|
احتفظ بأصدقائك قريبين وبأعدائك أقرب
عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري
الحوار المتمدن-العدد: 8064 - 2024 / 8 / 9 - 22:47
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
مقال مُترجم بتصرف عن الاقتصاد الصيني بين الحاضر والمستقبل، والسؤال: هل يُحقق نموذج الاقتصاد الصيني النجاح؟ هذه الدراسة الاقتصادية المهمة والمتميزة تُحاول أن تُجيب، صحيح أنها مسهبة وطويلة أكثر من 5000 كلمة إلا أنها واقعية ومُفيدة والكاتبة صينية على كل حال. بقلم الاقتصادية الصينية: زونغ يوان زوي ليو زميلة في معهد موريس ر. جرينبيرج لدراسات الصينية ومؤلفة كتاب:(الصناديق السيادية: كيف يمول الحزب الشيوعي الصيني طموحاته العالمية) نُشر المقال في6 أغسطس/آب 2024 مجلة الشؤون الخارجية (فورين أفيرز)
رابط المقال في موقع المجلة: https://www.foreignaffairs.com/china/chinas-real-economic-crisis
يفترض المخططون الاقتصاديون في الصين أن المنتجين الصينيين سيكونون قادرين دائمًا على التخلص من فائض العرض في السوق العالمية وجني الأموال من المبيعات الأجنبية. ولكن في الممارسة العملية، خلقوا استثمارات مفرطة هائلة في الإنتاج عبر القطاعات التي أصبحت السوق المحلية مشبعة بالفعل وتخشى الحكومات الأجنبية هيمنة سلسلة التوريد الصينية.
في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، كان الفولاذ الصيني هو المصدر الرئيسي، حيث تجاوزت الطاقة الفائضة للبلاد في نهاية المطاف إجمالي إنتاج الصلب في ألمانيا واليابان والولايات المتحدة مجتمعة. وفي الآونة الأخيرة، انتهى الأمر بالصين إلى فائض مماثل في الفحم والألمنيوم والزجاج والأسمنت والمعدات الروبوتية وبطاريات المركبات الكهربائية وغيرها من المواد. والآن أصبحت المصانع الصينية قادرة على إنتاج ضعف عدد الألواح الشمسية التي يمكن للعالم استخدامها كل عام.
الواقع أن الاقتصاد الصيني عالق. وهناك دافع أكثر ديمومة للركود الحالي، وهو دافع أعمق من استبداد شي المتزايد أو آثار انهيار سوق العقارات: استراتيجية اقتصادية عمرها عقود من الزمان تمنح الأولوية للإنتاج الصناعي على كل شيء آخر، وهو النهج الذي أدى بمرور الوقت إلى فائض هائل في الطاقة الإنتاجية الهيكلية. لسنوات، أدت سياسات بكين الصناعية إلى الإفراط في الاستثمار في مرافق الإنتاج في قطاعات تتراوح من المواد الخام إلى التقنيات الناشئة مثل البطاريات والروبوتات، مما أدى غالبًا إلى تحميل المدن والشركات الصينية أعباء ديون ضخمة في هذه العملية.
وبعبارة بسيطة، تنتج الصين في العديد من القطاعات الاقتصادية الحيوية أكثر كثيراً مما تستطيع هي أو الأسواق الأجنبية استيعابه على نحو مستدام. ونتيجة لهذا، يواجه الاقتصاد الصيني خطر الوقوع في حلقة مفرغة من هبوط الأسعار، والإفلاس، وإغلاق المصانع، وفي نهاية المطاف فقدان الوظائف. وقد أجبر انكماش الأرباح المنتجين على زيادة الإنتاج بشكل أكبر وفرض خصومات أكبر على سلعهم من أجل توليد النقد لخدمة ديونهم. وعلاوة على ذلك، مع اضطرار المصانع إلى الإغلاق ودمج الصناعات، فإن الشركات التي تبقى قائمة ليست بالضرورة الأكثر كفاءة أو الأكثر ربحية. بل إن الناجين يميلون إلى أن يكونوا أولئك الذين يتمتعون بأفضل سبل الوصول إلى إعانات الدعم الحكومية والتمويل الرخيص.
منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت المشكلة قوة مزعزعة للاستقرار في التجارة الدولية أيضًا. من خلال خلق فائض من العرض في السوق العالمية للعديد من السلع، تدفع الشركات الصينية الأسعار إلى ما دون نقطة التعادل للمنتجين في البلدان الأخرى. في ديسمبر 2023، حذرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين من أن الإنتاج الصيني الزائد يتسبب في اختلالات تجارية "غير مستدامة" واتهمت بكين بالانخراط في ممارسات تجارية غير عادلة من خلال تفريغ كميات متزايدة من المنتجات الصينية في السوق الأوروبية بأسعار قاسية. في أبريل، حذرت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين من أن الإفراط في استثمار الصين في الصلب والمركبات الكهربائية والعديد من السلع الأخرى يهدد بالتسبب في "اضطراب اقتصادي" في جميع أنحاء العالم. وقالت يلين: "أصبحت الصين الآن ببساطة أكبر من أن يستوعب بقية العالم هذه القدرة الهائلة".
وعلى الرغم من الإنكار الشديد من جانب بكين، فإن السياسة الصناعية الصينية أدت على مدى عقود من الزمان إلى دورات متكررة من فائض الطاقة الإنتاجية. ففي الداخل، تبيع المصانع في القطاعات ذات الأولوية التي حددتها الحكومة منتجاتها بشكل روتيني بأقل من التكلفة من أجل تلبية الأهداف السياسية المحلية والوطنية. كما رفعت بكين بانتظام أهداف الإنتاج للعديد من السلع، حتى عندما تتجاوز المستويات الحالية الطلب بالفعل. ويرجع هذا جزئياً إلى تقليد طويل من التخطيط الاقتصادي الذي أعطى تأكيداً هائلاً على الإنتاج الصناعي وتنمية البنية الأساسية في حين تجاهل تقريباً الاستهلاك المنزلي. ولا ينبع هذا التغافل من الجهل أو سوء التقدير؛ بل إنه يعكس الرؤية الاقتصادية الراسخة للحزب الشيوعي الصيني.
