا المكان بعد سنوات لاصورعشرات اللوحات التي تركها منقذ الشريدة حين كنت محررا في جريدة (حوار ) البصرية .تلك اللوحات التي وصلت لهذا المنزل خوفا من تدمير القنابل الايرانية التي كانت تتفجر في شارع الوطن .. <اشترطت عليه ان يسكن معي شرط ان يترك الخمرة > .قال ذلك لي الشيخ منذر قبل اعدامه مع اخيه الاكبر منه سنا ..واضاف منذر (حقا انه لا يجيد الرسم ان لم يكن ثملا ).
في مكتب منذر والمساحة التي امامه نفذ الشريد ة العديد من اللوحات والمنحوتات... قال لي يوما وكانت نحتا لفتاة سومرية غير مكتملة (هل تشم العطر منها ؟) فدنوت اذا بعطر جاذب مميز يتدفق منها.. وكانت اصلا جذعا لشجرة قطعه منقذ ليخلد منه فتاة سومرية مذهلة . داخل المحل طلب منه منذر رسم فتاة لدكتور شهير ..صديقه- كنت قد زرت هذا الرجل في مشفاه الخاص باول شارع الكويت وهو دكتوراه في التخدير من المانيا -.لونها منقذ الوانا عدة .. وغير مرارا من شكلها النصفي.. انه يرسم بفرشاة عريضة ينفذ فيها ادق التفاصيل .. رأيته كلما وضع نقطة لون على الوجه ظهر للفتاة شكل جديد .. جزع الشريدة من طلبات صاحبه بالاعادة والتطوير..قال لي (اصبح عليها لون بسمك اظفر وهو لا يرضى ). احد الايام اتى منقذ ووضع لمسات على الفتاة ..فبرز من الصدر شيء شبه فاضح ... فاحتدم معه الشيخ منذر : (ويلك هذه بنت صديق .. بنت الدكتور ..).
كنا في اخرة الليل نعود انا ومنقذ لمكتب منذر ..يفتحه ويضرب بفرشاته بلون ازرق غامق على محابس لامرأة ونمضي .. اسبوعا وهو يكرر تلك اللمسات وكنت اراقبه بصمت .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منقذ الشريدة (1946 ــ 2014 )توفي الفنان الشريدة بولاية تنيسي في مدينة ناشفل الامريكية .
ولد في ابي الخصيب , اكمل الثانوية فيها ثم التحق بكلية الفنون الجميلة ببغداد في اختصاص النحت ,بعد ان اكمل دراسته غادر الى السعودية وعين هناك معلما في معهد اعداد المعلمين , سافر الى بيروت فايطاليا فالتحق باكاديمية دانتي للفنون , حيث التقى بالفنان محمد غني حكمت وصار صديقا له .اضطر لترك الدراسة فعاد للعراق ليسافر الى الامارات فافتتح محلا للرسم والنحت والتخطيط.
تم اسره في ايران لخمس سنوات .. نفذ خلالها لوحة الطف و37 لوحة تمثل مجزرة حلبجة على اثرها فاز الفريق الايراني بالجائزة مما اتاح لمنقذ ان يغادر معسكر تختي <طريق القدس > ويبقى بايران حرا فتمكن من الهرب لسوريا ثم لامريكا التي قضى فيها نحبه مغتربا .
نفذ نصب ذات الصواري للبحرية مع الفنانين قيس عبد الرزاق واكرم خان ونجاح الجزائري .
ترك مئات المنحوتات واللوحات مضيّعة في البلدان والعراق .
الحركة الجوهرية ج9
1972نهض بصير بدشداشة عتيقة وكوفية غير مرتبة وبيديه كتب .. قاطع الروزخون في احدى الحسينيات بمنطقة البجاري :(مظهري يفصح عن مخبري ... وهذه كتب فلسفتنا واقتصادنا ) وجلس . قبلها رايته رافعا المجلدات وهو يصيح في سوق المطاعم بالعشار (هذا هو كتاب الفيلسوف الاسلامي محمد باقر الصدر .. البنك اللاربوي وفلسفتنا ).. رجل قصير اعمى ..كان العشار سيلا هادرا من البشر وام البروم حية حيوية حتى الفجر حتى قيل .. كانت مقهانا على بعد امتار من مطعم ابو ستار الشهير ومائة متر تبعد عن ملهى حمورابي ...جذبتني تلك المصنفات قبل ان اقرأها ..نتحدث عن ينبوع المراهقة الاول .. عمر ثلاث عشرة سنة ..حيث المخيلة محلقة وفضول المعرفة موج هادر.مع شحة بالكتب والافتقار الى بوصلة من احد.
سنة 1973 اقتنيت الكتاب (فلسفتنا ).. طباعة فاخرة وغلاف انيق ..ماذا تتوقع من شاب انعزالي بلا ارشاد وهو يقع في سيل متلاطم من المعارف ..التقيت حيدر الكعبي في المكتبة العامة .. اخبرته يوما ( قرأت كتاب -كانت -بفتح النون ) فضحك مرددها بتسكين النون ..مضيفا -.اذن عليّ ان اقرأ لعشرات العلماء والفلاسفة ..لاول مرة ادرك عمق جهلي ..وكانت المهمة عسيرة وانت متعجل ..الفرويدية .. الوجودية .. الماركسية ..الظاهراتية ...قبلت التحدي وكنت اقرأ عشر ساعات يوميا على الاقل .. نوم قليل وكدح ثقافي .
اهم ما استوقفني في فلسفتنا موضوعة (الحركة الجوهرية ) -للفيلسوف المتأله الملا صدرا الشيرازي التي بينها في كتابه الرابع اﻷسفار اﻷربعة -…
<<الحركة الجوهرية هي الجسر الذي كشفه الشيرازي بين المادة والروح، فان المادة في حركتها الجوهرية تتكامل في وجودها وتستمر في تكاملها حتى تتجرد عن ماديتها ضمن شروط معينة وتصبح كائنا غير مادي أي كائنا روحيا فليس بين المادي والروحي حدود فاصلة بل هما درجتان من درجات الوجود والروح بالرغم من انها ليست مادية فان لها نسبا ماديا ).
اطلعت صديقي الرائد البريكان على هذه النظرية فقال (ان لم يسبقه احد فهو انجاز علمي هائل ), ولكني وجدت جذورا لهذه النظرية في الفكر العربي وان بدرجة اقل وان الفكر الاوربي خاض بمثل هذا البحث : ((ظهرت هذه النظرية عام 1948 على يد جورج غاموف، ثم أكّدتها الأبحاث العلمية المتلاحقة في عامي 1960 و1970، حيث أنّ جورج غاموف ذهب إلى القول بوجود تحرّك بدئي في المادة أو الكون في مجال لا يتجاوز حيّز البروتون الواحد.))
لكن في تلك الايام مع فقر للمصادر وندرة اليد الساندة من سيشرح لي هذه النظرية ...قلت انها لا تفرق اذن عن التنظير الماركسي (الروح مادة تطورت )..
اثناء معركة الفاو اخر الثمانينيات هجرنا اختيارا فسكنا الناصرية اقرب محافظة للبصرة .. هناك دخلت المكتبة العامة وطلبت كتاب (الحركة الجوهرية ) فقال المشرفون : < هذا الكتاب منعت استعارته ).
بعد السقوط بسنة رأيت شيخين قرب الجوازات سألت احدهما عن النظرية فقال سانادي صاحبي فهو مختص بالفلسفة ... صاحبه ارشدني بان اطلع على المؤلفات الفارسية لتفهم الموضوع .
في احد جوامع البصرة ...قيل لي اذهب اليه .. يعطي دروسا متقدمة باللغة العربية ..سألت طلابه قبل وصوله عن اعراب جملة بسيطة من مبتدأ وخبر فيها تقديم .. فاحتجوا - انت تريد اختبارنا !!-..اتى المدرس معتما بعمامة سوداء , وجه بهي , وركود نفسي مثالي .والقى درسا من بن عقيل فاستغربت لذلك ...قال لي لك ربع ساعة فانا ادرس نهارا بحي الحسين وليلا هنا .. قلت له طلابك يجهلون الاوليات وانت تدرسهم بن عقيل , قال (نحن كتبنا اعلانا يشترط شهادة اعدادية او معهد ).. في اللقاء الثاني بعد اسبوع كان الوقت موسعا بيننا فسألته عن الحركة الجوهرية اجاب راجع علي الكوراني ودارسين مختصين بالحركة الجوهرية في ايران .
اليوم وانا استذكر كل هذا الذي جرى قبل نصف قرن لا انصح مبتدئا ان يدنو من أي علم او فلسفة دون ان يتدرج باستيعاب الاوليات .وان المدرس الماهر ان توفر للفرد يحجم له الجهد. بقيت طيلة منع كتاب فلسفتنا نجم الجلسات اشيد به واشرح منه ..رغم اختلاف مع بعض اطروحاته لاحقا ..لكن هذا الكتاب <فلسفتنا >الذي اصبح متاحا بعد سقوط النظام .. وبسعر زهيد نادرا ما رأيت احدا يقتنيه او يقرؤه .. كان المنع حافزا اليه .
لقد تمكن النت من اعتقال ( الاخرين ).
مهن ابان الحصر - بيع الاكياس الورقية ج10
الحصار الدولي على العراق نتج عن قرار مجلس الأمن 661 في1990 نتيجة الغزو العراقي للكويت, استمر 13 عاما .
صرح استاذ لطلابه بكلية الاقتصاد في جامعة البصرة (انتم لا تعلمون كيف يكون الحصار مدمرا .. بعد فترة حين تمضي للاسواق ويتعذر عليك شراء بدلة لطفلك عندها تدرك الكارثة ) كان هذا في الاسابيع الاولى للحصار .وكالاواني المستطرقة ,لم يكن تأثير القرارمزلزلا دفعة واحدة , بل نخر المجتمع شهرا بعد شهر ونحر الكثير من قيمه وثوابته شيئا بعد شيء.
ولكي يقاوم المجتمع مجزرة الجوع كان عليه ان يبتكر مهنا لا يبعثها الا خيال جامح.(ريك بلبولك )-زوده بفطور-مهنة زاولها مفلسون فيأتي احدهم الى سوق الجمعة مناديا بتكرا ر(ريك بلبولك ) وهو يحمل علبة ملئت بالذباب .(جمع الفصم -نوى التمر-)بكرت ذلك الصباح الاسود فوجدت اطفالا ونساء متمنطقات بالعباءات الحائلة وهم يجمعون الفصم من القمامة.. ليباع باسعار حسب الوزن .. وليطحن بعد ذلك فيمزج مع الطحين .(بيع الكمية ) : لم يظهر جليا تاثير الحصار في سنواته الاولى لكنه اصبح يفتك بارواح العراقيين بعد ان طالت مدته , فترى العديد من العوائل اخذت تترقب ما نسميه محليا ب (الكمية ) وهي سلة غذاء تحتوي على الرز والطحين والسمن بالدرجة الاساس يوزعها وكلاء محليون ... وهكذا اصبحت الكثير من العوائل تعتاش عليها .. فتبيع قسما منها لتشتري بسعرها مخضرات (طماطم وبتيتة وغيرها ).. بامكانك ان تقول ان سعر بيع الكمية اصبح مرتبا لها رغم انها لا تفي بالغرض ولا تشبع ...تاتي امراة في صباح ما وتصيح (وزعت الكمية ) فيندلع الحماس ويهرعون لدكاكين الوكلاء وربما تسمع زغرودة او تصفيق او ال .
(تقشير الروبيان ) : من المهن النادرة هي تقشير الروبيان مقابل مبلغ...........فتمر سيارات نوع محملة بكميات من الروبيان ..فتاخذ منه العوائل حسب عدد افرادها (البنات خاصة )...فيتم تقشيره داخل البيوت وقد ازكمت رائحته الانوف.
بيع التبغ الفلة <التتن>
عاد تتن اللف يتصدر اهتمام المدخنين وانتعشت تجارة ومهنة بيع التبوغ الفلة واوراق البافرة .. وسجائر المزبن .. وقفز النواب للذاكرة:
(ايام المزبن كضن ,دكضن يا ايام اللف ).
(بسطات بيع الادوية ـــــ علاج):
كسدت ادوية الصيادلة ونشطت صيدليات البسطات لرخصها.... فتجد ضالتك في بسطات تتصدرها نسوة او رجال خبراء(فقط اشرأو صف الداء) وانت لا تدري اين وكيف صنعت ..من جص او في مختبرات.
(شخاطة بنعال )
مهنة غريبة ......كان يدفع بعربة يدوية في الازقة ويصيح <يلي تخبزين... شخاطة بنعال > منغما ماطا صوته , (اي يا من تخبزين تستبدل شخاطة بنعال)... وهكذا تقتني شخاطة مقابل نعل بلاستيك مستهلك .
وماذا عن حراسة الملابس النسائية (المنشورة على الحبل لتجف).. ومهنة الدوارة (العتاكة )-الذين يشترون أي جهاز عاطل او النحاس المحروق- لهم محالهم - وبيع الخبز اليابس ومهنة منح السلف (كثيرا ما هرب مستلموها قبل تسديد الاقساط ).. وبيع ورق الشاي المستعمل بعد التجفيف ..جمع اكياس الجنفاص, شراء السلاحف للسحر والرزق ,تصليح القداحات , بيع البراغي المستعملة , تعديل النجارين المسامير الصدئة وانتشار اكلة السياح -سائل طحين الرز يشوى على مقلاة معدنية محدبة -
(بيع الاكياس الورقية ) : انشغل الناس بتصنيعها وتذكرت الاكياس الورقية الجوزية التي كان يستعملها البقالون واحيانا يجمعون عليها الحساب .. اخر صورة علقت عن الاكياس حين مررت بسوق جوار سوق هرج ورأيت مسنا يزن تتن لف بكيس صغير ويطلب من عامله ان يزوده بالكيس الذي قرب يده ..انها محنة الشيخوخة .. ولكنه شيخ ميسور الحال لانه امامي اعطى مبلغا لعشرات المتسولين وذكر ان له بساتين واملاكا , هو هنا ليقاوم مصهرة الزمن لا ليبيع .
كان الاهالي يصنعون صمغا من تفوير الطحين مع الملح .
(( بيع اوراق بالكيلوات ))
انتشرت هذه الظاهرة بسبب شحة الاوراق...حيث فتحت محلات تتكد س فيها الاوراق من مجلات قديمة ودفاتر دوائر (وصولات )ودفاتر عتيقة وكتب مدرسية..تباع بالوزن..تاتي للبائع وتطلب <فد كيلوين ورق >.كات خضارة العشار مركزا لبيع الاوراق المستعملة .
بيع الكتب او المكتبات:
وماذا يملكون ؟!.. في ايام الحصار ترى عددا من القراء والادباء يجسلون القرفصاء وهم يعرضون كتبهم الاثيرة في سوق الجمعة : نظرة لتحفة ستضيع واخرى لخطى المشترين .
هكذا تمكن الحصار من نسف الكثير من طبيعة المجتمع وثوابته ..وحين صحونا من الهزة العميقة بعد السقوط لم نكن نتقن الا الفوضى والضياع .
(انتم يا من ستظهرون
بعد الطوفان الذي غرقنا فيه ,تذكروا حين تتحدثون عن ضعفنا الزمن الأسود الذي نجوتم منه -بريخت ).
< الحرب جعلتنا بلا قيمة. لم نعد شباباً. لم نعد نأخذ الحياة من المعركة. نحن هاربون. نحن نركض من أنفسنا. من حياتنا ... نحن معزولون عن النشاط العقلاني ، وعن التطلعات الإنسانية ، وعن التقدم. - ريمارك >.
