بعد شهر من الحسم العسكري وسقوط النظام العراقي السريع، بدا الامريكان كمن فقد المبادرة في المعركة الاهم: اعادة اعمار العراق وارساء نظام حكم ديمقراطي. وفيما يعتبر دليلا على تورط الامريكان في الوحل العراقي، أقدمت الادارة الامريكية على تعيين الدبلوماسي بول بريمر، مستشار سابق في شؤون الارهاب في ادارة ريغان، للاشراف على تشكيل الحكومة الانتقالية في العراق، وذلك اعترافا بفشل الجنرال جاي جارنر، المقرّب من وزارة الدفاع، في تأدية المهمة.
سقوط نظام صدام حسين ترك فراغا سياسيا وامنيا كبيرا لا تزال الادارة الامريكية عاجزة عن ملئه، مما خلق شعورا لدى الشعب العراقي بعدم وجود سلطة على الاطلاق. وقد ادى هذا الوضع الى نتيجتين: الاولى، نمو مشاعر النقمة والغضب الشعبي، خاصة ازاء الدمار الكبير الذي عرف الامريكان كيف يحققونه بسرعة، في حين يعجزون عن تزويد الناس بالحاجات الاساسية الضرورية، واولها الامن العام ووضع حد لفوضى النهب والسرقات المستمرة، توفير اماكن العمل، الكهرباء، الماء، والمساعدات الانسانية. والنتيجة الثانية دخول عناصر سياسية محلية، وتحديدا من الشيعة، الى هذا الفراغ في محاولة للاستيلاء على الحكم، وهو امر اعلنت امريكا انها لن تقبله.
عراقيل امام اعادة الاعمار
المهمات التي اخذها الامريكان على عاتقهم تبدو مستحيلة، وقد جرى وصفها بعملية اعادة الاعمار الاكبر التي تخوضها امريكا منذ الحرب العالمية الثانية بعد خطة مارشال لاعادة اعمار اوروبا. ويقدر محللون ان تكلفة اعادة الاعمار والوجود العسكري الامريكي ب20 مليار دولار سنويا. وليس واضحا اذا كانت امريكا التي تعاني بنفسها من ازمة اقتصادية حادة، قادرة ان تأخذ على عاتقها خطة طموحة ومعقدة من هذا النوع. المشكلة ان الامريكان دخلوا بارجلهم الى واقع سياسي اجتماعي اقتصادي متأخر بشكل خاص، بعد الحرب المدمرة، بعد 13 عاما من الحصار وبعد 35 عاما من حكم الحزب الواحد.
وفوق هذا، التوقعات الشعبية عالية جدا، ف"العراق ليس افغانستان او الصومال بل دولة كانت متطورة جدا وتريد ان تعود لتكون كذلك"، كما يقول غيلان رامز المحاضر في العلوم السياسية بجامعة بغداد للواشنطن بوست (9 ايار). ففي السبعينات، قبل شنّه الحرب على ايران، نجح النظام العراقي في تسخير العائدات النفطية لتكوين طبقة وسطى من معظم العراقيين. من هنا فان نجاح الامريكان في العراق بالنسبة للكثير من العراقيين، مرهون ليس فقط بارساء الديمقراطية بل باعادة الازدهار الاقتصادي.
المشكلة الاساسية ان الامريكان دخلوا الى هذا الواقع دون استراتيجية او تخطيط واضحين، دون قدرات اقتصادية كافية، دون عدد كاف من الجنود لحفظ الامن، ودون دعم سياسي دولي يمكّنهم من اتمام المهمة. وقد اعترف جارنر بان الفقر والخلافات الاثنية والمعارضة الشعبية للاحتلال الامريكي تزيد المهمة صعوبة (واشنطن بوست، 20 نيسان).
التحدي هو في تشكيل الحكومة لدفع عجلة الاقتصاد بدعم القوات العسكرية الامريكية، دون خلق الانطباع بان قوات التحالف هي التي تفرض هذه الحكومة. ولكن الشكوك في النوايا الامريكية اصبحت امرا واقعا، وفي ظلها اصبح على الامريكان ان يديروا وزارات هدموها بانفسهم او تركوها عرضة للنهب والسلب، عليهم ان يعيدوا العمال الى المصانع والوزارات، ان يفتحوا الحدود والبنوك حتى يتلقى الناس معاشاتهم، عليهم تأسيس عملة محلية جديدة، وانقاذ الجهاز الصحي وانشاء شرطة لحفظ الامن.