إن الاستهلاك في نظر الحزب يشكل تشتيتاً فردياً يهدد بتحويل الموارد بعيداً عن القوة الاقتصادية الأساسية للصين: قاعدتها الصناعية. ووفقاً لأرثوذكسية الحزب، فإن الميزة الاقتصادية التي تتمتع بها الصين تنبع من انخفاض معدلات الاستهلاك وارتفاع معدلات الادخار، والتي تولد رأس المال الذي يستطيع النظام المصرفي الذي تسيطر عليه الدولة أن يوجهه إلى الشركات الصناعية. كما يعمل هذا النظام على تعزيز الاستقرار السياسي من خلال دمج التسلسل الهرمي للحزب في كل قطاع اقتصادي. ولأن القاعدة الصناعية المتضخمة في الصين تعتمد على التمويل الرخيص من أجل البقاء ــ التمويل الذي تستطيع القيادة الصينية تقييده في أي وقت ــ فإن النخبة التجارية مقيدة بإحكام، بل وخاضعة، لمصالح الحزب. وفي الغرب، يؤثر المال على السياسة، ولكن في الصين العكس هو الصحيح: فالسياسة تؤثر على المال. ومن الواضح أن الاقتصاد الصيني يحتاج إلى إيجاد توازن جديد بين الاستثمار والاستهلاك، ولكن من غير المرجح أن تنجح بكين في تحقيق هذا التحول لأنها تعتمد على السيطرة السياسية التي تحصل عليها من السياسة الاقتصادية القائمة على الإنتاج المكثف.
بالنسبة للغرب، تشكل مشكلة فائض الطاقة الإنتاجية في الصين تحدياً طويل الأمد لا يمكن حله ببساطة من خلال إقامة حواجز تجارية جديدة. فمن ناحية، حتى لو تمكنت الولايات المتحدة وأوروبا من الحد بشكل كبير من كمية السلع الصينية التي تصل إلى الأسواق الغربية، فلن يؤدي ذلك إلى حل أوجه القصور البنيوية التي تراكمت في الصين على مدى عقود من تفضيل الاستثمار الصناعي وأهداف الإنتاج. وقد يستغرق أي تصحيح للمسار سنوات من السياسة الصينية المستدامة حتى ينجح. ومن ناحية أخرى، أدى التركيز المتزايد من جانب شي على جعل الصين مكتفية ذاتياً اقتصادياً ــ وهي الاستراتيجية التي تشكل في حد ذاتها استجابة للجهود المتصورة التي يبذلها الغرب لعزل البلاد اقتصادياً ــ إلى زيادة الضغوط المؤدية إلى الإفراط في الإنتاج بدلاً من تقليلها. وعلاوة على ذلك، من المرجح أن تؤدي الجهود التي تبذلها واشنطن لمنع بكين من إغراق الولايات المتحدة بالسلع الرخيصة في القطاعات الرئيسية إلى خلق أوجه قصور جديدة داخل الاقتصاد الأميركي، حتى مع تحويل مشكلة الإفراط في الإنتاج في الصين إلى أسواق دولية أخرى.
ولصياغة نهج أفضل، يتعين على القادة وصناع السياسات الغربيين أن يفهموا جيداً القوى الأعمق التي تدفع الصين إلى الإفراط في القدرة الإنتاجية والتأكد من أن سياساتهم الخاصة لا تجعل الأمر أسوأ. وبدلاً من السعي إلى عزل الصين بشكل أكبر، يتعين على الغرب أن يتخذ خطوات لإبقاء بكين بقوة داخل النظام التجاري العالمي، باستخدام حوافز السوق العالمية لتوجيه الصين نحو نمو أكثر توازناً وسياسات صناعية أقل صرامة. وفي غياب مثل هذه الاستراتيجية، قد يواجه الغرب الصين التي أصبحت غير مقيدة بشكل متزايد بالعلاقات الاقتصادية الدولية ومستعدة لمضاعفة استراتيجيتها الإنتاجية التي تقودها الدولة، حتى مع خطر الإضرار بالاقتصاد العالمي وتقزم ازدهارها.
إن القضايا البنيوية التي تكمن وراء الركود الاقتصادي في الصين ليست نتيجة للاختيارات السياسية الأخيرة. فهي تنبع مباشرة من الاستراتيجية الصناعية غير المتوازنة التي تشكلت في السنوات الأولى من عصر الإصلاح في الصين، قبل أربعة عقود من الزمان. كانت الخطة الخمسية السادسة للصين (1981-1985) هي الأولى التي تم تأسيسها بعد أن فتح الزعيم الصيني دينج شياو بينج الاقتصاد الصيني. وعلى الرغم من أن الوثيقة تجاوزت مائة صفحة، فقد خصصت كلها تقريبًا لتطوير القطاع الصناعي في الصين، وتوسيع التجارة الدولية، وتقدم التكنولوجيا؛ ولم تُخصص سوى صفحة واحدة لموضوع زيادة الدخل والاستهلاك. وعلى الرغم من التغيرات التكنولوجية الهائلة والسوق العالمية المختلفة التي يصعب التعرف عليها تقريبًا، فإن تأكيد الحزب على القاعدة الصناعية في الصين لا يزال متشابهًا بشكل ملحوظ اليوم. تقدم الخطة الخمسية الرابعة عشرة (2021-2025) أهدافًا مفصلة للنمو الاقتصادي، والاستثمار في البحث والتطوير، وتحقيق براءات الاختراع، وإنتاج الغذاء والطاقة - ولكن بصرف النظر عن بعض الإشارات المتفرقة الأخرى، فإن استهلاك الأسر يقتصر على فقرة واحدة.
وعلى صعيد الاقتصاد العالمي، فإن فائض الطاقة المزمن في الصين له تأثيرات بعيدة المدى. ففيما يتصل بالسيارات الكهربائية، على سبيل المثال، تواجه شركات صناعة السيارات في أوروبا بالفعل منافسة شرسة من الواردات الصينية الرخيصة. وقد تغلق المصانع في هذا القطاع وغيره من قطاعات التكنولوجيا الناشئة في الغرب أبوابها، أو الأسوأ من ذلك، قد لا يتم بناؤها على الإطلاق. وعلاوة على ذلك، فإن الصناعات التحويلية عالية القيمة لها تأثيرات اقتصادية تتجاوز أنشطتها الخاصة؛ فهي تولد فرص العمل في قطاع الخدمات، وهي حيوية لدعم أنواع المواهب المحلية اللازمة لتحفيز الإبداع والاختراقات التكنولوجية. وفي السوق المحلية في الصين، أثارت قضايا فائض الطاقة حرب أسعار وحشية في بعض الصناعات التي تعوق الأرباح وتلتهم رأس المال. ووفقا لإحصاءات الحكومة، كانت 27% من شركات تصنيع السيارات الصينية غير مربحة في مايو/أيار؛ وفي مرحلة ما من العام الماضي، بلغ الرقم 32%. كما أدى الإفراط في الإنتاج في مختلف أنحاء الاقتصاد إلى انخفاض الأسعار عموما، مما تسبب في ارتفاع التضخم إلى ما يقرب من الصِفر وارتفاع نسبة خدمة الدين للقطاع الخاص غير المالي ــ نسبة إجمالي مدفوعات الديون إلى الدخل المتاح ــ إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق. وقد أدت هذه الاتجاهات إلى تآكل ثقة المستهلكين، مما أدى إلى المزيد من الانخفاض في الاستهلاك المحلي وزيادة خطر انزلاق الصين إلى فخ الانكماش.
