أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد محضار - تجربة حياة














المزيد.....

تجربة حياة


محمد محضار
كاتب وأديب

(Mhammed Mahdar)


الحوار المتمدن-العدد: 8062 - 2024 / 8 / 7 - 03:00
المحور: الادب والفن
    


انتظر طويلا أن تبتسم له الحياة لكنها ظلت مُكشِّرة في وجهه بلا سبب وجيه كما تراءى له، كان يفرط في التساؤل عن سر هذا الجفاء وقلبِ ظهرٍ المِجن الذي يلقاه منها، دون أن يفلح في الوصول إلى جواب مقنع يشفي غليل حيرته.
في كل صباح يستيقظ على مناظر مقززة، سقف بتشققات مخيفة، نافذة بمزلاج مكسور ودهان شاحب، صورة كبيرة لشارلي شابلان على الجدار الوسخ، وبلاط بزليج ضارب في القدم.
يتجاوز كل هذا ويزيح الغطاء عن جسده المتعب ثم يقوم مهرولا نحو الحمام المتهالك، يقضي حاجته ثم يغتسل، ويرتدي بدلته الباهتة ويغادر الشقة الوضيعة التي عشش بها منذ عقدين ونصف، في كثير من الأحيان يقصد المقهى الشعبي لصاحبه المعلم عزوز، يتناول طعام الإفطار الذي يتكون غالبا من "السفنج" والشاي الساخن، وقد يتجاذب أطراف الحديث مع بعض معارفه ممن يقصدون المقهى لتناول إفطارهم، يدور الحديث عادة عن غلاء المعيشة، وندرة الأمطار، وقد يَردُّ بعضهم ما يقع إلى شيوع الفاحشة وانحراف سلوك الناس، وابتعادهم عن نهج السلف الصالح، في حين يقول البعض الأخر أن سبب ندرة المطر سببه التلوث البيئي والصناعات الكيميائية والبتروكيماويات والتعدين. اعتاد هو أن يظل محايدا في تدخلاته متجنباً الجدل العقيم لأن له قناعة بأن الحجاج واللجاجة أشبه بصرخة في واد مادام الحل والعقد بيد فئة جُبلَت على صَمِّ الأذان وتجاهل الرأي العام للشعوب.
في المكتب يجلس كعادته صامتا غير مهتم بالحوار الذي يتبادله زملائه الثلاثة، وهم سيدة في منتصف العمر وكهلان يقاربانه في السن، كان حديثهم في مجمله يدور حول مشاكل الأبناء، وارتفاع أسعار المدارس الخصوصية ، وصعوبة الولوج إلى المستشفيات والمصحات بسبب غلاء تسعيراتها وهزالة التعويضات التي تقدمها التعاضديات وصناديق الاحتياط الاجتماعي، وقد ينزلق الحديث فينصب في اتجاه الفساد الذي أصبح مستشريا في الإدارة وسيادة المحسوبية في الترقيات، كان يكتفي بتحريك رأسه متظاهرا بالاهتمام تارة، أو ينشغل بإدخال بعض الملفات إلى الحاسوب والتحقق من صحة معطياتها ثم الموافقة عليها.
في إحدى المرات سألته زميلته: عن السر في عدم زواجه إلى اليوم وقد أصبح على أعتاب الخمسين، ظل صامتا وهو يبحلق فيها، لعنها ألف مرة في سرّه، تبّا لها من حيزبون تتدخل فيما لا يعنيها، حسبها ما فعلت بزوجها وما سببت له من مشاكل جرت بذكرها الركبان، ولولا تدخل ذوي النيات الحسنة لكان فارقها غير آسف على عشرتها، ردَّ على سؤالها مبتسما : " كل شيء نصيب، ونصيبي أن أظل عازبا، وقد أموت وأنا عازب، وربما وقعت المعجزة وتزوجت "
هناك أشياء كثيرة تخلق المفارقة، وتغير مسارات الانسان، وقد تلعب الصدفة دورا مهما في صنع توليفة تربط بين المفارقة والمسار، وينتج عن ذلك سياق قد تكون نتائجه إيجابية وفي أحيان أخرى قد تكون سلبية، وهذا حال صاحبنا الذي خسر الرهان ولازمته كل سلبيات الكون.
بعد انتهاء الدوام في الإدارة يغادر المبنى الضخم من الباب الخلفي القريب من المكتب الذي يقضي به سحابة يومه.