حتى الآن اضطرت قوات التحالف على نحو طارئ لدفع رواتب لمليون موظف حكومي، قيمة الراتب الواحد 20 دولارا للشهر. الى هذا، لا تزال القوات عاجزة عن اعادة الناس للعمل، على خلفية عمليات القصف والسرقات التي تعرضت لها الوزارات، اماكن العمل الاساسية. من جهة اخرى توفير الماء والكهرباء لا يزال متقطعا، رغم الوعود باعادة تفعيل البنية التحتية في زمن قصير. ولعل اكبر دلالة على وضع الفوضى، ان السيارات العراقية قد تنتظر نهارا كاملا للحصول على الوقود، في دولة كانت من اكبر مصدّري النفط في العالم. وما زاد النقمة الشعبية ان الامريكان دعوا اعضاء في حزب البعث للعودة لمزاولة اعمالهم في الشرطة والوزارات الحكومية.
تناقض أ: ديمقراطية ونهب
احد الاسباب التي تجعل تشكيل الحكومة امرا ملحّاً (حتى 3 حزيران (يونيو) موعد انتهاء العمل ببرنامج "النفط مقابل الغذاء")، هو الحاجة الى بناء مرجعية قانونية بديلة للامم المتحدة، يمكنها التصرف بعائدات النفط. ويقدر خبراء بانه سيكون بالامكان ترميم آبار النفط في شمال العراق خلال شهر واحد، بينما تبقى المشكلة في الجهاز الذي سيشرف من الناحية القانونية على عملية البيع والتصرف بالعائدات. (واشنطن بوست، 12 نيسان)
ويخطط الامريكان ان يتم انفاق جانب من عائدات النفط في اعادة الاعمار، الامر الذي تعارضه دول مثل فرنسا وروسيا اللتين تبحثان عن حصتهما في الغنيمة العراقية. وما كشف حقيقة النوايا الامريكية في الانفراد بالغنيمة الاعلان عن الشركة الفائزة بعقد اعادة اعمار العراق، وهي شركة "بختل" الامريكية المرتبطة سياسيا بالادارة الامريكية، وكان احد مدرائها جورج شولتز، وزيرا للخارجية في عهد ريغان.
وقد فازت الشركة بالعقد وقيمته 680 مليون دولار ضمن مناقصة دعي للمشاركة فيها عدد محدود من الشركات الامريكية فقط، التي اعتبرت قادرة على تنفيذ المشروع ومناسبة من الناحية الامنية لاطلاعها على معلومات مصنفة.
وفي محاولة لابعاد علامات الاستفهام حول النوايا الحقيقية للحرب التي اثارتها هذه المناقصة، اعلنت بختل انها ستجري مناقصات لعقود فرعية بين شركات اخرى، بريطانية واسترالية. ولكن لا يبدو ان هذه النية ايضا لاشراك القوات الحليفة في تقاسم الغنائم، تنجح في اقناع الروس والفرنسيين بان الحرب كان هدفها ارساء الديمقراطية العراقية.
وفي الواقع تكشف هذه العقود عن احد التناقضات الرئيسية التي تواجهها امريكا في بناء النظام الديمقراطي. فاذا كان الهدف حقا بناء الديمقراطية للزم اولا استثمار ثروات الشعب في البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية وتطويرها لتكون ملائمة لنظام سياسي ديمقراطي. فالنظام الديمقراطي يميز مجتمعات ذات طبقة وسطى عريضة مزدهرة. ولكن اذا استمر نهب موارد البلد لصالح الشركات الامريكية بدل استثمارها في تصنيع البلد، يبقى الحديث عن الديمقراطية وهما ودعاية.
تناقض ب: ديمقراطية وشيعة
الاستعجال الامريكي لتشكيل الحكومة ينبع من امرين: الاول الحاجة المادية لسلطة مركزية تعطي "الشرعية اللازمة لتنفيذ الاجندة الامريكية الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة ككل" (الحياة، مقالة لهشام شرابي، 3 ايار). والثاني وهو الامر الطارئ، الخوف من بروز القوى والاصوات المعارضة لامريكا والموالية لايران، التي بدأت تملأ الفراغ في مدن الجنوب وتسعى للسيطرة على الحكم. وفي هذا الصدد وجه وزير الدفاع الامريكي، دونالد رامسفيلد، تحذيرا واضحا لايران بعدم التدخل في الشؤون العراقية، وصرح بان الولايات المتحدة لن تقبل بنشوء دولة دينية في العراق على شاكلة ايران.