عندما يتحدث مخططو الاقتصاد في بكين عن الاستهلاك، فإنهم يميلون إلى القيام بذلك في علاقة بالأهداف الصناعية. في مناقشتها الموجزة للموضوع، تنص الخطة الخمسية الحالية على أن الاستهلاك يجب أن يوجه على وجه التحديد نحو السلع التي تتوافق مع الأولويات الصناعية لبكين: السيارات، والإلكترونيات، والمنتجات الرقمية، والأجهزة الذكية. وعلى نحو مماثل، على الرغم من أن قطاع التجارة الإلكترونية النابض بالحياة في الصين قد يشير إلى وفرة من الخيارات الاستهلاكية، إلا أن منصات رئيسية مثل علي بابا وبيندودو وشين تتنافس في الواقع بشراسة لبيع نفس المنتجات السلعية. بعبارة أخرى، يخفي وهم اختيار المستهلك سوقًا محلية تتشكل بشكل كبير وفقًا للأولويات الصناعية للدولة وليس التفضيلات الفردية.
ان هذا ينعكس ايضا في المبادرات السياسية التي تهدف الى تعزيز انفاق المستهلك. ولنتأمل هنا الجهود التي بذلتها الحكومة مؤخرا لتعزيز استبدال السلع. فوفقا لخطة عمل وضعت في مارس/اذار 2024، عرضت وزارة التجارة بالاشتراك مع وكالات حكومية صينية اخرى، دعما للمستهلكين الذين يستبدلون السيارات القديمة والاجهزة المنزلية والتجهيزات بنماذج جديدة. وعلى الورق، تشبه الخطة بشكل فضفاض برنامج "النقد مقابل السيارات القديمة" الذي قدمته واشنطن خلال الركود في عام 2008 لمساعدة صناعة السيارات في الولايات المتحدة. ولكن الخطة تفتقر الى التفاصيل المحددة وتعتمد على السلطات المحلية للتنفيذ، مما يجعلها غير فعالة الى حد كبير؛ فقد فشلت بشكل ملحوظ في رفع اسعار السلع المعمرة. ورغم ان الحكومة قادرة على التأثير على ديناميكيات العرض والطلب في اسواق المستهلكين في الصين، الا انها لا تستطيع اجبار الناس على الانفاق او معاقبتهم اذا لم يفعلوا ذلك. فعندما يتباطأ نمو الدخل، يشدد الناس بشكل طبيعي من قبضتهم على اموالهم، ويؤخرون المشتريات الكبيرة، ويحاولون الاكتفاء بالمعدات القديمة لفترة اطول. ومن عجيب المفارقات أن العبء الذي فرضته الطاقة الفائضة على الاقتصاد ككل يعني أن جهود الحكومة لتوجيه الاستهلاك تجعل الناس أقل ميلاً إلى الإنفاق.
في قلب مشكلة فائض الطاقة الإنتاجية في بكين يكمن العبء الملقى على عاتق السلطات المحلية لتطوير القاعدة الصناعية في الصين. تم تصميم الخطط الصناعية من أعلى إلى أسفل لمكافأة المدن والمناطق التي يمكنها تحقيق أكبر قدر من نمو الناتج المحلي الإجمالي، من خلال توفير الحوافز للمسؤولين المحليين لتخصيص رأس المال والإعانات للقطاعات ذات الأولوية. وكما لاحظت الباحثة ماري غالاغر، فقد أججت بكين النيران باستخدام الحملات الاجتماعية مثل "الرخاء المشترك" - وهو مفهوم اقترحه الزعيم الصيني ماو تسي تونج لأول مرة في عام 1953 وأحياه شي في اجتماع للحزب في عام 2021 - لتحفيز التنمية الصناعية المحلية. تفرض توجيهات التخطيط والحملات هذه ضغوطًا هائلة على رؤساء الحزب المحليين لتحقيق نتائج سريعة، والتي قد يرون أنها حاسمة للترويج داخل الحزب. وبالتالي، فإن هؤلاء المسؤولين لديهم حوافز قوية لإجراء استثمارات عالية الاستدانة في القطاعات ذات الأولوية، بغض النظر عما إذا كانت هذه التحركات من المرجح أن تكون مربحة.
ولقد أدت هذه الظاهرة إلى تغذية ممارسات التمويل المحفوفة بالمخاطر من جانب الحكومات المحلية في مختلف أنحاء الصين. ومن أجل تشجيع المبادرة المحلية، كثيراً ما تمتنع بكين عن توفير التمويل: بل إنها تمنح المسؤولين المحليين سلطة تقديرية واسعة لترتيب أدوات استثمار خارج الميزانية العمومية بمساعدة البنوك الإقليمية لتمويل المشاريع في القطاعات ذات الأولوية، مع تقييد الحكومة الوطنية لنفسها بتحديد أنواع خيارات التمويل المحلي المحظورة. ويأتي نحو 30% من إنفاق الصين على البنية الأساسية من هذه الأدوات الاستثمارية؛ وبدونها، لا يستطيع المسؤولون المحليون ببساطة تنفيذ المشاريع التي ستكسبهم الثناء داخل الحزب. ومن المحتم أن يؤدي هذا النهج ليس فقط إلى فائض صناعي ضخم، بل وأيضاً إلى مستويات هائلة من ديون الحكومات المحلية. ووفقاً لتحقيق أجرته صحيفة وول ستريت جورنال في يوليو/تموز، فإن إجمالي الديون غير المسجلة التي تحتفظ بها الحكومات المحلية في مختلف أنحاء الصين الآن يتراوح بين 7 تريليونات و11 تريليون دولار، مع وجود ما يصل إلى 800 مليار دولار معرضة لخطر التخلف عن السداد.