اذاعة العراق الحر ج11
نحن ستة صحفيين اول من منحوا هويات من بغداد في البصرة, كتب في هويتي (عضو عامل -محرر ). لم امارس الصحافة قبل السقوط بل لم يخطر ببالي ذلك .احيانا تزجك الاقدار والصدف في المواقف .ربما منحوني تلك الصفة لاني كنت اعمل في اذاعة شناشيل مراسلا وصحيفة (حوار )..كنت وقتها اسكن وزوجتي في منزل الصحفي ماجد محمود البريكان -اشتراه بعد وفاة ابيه الرائد-.. يقع جوار الجوازات ,على بعد بضع مئات الامتارمن تمثال العامل في ام البروم مركز البصرة ومائة مترا عن نهر الخندق.كنت زاخرا با لحماس , ليس لاني هكذا بطبعي وحسب بل لاني كنت اؤمن بان الصحافة قادرة على توجيه الرأي العام وترسيخ الديمقراطية . نحن الذين نجونا عبر ثلاثين عاما من الكبت والمصهرة كيف نكون وقد هبت علينا رياح الحرية ..لم نكن نتفهم معنى (الفوضى الخلاقة ).
كلفتني اذاعة العراق الحر بان ارسل تقريرين يوميا الاول بعد منتجته واخر حول الوضع الامني ارسله مباشرة لها بعد الثالثة ظهرا فيسجل ثم يبث .الوضع الامني انت تمر على الوصف ببرود ربما , لكنه : سرقات تزايد منسوبها اغتيالات سياسية وجنائية عبوات تزرع في الطرقات وجوار المؤسسات , صواريخ تقذف على مواقع البريطانيين ....
اذاعة العراق الحر- التي انطلق بثها من الجيك في 30 تشرين الاول 1998، وتوقفت في 31 تموز 2015- تتحمل التقارير التراثية والشعبية وهو ما يلائم مزاجي....اعددت تقارير عن المشاتل والاعراس والموانيء, والمدارس...... (ونتوقف مع مراسل اذاعة العراق الحر في البصرة(كاظم حسن سعيد) في زيارته الى بعض المشاتل التي شهدت انتعاشا بسبب حملة تشجير ساحات المدينة..وطالب البعض من اصحاب المشاتل بتوفير قطع من الأراضي الواقعة على ضفاف الأنهار لأستغلالها في زراعة الشتلات بدلا من شرائها من العاصمة بغداد..في 8-2007 ). كان ذلك توطئة تتلوها فتاة بصوت جاذب.
اقتنيت راديو وكنت على السطح اصغي في الليل من على السطح الى تقاريري التي تبث مرتين .
صدفة ,التقيت يوما في مقهى الادباء , بالشاعر البصري مجيد الموسوي , كنت عابرا, قال لي (يا صديقي , في الراديو سمعت صوتك قلت للعائلة صمتا ربما اعرف صاحب التقرير , بعدها ذكر اسمك)..الموسوي بعد ان رحل اثر مرض عضال لا ادري كم احدا يتذكر ابياته التي ارددها ابدا .
اتذكر يوم تلفنوا لي من الجيك( اليوم مناسبة سقوط الصنم وعليك ان تبث تقريرا على الهواء .ذكرت لهم بالتقرير لكنهم سمعوا اطلاق رصاص فاستفسروا مني ونحن على الهواء مباشرة >... ومررت بلحظة احراج لكني تسارعت للقول (انها طلقات ابتهاج اعتاد عليها العراقيون >.
نجا ماجد من الاطلاقات التي وجهها اليه ملثمون غروبا قرب منزله ..اخبرت اذاعة العراق الحر بذلك في اليوم الثاني حيث مكثت بالبيت .. ظهرا بعد الساعة الثانية , كنت في الطابق الثاني مع زوجتي ,وصادف وجود امرأة هي قريبتها معنا وطفلها ..اقتحمت زمرة مسلحة المنزل بعضهم ملثم ..<لا تتحركوا >..وانزلوني للطابق الارضي وعبثوا باوراق وملابس ووثائق .. قالوا وانا ارقبهم(كن شاهدا نحن لا نسرق )..
سحب كبيرهم طلقة وقال بعدما صعدت معهم (سنمضي فان صرخت واحدة منكم سنصفيكم).. واضاف (عليكم اخلاء البيت خلال يومين او نهدمه بالقاذفات ...غادرنا المنزل بعدهم بساعة .. ليلا تلفنوا لي (الم نقل لك لا تنشروا الخبر... تعال وخذ بندقيتك .. نحن لم نقصدك) لم اذهب اليهم < البندقية لكم) هكذا اخبرتهم ... لكنهم عادوا بعد فترة لينهبوا البيت ... سرقوا مصوغات ومقتنيات و حاسبتي.. كيف اذن سارسل تقاريري...
بعد فترة اقتنيت حاسبة اخرى .. تركتها في البيت المتهالك الذي استأجرناه, ومكثنا اياما عند اقربائنا ... حين عدت للمنزل لحظت ان البيت ارتفع فيه الماء لاكثر من نصف متر واغرق الحاسبة .. كان انبوبا قد كسر واغرق المنزل.عانيت من مشاكل تقنية خاصة التسجيل عبر ال (الادوبي ا دشن ).ولم استلم هويتي من مقر الاذاعة في بغداد حذرا من تأزم الوضع الامني .. وحين زرت الاذاعة بعد سنوات قالوا (نحتفظ بهويتك لكنا لا نتمكن من توفيرها لك الان .).كنت اتابع من اذاعة العراق الحر برنامج -ايام الخير - قبل انضمامي اليها وما زلت احن للاصغاء اليه .ليس هذا كل شيء .. انه صورة مصغرة عن ذكريات تحتاج عشرات الصفحات ...
مديرية الامن ومحكمة الثورة ج12
في رأس شارع السوق بالحي الشعبي , تقدم شابان وسلما ثم قرفصا قربي : قلت اقرأ اولا ..في السطر الخامس نهرني (كافي ..وقّع )... التفت لاحد قدم وقال (سنرسل هذا لجهة مجهولة )
بعد ساعات ,اخر العصر هبطت درجات لتحت الارض , رأيت اربع غرف ابوابها من قضبان متوازية .. ادخلوني احداها .. حيث سامكث اربعة اشهر في شهر تموز بدرجة حرارة تفوق نصف درجة الغليان ...ثمانية معتقلين ناصريين يجلسون متجاورين جوار الحائط جهة اليسار , قانطين الا كبيرهم وصاحبه البدين ,الذي كان يضرب اصبعا ويدبك بالارض بقدمه اليمنى متسلطنا (يا حنة ما خليج بجفوف ادية ... الا يجي المحبوب ... ويحن علية ).
دخل علينا يوما شيخ معتم بعمامة بيضاء ... واخذ يحدث حتى كسب الجميع وابهرهم ... في يوم جرى نقاش حول مادة (السب والشتم -وهي المادة التي تسببت باعتقال الالاف ... تحكم من سنة لثلاث ).. قال الشيخ : السب لغة غير الشتم .... مضيفا : ان اللغة القانونية دقيقة واستطرد يروي ..- وهو صاحب طرفة وتسحره الخشابة التي طالما اسمعنا بستاتها بصوته الجميل مع ضربات اصبع وهزات كتف -كان لا يتمالك نفسه وهو يرى الى الشيخ ينغّم اصواتا مضحكة فيصيح به (عاااش الشيخ كمّل ).كنا بملابس داخلية جميعا والغرفة مصهر .. هناك دخل علينا رجل اربعيني اميل للقصر اسمر يرتدي دشداشة , حسير الرأس .. طبيعة لدى المعتقلين ان يستفهموا عن الدعوة والسكن في البداية ... سألناه عن دعوته فاجاب (جئتك من سبأ بنبأ عظيم ) فاستغربنا وظل يجيب عن اسئلتنا بآيات حتى كففنا عنه .. في الليلة الثانية انضم معنا في امسيات ادبية -شعرية تحديدا-فعلمت انه يتقن الفارسية وشيئا من الانكليزية فقرا لنا ابوذيات كل بيت فيها من لغة -عربية , فارسية -انكليزية -..حدثني كيف كتب اغنية <اتنة اتنة > التي اداها فاضل عواد واشتهرت مطلع السبعينيات .. قال (كانت هيلة جارة لنا وكنت اهيم بها وكلما اردت اقترابا اجابت <اتنة .. اتنة >..
-- ياما كلت هواي هواي وما وفيتي
انة اسهر وانت نمت وما صحيتي
وهذا ديدانج يا هيلة من غرورج ما صحيتي --
حدثني كثيرا عن مقالب صديقه الشاعر الشعبي جسام النجفي <الذي طبع كتابين : سنجاف الكلام و قيطان الكلام >..قال لي بعد جلسات مختصرة مع المعتقلين الناصريين (هؤلاء ليس لديهم عمق )..
واسر لي بانه ينتمي للحزب الاجتماعي السوري ولم اكن قد سمعت به .. فقبل مجيئه سألني المحقق عن موقفي من الحزب الاجتماعي فاجبته :( لم اسمع به ).
كنت صادقا وظهر ان احدا كان يحضر جلساتنا الادبية في المقاهي , هو من كان منتميا لهذا الحزب . فسالت صاحبي عنه فقال <انه مقلوب شعار حزب البعث ... فنحن نؤمن ب (الاشتراكية فالحرية واخيرا تتحقق الوحدة ).. ونصحني -كنت صغيرا بعمرك يوم اعتقلت فاوصيك حين تعتقل انس الاهل والاحبة وفكر كيف تقضي ساعاتك فقط -.بعد اقل من شهر استدعوه واختفى .. وفيما كنت في التسفيرات تمهيدا لاواجه محكمة الثورة وقاضيها العلاف .. تفاجئت به يدخل القاعة الواسعة .. رحبت به فاوضح < قال لي النقيب المحقق بدائرة الامن بالبصرة (افعلتها ؟!)...واضاف (مجموعتي عملوا على جعلي مريضا نفسيا ) وعرض علبة الحبوب امامي مبتسما < ليست دواء ان له مفعول الويسكي )...
مقهى في ام البروم ج13
مغامرة ان تفتح كوة في قلعة الذاكرة ... انها رحلة هاجرة ...السنة حوالي 1965 الميدان ساحة ام البروم ...تلك المقهى ستقصدها يوميا مع ابيك او تلتحق به مع اخيك ... ليست مثل مقاهي هذه الايام ...صايات الدومينو لا تخلف صداعا وهم يصفقونها على المناضد بين التخوت الخشبية التي صفت عليه حصران من البردي...امتار فتستدير فخطوات فتكون امام الباب الخشبي الثقيل الخلفي لملهى حمورابي حيث يستقر شاب صامت عشريني بدشداشة ناصعة , مطرقا ..وربما ظهر بين فخذيه ما يستقطب الصغار والمتطفلين تتقدم قليلا يسارك بك الملهى , مغلق نهارا وفي الليل يحرسه انضباط عسكري , وامامك سينما الكرنك ...
قصاب يوم العيد لاول مرة يرتاد المقهى وهوغير متقلد مديته بحزام جلدي عريض (هم يسمحون لنا نحمل السكين .. يقول ).. بعدما خسر في داس الدومينو, اخذ يعول كمن مر بخسارة فادحة , اهي ثمن اربع استكانات شاي او لتصور نفسه غير قابل للخسارة ؟!!.
اخذ طفلين قريبا من فلكة الساحة وجلس القرفصاء قرب كومة حصى , واراهم حجرا كريما له خمسة وجوه ولكل وجه صورة ما , لامعة ... حين رآهم منبهرين ازاح الدشداشة عن فخذيه فلمحوا شيئا مخيفا بين فخذيه فلاذا بالفرار .
تخطى المائة عاما وظهرت له اسنان لبنية .. لحية كثة ووقار .. يحدث بقصص نادرة عن التراث فيسحر الجلاس...قيل هو واحد من خمسة سحرة حكمهم نوري السعيد بالاعدام .. في تلك الليلة الباردة بعد المنتصف طلب السيد بريمز من صاحب المقهى ابو فلاح .. وضع طاوة على ناره المستعرة وترك فيها مادة اضاف شيئا لها فانصهرت فسكبها في قالب فاذا هي مصباح ذهب ... قيل قصد به للكويت ليبيعه .
في 1969 كنت مع الحشود ضحى لاشاهد الجثث المعلقة في ساحة ام البروم ليهود اتهموا بالتجسس منهم جمال صبيح الحكيم – و عزرا ناجي زلخة تاجر لأدوات منزلية ..كان ذلك اول صورة اشاهدها للمشنقة ... تكررت الرؤيا في عام 974 بسجن البصرة فعند مغادرتي صديقي المعتقل الكعبي رايت غرفة مغلقة مغبرة فنفذت من ثقب ورايتها فكتبت (الفتى اذ رأى
من الثقب صمتا ومشنقة وغبار
قال ).. ومن المصادفة ان اتواجد في غرف الاعدام بالرضوانية بعد ذلك بسنوات .لم يشكل الموت هاجسا يقلقني .. لا ادري كيف تصورت الانسان منذ الصغر مثل نملة قابلة للسحق باية لحظة .لهذا حين حاول احد اصدقائي بعمر مبكر ان يداري ليبلغني بموت جدتي وجدني لست مكترثا وحدث لحظتها ما اضحكنا .
لا يمكن ان يحصى عدد المرات التي ينجو فيها الانسان من الموت او يحاول . اما ميتافيزيقيا فقد وضعتني الآية (رحمة الله التي وسعت كل شيء) في موضع الاطمئنان .لم يتمكن مني الموت وانا اطوف منفردا في قرى بامرني في شمال العراق ضمن فوج الكمدوز او لحظة القصف ليلا في بهمشير جنوب ايران -عبادان حيث اصبت اصابة بالغة بالكاحل .. نجوت من حملة الاعتقالات المسعورة في 979..واثر الانتفاضة 990 أكتفوا بعد عام عليها بزجي في الرضوانية لمدة سنة ...الموت لصيقك يترصدك .. قوة في نومك وصحتك تضحك في سرها من غفلتك ... وظللت اتذكر الجثث المعلقة بالحبال كلما مررت على الكنيست الذي اغلق اثر اعدام اليهود لانه كما قيل ضم جهاز تخابر مع الخارج.وهو لا يبعد كثيرا عن ضفة شط العرب ..كان حزب البعث قد نجح بالانقلاب واستولى ... وصوت دلال شمالي يدوي بكل شبر (من قاسيون اطل يا وطني .. ارى بغداد تعانق السحبا .. )...
في تلك المرحلة امر الوزير صالح مهدي عماش بان يقص او يصبغ كل ثوب لفتاة ترتدي المنجوب -وهو تنورة بالغة القصر- .. اثارت الحملة ضجة بين مادح وقادح فقد نشرت اهزوجة لعالم بصري في كتيب (وترتدي فوق الركب ... كمن تريد تعبرن شط العرب ..).
فيما احتج الجواهري من براغ 1970بقصيدة بعثها لصديقه الفريق عماش وزير الداخلية حينها - الذي اجاب عليها مجاريا فيما بعد - .
( رسالة مملحة :
وتقيس بالأفتار أردية بحجة أن تنافا
ماذا تنافي بل وماذا ثم من خلق ينافا
أترى العفاف مقاس أقمشة ، ظلمت اذن العفافا
هو في الضمائر لاتخاف ، ولاتقص ، ولاتكافا
من لم يخف عقب الضمير فمن سواه لن يخافا)
مرت فتاة غاية الرشاقة والبياض على المقهى , واثقة تماما ... كانت تتلفع بعباءة سوداء بارقة .. فلما جاورت المقهى افرجت عن العباءة فظهر المنجوب واشتعل الجو .. تنمرا ودهشة لكن العامل في مطعم ابو ستار -الذي كان يصيح وسط المطعم - استقل دراجته الهوائية وجرى يلاحقها .