يستهويه أن يجول بأنظاره متأملا ما حوله من عربات من مختلف الأحجام تمرق من الشوارع التي يمر بها، كما أنه لا يتردد من سرقة نظرات خجولة لبعض النساء اللواتي تسرن على الرصيف، كل ذلك يجرى في حضرة عشرات الأفكار التي كانت تشج رأسه، وتسبب له قلقا مضنيا يربك حياته، هناك سؤال أنطولوجي يحاصره دائما ويؤثر عليه، يطرحه ويكرر طرحه :" ما فائدة الحياة إن كنّا نتعذب ونشقى ونحن نستحث الخطى نحو النهاية الحتمية؟".
زمن الوحدة الذي يحاصره لا يسمح له بالسلوان وتَغْييبِ الهواجس التي تتربص به وتفترس كل لحظة طمأنينة تعنُّ له.
مأساته تكمن في الفراغ المتناسل، في الصمت القاتل والجدران الباردة، وغياب القدرة على الخروج من ترسبات الماضي الشاحب الذي عاش في أحضان إهابه.
هو يدمن على قراءة بعض الكتب الفلسفية ويرى فيها أحيانا وسيلة خلاص من عزلته ووحدته، لأنه يجد فيها تصريفا لمجمل الأفكار التي تهاجمه وهو في خلوته، لهذا فهو لا يتردد في الانسياق خلف فلسفة إميل سيوران التشاؤمية المبنية على الأفكار الانتحارية، ويجد متعة في ترديد قولته التي حفظها عن ظهر قلب:" لا ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل. أما الآخرون، فلماذا يكون لهم مبرّر للموت وهم لا يملكون مبرّراً للحياة؟"
عندما يصل إلى شقته، يفتح نافذة الصالون الصغير الذي يحتوي على أريكتين باهتتي اللون، ومائدة من خشب الزان، ثم يدخل غرفة النوم، ينزع عنه البدلة ، ويلبس كندورة مراكشية، يلج إلى المطبخ، يضع حلة الأكل المتبقي من طعام العشاء على فرن الغاز،
عندما يسمع صوت غليانه يفرغ محتوى الحلة في صحن خزفي، يحمل صينية الأكل إلى الصالون، يجلس على إحدى الأريكتين، ويترك لنفسه فرصة لاسترجاع الأنفاس، ثم يبدأ بالأكل، نادرا ما تكون شهيته مفتوحة، فهو يأكل فقط ليعيش والباقي لا يَهمّه.
ينهى تناول وجبة طعامه، يشعل لفافة تبغ ينفت دخانها بانتشاءٍ، عبر موجات الدخان المتصاعدة يرى شذرات من حياته متقطعة يصعب لَمُّها لأنها أشبه بشظايا غير متوازنة.
هي أحلام توارتْ وآلام تجدَّدت وأنت لا تملك سوى أن تردّد مع نتشه قولته الشهيرة:" من يملك غاية للعيش، يمكنه تحمّل أيّ شيء يعترضه في الحياة" وغايتك أنت أن تعيش حرا وسيدا لنفسك لا عبدا لوظيفتك ولمسؤولياتك وأفكارك. ولن تغير تكشيرة الحياة وجفاؤها شيئا من حالك ووضعك، لأن ما من متعة ترغب فيها أو تتطلع إليها إلا وتقتضي أن تعيش تجربة المخاطرة ومواجهة الصعب والعسير.

20 يوليوز 2024



#محمد_محضار (هاشتاغ)       Mhammed_Mahdar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قيود الحلم
- الأحلام لا تشيخ
- كلمات الميتة
- رفح سيدة المراثي
- شغف الانبعاث
- أسوار التاريخ
- ليلة العيد
- فريضة الاجتراح والخطيئة
- أمّ البنات
- غزة .. صوت المجهول
- غزة تستغيث
- ملحمة انبعاث وانبثاق
- ارتدادات وجدانية على هامش الزلزال
- حبيبتي
- قراءة نقدية في ديوان قيظ الهجير للشاعرة المغربية الطاهرة حجا ...
- قراءة نقدية في مجموعة قل لهم أن يتمسكوا بأحلامهم لخديجة برعو
- سقوط غير حرّ
- التباس
- لغة الصمت
- قراءة في ديوان الشاعر أبو فراس جابر الصنهاجي : أحرقت مراكبي


المزيد.....




- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد محضار - تجربة حياة