ورغم أن حجم الديون ربما يكون أسوأ الآن، فإن المشكلة ليست جديدة. فمنذ الإصلاح المالي في الصين في عام 1994، والذي سمح للحكومات المحلية بالاحتفاظ بحصة من عائدات الضرائب التي تجمعها ولكنه قلل من التحويلات المالية التي تتلقاها من بكين، كانت الحكومات المحلية تعاني من ضغوط مالية مزمنة. وقد كافحت من أجل الوفاء بولايتها المزدوجة المتمثلة في تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي المحلي وتوفير الخدمات العامة بموارد محدودة. ومن خلال تركيز السلطة المالية على المستوى الوطني وتخفيف عبء الإنفاق على البنية الأساسية والخدمات الاجتماعية على المناطق والبلديات، دفعت سياسات بكين الحكومات المحلية إلى الديون. وعلاوة على ذلك، من خلال التأكيد على أداء النمو السريع، دفعت بكين المسؤولين المحليين إلى تفضيل المشاريع الرأسمالية التي يتم تنفيذها بسرعة في الصناعات ذات الأولوية الوطنية. وكحافز إضافي، تقدم بكين في بعض الأحيان دعماً مالياً محدوداً للمشاريع في القطاعات ذات الأولوية وتساعد في تسهيل الموافقات للحكومات المحلية لتأمين التمويل. وفي نهاية المطاف، تتحمل الحكومة المحلية المخاطر المالية، ويقع نجاح أو فشل المشروع على عاتق رئيس الحزب المحلي، الأمر الذي يؤدي إلى نتائج مشوهة.
وتتمثل المشكلة الأكبر في اعتماد الصين على الحكومات المحلية في تنفيذ السياسة الصناعية في أنها تتسبب في تنافس المدن والمناطق في مختلف أنحاء البلاد في نفس القطاعات بدلاً من التكامل فيما بينها أو الاستفادة من نقاط قوتها. وعلى هذا، فقد عملت المقاطعات الصينية ــ من شينجيانج في الغرب إلى شنغهاي في الشرق، ومن هيلونغجيانج في الشمال إلى هاينان في الجنوب ــ لأكثر من عقدين من الزمان، وبقدر ضئيل للغاية من التنسيق فيما بينها، على إنشاء مصانع في نفس الصناعات ذات الأولوية التي حددتها الحكومة، مدفوعة بجهود المسؤولين الإقليميين والمحليين للتفوق على أقرانهم. ومن المحتم أن تؤدي هذه المنافسة المحلية إلى فائض في الطاقة الإنتاجية ومستويات عالية من الديون، حتى في الصناعات التي اكتسبت فيها الصين هيمنة على السوق العالمية.
ولنتأمل هنا الألواح الشمسية. ففي عام 2010، أعلن مجلس الدولة الصيني أن الصناعات الناشئة الاستراتيجية، بما في ذلك الطاقة الشمسية، ينبغي أن تشكل 15% من الناتج المحلي الإجمالي الوطني بحلول عام 2020. وفي غضون عامين، حددت 31 مقاطعة من أصل 34 مقاطعة صينية صناعة الطاقة الشمسية الكهروضوئية كأولوية، واستثمرت نصف المدن الصينية في صناعة الطاقة الشمسية الكهروضوئية، وبنت أكثر من 100 مدينة صينية حدائق صناعية للطاقة الشمسية الكهروضوئية. وعلى الفور تقريبا، تجاوز إنتاج الصين من الطاقة الشمسية الكهروضوئية الطلب المحلي، مع تصدير الفائض إلى أوروبا ومناطق أخرى من العالم حيث كانت الحكومات تدعم ملكية الألواح الشمسية. وبحلول عام 2013، فرضت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تعريفات إغراق على مصنعي الطاقة الشمسية الكهروضوئية الصينيين. وبحلول عام 2022، أصبحت قدرة الطاقة الشمسية الكهروضوئية المثبتة في الصين أكبر من أي دولة أخرى، في أعقاب التوسع العدواني في الطاقة المتجددة. ولكن شبكة الكهرباء في الصين لا تستطيع دعم القدرة الشمسية الإضافية. مع تشبع السوق المحلية بالكامل، استأنف مصنعو الطاقة الشمسية تفريغ أكبر قدر ممكن من بضائعهم في الأسواق الأجنبية. في أغسطس 2023، وجدت وزارة التجارة الأمريكية أن منتجي الطاقة الكهروضوئية الصينيين كانوا يشحنون المنتجات إلى كمبوديا وماليزيا وتايلاند وفيتنام لإجراءات معالجة بسيطة لتجنب دفع رسوم مكافحة الإغراق الأمريكية. ومن المتوقع أن تنمو قدرة إنتاج الطاقة الكهروضوئية في الصين، والتي تعادل بالفعل ضعف الطلب العالمي، بنسبة 50٪ أخرى في عام 2025. تسبب هذا العرض الزائد الشديد في انخفاض معدل الاستخدام في صناعة الطاقة الشمسية الجاهزة في الصين إلى 23٪ فقط في أوائل عام 2024. ومع ذلك، تستمر هذه المصانع في العمل لأنها تحتاج إلى جمع الأموال لخدمة ديونها وتغطية التكاليف الثابتة.
وهناك مثال آخر يتمثل في الروبوتات الصناعية، التي بدأت بكين في إعطائها الأولوية في عام 2015 كجزء من استراتيجيتها "صنع في الصين 2025". في ذلك الوقت، كان هناك مبرر واضح لبناء صناعة روبوتات محلية أقوى: فقد تجاوزت الصين اليابان لتصبح أكبر مشترٍ للروبوتات الصناعية في العالم، حيث تمثل حوالي 20٪ من المبيعات في جميع أنحاء العالم. وعلاوة على ذلك، بدا أن الخطة حققت نتائج مذهلة. بحلول عام 2017، كان هناك أكثر من 800 شركة روبوتات و 40 حديقة صناعية تركز على الروبوتات تعمل في 20 مقاطعة صينية على الأقل. ومع ذلك، لم يفعل هذا الجهد الشامل الكثير لتطوير تكنولوجيا الروبوتات الصينية، حتى مع إنشاء قاعدة صناعية ضخمة. ومن أجل تلبية أهداف الإنتاج الطموحة لبكين، كان المسؤولون المحليون يميلون إلى الاستثمار في التقنيات الناضجة التي يمكن توسيع نطاقها بسرعة. واليوم، تمتلك الصين قدرة فائضة كبيرة في الروبوتات منخفضة الجودة ولكنها لا تزال تفتقر إلى القدرة الكافية في الروبوتات المستقلة الراقية التي تتطلب الملكية الفكرية المحلية.