ماركيز ج14
انقضت اربعون عاما ونحن نتحاور ونتابع الكاتب ماركيز مذ ترجمت له بالعربية 0مائة عام من العزلة , مطلع الثمانينيات من القرن الماضي ..ربما يكون رأي صديق خفيف الثقافة هو الاعمق .. قال لي يوما 0 ماركيز وانت تقرأ له كانك تعيش اجواء حي الحسين -حي شعبي في البصرة - ومع اناسها .منذ السطور الاولى لمائة عام وبلا اضاءة ناقد او فلسفة عمياء يسحك ماركيز , يمغنطسك بقوة سحرية مجهولة ...باعتباري قارئا متمرسا وذواقا التقطت تفرد الشعرية في سطوره والوانه ومقدرته على انعاش الخيال وجرأته بتوصيف الاشتباك الجسدي .الذين قرؤوا ماركيز ووصفوه ( لغة).. كانوا بعيون مطفأة وروح مصغرة ...مطلع الثمانينات نشط النقد الفرنسي ربما هو قبل ذلك لكن الترجمة متاخرة ... "الكتابة في درجة الصفر" - بارت ,إحدى المفاهيم المعيارية التي فرضت حضورها في المصطلحات النقدية. دريدا يتزعم حوارات المقاهي ...وتوجه الادباء للفلسفة متجاهلين بان الفلسفة ثمرة لعقل مفكر وليست رغبة يثبتها لاصق .كأن بعضهم لاول مرة يكتشف شيئا اسمه الفلسفة ..واندلع حريق البنيوية ليشمل الغالبية العظمى من المثقفين ..وحين تسأل احدهم 00( ما البنيوية ).. يحدق فيك مستغربا ويرفع يده حاسما ويصرخ بك هامسا (دريدا ).وكنت حينها اتارجح بين الهزء والشفقة ..لهذا طرحت السؤال على المئات (كيف ترى ماركيز ) وياتي جواب جاهز متسارع (هو لغة ).. وكنت اعلم ما وراء ذلك هو الفهم المضبب للنقد الفرنسي ..(0النقد فن لغوي )..وفي يوم انفردت بصديق ناقد وكانت جلسات (منتدى الجمعة الادبي ) باتحاد البصرة في قوة نشاطها .. سالته عن هذه الاطروحة : وقلت له فلنتفق بهدوء على كل مفردة او نحددها ..-حين تقول فن ما هو الفن وما هو العلم ؟ واجبته فالنقد علم وفن .. قال فاستوقفته (نحن لم نحدد الحقيقة ) وساطرح لك مفاهيم حولها فاختر ما تراه يناسبك ... فهل يلائمك تعريف (( الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع ؟))... قال <منطقيا >فبادرته 0نحن لم نتفق ايضا على تعريف المنطق ... ان قلت -هو الة قانونية تعصم الفكر من الخطأ-المنطق الصوري ... فما موقفك من منطق رسل ونظرية الاحتمال ؟).
هكذا مرا العقدان الثمانينيات والتسعينيات وقد اتخمنا باطروحات مضببة حول البنيوية بعدما خفت موجة سارتر ووجوديته ...لكني تابعت ماركيز متخطيا رياح الثرثرة .. فقرات له (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه ) و (0خريف البطريق ) :0 -انقضت العقبان على شرفات القصر الرئاسي خلال نهاية الاسبوع,فحطمت شباك النوافذ المعدنية بضربات مناقيرها وحركت الزمن الراكد في الداخل برفيف اجنحتها . ان الهواء كان اكثر خفة في مستنقعات انقاض هذا العرين الرحب للسلطة وكان الصمت بها اكثر قدما ورؤية الاشياء صعبة في الضوء الذاوي على امتداد الباحة الاولى التي تزحزح بلاطها بضغط الاعشاب الطفيلة تحت الارض . -...هذه الرواية التي تدفعك للحيرة بين ان تشمت على نهاية الدكتاتور او تشفق عليه .يتغلغل الكاتب عميقا في روحه , في كهف وجدانه المتخفي بالف قناع وتراه على حقيقته : وحيدا متازما يتقيا من الاذلال ..في اخر سنواته طلب البريكان مني ان اقتني له 0(مائة عام من العزلة ) قال : اريدها انيقة .. شاهدته يقرا فيها ويضحك ويقول -مطر لا يتوقف - او -انه اول كاتب يضحكني -او -خلاص دخل ماركيز التاريخ بقوة -او (انه اعظم شاعر في القرن العشرين ) .. سالته <تاخرت عن قراءتها >اجاب (عمل مثل هذا علي ان اكون مستعدا لقراءته ). لكني زهقت من تكرار الاسماء وتشابهها بمئة عام .. والاستطراد اقلقني ...فلما اقتنيت (ذ لف ان ذ كولرز تايم -الحب في زمن الكوليرا - علمت بانه نضج اكثر وتعلم حذف الزيادات -واستقر لي رأي بان روايته الحب في زمن الكوليرا هي افضل رواياته .
(ايرينديرا البريئة )..لم اقرا له هذه الرواية ولم اسمع بها .. ذات يوم كنت في منزل الاديب صديقي عبد الرؤوف الشريفي فذكرها لي ووصفها بجملة هامسا 0( عليها ان تقضي ما تبقى من عمرها تبيع الهوى لسداد دين جدتها )...من قراها كمراهقة مستسلمة دفعتها جدتها لامتهان الدعارة ثمنا لحرق منزلها فانه لم يقراها ... انها القسوة مجسدة .. التحجر الانساني ..انسلاخ الضمير تماما ..
ذات يوم قرات في مجلة ما نصا لماركيز ..(فتاة الطائرة الحسناء ).. وانتظرت سنينا حتى ترجمت مجموعته (12 قصة مهاجرة ).. فرحت فرحا يصعب تصويره .. فيها ايضا ( فتاة الساعة السادسة ) القصة التي اعيد قراءتها مرارا .... يقول ماركيز : <ظلت -12 قصة مهاجرة -شريدة طوال عشرين عاماً بين سيناريوهات وأفلام شريدة بين أوروبا و أمريكا اللاتينية وبين الأدراج وسلة المهملات.!!> .
لكن لمذكراته قصة اخرى ..قرأتها بالنت لاني تعبت من البحث عنها ولم تتوفر في مكتبات البصرة الا مؤخرا .
سقوط الفاو ج15
حسب الفريق الخزرجي (أرض الفاو رخوة وسبخة وذات مستوى مياه جوفية عالية، تصبح عند تساقط الأمطار أشبه بالمستنقعات، وتغمر المياه الضحلة أجزاء كبيرة منها ). عملية (الفجر 8) كما أطلق عليها الإيرانيون والتي استولوا فيها على الفاو في 1986 كانت من أقسى المعارك وأشدها، حيث استغرق العراق أكثر من عامين لإستعادتها .
رايتهم في الدريهمية شبان بمقتبل العمر بملابسهم المرقطة يمضون لمحرقة الفاو ولا يعودون .. فيما هندس الباسداران -الحرس الثوري مدافعهم بحيث لكل متر قذيفة تتفجر بعدما قاموا بتحصين أنفسهم بسرعة .الغالبية العظمى من سكان البصرة قررت الهجرة عنها..في اتجاه محافظات جنوبية ووسطى ...نشطت الباصات وعجلات الحمل وهي تنقل الاهالي واثاثهم على طول شوارع بغداد ...لا ادري ساعتها كم فرد تذكر اهالي المحمرة وعبادان بعد ان اقتحهما الجيش العراقي ..تبادل في الانتكاسات الانسانية وتعادلت الفاجعتان ..شعرت باسى عميق حين تجولت بقرى عبادان ورايت البقرات المبقرة .. سجادات الكاشان تغفو الحمير عليها ... رايت الناهبين , في بهجة ينقلون غنائمهم عبر نهر الكارون .. الدراجات الصغيرة مبعثرة ...الاسماك تطفو مقصوفة ..هجروا ولم يتمكنوا من نقل ارواحهم الكائنة بتلك السلع الصغيرة ...هل كنت وحدي اعيش الفاجعة... فكتبت (دفعتك البنادق نحو البنادق
لا خيار
بين نار ونار
فتقدمت مستهزئا بالهزيمة والا نتصار )..يافعا كنت اقصد من منطقة الحكيمية لاعالي البر بقرية كردلان .. بحثا عن عشب بري يؤكل (رشاد البر) وبين النخيلات رايت مدافع وجهت شرقا باتجاه ايران ...يومها لم تكن لي قدرة فراسة لاتخيل الكارثة .. فقد سمعنا من جداتنا .ثماني سنوات ولم ترتو الارض من الدماء ولم تتحجم مهنة صنع التوابيت ..
مكبرات الصوت تصدح بنغم مرقّص -يا كاع ترابج كافوري .. ع الساتر هلهل شاجوري -وازقة البصرة تتجذر شواهد مقابرها تتنقل من زقاق لزقاق ومن بيت لمجاوره ..فيما تتعملق ملحمة الدموع ...لست ممن تطربه رايات الانتصارات ودفوف الهيمنة .. ولست بسيطا لاقبل باحتلال او اعتداء .. ولكن الحروب تعكر طقس روحي .. حالما بيوم نصفي الخلافات بطريقة اخرى .... لا اعلم كيف ولكني احلم .. ربما نعود للرماح .. لقتال غير فاتك ... اما هذا التطور بآلات الحرب فيفزعني حقا .لم يشغلني ان افرز حقا عن باطل في اوكرانيا ,كنت منشغلا بصغار فزعين هناك يتشبثون بايادي امهاتهم المرتعبات .. بمسنة لا تقوى على حث الخطى هربا من زمجرة الطائرات ...باناس امنوا وهم يقطعون الان اميالا بحثا عن قطرة ماء وظل لا تطاله قذيفة .. ورغم هول الحرب كنت اقرأ اناقتهم .. يا للفاجعة ..!!.
قصدت ذي قار بصحبة دليل وبعد ثلاثة ايام من البحث عثرت على بيت للايجار بلا ابواب وشبابيك .. بلوك تحتله من داخل السياج بقعة آسنة ..لم يكن لدي اتصال باي صديق... فرقتنا الطارئات .. فاستعنت بهوايتين لي متجذرتين : الصيد والرسم .. طبعا القراءة ما يشغلني من طفولة مبكرة ... لكن مطحنة الحرب لم تترك مزاجا للقراءة .. كتبت اول قصيدة في الصف الخامس الابتدائي لكن الشعر وليد التمركز وثمرة انفعال وجداني او فكري مركز .. من يستطيع كتابة شعر ومصهرة الفاو قائمة .. فوجدتني اجرب النثر فشرعت بكتابة اول رواية .. ساهملها لاحقا ...لاعود للرواية بعد ربع قرن ..اتذكر منها (عوعة الديج وايست الزعلانة فنحى فرشاته جانبا ...... ), كتبت حوالي مئتي صفحة..كنت ارسم طوال الليل .. لوحات معتمة .. وكنت ارسل تنظيراتي حول فن الرسم ومناقشة المدارس الفنية لصديق في منطقتي التي هجرتها قسرا.. كنت مفلسا واخي في قلب المعركة .. اخي الذي نجا من محرقة الحرب وحدثني يوما بانه (حين اقترب منه الموت فكرباصغر بناته .. كانت ربما بعمر سنتين ..مرحة حتى تمكن منها العضال في سن الثلاثين ومضت الحياة بدونها ..اخي الذي استخدمت مائة حيلة لاجعله متخلفا عن الالتحاق بوحدته العسكرية ابان حرب الكويت ..كنت افكر (لو عاد اخي جثمانا ملفوفا بعلم كيف ساقيم مأتما له وانا بوضع املاق ..). وكانت امي تنام على التراب وتقول . يتكلمون عن بطولات ويتجاهلون قلوب الامهات ...--اليوم كلنا جنود .. عن الحدود نذود .. ع النصر عبارة --... وماذا جنينا من النصر سوى بلد ممزق محطم ..
ذات يوم رايت في مستنقع المنزل بسطالا فوضعته على كرسي ورسمته وسالت خالتي الطيبة البسيطة فاجابت (انت لم تجد احدا يستريح على الكرسي فرسمت بسطالا عليه )..الكرسي لتستقر لكنا جميعا كنا نجري في صحراء الاحتمالات .. نصغي للمذياع ونتوقع ان تتجمد الحرب ..خابت كل تنبؤاتنا ولم تبرد الحرب الا بعد ثماني سنوات ..في الازقة التي هجرناها لا شيء الا القطط الجائعة والكلاب السائبة تبحث عن الزاد وقد انهكها الجوع والغربة ...
شهورا قضيتها على الشط اصطاد ولا سمكة واحدة .. ذات يوم اتى هنديان والقما الصنارة بقطع لحم فصاد احدهما سمكة تزيد على عشرين كيلو ..اما نحن الذين نصيد بعجين مفوّر من الصبح للظهر والعصر للغروب فلا سمكة ...حدثني الصياد على شط الناصرية عن بن السلوكي كان غنيا خسر ثروته لاجل بائعات الهوى ..ركب باصا واستقر قرب السائق وخاطبه هامسا ( ليس لدي اجرة ) فالتفت اليه السائق وعرفه وقال له (الست من كانت تهز لك خصرا الكاولية وهي تغني -اعدل عكالك زين يا بن السلوكي -..كان هذا الصياد موهوبا بالطرفة فكان يرمي صنارته ملتفتا لي قائلا (تخلص ... الي شبكنا يخلصنا ).ارى ان نبوءته رغم عفويته كانت صادقة .. ستنتهي الحرب بتعادل الفريقين لا غالب ولا مغلوب وستستقر معاهدة الجزائر 975 التي هي سبب وذريعة لنشوب اطول حرب نظامية معاصرة ..اخيرا تمكنا من استرجاع الفاو فانتهت اللعبة .وتوقفت الحرب .
في غرف الاعدام - الرضوانية . ج16
لو قلت انه المكان الذ ي وجدنا راحة فيه لتصورك مستمع انك تطلق طرفة او يتهمك بالهذيان ... لكنها الحقيقة .. وضعنا في هذا المكان (قاعات المحكومين بالاعدام ) بعد ان قررت المحكمة الافراج عنا نحن مجموعة من الادباء الشباب والذين كنا ننتسب الى ملتقى الجمعة الادبي وقد قسمنا المختصون الامنيون الى (الهيئة الادارية القديمة والجديدة ) لكنهم ينادون علينا للاستفسار او غيره (اين جماعة المنتدى ).. علما انهم في اماكن امنية اخرى يطلقون رقما على المعتقل الامني ..للان لم اعرف سبب ذلك , كيف يتجرد الانسان من اية هوية او صفة ويصبح رقما ..ولعل ذلك ما اوحى للشاعر الرائد محمود البريكان ان يكتب قصيدته الرقم( 96) :
(الرجل السادس والتسعون
لا اسم لي , انا السادس والتسعون
ما انا الا رقمان لا يحددان
شيئا على قميصي الاغبر , راسخان
تنتصب الستة
كالمشنقة الصفراء
وتصلب التسعة
كرأس افعى ضخمة غريبة بشعة ... ) .