كما أضرت الطاقة الفائضة في الإنتاج منخفض التكلفة بصناعات التكنولوجيا الصينية الأخرى. وأحدث مثال على ذلك هو الذكاء الاصطناعي، الذي حددته بكين كصناعة ذات أولوية في خطتيها الخمسيتين الأخيرتين. في أغسطس/آب 2019، دعت الحكومة إلى إنشاء حوالي 20 "منطقة تجريبية" للذكاء الاصطناعي - وهي حدائق بحثية لديها تفويض باستخدام بيانات الحكومة المحلية لاختبار السوق. والهدف هو استغلال أعظم قوتين في الصين في هذا المجال: القدرة على بناء البنية التحتية المادية بسرعة، وبالتالي دعم تكتل شركات الذكاء الاصطناعي والمواهب، والافتقار إلى القيود على كيفية جمع الحكومة للبيانات الشخصية ومشاركتها. وفي غضون عامين، أنشأت 17 مدينة صينية مثل هذه المناطق التجريبية، على الرغم من تعطيل جائحة فيروس كورونا وعمليات الإغلاق الحكومية واسعة النطاق. كما تبنت كل من هذه المدن خطط عمل لتحفيز المزيد من الاستثمارات وتبادل البيانات.
على الورق، يبدو البرنامج مثيرا للإعجاب. فالصين الآن تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في الاستثمار في الذكاء الاصطناعي. ولكن جودة أبحاث الذكاء الاصطناعي الفعلية، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، أعاقتها الرقابة الحكومية والافتقار إلى الملكية الفكرية المحلية. والواقع أن العديد من شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة الصينية التي استفادت من الدعم الحكومي القوي تنتج منتجات لا تزال تعتمد بشكل أساسي على النماذج والأجهزة التي تم تطويرها في الغرب. وعلى غرار مبادراتها في الصناعات الناشئة الأخرى، تخاطر بكين بإهدار رأس مال هائل على استثمارات زائدة عن الحاجة تؤكد على اقتصاديات الحجم بدلاً من الابتكار العميق الجذور.
ومن عجيب المفارقات هنا أن العديد من السمات التي تدفع إلى الإفراط في الإنتاج تظل قائمة حتى مع تغير أهداف السياسة الصناعية في بكين. فكلما أعطت الحكومة الصينية الأولوية لقطاع جديد، فإن الاستثمارات المكررة من جانب الحكومات المحلية تغذي حتما المنافسة المحلية الشديدة. وتتسابق الشركات والمصانع لإنتاج نفس المنتجات ولا تحقق أي ربح تقريبا ــ وهي الظاهرة المعروفة في الصين باسم " ني خوان" أو التراجع. وبدلاً من محاولة التمييز بين منتجاتها، تحاول الشركات ببساطة التفوق على منافسيها من خلال توسيع الإنتاج بأسرع ما يمكن والانخراط في حروب أسعار شرسة؛ ولا يوجد حافز كبير لاكتساب ميزة تنافسية من خلال تحسين الإدارة المؤسسية أو الاستثمار في البحث والتطوير. وفي الوقت نفسه، يضطر الطلب المحلي المحدود الشركات إلى تصدير فائض المخزون إلى الخارج، حيث يخضع للعوامل الجيوسياسية وتقلبات الأسواق العالمية. ومن الممكن أن تؤدي الركودات الاقتصادية في وجهات التصدير وتصاعد التوترات التجارية إلى إحباط نمو الصادرات وتفاقم الإفراط في الإنتاج في الداخل.
إن هذه الديناميكيات كلها تساهم في حلقة مفرغة: فالشركات المدعومة بقروض البنوك ودعم الحكومات المحلية لابد وأن تستمر في الإنتاج بلا توقف للحفاظ على تدفقاتها النقدية. ويعني توقف الإنتاج عدم وجود تدفقات نقدية، وهو ما يدفع الدائنين إلى المطالبة باسترداد أموالهم. ولكن مع زيادة إنتاج الشركات، ينمو المخزون الفائض وتنخفض أسعار المستهلك بشكل أكبر، مما يتسبب في خسارة الشركات لمزيد من الأموال وتتطلب المزيد من الدعم المالي من الحكومات المحلية والبنوك. ومع تعمق الشركات في الديون، يصبح من الصعب عليها سدادها، وهو ما يزيد من احتمالات تحولها إلى "شركات زومبي"، مفلسة في الأساس ولكنها قادرة على توليد ما يكفي من التدفق النقدي لتلبية التزاماتها الائتمانية. ومع توقف الاقتصاد الصيني، خفضت الحكومة الضرائب والرسوم المفروضة على الشركات كوسيلة لتحفيز النمو ــ ولكن هذا أدى إلى خفض عائدات الحكومات المحلية، حتى مع ارتفاع نفقات الخدمات الاجتماعية ومدفوعات الديون. وبعبارة أخرى، خلقت العلاقة المالية الوثيقة بين الحكومات المحلية والشركات التي تدعمها موجة من نمو الناتج المحلي الإجمالي المحلي المدفوع بالديون وتركت الاقتصاد في فخ فائض الطاقة الذي يصعب عكسه.
ولكن حتى الآن، لا تظهر الصين سوى القليل من العلامات على تقليص اعتمادها على الديون. فقد ضاعف شي حملته الرامية إلى تمكين الصين من تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي، في خضم المنافسة الجيوسياسية الشديدة مع الولايات المتحدة. وكما ترى بكين، فإن الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية فقط هو الذي يمكنها من حماية نفسها من العزلة أو العقوبات الاقتصادية المحتملة من قِبَل الغرب. وعلى هذا فإن الحكومة تركز على تمويل التصنيع المتقدم والتكنولوجيات الاستراتيجية وتثبيط الاستثمارات التي ترى أنها تشتت الانتباه، مثل تلك الموجودة في قطاع العقارات. ومن أجل تعزيز المزيد من التكنولوجيا المحلية الراقية، حشد صناع السياسات الصينيون في السنوات الأخيرة النظام المصرفي بأكمله وأنشأوا برامج قروض مخصصة لدعم البحث والابتكار في القطاعات ذات الأولوية. وكانت النتيجة ميلاً إلى تعميق المشاكل البنيوية المؤدية إلى الإفراط في الاستثمار والإنتاج، بدلاً من تصحيحها.