اول ما رايت على جدران تلك القاعة الواسعة المقسمة لزنزانات , ابوابها مشبكة ومشرعة, رايت على الحائط (م ... من اهالي مدينة الشعلة محكوم اعدامان وعشر سنوات ).لا شك انه اعلان .. فقصدته وروى لي انه امسك بين الحدود العراقية الايرانية ابان الحرب بعدما نفذ عتاده ..كان يقاوم القوات الامنية .. ورغم الرعب والتحذير حين افرج عني قصدت منزله القريب من بيتي واخبرت اهله بذلك ..ثم افرج عنه بعدي بسنة وتكررت بيننا اللقاءات .. كان يستقبل مجموعة من الشبان يقودهم وهم ينظرون برهبة وشغف لتوثيته- عصا صلبة من غصن شجرة تشبه المكوار - ذات يوم دعاني فرايت اكثر من سبعة اشخاص في غرفة الاستقبال منهمكين بمتابعة نصر الله على الشاشة .. وكانت الغرفة غاصة بالاسلحة الخفيفة والمتوسطة فكان اخر يوم التقي به في منزل .هناك في غرف الاعدام رايت شابا عشرينيا نحيلا مطرقا ابدا يمسك بيده علبة اسماك فارغة وهو يشتمّها بشغف ويقبل سمكة رسمت عليها .. .. كان من اهالي الاهوار ..حدثني ( يا اخي انا سعيد فسوف اعدم خلال ايام .. التقيت بالمجاهدين وعلموني تعاليم الدين وقيمة الشهادة ).. كنت اصغي مستغربا ..سعادة تتملك انسانا سيعدم فجر غد او ما بعده ؟!!.
منذ البداية .. منذ وصولنا الى معتقل الرضوانية قررت ان اضلل جماعة المنتدى لانقذهم .. وكانوا يسالوني ( كيف نجيب ونحن تحت جحيم التعذيب ) فاقول لهم .. وكنت على يقين بان تهمتنا لا علاقة لها بهذا التنظيم ... والدليل على نجاح التضليل ما جاء في قرار الحكم (انهم ينتسبون الى حزب الله ويتعاونون مع حزب الدعوة )... واعتقد ان هذا الخلل بالتوصيف تاتى من رئيس الجهاز المسؤول عن الرضوانية .. فلم تكن له خبرة امنية واسندت له مهمة كشف الشبكات المعادية .. لا يكفي التعذيب لكشف الاسرار امام صلابة بعض العراقيين ...فقد زجوا معنا ذات يوم رجل خمسيني يسمى <العقيد > لم يكن ضابطا وربما لم ينخرط عمره بالخدمة العسكرية ...اخذوه يوما لكشف الدلالة وقد حلقوا لحيته وحسنوا مظهره ليصور لهم كيف فجر شيراتون بغداد ..كان يصفع جبهته بيده ويقول <خيروني بين العراق والبرازيل فكيف اخترت العراق ...> وقال <اتمكن من ربط القنبلة اليدوية والمتفجرات وانا اقود عجلتي .. وهم تمكنوا مني واعتقلوني في المقهي في ذلك اليوم لم اكن احمل مسدسي لاول مرة >..واضاف (هناك ثلاثة عمليات لم اعترف بها )..اوعدني بان يزوجني لو نجا .. لكني لا انسى ذلك الرعب الذي خضه وصفرة الوجه وقد اتى ثلاثة حراس امنيين بوجوه شررية ونادت عليه -اين العقيد؟!!. توقع سيصفّونه ساعتها .. لكن ذلك لم يحدث انما اعدم بوقت لاحق ..
ضباط التحقيق كانوا يستأنسون بي كنت اقرأ لهم شعرا بلهجة دارجة .. وبعد جلسات التحقيق يقدمون لي الشاي وعلب سجائر الكنت .. ويقولون - نحن نعذبك تنفيذا لاوامر لكنا نحبك - وكانوا مستغربين من علاقتي بزميلتي المعتقلة معي في مكان اخر .. ويقول ضابط لاخر| ملازم فلان تعال هذا زميل فلانة |..
ذات يوم وضعوني في عجلة وانطلقوا بي لمكان مجهول في القصر الجمهوري بعد منتصف الليل ..ورايت قاعة واسعة تخلو من ادوات التعذيب ... وكانت سمات بعض الحاضرين مختلفة ويتمتعون بالاناقة .. قال كبيرهم مبتسما (اليوم اتينا بك لنتحدث فلا تعذيب ولا ضغط ) فحدقت ثانية بهم وعلمت انهم خبراء امنيون ونفسانيون .. يبحثون عن زلة لسان او تصريحات مني تكشف لهم طبيعة التنظيم ...قلت في نفسي وانا واثق < لقد فهمتكم >...بعد ساعة من الحوار وضعوني في غرفة اخرى لضباط امن : هناك توفرت الوان من صناديق الفاكهة والشاي المعد بعناية وعلب السجائر الفاخرة .. ومع رشفات الشاي ودخان السجائر التي حرمنا منها طويلا ..اشتعلت امسية الشعر ولهذا ابدا اتذكر (لو شرعوا باحراقك , ابتسم وقل انها حفلة شواء )..مبكرا تعلمت من معتقلات امنية سابقة كيف اقاوم وان لا ادلي باعتراف ... كان صدام كامل يامرهم بان يخلعوا عني عصابة العيون وحين علقت بالمروحة قال < وزنه خفيف > فعلقوه من رجليه ومرروا بجسده الكهرباء ..وهي عملية تعذيب مرعبة .. فلما رايتني اكاد انهار , قطعت شعري وقلت: <انزلوني ساعترف فانا من تنظيم اسمه -السالمي - > ولا ادري ساعتها كيف تذكرت الكويت ثم السالمية فحرفتها .. واشترطت ان يزودوني بسيكارة ..فلما ثملت بالدخان وتسلطنت قلت لهم- كنت اكذب عليكم- فاعادوني للصعق الكهربائي والتعليق.
في غرف المحكومين بالاعدام كنت اراهم وقت المغيب .. يتجمعون امام مشبك الباب الرئيس ويشهقون للسماء ... لانهم يتوقعون نهايتهم في الفجر .. فكل فجريصيح مناد على بعض الاسماء ويقودهم لرحلة العدم .اما نحن الذي تواجدنا هنا بعد الافراج فقد حجزنا معهم لكي لا نزود بعناوين لمعتقلين وقد نخبر اهلهم عنهم .
ابو مسلم الخرساني ج17
بدات قصتي مع ابو مسلم الخرساني في مقتبل التسعينيات من القرن الماضي , حين حدثني احد الاصدقاء بان (ابو مسلم خبير بالتنظيم السري فقد ارسل وهو بعمر مبكر رسالة الى ابو العباس السفاح (المدينتان -مكة والمدينة - شيعتها للشيخين والبصرة عثمانية الهوى اما الكوفة فشيعتها لعلي , فعليك ببغداد وسامراء ).. لم يتسن لي التحقق من هذا النص , لكني انبهرت بالمقدرة التحليلية للخرساني وكيف تمكن من تفهم طبيعة المجتمعات العربية في ذلك الزمان وهو بعمر صغير ..بعد اكثر من عقد فكرت ان اضع كتابا عن ابو مسلم وغصت بتاريخ الطبري ومروج الذهب وغيرها .. واول ما لفت نظري صفاته الجسدية والسيكولوجية , فقد وصفه وصفه القاضي شمس الدين بن خلكان فقال :( كان قصيرا، أسمر، جميلا، حلوا، نقي البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية، طويل الشعر، طويل الظهر، خافض الصوت، فصيحا بالعربية وبالفارسية، حلو المنطق، وكان راوية للشعر، عارفا بالأمور، لم ير ضاحكا، ولا مازحا إلا في وقته، وكان لا يكاد يقطب في شيء من أحواله .)..ولكنني تاخرت بالحصول على كتاب المستشرق الالماني يوليوس فلهوزن , الذي وضع كتابا مهما ترجمة المحقق : محمد عبد الهادي أبو ريدة ... لم اكن ارغب ببحث نشوء الدولة العباسية كنت فقط اريد ان ارسم صورة عن شخصية ابو مسلم الخرساني ..فوجدتني في بحر متلاطم من المعلومات المتقاربة والمتناقضة وان كل معلومة تحتاج الى تمحيص دقيق..ذات يوم قرات لمحقق قوله (وللان لا يعرف عن ابو مسلم اعربي هو او فارسي ؟).. فهجرت فكرة التاليف عنه .. وما زلت للان احن الى ايجاد كتاب موضوعي يرسم الصورة السيكولوجية الدقيقة عنه .. وكنت اثناء بحثي احتاج لمعرفة خراسان عن قرب فاعارني صديقي علي عبد النبي كتابا ضخما < اقاليم الخلافة الشرقية تاليف- لي سترانج - وهو مستشرق إنكليزي. تعلم العربية والفارسية، ودرس على يد يوليوس مول. نزل كمبريدج وتخصص بدراسة التاريخ الجغرافي لبلاد العرب وفارس. فعرفت بان خراسان التاريخية هي - خراسان الكبرى منطقة تاريخية كان لها حدود جغرافية واسعة. يشمل إقليم «خراسان الإسلامي» شمال غرب أفغانستان (مثل مدينة هراة) وأجزاء من جنوب تركمانستان، إضافة لمقاطعة خراسان الحالية في إيران . وانها مجمع صناعي وتمتاز بتنوع بيئي وخصوبة وهي تصلح بحكم تضاريسها للعمل السري .
ذات يوم ارسلت عليّ امرأة قارئة للفأل , عزّامة للملائكة ..فان حلت ليلة الجمعة تجدح عيناها وتتحول لانسانة اخرى منفصلة عن الواقع ..خاصة عندما تحضّر ارواحا او تقضي على شياطين او جن غير صالح تغلغل في امرأة.. كانت تدرس دراسة حوزوية وقد كلفوها ان تكتب بحثا .. واتفقنا مقابل مبلغ .. كانت لدي اوراق جاهزة حول ابو مسلم الخرساني فعززتها بمصادر وزودت المراة بالبحث .. هكذا دفعتني الحاجة للمال ان اصنع باحثات .. لا يتمكن من كتابة انشاء مدرسي ..
ولا ادري بماذا ستجيب لو حاورها احدهم وسالها عن معنى البيت الذي اطلقه ابو مسلم الخرساني , جوابا لعبد الحميد
(محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب . ).
المكتبة العامة ج 18
تأسست المكتبة العامة بالبصرة سنة 1936 بعد دمج المكتبتين : التجدد والنقشبندية .. وتم افتتاح بنايتها سنة 1957 بعدما شيدت لها بناية في الشارع الذي يربط سوق البصرة بالعشار جوار الادارة المحلية .. لقد مر تأسيس المكتبة بمخاضات عسيرة قبل افتتاحها ونجحت دعوات الصحف البصرية كالثغر وغيرها بتعجيل الانشاء مع تآزر من الاهالي .
لا اعرف كيف اهتديت للمكتبة .. اتذكر ان بيتنا من القصب والصرائف قد نشبت به النيران وتحول الى رماد , فاستاجرنا بيتا جواره في الجهة المقابلة من الترعة النتنة ..يحتوي على غرفة من الطوب ملبوخة بالطين وربما صريفة اخرى ..يقع في زقاق ترابي متعرج ..ليس بعيدا عن نهر الرباط ولا ينأى عن شارع دينار..كنت سمعت عن الشاعر حيدر الكعبي عبر صديق لي يساري النزعة وانه فاز لسنتين متتاليتين بمسابقة الشعر الطلابية السنوية ..ولا اعرف كيف تعرفت عليه باول وصولي الى المكتبة العامة.. كان افقي المعرفي بسيطا وليس لدي من الكتب ما يتعدى اصابع اليدين .ذلك بين عامي 972 -1973.
قليل من العجلات تمر في الشارع : مصلحة نقل الركاب وتكسيات متواضعة وباصات خشبية وكلما مرت عجلة لاحقتها جوقة من الكلاب مزجرة خلفها مسافة امتار ..تلك الكلاب لا تكل منذ الفجر حتى المساء من المطاردة والنباح..في موسم التزاوج تطل النساء من شق باب مبتسمات يضعن الايدي على الفم مترعات بالدهشة .. لكن الكلبة لا تترك بعلها رغم ان الصغار بهرج يلاحقونهما ويدمونهما بالحجر .. حتى يغطسا في النهر فينفصلان ..يقف لي احد الباصات ويصادف ان صديقا يصعد معي فادفع عنه اجرته فاخسر كل مصرفي واعود مشيا من المكتبة للبيت قاطعا اكثر من كيلومترين .. تحت شمس تموز المؤهلة لشواء السمك .
كنت ارى حيدر الكعبي , ارقبه يقرا في مجلد ضخم يتركه فيمضي خارجا للحديقة ليدخن ...لم يجسر احد على سرقة كتاب ونادرا ما ترى بعض الصفحات قد فصلت من الكتب .. لم نكن في البصرة نكف عن التدخين الا في سيارة مصلحة نقل الركاب والمكتبة . بعد ايام وقد غادر المكتبة لحقت به وتعارفنا فسألته عن قصيدتيه اللتين فازتا وطلبت منه مقطعا فقرأ لي واخر من قصيدته الاخرى .. وفتح علبة السجائر.. قلت لا ادخن فقال (دخن ) فتناولتها منه ما جعلني مدمنا .
سياج من الطابوق واطيء وملبوخ ومصبوغ بالابيض تعلوه قضبان مسودة متوازية ومتقاطعة .. تعبر ممرا من البلاط يقسم الحديقة الصغيرة نصفين فتكون وسط المكتبة . كنت اطلب اكثر من كتاب ورغم قلة الرواد فقد تملل مني الموظف وزجرني .. فكتبت رسالة شكوى للمدير واودعتها في صندوق الشكاوي .. ولا اعرف كيف اهتدى المدير لكاتبها .. فاستدعاني ثم امر ان يأتي الموظف وانّبه امامي .
مرة قرات في مرحاض المكتبة (يعيش حزب ال ..) وكتب احد تحت العبارة بخط انيق (سواء عاش او سقط فانت كتبته هنا ) ..
فهرست الكتب بنظام ديوي وتضم الاف الكتب باللغة الفارسية والتركية والعربية ..كانت ورقات المقوى التي ينظمها انبوب ضعيف وكتب عليها عناوين الكتب في الادراج متأثرة من تقليب الاصابع ..
في مرة غادرنا انا والكعبي المكتبة فقلت له قرأت كتابا عن السعادة فاجاب ممتعضا (اية سعادة والفرد يكاد يتقيأ دما ).كان محقا فبعد عام سيودع في السجن .حدثني الكاتب احسان السامرائي ((بان النادي البريطاني كان يقع جوار المكتبة وكنا نقصدها لنقرأ.. وان مديرها يعرب - صديق القاص البصري محمود عبد الوهاب -كان يهدي لنا الكتب الفائضة ويقول (امنحكم اياها خير من ان تحرق ) ومنه اقتنيت كتابا مهما هو ألفه القس فانيس مدير المدرسة الامريكية بالبصرة )).
هناك قرأت العديد من الكتب ولا انسى مدى تفاعلي مع كتاب اللامنتمي للكاتب الانكليزي كولن ولسن الذي طرح لاحقا نظريته - الوجودية الجديدة -.. وحين تابعته لاحقا لم اقتنع باطروحاته لانه يعزي مشكلة العالم والوجود الى عسر لغوي .. لكن كتابه -الذي وضعه بعد ان وجد فراغا كافيا في وظيفته باحدى مكتبات لندن - كان زاخرا بعرض عشرات الروايات .. ولا بد ان تكون رواية (الجحيم .. لباربوس ) التي عرضها محفزا لي لاتابع كتاباته قبل ان ابتعد عنها .
التحق بنا الشاعر الراحل مهدي وكنا برفقته نمضي لجامعة البصرة في التنومة لنلقي شعرا او لنتعرض لاعتداء لاسباب سياسية ..وكانت مقهى الموعد في شارع الوطن مقابل سينما الاطلس موقعا يضج بلاعبي الشطرنج والمثقفين كتابا و مهتمين .. كان حيدر الكعبي ومهدي طه يكبرانني عمرا واكثر اطلاعا خاصة على دواوين الشعر القديم وان مهارتهما باتقان النغم الفراهيدي عميقة وراسخة لهذا عند انتقالهما للشعر الحر انتقلا مزودين بالمهارات الايقاعية ..وارادا مرة اختباري وقد غادرنا المكتبة معا فطلبا رأيي لبيت نظماه معا وعلى الرغم من اني شعرت بذلك قلت لهم (بيت شعر جيد ) فابتسما لبعضهما .. اتذكر اني القيت قصيدة في تلك المرحلة بمبرة البهجة فمنحت هدية هي ديوان سعدي يوسف <الاخضر بن يوسف ومشاغله > وما كنت مطلعا على شعره ما فتح افق الاطلاع وتوالت القراءات للدواوين الشعرية العراقية المعاصرة ..كان منزل حيدر الكعبي يقع في شارع الكويت قلب العشار لا يبعد كثيرا عن المكتبة فكنت اطرق بابه ونمضي لنبحر ونتسكع في الطرقات والمشارب والمقاهي ..
استطيع ان ارصد مجموعتين من الادباء الشباب : مهدي طه وحيدر الكعبي وانا ومن انضم معنا من الكتاب والشعراء .. وهناك مجموعة اخرى اختلفت معنا فتوارت عنا وهم فالح المنصوري وعبد الحسن الشذر ومن رافقهما .. الاول المنصوري اصبح استاذا اكاديميا وتوارى تماما عن الساحة الادبية رغم انه القى شعرا عموديا وهو بعمر مبكر جدا في تلفزيون البصرة اذكر منها < ثأرت للجرح طعّمت الرؤى عسلا ).. ونشر بمجلات شهيرة كالاداب البيروتية وكان حفاظا بامتياز للشعر الكلاسيكي القديم .. وقد التقيته مرات في المقاهي منفردين .. كان مهدي يقول عن المجموعة الاخرى (استطيع ان اهزمهم نقدا لوشئت ).. اما الثاني الشذر فقد نشر قصائد شحيحة في بعض المجلات منها قصيدته عن حادثة قطار الموت السياسية . وانتهى في غرفة الاعدام . من الصعب تقييم تلك المرحلة فاغلب الكتاب الشباب انتهوا في مصائر كارثية سواء في الاغتراب او الاعدام او الاغتيال او تواروا لاسباب تخصهم وبالامكان الاطلاع على النهايات المأساوية لبعضهم في كتاب (ديوان مهدي طه ) الذي حققه حيدر الكعبي .
لكني انتقلت لمكتبات اخرى لاحقا وهجرت المكتبة العامة التي انتقلت لشارع فلسطين 1983 وانشئت على مساحة 1520 م2 .. ولم يكن موقعا مناسبا ,لهذا اختلف مع نتائج الباحث علي عبد الصمد خضير حيث سجل 83,33 بالمية ممن ذكروا في استبيانه بان موقع المكتبة مناسب .
بعد ذلك بسنوات وقبل ان تختفي كنت ارى حين امر بمحاذاة نهر العشار, في اللوحة التعريفية للمكتبة العامة قطعة من الروح ..عبثا نحاول تثبيت ما هو جميل من الماضي من المعالم والامكنة والبيوت التي سكنا او قصدنا و حين تزال او تتهاوى نفقد معها مساحة حية من كياننا فلا يشعر بعويل النخيل التي تجرفها الدوزرات الا صاحب البستان والفلاحون ..ولا يحس سوى الصياد بانين الصيادين وهم يغادرون الشط لمنازلهم دون سمك وقد ضمرت الثروة السمكية .
لهذا اصبنا بالحزن لوفاة امينة المكتبة المركزية عالية محمد متاثرة بكورونا بعد ان انقذت الاف الكتب والمخطوطات النادرة عام 2003 فنقلتها الى مكان امن ليلا اثر دخول القوات البريطانية الى المحافظة .
الاطباء والمستشفيات
يظهر اني عتقت كثيرا لان قلة مثلي يتذكرون الادوية السائلة كانت تعبأ بالبصرة بعلب زجاجية صغيرة .
اقدم ذكرى لي حولها حين قصدت مستوصف الطلاب في منطقة الكزارة , كانت الصيدلانية متقدمة بالعمر تعبيء لي علاجا بعلبة زجاجية صغيرة من وراء كوة صغيرة وباغتتني احدق عفويا بصدرها الكبير , كنت باول مراهقتي , فخزرتي بعيون ساخطة فخفضت راسي فعادت للتعبئة صامتة ثم رفعت راسها ونظرتني بغضب فخفضت عيوني فدفعت العلبة بقوة في يدي .
للان كلما مررت بالمستوصف اتذكر الحادثة واخجل .
لي تجربتان مع المستشفيات الثانية اثر اصابتي في الكاحل اثر سقوط قذيفة بعد منتصف الليل في عبادان . كان فوجنا الكمندوز يعسكر قرب بهمشير, والاولى في مستشفى البصرة الذي كان يقابل بوابة سجن البصرة, ربما لهذا اطلق المثل البصري (وجهك مستشفى وظهرك سجن ) .. القصة اني كنت اعاني من تساقط قطرات ماء من خلف أذني اليسرى كلما تناولت طعاما . وكنت امسك ابدا منديلا لامسح . ذات يوم قصدت مستوصفا قريبا من مدرستي المتوسطة وحين شرحت الحالة للطبيب قال (ابني نريد نشتغل فاخرج ) قلت له ساتناول لقمة وسترى التساقط .. ومضيت لسوق الخضارة قريبا واشتريت نبقا وعدت له فرأى الماء يسقط .. فسالني (هل انت طالب ) فاجبته.. فوجهني ان امضي للمشفى الجمهوري في العطلة الصيفية .
لم اكن اعاني حين رقدت من أي الم ... كانوا يزرقونني كل يوم ابرة بنسلين فقط..ولان ساحات المستشفى حدائق غناء والجو ربيع .. فقد عشت طيلة مكوثي الطف اللحظات , قرات هنالك قصيدة لميعة عباس عمارة (تدخنين.. لا .. اتشريب .. لا .. من انت ؟! .. جمع لا ....), وقصيدة عمر ابو ريشة (وسرت في وحشتي والليل ملتحف .. بالزمهرير وما في الافق ومض سنا .. ). واعجبت بهما , فيما بعد حضرت المربد واستمعت لها وله ينشدانهما .
اتذكر كيف اتوا بشاب اصيب باطلاقات في بطنه والمحقق يستنطقه (ابني لاجل شبابك قل من اصابك ؟).. لكن الشاب كان يصرخ (اريد ماء .. اريد ماء ). بعد شهر اتى الطبيب السعدي فاستفسرت متى موعد العملية فقال متوترا (ما لكم يا عراقيين تخشون من جرح بسيط)... بعد ثلاثة ايام اجرى لي العملية . في احد الصباحات كانت مجموعة تطرق على باب الردهة الزجاجي المغلق ونسمع صياحهم ..هم مجموعة من القرويين مات ابنهم بالعملية .. فذهب السعدي لاول القاعة وادار التلفون القرصي وسمعته (فوك تعبنا يهاجموننا ) ,بعد لحظات حسمت الشرطة الامر . لم نكن نتوقع ان تدور السنوات ونشهد اعتداءات كارثية على الاطباء.
و السعدي (1919 ـ 2015 ) هو رائد للعديد من الاجراءات والتدخلات الجراحية ادخل تعديلات على اساليبها مثل استئصال البروستا من خلال منطقة العجان وعلاج الاكياس المائية وهو اول جراح في الشرق فصل التوائم السيامية واسس قسم الجراحة في البصرة حصل زمالة من كلية الجراحين ا لدولية والماستر بالجراحة وزمالة الكلية الملكية للجراحين وما تزال مستشفاه -السعدي - التي اسسها قائمة . والشارع جوارها باسمه .وكان مهيمنا على قسم الجراحة في مشفى تذكار مود الذي سمي لاحقا بالملكي ثم الجمهوري .
بعد سنوات طويلة دخلت عيادة لطب الاسنان ليلتها لم انم من الالم .. -يا صبح اطلع -.. كان العراق محكوما بالحصار وما كنت املك المبلغ الكافي ولفرق ربع دينار لم يخلع سني ..لكنني لم اعمم فاحقد على الاطباء ... وعندا اصيبت زوجتي بمرض عضال في القلب .. تخشبت ساقها فقيل : بتر ..وسالت الطبيب كم نسبة النجاح فقال وعليك ان توقعّ , والتقط صورة لتوقيعك ... كان الاطباء يخشون لكثرة الاعتداءات لو مات مريض اثناء العملية .. في اليوم الثاني اتى طبيب شاب هو نجل المختص الذي ذكر لي نسبة النجاح .. في التاسعة صباحا كنت قرب زوجتي فصاح عليها (اصحي .. نريد الان بتر ساقك >.. أي فزع .. واية طريقة مخزية تصرف بها هذا الدكتور .. تخيلته يخاطب شاة .
من ايام رأيت فديو وكانت هوسة-اهزوجة- المهوال تنص (طلابة عدنة وي الدكتور ).. رددها وهو يمسك عصا من طرفها .. ثم جرى لحشد يصطف نسقا متعرجا امام سرادق .. وعاد فثبتها على الارض وانحنى مرددا الهوسة ماسكا عصاه من قمتها ومحركا قبضتة المتوترة بشكل دائري (طلابةعدنة وي الدكتور -اي مواجهة وثأرا -. ورغم ان المهوال اعتذر في اليوم الثاني وقال كنت اقصد مجازا .. فان مثل هذه الاهازيج تعكس حالة التذمر من الاطباء وسهولة الاعتداء عليهم (مطلوب دم ).
لكن بعض المختصين من الاطباء لا يرحمون المريض .. فيكتبون علاجا بعضه غير ملح ويكرهونك ان تشتري من صيدلياتهم .
ها يوم
في الساعة الثانية ليلا وكنت في الايفا فاستهدفتنا قذيفة ايرانية .. اربعة تهاووا يتصارخون , كنت اخجل اصرخ لكنني شعرت برطوبة في جوربي وخشيت ان ينقلوهم للطبابة وابقى انزف وحدي فصحت متأوها .
كنا بابعد موقع وصله الجيش العراقي ( بهمشير ) وكنت ضمن الكمدوز رغم اني لست مختصا معهم , هو ذات الموقع الذي اسّرنا فيه وزيرا ايرانيا دخل مواقعنا خطأ, وبعد عشر سنوات سمعت رجلا يصرخ بين الفينة والاخرى في زنزانة انفرادية بمديرية الامن ببغداد صائحا ( اللهم صلي على محمد ) فسالت عنه فقيل الوزير الايراني الاسير .
كنا ثلاثة افواج من القوات الخاصة في البصرة الفوج الثامن اقتحم المحمرة ( خرمنشاه ) حيث دارت حرب شوارع .
اما فوجنا فدخل المعركة لاحقا لانه مزود ببرمائيات واجل زجه لاجل عبور نهر الكارون .
في البدء كنا كخلفيات اعاشة نعسكر في اقاصي الشلامجة المنطقة الحدودية ونرسل عبر عجلات الايفات المواد الطازجة والمعلبة من هناك للفوج المتقدم .
كانت رحلة نقل الاغذية محفوفة بالمخاطر فقد كان القصف الليلي بكل مكان .
كنت اذا اشتد القصف في غمرة الظلمات اضع يدي على عينيي واغطس وجهي في الرمال ربما لان العيون اهم ما املك فان اصيبتا ساحرم من القراءة والكتابة التي هما سر بقائي حيا .
وماذا رايت عبر الكارون : اثاث الناس ينهب من القرى حتى ان احدهم ترس عجلة كبيرة وعبر بها في يوم اجازته حيث سينتقل لبيته الحديث الذي بناه لكن قذيفة هشمته وعجلته في الطريق .
كنت اتالم للنهب فحين كنا نقتحم المنازل الكردية في شمال العراق في دهوك قبل ثلاث سنوات لم يجرؤ احد ان ينهب عود ثقاب , واذكر يوما عثر على مصوغات ذهبية فخبأتها بخرقة واخفيتها في ذات المنزل الذي وجدتها فيه .
ربما كنا نستولي على ماشية الهاربين المطلوبن او نكره بعض الاكراد على حمل اكياس الجوز لمسافت طوية اما ان يتجرأ جندي لنهب شيء من منزل فذاك خيال .
كان موقع الاعاشة بيت من الطين وكنت فجرا اغادره للقرى الكارونية حذرا من قصفه وهو ما حدث حقا فبعد اصابتي ونقلي تم تحويله لحطام بقذيفة مباغتة .
العنف يعكر طقسي النفسي وعلينا تجنب الحروب باي ثمن لهذا كتبت ( دفعتك البنادق
نحن البنادق
لا خيار
بين نار ونار
فتقدمت مستهزئا بالهزيمة والانتصار ).
ذات يوم قذفت حجارة قرب راسي واصدمت بالموضع المرتفع فشتمت من قذفها حتى علمت بانها شظية لا حجرا كنت على بعد شبر من الموت .
كان لواؤنا القوات الخاصة 33من اقوى الوحدات في البصرة وهو تابع للبحرية واثناء التدريب فجرا نصرخ ( بر بحر جو ) فلدينا مظليون وبرمائيات روسية وفوج مشاة .
واذكر حين اعود ظهرا من وحدتي وارى الناس يلوذون من شمس البصرة الصاهرة كنت اسخر منهم فقد تمرسنا عبر التدريب العنيف ان نجتاز قسوة الطقس والحياة.
( ان قطرة من العرق تزيح قطرات من الدم ) هكذا كنا نقرا اللافتات التي تنتشر في وحدتنا .
وماذا افعل عبر الكارون كنت اصطاد السمك واستهدف بالرصاص بطات تعوم ولدي مصيادة اقنص بها الطيور .
بعض الجنود حاصروا يوما حمارا وانثاه وكتبوا عليهما اسماء قادة ايرانيين وارغموهما على التزواج في جوقة مقهقهة .
بعد الاصابة وصلنا الطبابة وكل يقول عالجوا صاحبي اولا ورايت ساقي اليسرى غارقة بدم موحل .
كانت نسبة اصابتي عشرين بلمائة وحددت بانها تحدد جزئي بالكاحل فقد اخترقت شظية العظم وخرجت من الجهة الاخرى فيما خلفت شظية اخرى اثرها في نفس الجزء من الساق .
ثبتت رجلي بجبس من اصابع القدمين حتى اعلى الركبة فما تركوا فتحة لمعالجة الجرح.
عدت بعد قليل من التعافي بعد سنة الى الخلفيات في الشعيبة اتوكأ على عصا .
بعدها قرروا ارسالي الى معسكر النقاهة في بغداد وفي الطريق نسيت اوراقي الرسمية في السيارة وفقدتها .
قال العقيد اسجنوه يوما واعيدوه ليسترجع اوراقه الرسمية .. كان ذلك وقت الظهيرة فقال الحرس ابق معي هنا فاستغرب حين اخبرته اني اريد ادخل السجن .
كان التوقيف قاعة واسعة لها شبابيك واسعة تؤطرها اخشاب ثخينة قاسية وقد ثبتوا عموديا فيها قضبان حديدية .
مثل هذا التوقيف لدي زلاطة فقد اعتقلت تحت الارض قبل ثماني سنوات بتهمة قذف السلطة وحكمت لمدة سنة في ابي غريب .
بعد العشاء جمعت الموقوفين واقمنا جلسة ادبية .
ورايت فيهم من يهتمون بالشعر والادب فسالتهم عن بيت ابوذية ذكره لي جدي وانا صغير حين قال ( مر احد على امراة علوية بازقة بغداد تسح صغيرا فاجابته ( ها يوم ) فقال : على الي صاح تالي الليل ها يوم , فشكت عليه ربها فاصيب بالعمى .
وسالتهم هل احد يعرف تكملة وقصة الحكاية ويا للغرابة كان احد الموقوفين يعرف القصة تفصيلا فقال .
كان صديقان يتسامران اعلى القرية على ارض رملية فاردا يفترقان قبيل السحر فقال احدهما لصديقة ( تعال معي نتناول الافطار ثم اذهب ).