على سبيل المثال، في عام 2021، أنشأ بنك التنمية الصيني برنامج قروض خاص للابتكار العلمي والتكنولوجي والبحوث الأساسية. وبحلول مايو/أيار 2024، وزع البنك أكثر من 38 مليار دولار من القروض لدعم القطاعات الحيوية المتطورة، مثل أشباه الموصلات، وتكنولوجيا الطاقة النظيفة، والتكنولوجيا الحيوية، والمستحضرات الصيدلانية. وفي أبريل/نيسان، أطلق بنك الشعب الصيني، إلى جانب العديد من الوزارات الحكومية، صندوق إعادة تمويل بقيمة 69 مليار دولار ــ لتغذية جولة جديدة ضخمة من الإقراض من قِبَل البنوك الصينية لمشاريع تهدف إلى الابتكار العلمي والتكنولوجي. وبعد شهرين فقط من إطلاق البرنامج، تم تصنيف نحو 421 منشأة صناعية في جميع أنحاء البلاد كمصانع تجريبية "للتصنيع الذكي" ــ وهو تصنيف غامض يُطلَق على المصانع التي تخطط لدمج الذكاء الاصطناعي في عمليات التصنيع الخاصة بها. كما أعلن البرنامج عن استثمارات في أكثر من 10 آلاف ورشة عمل رقمية على مستوى المقاطعات وأكثر من 4500 شركة تركز على الذكاء الاصطناعي.
ولكن إلى جانب تحقيق أرقام الاستثمار الأعلى، فإن هذه الحملة لا تتضمن سوى معايير قليلة لقياس النجاح الفعلي. ومن عجيب المفارقات أن الهدف المعلن لهذا البرنامج الجديد المتمثل في سد فجوة التمويل للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تعمل على الابتكارات يشير إلى عيب أكبر في الإدارة الاقتصادية في بكين. فلسنوات، كانت السياسة الصناعية في الصين تميل إلى توجيه الموارد إلى الشركات الناضجة بالفعل؛ وعلى النقيض من ذلك، فقد خصصت الحكومة، من خلال جهودها الضخمة لتطوير الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات المتقدمة، الموارد المالية لمضاهاة نهج رأس المال الاستثماري في الولايات المتحدة. ولكن حتى هنا، فشل مخططو الاقتصاد في الصين في إدراك أن القوة الدافعة الحقيقية للابتكار هي التعطيل. ولتعزيز هذا النوع من الإبداع حقا، يحتاج رواد الأعمال إلى الوصول غير المقيد إلى أسواق رأس المال المحلية ورأس المال الخاص، وهو الوضع الذي من شأنه أن يقوض سيطرة بكين على نخب الأعمال في الصين. وفي غياب إمكانية تعطيل السوق، فإن هذه الاستثمارات الهائلة لن تؤدي إلا إلى تفاقم مشكلة فائض الطاقة الإنتاجية في الصين. ويتم توجيه الأموال إلى تلك المنتجات التي يمكن توسيع نطاقها بسرعة كبيرة، مما يجبر المصنعين على الإفراط في الإنتاج ثم البقاء على الهوامش الضئيلة التي يمكن جنيها من إغراق السوق الدولية.
في صناعة تلو الأخرى، تخلق الطاقة الفائضة المزمنة في الصين معضلة معقدة للولايات المتحدة والغرب. في الأشهر الأخيرة، كثف المسؤولون الغربيون انتقاداتهم للسياسات الاقتصادية لبكين. في خطاب ألقته في مايو/أيار، حذرت ليل برينارد، مديرة مجلس المستشارين الاقتصاديين لإدارة بايدن، من أن "الفائض الصناعي المدفوع بالسياسات" في الصين - وهو تعبير ملطف لممارسات معادية للسوق - يضر بالاقتصاد العالمي. وقالت إنه من خلال فرض سياسات "تخفض بشكل غير عادل رأس المال والعمالة وتكاليف الطاقة" وتسمح للشركات الصينية بالبيع "بتكلفة أو أقل"، تمثل الصين الآن نسبة ضخمة من القدرة العالمية في المركبات الكهربائية والبطاريات وأشباه الموصلات وغيرها من القطاعات. ونتيجة لذلك، تعوق بكين الابتكار والمنافسة في السوق العالمية، وتهدد الوظائف في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، وتحد من قدرة الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى على بناء مرونة سلسلة التوريد.
في اجتماعهم في كابري بإيطاليا في أبريل/نيسان، حذر أعضاء مجموعة الدول السبع في بيان مشترك من أن "سياسات وممارسات الصين غير السوقية" أدت إلى "فائض ضار في الطاقة الإنتاجية". وقد أدى التدفق الهائل للمنتجات الرخيصة المصنعة في الصين بالفعل إلى إثارة التوترات التجارية. ومنذ عام 2023، أطلقت العديد من الحكومات، بما في ذلك حكومتا فيتنام والبرازيل، تحقيقات لمكافحة الإغراق أو مكافحة الدعم ضد الصين، وفرضت البرازيل والمكسيك وتركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تعريفات جمركية على واردات مختلفة من الصين، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر المركبات الكهربائية.
في مواجهة الضغوط الدولية المتزايدة، نفى شي والمجلات الحزبية الرائدة ووسائل الإعلام الحكومية الصينية باستمرار أن الصين تعاني من مشكلة الطاقة الفائضة. ويؤكدون أن الانتقادات مدفوعة بـ"قلق" أميركي لا أساس له من الصحة وأن ميزة التكلفة التي تتمتع بها الصين ليست نتاجاً للدعم بل "لجهود الشركات" التي "تتشكل من خلال المنافسة الكاملة في السوق". والواقع أن الدبلوماسيين الصينيين أكدوا أن الاقتصاد العالمي يعاني في العديد من الصناعات التكنولوجية الناشئة من نقص كبير في القدرة وليس العرض الزائد. وفي مايو/أيار، اتهمت صحيفة الشعب اليومية ، الصحيفة الرسمية للحزب، الولايات المتحدة باستخدام مزاعم مبالغ فيها حول الطاقة الفائضة كذريعة لإدخال حواجز تجارية ضارة تهدف إلى احتواء الصين وقمع تنمية الصناعات الاستراتيجية في الصين.
ومع ذلك، فقد اعترف صناع السياسات والمحللون الاقتصاديون الصينيون بهذه المشكلة منذ فترة طويلة. ففي وقت مبكر من ديسمبر/كانون الأول 2005، حذر ما كاي، مدير لجنة التنمية والإصلاح الوطنية في الصين آنذاك، من أن سبعة قطاعات صناعية، بما في ذلك الصلب والسيارات، تواجه فائضًا شديدًا في الطاقة الإنتاجية. وعزا المشكلة إلى "الاستثمار الأعمى والتوسع المنخفض المستوى". وعلى مدى ما يقرب من عقدين من الزمان منذ ذلك الحين، أصدرت بكين أكثر من اثني عشر دليلاً إرشاديًا إداريًا لمعالجة المشكلة في قطاعات مختلفة، ولكن بنجاح محدود. في مارس/آذار 2024، حدد تحليل أجراه لو فنغ من جامعة بكين مشاكل الطاقة الإنتاجية الفائضة في المركبات التي تعمل بالطاقة الجديدة، وبطاريات المركبات الكهربائية، والرقائق الدقيقة القديمة. وقد قدرت بلومبرج إن إي إف أن إنتاج البطاريات في الصين في عام 2023 وحده كان مساويا للطلب العالمي الإجمالي. ومع إضافة الغرب للقدرة الإنتاجية واستمرار شركات تصنيع البطاريات الصينية في توسيع الاستثمار والإنتاج، فمن المرجح أن تتفاقم مشكلة العرض الزائد العالمية في السنوات القادمة.
ولقد حذر لو من أن الإفراط في تنمية هذه الصناعات من جانب الصين من شأنه أن يفرض ضغوطاً على الشركات الصينية لإغراق الأسواق العالمية بمنتجاتها، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم العلاقات التجارية المتوترة بالفعل بين الصين والغرب. ولمعالجة هذه المشكلة، اقترح لو مجموعة من التدابير التي حاولت الحكومة الصينية بالفعل تنفيذها ــ مثل تحفيز الإنفاق المحلي (الاستثمار والاستهلاك الأسري) ــ وتلك التي طالما دافع عنها العديد من خبراء الاقتصاد ولكن بكين لم تفعلها، بما في ذلك فصل الحكومة عن قطاع الأعمال وإصلاح آليات إعادة التوزيع لصالح الأسر. ومع ذلك، فإن هذه الحلول المقترحة لا تعالج مشكلة التنسيق الأساسية التي تعاني منها الاقتصاد الصيني: تكرار استثمارات الحكومات المحلية في القطاعات ذات الأولوية التي حددتها الدولة.
حتى الآن، استجابت الولايات المتحدة لتحدي فائض الطاقة الإنتاجية للصين بفرض تعريفات جمركية باهظة على منتجات الطاقة النظيفة الصينية، مثل الألواح الشمسية والمركبات الكهربائية والبطاريات. وفي الوقت نفسه، ضخت إدارة بايدن، من خلال قانون خفض التضخم لعام 2022، مليارات الدولارات في بناء القدرة المحلية الأمريكية للعديد من القطاعات نفسها. لكن ينبغي للولايات المتحدة أن تكون حذرة من محاولة عزل الصين ببساطة عن طريق بناء الحواجز التجارية وتعزيز قاعدتها الصناعية.
من خلال تقديم حوافز كبيرة للشركات التي تستثمر في قطاعات حيوية في الولايات المتحدة، يمكن لواشنطن تكرار بعض المشاكل نفسها التي تعاني منها اقتصاد الصين: الاعتماد على الاستثمار المدفوع بالديون، وتخصيص الموارد غير المنتج، واحتمال فقاعة المضاربة في أسهم شركات التكنولوجيا التي يمكن أن تزعزع استقرار السوق إذا انفجرت فجأة. إذا كان الهدف هو التفوق على بكين، فيجب على واشنطن التركيز على ما يتفوق فيه النظام الأمريكي بالفعل: الابتكار، وتعطيل السوق، والاستخدام المكثف لرأس المال الخاص، مع اختيار المستثمرين للمجالات الأكثر وعدًا لدعمها وتحمل المخاطر جنبًا إلى جنب مع المكافآت. من خلال التركيز على الاستراتيجيات الرامية إلى الحد من المزايا الاقتصادية للصين، تخاطر الولايات المتحدة بإهمال نقاط قوتها.
كما يتعين على صناع السياسات في الولايات المتحدة أن يدركوا أن مشكلة فائض الطاقة الإنتاجية في الصين تتفاقم بسبب سعي بكين إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي. ويعكس هذا الجهد، الذي حظي باهتمام كبير في السنوات الأخيرة، انعدام الأمن لدى شي ورغبته في الحد من نقاط الضعف الاستراتيجية للصين وسط التوترات الاقتصادية والجيوسياسية المتزايدة مع الولايات المتحدة والغرب. والواقع أن محاولات شي لتعبئة شعب بلاده ومواردها لبناء جدار تكنولوجي ومالي حول الصين تحمل عواقب وخيمة. فالصين التي تنقطع بشكل متزايد عن الأسواق الغربية لن يكون لديها ما تخسره في مواجهة محتملة مع الغرب ــ وبالتالي سيكون لديها دافع أقل لخفض التصعيد. وطالما ظلت الصين مرتبطة ارتباطا وثيقا بالولايات المتحدة وأوروبا من خلال تجارة السلع عالية القيمة التي لا يمكن استبدالها بسهولة، فسوف يكون الغرب أكثر فعالية في ردع البلاد عن اتخاذ إجراءات مزعزعة للاستقرار. إن الصين والولايات المتحدة منافسان استراتيجيان، وليسا عدوين. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالعلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، فإن الحكمة تكمن في المثل القديم "احتفظ بأصدقائك قريبين وأعدائك أقرب".
يتعين على الحكومة الأميركية أن تثني بكين عن بناء جدار قادر على حماية الاقتصاد الصيني من العقوبات. وتحقيقا لهذه الغاية، يتعين على الإدارة المقبلة أن تعمل على تعزيز التحالفات، واستعادة المؤسسات المتعددة الأطراف المتضررة، وإنشاء هياكل جديدة من الترابط المتبادل التي تجعل العزلة والاكتفاء الذاتي ليس فقط غير جذابين للصين بل وأيضا غير قابلين للتحقيق. ومن الجيد أن نبدأ بصياغة المزيد من السياسات على طاولة المفاوضات، بدلا من مجرد فرض التعريفات الجمركية. إن شن الحروب التجارية وسط التوترات الجيوسياسية من شأنه أن يزيد من عجز الثقة في الاقتصاد الصيني ويؤدي إلى انخفاض قيمة الرنمينبي، وهو ما من شأنه أن يعوض جزئيا عن تأثير التعريفات الجمركية.