في المنزل قال لامه ( لدي خطار وانا ماض للحمام فاعدي لنا الفطور ).
لكن صاحبه لم يتناول لقمة ولم يعد يتكلم فقد احتله وجوم مباغت فلم يتركه صاحبه يمضي وابقاه للغداء والعشاء وحاول بكل الاساليب ان ينطقه فلم يستطع .
اول الليل ذهبا للسمر فقال له ( ما بك يا صديقي فقال (لا شيء فقط اريد اغني ) وصدح ..
(سريت اقرة بتوالي الليل هايم
على الي صاح تالي الليل ها يوم
ها عمري ثلثتيام ها يوم
ها كبل الفجر يسرون بيه )
وحين توادعا عاد صاحبه لامه وسالها عما حدث حين زارهم صديقه فاجاته ( لا شيء فقط بكى اخوك فناديت اختك (يوم ) فاجابتني ( ها يوم ) وقد مرت على غرفة الضيافة خطفا .
قيل انه قصد صاحبه في اليوم الثاني وزوجها اليه .
ذاكرة المشنقة
لم يكن الموت يقلقني يوما..هذا لا يعني انني لم اتحاشاه لكنه لم يشكل قلقا فكريا وروحيا لي. وسبب اهتمامي بالمشنقة يعود لتنبئي باني ساموت شنقا.
كانت اول رؤيتي للمشنقة سنة 1974 حين كنت ازور مع صديقنا الذي قضى غرقا الشاعر حيدر الكعبي في سجن البصرة..هناك رأيت غرفة الاعدام كانت جوا مغبرا كئيبا منصة خشبية وحبل يتدلى فانقبضت روحي فكتبت
( الفتى اذ رأى
من الثقب مشنقة وغبار
قال ليست سوى لحظة. .
وامسك بالبندقية).
بعدها بسنتين قرأت عن دستوفسكي الذي حكم عليه بالاعدام 1849 وهو يصف لحظات الاعدام بروايته ( الابله).
( يا الهي ما اشد رغبتي بالحياة. .تذكرت الماضي الذي هدرته واسات استخدامه فرغبت في الحياة من جديد لتحقيق الكثير مما كنت انوي تحقيقه لاعيش عمرا طويلا.).
وكان قد نظم وقته تنظيما دقيقا ساعة اعدامه فكان اخر عمل هو ان ينظر بعيون المنفذ.
قصيدة البريكان ( الرقم 69) ليست وصفا لمحكوم بالاعدام بل مفخرة في الشعر العربي..( الرجل السادس والتسعون. .لا اسم لي. .الآن اناالسادس والتسعون...).
اول مشنوقين شاهدتهم في مراهقتي سنة 1969 حين علقت جثث متهمين بالتجسس جلهم من اليهود في ساحة ام البروم وقد علق لوح على بدلة كل منهم تشير للمهنة واسمه وديانته في تجمع.
جماهيري صاخب.
ثم اغلقت الكنيست حتى الان في البصرة. . نمر عليها ولا نجرؤ للاقتراب منها.
في لقاء متلفز بث من قريب تحدث حسين من مصر الملقب بالعشماوي عن تفاصيل تنفيذ الاعدام وهو رجل نفذ 1070 عملية شنق.
يقول نضع على الحبل مادة زلقة في الجزء الذي يدخل الرقبة..وان الموت شنقا هو اسرع موت اطلاقا..لكن المشكلة ان المحكوم لو علم فقد يدمر نفسه او يقتل الحراس لذا تتم عملية الاعدام فجر ا فالمحكوم لا ينام ليلا وغالبا في السابعة صبحا يتسلل اليه حراس ويباغتونه فينامون عليه ويضعون يديه بالاغلال عندها. .خلاص..لهذا ماتت امراة قبل التنفيذ وشل البعض وظهر كثيرون كمن يحلمون.
ما حدث في العراق يختلف فيذكر الكاتب احسان السامرائي انه نام ليلة اعدامه في معبد البهائيين خلافا لتصريح عشماوي الذي ذكر ان المحكوم لا ينام ليلا..
وفي غرف الاعدام التي دخلتها كانوا غروبا يقتربون من قضبان الباب رافعين رؤوسهم للسماء وهم يدعون الله ان ينقذقهم بدعاء ساخن.
وحين يستدعونهم ينقادون بكل بساطة.
وكنا نرى في الرضوانية عمليات اعدام وهمية للترهيب. فيعلق المتهم على شجرة ويشهر مسدس بوجهه.
يقول عشماوي ( رجل في الثمانين طلب ماء لا يحتاجه ليؤجل الموت دقيقة...واخر يطلب يصلي).
ورغم معارضتي للرجل اعترف بان صدام حسين وهو يتقدم لحبل المشنقة سجل اعلى درجات الجرأة.
الظهور امام الجمهور
دعتني اللجنة المنظمة لاحياء ذكرى رحيل الشاعر الرائد محمود البريكان فقلت لهم ساشترك بالسرد لا الشعر فارفقوا اسمي ضمن الدراسات .
كان دوري متاخرا في قاعة عتبة بن غزوان الضيقة وسط العشار وقد بدا الجمهور القليل متململا من الشعر الذي يصعب هضمه .
لكني اقتطعت صفحات قليلة من كتابي ( البريكان مجهر على الاسرار وجذور الريادة ) لاتلوها امامهم .
ولم تمض دقائق على بدء قراءتي حتى فاجاني المقدم الكاتب جاسم العايف بان وقتي قد نفذ وعلي توديع المنصة فقلت له ( احتاج دقيقة فقط لاكمل الفكرة ) فرفض .
ورايت بعض الحاضرين يقفون ويدلون باحتجاجهم ويرغبون بان اكمل فلم يوافقهم الراي .. بعدها التقت معي اكثر من فضائية على هامش الجلسة لاحدثهم عن البريكان .
اذكر اني خاطبت العايف محتجا ( بلد يضيع فهل تؤثر دقيقة واحدة ).
بعد اشهر اخبرني صديقي علي عبد النبي بان العايف كتب عني في احد كتبه ( باني مت بعد مغادرتي السجن بسبب مادة سمية زرقت بها اثناء الاعتقال حسب قول اهلي واصدقائي على حد قوله ).
حين اطلعت على المعلومة في الكتاب قصدته بالفيسبوك واخبرته معلقا باني حي ارزق لكنه تصورني مدعيا واصر على موقفه .
بعدها نشرت بفكاهة عن الحادث على حسابي وقلت يميتونني وانا حي , ولا ادري كيف اهتدى الاديب الفقيد لصفحتى وكتب معلقا بكلام جارح وبانه لو كان كلامي حقيقيا فعلي ان اشكره لاني نكرة وهو من ذكرني .
صديقي الاديب ع القريب من العايف عاتبته لماذا لم تخبره باني حي وقد قرات حوارنا فقال ( فضلت تاجيل الامر ! ) , وهو سلوك مؤسف اتمكن من تفسيره لكني لا اود توصيفه هنا .
مر العايف قبيل رحيله شبه محدودب ذات مساء ثقيل الخطى وكنت بمقهى مكشوف على الشارع وكان يرتدي قاطا بيجيا فقلت لصاحبي ( انظر هذا الذي حرمني من دقيقة لاوضح فكرتي والذي اماتني وهما ).
كنت لا اعرف الاستاذ جاسم العايف (1944 -2019 ) فبحثت عنه وعلمت بانه كان سجينا في سجن الحلة المركزي 1965 حيث بدا النشر وانه سجين سياسي عام 1964, (شيوعي ) وقد نشرفي مجلات و صحف عدة وعمل في بعضها وتصدر اللجنة الثقافية في اتحاد ادباء البصرة واصدر كتابين (دراسات في الادب والفن والفكر وقراءة اولى .. مقالات ) وان اغلب الادباء يحترمونه .
عندها تجردت من غضبي وسامحته ولا ادعي ان تصرفيه انمحى تاثيرهما بنفسي .
يظهر ان الانسان عندما تباغته الحقيقة يصعب عليه تحمل اعبائها وان النادرين من يواجهونها بشجاعة الوعي .
الكثير من المهرجانات الثقافية وجلسات الذكرى او الادبية هي لون من الاستعراض يظهر فيه الجمهور جامدا مثل كائن مخدر يعمه الوجوم .
وانت تستغرب من قوة التفاعل في المهرجانات للشعر الشعبي وفقره بمهرجانات الفصيح .
مؤخرا اميل للتصور بان 90 بالمئة منها هي احفاد جثثية لسوق عكاظ .
احيانا تدفعك نزوة غامضة للظهور يصعب تفسير اسبابها منها ذلك الضحى الذي القيت فيه قصيدة نظمية من الشعر المقفى .
في احدى القاعات بكليات باب الزبير بساحة سعد وقفت خلف الات موسيقية صغيرة وكبيرة كما في احتفالات الجاز والتقطت لي صورة وانا امسك المايكروفون المعلق بعمود رفيع اسود , كل من رأها حسبني اغني .
كان الجمهور من طلاب وطالبات صاخبا وربما دفعوا كرها لحضور مناسبة وطنية يستهجنونها ,حال شبيه بالاجتماعات الحزبية المكررة الفارغة التي سأمها الناس .
حييت الجمهور ناظرا كل طالب فرحا بملاطفة طالبة حبيبة او مقربة .
وذكرت العنوان ( الاخوة كراموزوف ) فصاح احدهم ( اعد ) فاجبته ( وماذا اعيد هل العنوان ؟ ) .
طالما كررت ذكر هذا الموقف الفكاهي فالطالب عبّر عن روح ظريفة , ربما كان جل همه ان يستقطب نظرة فتاة او ضحكة طالب ولا يعنيه شعر او فصاحة .
ثم قرات قصيدتي المختزلة الغامضة
(تعوي الجماجم هل رأيت حجارة
ذئبية رنت لغير المعول
وتصوف الشبقي من املاقه
وانفت رغم سنا ورقة مخمل ).
في مهرجان اخر رأيت حضورا غفيرا تحتل المقاعد الاولى عمائم سوداء وبيضاء ومسؤولون ومتكرشون , فبرقت بذهني فكرة قديمة هي ان نتلو ما يزعج ايام الاحتفالات المفرغة التي كان يقيمها النظام السابق , ثلاثون عاما من ( فلسطين عربية و شعب شعب كله بعث ويعيش ويسقط وخلي عارف يلحك نوري او حافظ ) ثلاثون عاما من رايات تلوّح ومعقلون يهزجون واياد احمرت من التصفيق .. انتهت لفراغ عميق .
لقوة الحضور طلبت من المشرف ان اقرا قصيدة ومن محاسن الديمقراطية الشكلية انهم لا يطلبون قصيدتك للفحص قبل الالقاء فقرأت
( وعاد حرملة للبار موضعه
ريش الطيور ودم النحر يثمله
ومر الف يزيد في شوارعنا
اشك نحميه حقا ام سنقتله
انت للحرية مولاي ثرت
والنحر كل يوم عدنا وكربلاء
باسمك انترست جيوب الفاسدين
ومن فساد المال كلهم ابرياء
برلمان وبرلمان وبرلمان
وضاع صوت الحرة (يا بن الطلقاء)
اظن باليابان الردته جرى
واحنة ظلينة بطالة وكهرباء ).
وجدت القصيدة صدى ووقف الكثير مصفقين .
كنت ارددها في الباصات والمحال ومواقع اخرى كثيرة فلما كثر طالبوها طبعت مئات النسخ منها على ورق بحجم الكف واختصرت الجهد بالتوزيع .
لكن ما جرى بعدها كان لافتا , فكان المشرفون على المهرجانات غالبا يعتذرون مني لان الوقت لم يسمح بمشاركتي حسب زعمهم , حتى اسرّ لي البعض يوما ( انت بعد قصيدتك عن حرملة والبرلمان صار شبه اجماع خفي على تجنب القائك ).
وتأكد ذلك حين قال مسؤول كبير في جلسة ودية مبتسما بحضوري ( انتبهوا لاستاذ كاظم فان اعتلى منصة فسيحرجنا بقذف البرلمان ) .
شارع بشار
انه شارع بائعات الهوى .. عهد الحصار على العراق لعشر سنوات كلفني صديق مقاول طيب ان اشتغل لديه ببيع ماء الآرو في هذا الشارع وكنت اسرع الخطى كلما دخلت ازقته وسمعتهن يدعونني واقفات في الابواب ( ادخل تونس ).
كان المقاول الحاج علي قد كلفني واربعة من اصدقائي لنعلمه اوليات اللغة العربية وشيئا من الفقه والتفسير وغيرها وكانت العربية من حصتي .. نلتقي ظهرا فنصلي ثم تنضج المائدة .. ايبااااه .. نحتار ماذا نتناول من المشويات والاسماك وانواع الفواكه والدجاج المشوي وجك اللبن المثلج في جو مبرد بتموز البصرة حيث الحرارة قد تتجاوز 50درجة .
لكن جلساتنا انفرطت وعدت لتناول القليل من الرغيف والباذنجان ملك الساحة زمن الحصار فهو السلعة الوفية الارخص التي منعت بعض العراقيين من الموت جوعا :
(اسود سواد الليل والزلف اخضر
جسمك جلد روغان والريحة عنبر
بالمحشي والتركيب بالمركة شفناك
تموّت جميع الناس من بعد فركاك
هم طرشي هم تكلاه هم شيخ محشي
مثل الذهب يا ناس بالعلوة يمشي ).
مئات الاهازيج والابوذيات والقصائد كتبت عن الباذنجان واتخيل شخصا سيتاثر بحماسة ابي تمام فيكتب موسوعة مختارة عن شعر الباذنجان حتما سيدوخ ويتعب .
الحصار مفردة تمر على الاجيال مثل كلمة هجوم مضاد نلتقطها ببرود اما من عاش اهوال الحرب فستعكر طقسه النفسي .
لكن الحاج بعد اشهر عاد لي وطلب ان ادرسه وحدي مقابل ان يشتري لي تنكر ماء حلو لابيعه فاعطيه فقط رأس المال قرب دارهم ..
لكن الفكرة تطورت وها انا ابيع الماء في شارع بشار .
( المومس الحقيرة الاجيرة
اكثر من حبيبتي سخاءا
اتيتها مساءا
معانقا اعانق الهواءا ... السياب )
ولو امتد ببدر الزمن لمرعلي وكنت قدمت له ورقة احتجاج فلا مقارنة بين مومس وحبيبة , فالاولى تخفض توترك لعشر دقائق والاخرى تدخل روحك الجنة .
ولان الغريزة فوّارة فشارع بشار لا تكدس بضاعته .
وربما لا اقدم احتجاجي فتتغلب الحكمة فاقول بضميري ( لعل له عذرا وانت تلومه ).
لكن تنكر الماء للحاج كان ملكا لرجل مسيحي فكان من النادر ان يقصده المسلمون وحين اصبح لنا اتينا بخطاط كتب عبارة ( اللهم صلي على محمد وآل محمد).
رغم ذلك ندر زبائننا ما ادى لفشل المشروع .
وعدت اثرها للطماطة الحمس وليل الباذنجان .
الازقة الضيقة القذرة في بشار وجمال بيوت الشناشيل التي عتقت او تآكلت مخلفة ظلالها المهندسة بجمال على مجرى الماء الآسن , كان على البعض ان يلتزم بالتريب في الطابور حتى يبلغ دوره لتناول وجبة عجلى من اجساد العاهرات .
كان رواد الشارع ينقلون لنا قصصا شبه خرافية عنهن وما يجري داخل البيوت مثلا ان بسعر كامل تتعرى لك تماما وان بنصف سعر فتغطي القوادة اغلب جسدالمراة العلوي وعليك ان تهتدي بغريزتك للشق الذي يمتص حممك للحظات ثم تمضي .