وقد تكون الصين أكثر مرونة في سياساتها التجارية مما يبدو. فمنذ تصعيد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في عام 2018، استكشف العلماء والمسؤولون الصينيون العديد من الخيارات السياسية، بما في ذلك فرض قيود طوعية على الصادرات، وإعادة تقييم الرنمينبي، وتعزيز الاستهلاك المحلي، وتوسيع الاستثمار الأجنبي المباشر، والاستثمار في البحث والتطوير. كما درس العلماء الصينيون العلاقات التجارية بين اليابان والولايات المتحدة في ثمانينيات القرن العشرين، مشيرين إلى كيف أجبرت التوترات التجارية الصناعات اليابانية الناضجة، مثل تصنيع السيارات، على الارتقاء لتصبح أكثر قدرة على المنافسة مع منافسيها الغربيين، وهو النهج الذي قد يقدم دروسًا لصناعة السيارات الكهربائية في الصين.
وبصرف النظر عن القيود الطوعية على الصادرات، فقد جربت بكين بالفعل العديد من هذه الخيارات إلى حد ما. وإذا نفذت الحكومة أيضًا ضوابط التصدير الطوعية، فقد تقتل عدة عصافير بحجر واحد: مثل هذه الخطوة من شأنها أن تقلل من التوترات التجارية وربما حتى السياسية مع الولايات المتحدة؛ ومن شأنها أن تجبر القطاعات الناضجة على توحيد الجهود لتصبح أكثر استدامة؛ ومن شأنها أن تساعد في تحويل القدرة التصنيعية إلى الخارج، لخدمة الأسواق المستهدفة بشكل مباشر.
حتى الآن، تبنت إدارة بايدن نهجًا مقسمًا تجاه الصين، حيث تناولت القضايا واحدة تلو الأخرى وركزت المفاوضات على مواضيع فردية. وعلى النقيض من ذلك، تفضل الحكومة الصينية نهجًا مختلفًا لا تُستبعد فيه أي قضية ويمكن مقايضة التنازلات في مجال واحد بمكاسب في مجال آخر، حتى لو كانت القضايا غير ذات صلة. وبالتالي، على الرغم من أن بكين قد تبدو متمردة في محادثات معزولة، فقد تكون منفتحة على صفقة أكثر شمولاً تعالج جوانب متعددة من العلاقات الأمريكية الصينية في وقت واحد. يجب على واشنطن أن تظل منفتحة على إمكانية إبرام مثل هذه الصفقة الكبرى وأن تدرك أنه إذا تغيرت الحوافز، فقد تغير قيادة الصين تكتيكاتها فجأة، تمامًا كما فعلت عندما أنهت فجأة سياسة صفر كوفيد.
كما ينبغي لواشنطن أن تفكر في الاستفادة من المؤسسات المتعددة الأطراف مثل منظمة التجارة العالمية لتسهيل المفاوضات مع بكين. على سبيل المثال، قد توافق الصين طواعية على التخلي عن وضعها كدولة نامية في منظمة التجارة العالمية، والذي يمنح الدول المعينة معاملة تفضيلية في بعض النزاعات التجارية. وقد يتم إقناعها أيضاً بدعم إطار عمل منقح لمنظمة التجارة العالمية لتحديد وضع الاقتصاد غير السوقي لأي دولة ــ وهو التصنيف الذي تستخدمه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لفرض رسوم إغراق أعلى على الصين ــ على أساس كل صناعة على حدة وليس على أساس الاقتصاد بأكمله. ومن شأن مثل هذه الخطوات أن تعترف بنجاح الصين الاقتصادي، حتى مع إلزامها بمعايير التجارة الأعلى في البلدان الصناعية المتقدمة.
ويرى شي نفسه زعيما تحويليا، وهو ما يدعو إلى المقارنة بالرئيس ماو. وكان هذا واضحا عندما استضاف رسميا وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر ــ من بين الشخصيات الأميركية القليلة التي تحظى بالاحترام على نطاق واسع في الصين في عهد شي ــ في يوليو/تموز 2023، قبل أربعة أشهر فقط من وفاة كيسنجر. ويعتقد شي أن بلاده، باعتبارها قوة عظمى، لا ينبغي أن تكون مقيدة بالمفاوضات أو الضغوط الخارجية، لكنه قد يكون منفتحا على التعديلات الطوعية بشأن قضايا التجارة كجزء من اتفاق أوسع نطاقا. ويشعر العديد من أعضاء النخبة المهنية والتجارية في الصين باليأس إزاء حالة العلاقات مع الولايات المتحدة. وهم يدركون أن الصين تستفيد أكثر من اندماجها في النظام العالمي الذي يقوده الغرب مقارنة باستبعادها منه. ولكن إذا تمسكت واشنطن بمسارها الحالي واستمرت في التوجه نحو حرب تجارية، فقد يتسبب ذلك عن غير قصد في دفع بكين إلى مضاعفة سياساتها الصناعية التي تسبب فائض الطاقة في المقام الأول. وفي الأمد البعيد، سيكون هذا سيئا بالنسبة للغرب كما سيكون سيئا بالنسبة للصين.
حوار مع آدم إس. بوسن، و زونغ يوان زوي ليو، ومايكل بيتيس حول الاقتصاد الصيني: https://www.youtube.com/watch?v=6Z1TxK9JyWI&t=134s
#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الميسور يأكل ثلجاً في جهنم
-
لينين وابن عمي نضال
-
كيف أحبَّ جدّي سميرة توفيق؟
-
على هامش يوم ميلاد لينين
-
كيف ظهر البشر على كوكب الأرض؟
-
إرث كونفوشيوس فاق في تأثيره ميراث لينين
-
نساء في السجون الأمريكية
-
لينين والثورات
-
في غياب الوعي المعرفي
-
غزّة هاشم ووَعْيُ القضيّة الفلسطينيّة
-
رد على كلمة الرفيق سعود قبيلات في تونس
-
إن المهمة في غزة هائلة وشاقة
-
سوري يأكل رسالة مصطفى أمين
-
في السجون الأمريكية
-
زراعة الشيوعيّة في السعوديّة!
-
فصل عن كارل ماركس من كتاب المثقفين
-
هل صيرورة الكون واحدة؟
-
عن رواية دمشق يا بسمة الحزن
-
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
-
فضائل ضبط النفس
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|