حدثني احدهم انه كان فوقها وهي تحصي بالنقود صارخة ( استعجل ) .
مرة طلب مني سجين كان معي بمديرية امن البصرة ان اصنع له طرشي ليبيعه فدخلت احد ازقة الشارع المخصر المتعرج فاجتزته منهكا ,كن يطلقن القهقهات المدوية والالفاظ البذيئة ليلفتن الانتباه .
لكن هذه الذكرى لا تنسى كانت مغامرة انجبها الخمر , لا ادري كيف اقنع احدنا الاخر ونحن عائدان من بار بعيد ان نوقف السائق فيمضي ونتوغل في بشار, اتوقع الوقت بعد منتصف الليل ,وكانت الشرطة تلك الايام تشن حملة تضييق على بيوت الدعارة .
دخلنا احد المنازل فقالوا لنا (غادرت النسوة وسيتاخرن لساعات ), قلنا ننتظر وجلسنا بين شابين ورجل .
قرات لهم شعرا دارجا ثم اقترح علينا الرجل ان ( ننام معه ) .
كان اقرب للبدانة ابيض البشرة املس يشد جبينه بقطعة قماش حمراء .. دخل اولا صاحبي وخرج بعد ان انهى مهمته ودخلت بعده فحاول معي بكل فن اتقنه ومكر تعوده وتخنث يجيده فلم يتمكن من تحريك شعرة في جسدي ..
انها المرة الاولى والاخيرة التي اقدم فيها لمثل هذه المغامرة الهزلية .
في ايام الحرب العراقية الايرانية شن النظام تصفيات ضد بيوت الدعارة ومنع بيع الخمور ضمن الحملة الايمانية التي اطلقها .
وذهل الناس من رؤوس ثلاث مومسات مقطوعة وموضوعة في قدور نفذها رجال فدائي صدام ..
ومن ساعتها كفن شارع بشار وانتهت حكايته لكن تنظيم الغريزة لا يموت ببساطة فقد دبت فيه الحركة ثانية بحذر رغم النظام ( الايماني ) الجديد بعد السقوط .
وفيما حجبت بالبسطات التكية التي تتوسطه اعيد مزار بن يقطين (124 ه – 182 ه ) وجدد بناؤه .
وتتضارب الاراء عن اصل قول فيه لاحد الائمة ( ما حج الا انا وناقتي وعلي بن يقطين في البصرة ).
صراحة
عليك ان تقر بجهلك بعد اكثر من ستين عاما من القراءة الغزيرة المكثفة والمتواصلة رأيت اليك لم تدرك من الحقائق الا الجزء اليسير مثلا كتاب فلسفتنا لمحمد باقر الصدر , قراته بداية مراهقتك , فيه بحث عن فرويد وكان عليك ان تتابع هذا الرجل لخمسين عاما لتعرف بعضه وورد في الكتاب بافلوف فهل فهمته يوما ذاك خيال فحسب , فعليك سرقة زمن كاف لتتفهم نظرية المنعكسات الشرطية التي اكتشفها , وسمعت بمؤامرة ناظم كزار اول السبعينيات بالعراق فهل عرفتها , فبعد عقود كل سنة تظهر معلومات محدّثة عنها .
فكيف تدرك كنه الحياة .
(رحت أستفسر من عقلى وهل يدرك عقلى
محنة الكون التى استعصت على العالم قبلى
ألأجل الكون أسعى أنا أم يسعى لأجلى
وإذا كان لكل فيه حق : أين حقى؟!.. بحر العلوم ).
وحين قرات للرائد البريكان ( ما انت بالبسيط
وسوف لن تفهم شيئا من فم القدر ) وسألته عن مفردة البسيط فاجاب انها مفهوم مسيحي فهرعت للانجيل وعلمت وصيته (هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسْطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ." (مت 10: 16). العهد القديم |.
ولم يكف ذلك لان ثعلبية الاخرين في تطور مديد .
وحين اردت ان تضع كتابا عن ابي مسلم الخرساني كتبت مائة صفحة وتوقفت لان كل المصادر عجزت عن معرفة كونه فارسيا او عربيا .
وكان عليك ان تتفهم الخريطة فحين نقول خراسان فهي تاريخيا ليست هذه التي نزورها الان , انها تاريخيا تمتد حتى افغانستان وهرعت لكتب الجغرافية وحملت يوما مجلدا لمستشرق يبلغ الف صفحة يحدد جغرافية خراسان .
وحتى مواليدك ليست محققة لان ابي قال لي (انقصت سنتين من عمركما في التسجيل انت واخيك لتجنب الخدمة الالزامية ) فهل اكذبه ؟.
( لم ينجب العقل قانونا يحصنه
من الظنون ومن سخف القوانين .. الجواهري ).
والان وانت في عصر الشهادات العليا التي تمنح بالمال المنهوب يخرسونك كرها
(وهذا الذي إنْ أعجبَ الناسَ قولهُ
مشى ليُريهمْ أنه فاتحٌ مِصرا..
وهذا الذي قد فخَّمتْه شهادةٌ
خلاصتُها أنَّ الفتى قارئٌ سطرا ... الجواهري ).
والان ايتها الروح الغريب عليك ان تتحمل جدالاتهم والحوار في ثقافة المقاهي متذكرا صديقا طيبا كان يخبصنا كل يوم بافكار لكانت الفيلسوف الالماني موضع الجدل وحين تذمرت منه يوما سالته عن قول الفته ارتجالا ونسبته لكانت وهو (المحمول لا يبنى على المعمول ) , اجاب ( نعم انه قول عظيم ) ههههه. وحين فضح له السر صديقي الذي كان موجودا ساعة الفت القول ونسبته اجاب (كنت اعرف لكني كنت امزح ).
في مثل هذا الطقس الثقافي حكم عليك القدر ان تتعايش وان تكدح ثقافيا بلا يد مساعدة .
لكنك ملك الاصرار وقول فاليري هو شعارك (ان لم احقق طموحي فانت شاهد على قوة اصراري )
(انتم يامن ستظهرون – بعد الطوفان الذي غرقنا فيه – فكروا عندما تتحدثون عن جوانب ضعفنا – في الزمن الأسود الذي نجوتم منه – لقد كنا نخوض حروب الطبقات – ونهيم بين البلاد – ونحن نغير بلداً ببلد – أكثر مما نغير حذاء بحذاء – يكاد اليأس يقتلنا – حين نري الظلم أمامنا – ولا نري أحداً يثور عليه.. . )
يسالني الكثير من الزميلات والزملاء الكتاب طور النشأة عن الطريق المستقيم ليكونوا كتابا مهرة خاصة في السرد فاجيبهم ( اقرا ثم اقرا ثم اقرا ) ,واكتب يوميا وصف ما تراه , فلتتصلب فيك الواقعية قبل تقليعات الحداثة .
اما الشعر فلا تقربوه فنحن الذين ابلينا نصف قرن في كتابة الشعر نواجه مشاكل في كتابته , وان 90 بالمية من شعر الفيس هي لون من السفسطة اللفظية , اما ان افرحتك شهادات شكلية تمنحك اياها الكروبا ت فاهنئك فقط لكنك ستنسى كاية نملة ضلت الطريق .
نظرة الى الامام ج25
منزل النساء ومطار بامرني.
تلك كانت سنة 1979 كان قد مضى عام على زجي في القوات المسلحة , لم يخطر في بالي يوما ان اكون عسكريا فمنذ ان سمعت وانا صغير بان الجيش يأمرك ان تحفر حفرة ثم يكرهك على ردمها كرهت العسكر, وكان اخي ضمن وحدة مدفعية لا يمل من قص حكايا عن وحدته حتى اصابنا السأم من قصصه .
ومن طبعي السلام لهذا نشأت على كره مسبق للجيش .
حتما الان لي اراء مختلفة فلا تتمكن دولة من الوجود بلا جيش قوي .
لكن مدة خدمتي بالجيش استغرقت 8 سنوات بسبب الحرب...قلت لو تسرحت فلا ابقي اي اثر لاي شيء بلون الخاكي.
كنت من عام اطلق سراحي من سجن ابي غريب وبعد اسبوعين وجدتني ضمن لواء 33 الفوج السابع قوات خاصة .. ولانا نتبع البحرية فكان النزول يوميا ببزة بيضاء .
انها 1979 حيث تم نقل فوجنا من الشعيبة الرملية الى محافظة دهوك اقصى الشمال نحاذي تركيا .
عسكرنا بمطار بامرني كانت رحلة مضنية من الشعيبة في البصرة للشمال من موقع الصهر الى اراضي الثلج وكنت بتركيبي حساسا من البرد فتخيل حالي وانا انتقل مع بعض جنود سريتي بالايفا المكشوفة .
كنا نسميهم ( العصاة ) اولئك الذين حاربوا عقودا لاجل الحرية والكرامة , ضحايا بعض القرارات البريطانية الجائرة ,وكان اخي قد سبقني هنا قبل سنوات وروى لي صورا عن الرعب والانتهاكات التي كانت تمارس ضد الاكراد , فاية اطلاقة من قرية يتم حرقها تماما , أي رعب هذا .
هناك اقتنيت مجموعة (منزل النساء ) للكاتب البصري المبدع محمد خضير :
(وعبر راسينا القريبين كان ينتقل شلال من الاصوات الساكنة الواخزة على وسادة محشوة بالنواح وبصراخ الورثين المستبعد وباحتضارات الكائنات التائهة: شخير ابي وتنهدات امي وصرير الابواب واذان كل فجر وصياح الديكة ونباح الكلاب وهمهمات العجائز ثم تكسير العيدان في التنور وارتطام العجين بالراحات الماهرة بحة الامهات المزكومات الحبالى والمتخمات بغازات الكراث والفجل وماء الانهارالمسدودة اهازيج جامعي التمر وصفعات الاجسام العارية لماء الانهار الممتلئة بالحشائش الهلاهل والدرابك والطبول الولائم العشائرية وطلقات البنادق القديمة انبجاس الدم انسحاق الحنطة والرز في الجاون ونخل الطحين بالمناخل ودوران الرحى الصخرية المنقرة صليل الاساور والقلائد والاقراط والخلاخل لطم الصدور وقع القباقيب الخشبية صرير المهد الادعية والتلاوات والاهازيج ...) .
مثل هذا المقطع قراته هناك في دهوك فخفف عني الانصهار .
رايت في هذه المجموعة قصصا بنهج متفرد تمثل بخصوصية القاموس والايقاع ودقة التكثيف وروح الشعر .
واذكر في مناسبة ما تحاورت مع الشاعر الرائد البريكان فقال ( محمد خضير تفاءلت به واوصيت ان ازود بنصوص انشرها له في مجلة ( الفكر الحي ) .
من سجن ابي غريب الى عسكري بالكمندوز لشاب شاعر لم يتشاجر يوما حتى براحة اليد .
وكنا نعلم بان الاكراد يحبوننا نحن اهالي البصرة قيل لحفاوة استقبالنا للبرزاني قائدهم يوم زارها .
فكيف ساقتل كرديا , لهذا ابتكرت حيلة نجحت , فاقنعتهم ان نظري ضعيف فتم اعفائي من الاشتراك في الكمائن الليلية , فاشعل الفانوس في خيمتي وحيدا واوقد مدفأتي الصدئة واقضي الليل اقرأ فيما يكمن اصحابي تحت الثلج في انتظار اكراد ليقتلوهم او ياسرون .
ربما كنت الوحيد في وحدتي من يقرأ كتبا فلفت ذلك نظر جندي فقال لي ( انت تقرا سارتر لو تدري ما سيفعل بك ضابط الاستخبارات لو علم بذلك ) كنت حينها اتابع ثلاثيته دروب الحرية .
حين استقر جسدي في دهوك كانت الحركة الكردية في خمول , لهذا بعد ان نوزع القصعة,( كنت ضمن الطباخين ) ,امضي مشيا لساعة بحزامي حربة فقط بين بساتين العنب والتفاح والمشمش وغيرها , بساتين هجرها اهلها , كنت اقطف فاكهة واحدة كل عشرين مترا فلما اصل موقعي الذي ساعود منه يكون لدي نصف كيس تمن من الفاكهة فاضعها في مجرى ماء مبرد ونستحم على الحجر البهي ونعود .
من خيمتي في السليمانية سمعت جنديا يبكي ويشهق في التاسعة ليلا , ثم رايت احدا يضع اقدام جندي بماء ساخن فتخرج مثلجة ... ما حدث ان سريتنا قصدت اكرادا مسلحين وحذرهم الدليل من عاصفة ثلجية لكن الآمر لم يقتنع وامر الجنود بالتقدم فتمكن منهم الكرد المسلحون وتساقط الرجال بين جريح وقتيل ومعاق ولم ينقذ الموقف الا فوج من الحرس الجمهوري نقل من بغداد بالطائرات ليعالج الموقف .
كنت اتنزه وحدي في غابات دهوك..ملبدا بالظلال...منتشيا بجمال الاشجار ...ولاول مرة ارى اشجار الجوز شامخة باماكن مرتفعة.
جذبتني الربايا والمرتفعات وسجائر المقاتلين الكرد يضعونها داخل قصبة مثقبة مغطاة بطاقية خشبية كي لا يستهدفهم القناصون لضوء الجمر.
هناك شرعت بكتابة اراء نقدية حول قصيدة النثر...تجمعت بدفتر ضاع مني..
كنت مختصا بالمطبخ بسلخ الخرفان..التي نستولي عليها من الكرد الهاربين..
كنت اتسلى بكتابة زهيريات
( مايلة
عطشان حبك سراب الما روة مايله
وخمر الغرور بدليلك غيرة ومايلة..
كلبك الي ومن تمر عينك لهم مايلة
...الخ ).
وكتبت العديد من الابوذيات ذكرت فيها المناطق الدهوكية مثل سولاف وسرسنك وغيرها.
وربما الطرق المتعرجة في الجبال هي من ارهبتني فقلت ان غادرت فلن ازور الشمال الذي لم ازره حتى 2024.
فجرا نباغت القرى مدججين لكنا خلال سنة لم نمسك كرديا واحدا..النساء وحدها من نرى.
وكم اشعر بالخجل للان فيوم عودة فوجنا للبصرة كنا نطلق في الوديان عبثا وقد جاريت الجنود واطلقت مثلهم على الفراغ.
الفنان رعد الحجاج والبقال الكهل.
كانت اللوحة المعلقة في غرفة الاستقبال كبيرة نسبيا..رسمت باسلوب يحاكي السريالية..قلت في نفسي ان هذا الفنان رعد يملك موهبة وسطية كان اول لقاء مع الفنان التشكيلي رعد الحجاج في مرسمه وسط ساحة ام البروم قريبا من تمثال العامل الذي يقف بشموخ رافعا مطرقة ثقيلة.
كان مرسمه محاذيا لمحل استاذي في الابتدائية الشاعر المترجم علي عبد الكريم الذي يقع في زقاق ضيق مغلق.
سألت رعد الحجاج(هل تخرجت من معهد او كلية الفنون) فاجابني باحتدام (لماذا تتصورون بان خريجي المعاهد الفنية وحدهم من يرسمون).
يتمتع الحجاج (1967-2019) بروح الفكاهة واناقة المظهر والانفة والكتمان وهو شاطر في حقل مصالحه..وهو مؤمن بلا تشنج.
وكنت اخشى واحثه(عليك ان تنجز اعمالا مهمة ولا تتوزع.).
وكنا حين نكثر الحوار حول ماتيس وبيكاسو يقول(ان هناك فنانين عظماء لا تركزون عليهم).
بعد السقوط بقليل اسس الكاتب عبد الرؤوف الشريفي ورعد الحجاج صحيفة المدى ودعاني لان اكون مديرا فيها.
لم نكن نملك مالا ولا خبرة صحفية كل ما في الامر كان يسوطنا الاصرار لنتنفس بعد عقود من الكبت الصحفي والثقافي.
بعدها شاركت معهما بصحيفة (صدى الناس)التي صدر منها عدد واحد ب حث من الرجل المسن حسن الخفاجي.
ومرت السنوات وعملت مراسلا في صحيفة حوار فدعوت رعد الحجاج ليعمل معنا بصور كاركاتيرية.
قدم لنا صورا كاريكاتورية تميزت بتعملق الاجساد والاشياء.
كان عبد الرؤوف ورعد صديقين قديمين درسا في جامعة الموصل فتخصص رؤوف بالترجمة ورعد بالعلوم الفيزياوية.
وكنا نحن الثلاثة من محلة واحدة.
فكنا نلتقي باستمرار.
اسس رعد الحجاج(جماعة حضور للفن) مهتمة بالرسوم الكاركاتورية..وقد فازت احدى لوحاته من منظمة ثقافيه في كندا.
كان السكن يشكل لرعد ازمة حادة بعد السقوط كلف من ديوان المحافظة باقامة جدارية واكتملت ونصبت على الجدار الخلفي لشركة نفط الجنوب في شارع دينار.
كانت الجدارية تنويعا من الفسيفساء وتظهر فيها صورة السياب الا ان قطعا منها بدأت تتهاوى بمرور الايام.
كنت اتمنى ان يصمم تمثالا يخلده كتمثال العامل الذي انجزه الفنان البصري عبد الرضا بتور وصار التمثال علامة دالة على ام البروم.
لكن تلك الجدارية اكسبت رعد مالا مكنه من شراء منزل بعد طول عناء.
البقال الكهل
هي لوحة عرضها علينا مع لوحات واقعية بنفس الحجم انا وعبد الرؤوف الشريفي وكانت مرسومه على الورق المقوى وهي متقنة توازنا والوانا ..
هي لكهل بقال يرتدي دشداشة عتيقه وجيبه منتفخ..حاولنا ان نخمن ماذا كان يخبئ فيه..يبدو البقال خارج عالم السوق.. غارقا بعوالم اخرى تعصر وجهه المغضن غيمة من الحزن واضحة يجلس امام المخضرات والفواكه.
تلك اللوحات من الواقعية المحدثة هي افضل ما انتجه الفنان رعد فطلبتها منه وقلت له (ساكتب عنها) فاهداني اياها وما تزال معلقه على جدار منزلي.
كم تمنيت ان يطور التشكيلي رعد من فنه الواقعي.. لكنه توزع وتفرع فأثر ذلك على فنه.
في ايام الحصار عمل نحاتا في ورشة صديقنا صباح.. كان نحته على الابواب الخشبية مميزا.. حيث النباتات المتنوعه وانواع الزواحف والطيور والازهار وغيرها.. كانت اعمالا متقنه تمنيت ان يتطور فيها.
لكنه كان سريع التحول هوسا بالتنوع والتجديد.
وفيما كنا ننتظر منه ونحثه لاقامة معارض له او نحت يخلد وسط المدينه كان يتردد.
في تلك الليلة الكارثية اوصل صديقه الى شارع بغداد فدهستهما عجلة مسرعه.
في اليوم الثاني كنا نحن اصدقاؤه الثلاثه انا ورؤوف وعلي عبد النبي نحاول ان نتماسك ونحن نرى جثمانه يغادرنا للابد وكنت اردد ابيات لي في ضميري
(فان الخطى المبطئة تضيع صبحا).
بهذا سينضم الفقيد رعد لقافلة الادباء والفنانين الذي قضوا مبكرا تاركين اعمالهم بيد القدر.
قراءة الطالع وطرد الجن.ج27
مبكرا ادركت بان قراءة الطالع لون من الخرافه لكني تقربت الى الكثير من قارئي الطالع وطاردي الجن لاتفهمهم.
في مرة دعتني امرأة وطلبت ان اتعاون معها بجلب الحبيب وما شابه فرفضت ذلك.
يوما ما طلبت اصطاد لها سلحفاة لتعمل منها سحرا لمن تاخرت قسمتها وندر طلاب يدها فقصدت ابي الخصيب وشاءت الصدف ان اصطاد سلحفاة.
في طفولتي لم اعرف كيف اخلص الصنارة من فم السلحفاة فكنت اشبعها ضربا بالعصي وادميها وربما امزق ظهرها لكنها لا تخرج رقبتها.
فيما بعد تعلمت ان اعلقها مشدودة بحبل الشص حتى تتعب فتظهر رقبتها كرها فاتمكن من سحب الصنارة عنها.
اتيت بكنز السلحفاة غروبا فاشبعتنا روائح كريهة.
في الصبح ذهبت بها اليها واستلمت النقود.
هذه المرأة كانت تتفق مع اخت زوج المرأة فتسرق ذهبها وتخفيه في مكان وتخبر القارئة عنه..وبعد البحث واللطم والنواح تاتي بها للكشافة فتكشف لها عن المصوغات وبذلك تكسب مالا وشهرة.
عدد هائل من النساء يقصدن قارئات الطالع ويتركز الطلب غالبا بترويض الزوج او تسريع الزواج.
لكن ما سارويه حالة مختلفة ..
كنت بلا ثمن ادرس يوميا صديقا لي يعمل في محل ضخم لبيع الادوات الكهربائية..اقصده مشيا لمسافات طويلة.
ذات يوم وقد بدات طرقات الحصار تتوغل في العظم فقصدته لاستدين مبلغا ورايت درجه طافحا بالنقود فاعتذر معللا بان ما اراه من نقد هو لدفع الايجار.
يوما ما طلبني لاعمل له سحرا لجلب عشيق ذكر وكم اشمئز من تخنيث الاولاد.
فقلت في نفسي (اتاك الموت يا تارك الصلاة).
ومرت صور النقود الورقية بالوانها المتنوعة تثقل درجه الواسع.
وعادت لي مشاعر الصدمة حين رفض اقراضي..وكنت حساسا بالطبع من الاقتراض..بل كنت لا اسمح حين اتنزه مع صديق ان يصرف درهما واحدا..لعن الله الحصار.
قلت له (هناك ساحر خبير هرم يسكن اقصى البصرة).
ومنحني نقودا لاقصده ولم يكن هناك ساحر بل خرافة صنعتها لاخدعه.
بعد يومين قلت له(الشيخ طلب قطعة قماش شرط ان زوجتك قد امسكتها).
فسلمني تلك القطعة عصرا.
بعد ايام اتيت له بقنينة ما ء وقلت له(رش منها من بيت صاحبك الشاب حتى باب منزلك..وبعضه اسقي به شوكة متيبسة وما تبقى اغتسل به يوم الخميس).
واعطاني نقدا مرتفعا فاتيت زوجتي مبتشرا وقصدنا السوق نشتري اللحم والسمك وطباخا وتنورا غازيا..
كنا نحتفل بنجاح الخدعة..وطز به ومعشوقه الذي سبب ازمة له مع زوجته.
بعد شهر قال لم تنجح التعويذة..اجبته(ان صاحبك خالطه جن عظيم والساحر صاحبي قصد خراسان..فهو درويش وسيمكث هناك ثلاثة اشهر).
كان قارئو الطالع العجم يجوبون الدرابين منادين(كشاف. .. فوال).
في عهد الحرب العراقيه الايرانيه ظهرت امرأة تكشف في المرآة فتدعو المرأة التي فقد زوجها في الجبهات ان تنظر في المرآة وتتمكن باشغالها من سرقتها.
هناك كشف الطالع في القرآن..فيعمل الملا طقوسا ثم يفتح القرآن ومن خلال الآية يعلم الغيب الا ان امي اتتها قارئة طالع لا تجيد القراءة فكشفت لها في كتاب الله فقالت لها امي(ان الآية تتحدث عن ابي لهب وليس ابني).
يمكنك ان تعلم بنجاح مشروع طاردات الجن من خلال عدد الاحذية والنعل في باب غرفتها فمن اشتهرت تتكاثر ومن لم يحالفها الحظ تقل النعل قرب العتبة.
قد تساعد التعويذات والدهون العشبية والطلاسم والاحجار بعض الرجال و النساء ان آمنوا به ايمانا مطلقا لانها تعمل على تحسين المزاج النفسي..
اما ان يحل مشاكلنا المعقدة عظم الهدهد فتلك خرافة كهفية.
موجة دينية ج28
في التسعينيات تصاعدت موجة دينية ربما كان احد اسبابها تاثير المرجع الشيعي محمد صادق الصدر الذي كان يخطب يوم الجمعة وهو يرتدي الكفن كاشارة لتحدي قسوة النظام السابق قبل اغتياله سنة 1999
.
وكان عدد كبير من الشباب مهتما بزواج المتعة وبعضهم يقصدني لاكتب لهم صيغتها الشرعية .
لست روزخونا لكني طبعي لا ارد طلبا .. ولاحظت ان بعضهم حتى في الحرم الجامعي يحاول اقناع الفتاة التي يريدها بحجج شرعية .
لم استغرب ففي تاريخنا العربي طالما ( انتصب السيف وسالت الدماء ) لتفسيرات منتقاة للقرآن الكريم .
وقد يكون الحكم الشرعي مقيدا ولكن البعض يجعله مطلقا .
فقد ابيح لاول مرة التدخين في رمضان لضرورة قصوى ثم رايت شيوخا يدخنون بتلذذ امام الصائمين.
كان احد معارفي يهمه من الدين اللطم واللطميات (وهي قصائد ومرثيات حسينية تقرأ على المنابر مصحوبة بالضرب على الصدور ) مواساة لاهل البيت فتراه يدرب صغيره ذا الثلاثة اعوام على ذلك فتراهما معا طيلة اليوم يلطمان .
والتحق في حوزة علمية في النجف ليدرس العقائد ويكون شيخا بعمامة بيضاء , كان ممتليء الجسم ببشرة سوداء حائلة .
لكنه عاد بعد شهر لي لاعلمه اوليات اللغة وقد كلفه شيخه ان ينسخ كتيبا ليتحسن خطه وقراءته.
من خلال هذا الرجل تعرفت على اخيه الاصغر منه وكان اشد سوادا منه ويتمتع بالصمت والهدوء والحزن المطبق .
كانت غرفتي وحيدة فقيرة في السطح وهي التي وصفتها باحدى قصائدي
( في السطح عندي كهف
ينضج فيه سأمي
او صخب الكؤوس والحوار ).
هذا الشاب الاصغر من اخيه كان يكتب الشعر الشعبي وله قدرة فائقة باختلاق الطرفة , كان روحا نقيا لا يعرفه الا من يقترب منه .
فتصلبت اواصر صداقتنا وكان يقصدني فنقبع في العلية ليلا في تلك السنة التي هاجمت العراق الطائرات الامريكية .
كنا نسهر على ضوء خافت فقد امرونا بحجب النوافذ واطفاء الاضواء وكأن منزلي البسيط مقر للدبابات .
وفيما كان رعب عاصفة القاذفات المتسلسلة يهزالبيوت كنا نرتجل شعرا ساخرا بلهجة دارجة فاقول بيتا فيجيبني, وكنت اسجل ما نرتجل فاذكر منها
( يا طلي مايك حمه ) فاجابني فورا ( كوم اسبح وفضها ) في حفلة من القهقهات متواصلة .
انتقل صاحبي وعائلته لمنزل في حي الحسين جهلت عنوانه وعلمت فيما بعد بمقتله .
فقد كان اخوه مولعا بتربية الحمام فتشاجر لاجلها مع جار له وذهب صاحبي ليستقصي ويعالج الموقف اذا بمن تشاجر مع اخيه الاصغر يفتح نيران رشاشته من السطح ويرديه قتيلا .
في مرة دعاني رجل شاب بقال لاعلمه القراءة والكتابة في منزله , في اليوم الثاني رايت امراة معتمة بعمامة نسوية سوداء تدخل علينا وبيدها رضيع وضعته بعد تحية مختزلة في حجري وقالت
( مولاي انه لا يتوقف عن الصراخ فاقرا عليه ) , فاستغربت ونظرت تلميذي فاشار لي بما يعني نفذ ثم ناقش .
فوضعت يدي عليه وقرات بعض الايات وقلت لها ( سيشفى بعون الله ).
في اليوم الاخر كيس من السكر والشاي وعلب السجائر وغيرها قدمته قائلة ( ببركاتك طاب ) , كنا بوضع حصار خانق وليس يسيرا اقتناء علبة سجائر .
فقال صاحبي ساعة انفردنا ( امي تعتقد بان السادة يشفون اكثر من الطبيب ).
لست ادري كيف تصورتني سيدا اشفي المرضى .
عشرات من النساء والرجال كلفوني اعلمهم القراءة والكتابة , اما لكي يقرؤوا القران والادعية او للتهيؤ للالتحاق بالحوزات العلمية الدينية بالنجف.
واذكر اتى لي رجل بعمر الخمسينيات لاعلمه اساسيات اللغة قبيل السقوط كان كريما معي وبعد شهر فيما كنت ادرسه بمنزله سمعت هرجا لامراة فقال بشبه صرخة ( لا دراسة بعد اليوم ) , كانت تعاني من مس عضال .
وكان طالب علم حوزي جار لي قد عرّفه علي وكان يزورنا اثناء الدرس احيانا ومعه كتب كلف بشرائها له واستغربت ان بعض الكتب فلسفية او نحوية كابن عقيل في شرح الالفية وهي لا تنفعه ولا يتمكن من قراءتها , ذات يوم اخبرني الرجل بان الطالب الحوزي احتاج مبلغا فاهداه كل تلك الكتب ليبيعها ويستلم ثمنها .
بعد السقوط شاهدت طالبي الرجل البدين ابيض البشرة يتوجه لديوان المحافظة بوجه دائري معتما بعمامة بيضاء كبيرة.
ومن الغرائب ان طالب الحوزة انتقل من محلتنا وفقدت اثره وقيل انه مات , لكني بعد السقوط سمعت له محاضرة وهو على المنبر الحسيني ما يؤكد انه حي يرزق .
في تلك المرحلة سمعت يوما بشيخ قيل انه متفوق بالقاء الدروس النحوية فعرفت عنوانه وقصدته في احد جوامع البصرة .
التقيت بطلابه قبل وصوله وبعضهم جيران وسألتهم اسئلة نحوية بسيطة بالاعراب فاحتدموا وقالوا انت تستفزنا فاستغربت وثلّجت فيهم التوتر واتى الشيخ استاذهم وهو يضع عمامة سوداء , رجل في الثلاثينيات بهي الوجه هاديء وكان يلقي عليهم محاضرات من بن عقيل وهو المستوى الذي يدرس في كليات الاداب .
وبعد توقف الدرس التقيته منفردا وقال انه مزدحم ولا وقت لي معه سوى ربع ساعة فاخبرته ان معلومات طلابه شحيحة فكيف تلقي مثل هذه المحاضرات عليهم فاجاب ( نحن اعلنا بان من يتقدم للدرس يجب ان يكون مؤهلا).
بعد اسبوع قصدت الرجل وفقا لموعد مسبق كان لديه وقت اضافي فقال لي انه يلقي محاضرات بجوامع عدة بمناطق متفرقة ويحصل من كل ذلك على ثمن زهيد وهو اب لطفلين وقد نال الماجستير من ايران وهو بانتظار معادلة شهادته من وزارة التعليم العالي .
سالته عن نقطة مركزية في نظرية الحركة الجوهرية لصدر المتالهين الشيرازي وهي ( رغم ان الروح ليست مادة فان لها نسبا ماديا ) فقلت له اليست هذه الفكرة هي نفسها فكرة ماركسية ( الروح مادة متطورة ) فاحالني لعالم فارسي لاتعمق بالبحث في هذه النظرية التي قراتها في كتاب ( فلسفتنا ) لمحمد باقر الصدر .
----------------------------------------------
#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