وهنا يكمن التناقض الرئيسي الذي تواجهه امريكا، اذ ان ارساء الديمقراطية حقا يعني افساح المجال للشيعة لتولي الحكم على اساس كونهم يشكلون 60% من العراقيين. غير ان هذا الامر لو تم سيؤدي الى قيام دولة اسلامية تلغي الطابع الديمقراطي التعددي. هذه المسألة تبقى بلا حل، خاصة في ظل عدم وجود بديل علماني منافس للشيعة.
ورغم تعدد القوى المتنافسة على السلطة، وبضمنها الشيعة المنقسمين اصلا، والاكراد والمعارضة الخارجية وقوات حزب البعث، هذا بالاضافة الى العشائر، الا ان الشيعة يعتبرون القوة الاكثر نفوذا في الجنوب واقسام من بغداد.
والحقيقة ان الشيعة وحدهم القادرون على ملء الفراغ السياسي، لانهم يتمتعون بدعم من ايران، في حين تفتقد بقية القوى اي دعم اسلامي او عربي، سواء الاكراد الذين يلاقون معارضة تركيا، او المعارضة الخارجية التي ينظر اليها كدخيلة وعميلة. وقد فوجئ الامريكان بازدياد نفوذ الشيعة الذي تم استعراضه في مسيرة المليونين الى كربلاء في الذكرى الاربعين لمقتل الامام الحسين.
موظفون في الادارة الامريكية قالوا ان "الادارة وجهت جهودها لمسألة قلب نظام صدام حسين، وفشلت في تقدير قوة الشيعة وامكانية تأثيرهم على تشكيل حكومة اصولية." (واشنطن بوست، 23 نيسان). لنفس المصدر اكد موظف كبير في الادارة لم يذكر اسمه: "ان احدا لم يقف لحظة ويتساءل عما نبحث؟ كان همنا اسقاط نظام صدام حسين وحسب". واضاف المقال ان "الاستخبارات الامريكية وخبراء عراقيين حذروا الادارة الامريكية من عزل صدام في ظل غياب بديل له، غير ان هذه التحذيرات اما انها لم تسمع، او انها لم تؤخذ بعين الاعتبار".
ولكن يجدر التذكير ان الامريكان مثلوا امام مشكلة شبيهة في حرب الخليج عام 1990-1991، عندما تبينوا ان القوة الوحيدة القادرة على ملء الفراغ هي الشيعة، ففضلوا عدم قلب نظام صدام مع ان الظروف كانت ناضجة وكانت لهم الشرعية الدولية التي تمكنهم من اسقاطه، بسبب اجتياحه للكويت. النتيجة كانت فرض الحصار على العراق، واليوم يعود الامريكان الى نفس النقطة ولكن بعد ان تم تدمير العراق بسبب طول الحصار، الامر الذي زاد نفوذ الشيعة.
بمعنى آخر فالشعب العراقي كان يجب ان يدفع الثمن ثلاث مرات: الاولى بالحصار الطويل الذي فرضته امريكا، مما كلف مئات آلاف الارواح وتدني مستوى المعيشة، والثانية بالحرب التي تسرعت امريكا لخوضها مرة اخرى دون ان يكون لها بديل لنظام البعث، والثالثة بوضع الفوضى والفراغ الامني الكبير.
في سعيها لعقد علاقات مع القوى الاكثر اعتدالا داخل الشيعة، ومن خلال الارتكان على الخلافات القومية بين الشيعة العرب والشيعة الايرانيين، بدأ الامريكان استعراض التيارات داخل الشيعة. وكانوا قد التقوا احد هذه التيارات المتمثل بمجلس الثورة الاسلامي الاعلى برئاسة محمد باقر الحكيم، قبل خمس سنوات في الكويت. كما التقى الحكيم نائب الرئيس الامريكي، ريتشارد تشيني، في آب 2002 بواشنطن، وذلك في اطار اجتماع مع المعارضة العراقية المتعددة الاحزاب. ورغم ان الحكيم تابع لايران، الا انه يعتبر معتدلا اذا قيس بتيار آخر متمثل بالقيادي الشاب سيد مقتدى الصدر (30 عاما) ابن المرجع الديني المقتول الامام محمد صادق الصدر، الذي يرفض اي حوار مع الامريكيين، ويطالب لنفسه بالسلطة واسس لذلك ميليشيات خاصة.
في مطالبته بالسلطة السياسية يعارض الصدر تيارا ثالثا هو الحوزة العلمية ورمزه المرجع الديني الكبير السيستاني الذي يكتفي بالسلطة الدينية دون السياسية. وتفيد "الحياة" (9 ايار): "ان هناك نوعا من الاستكانة من جانب المراجع الكبار لصالح مقتدى الصدر الذي شكل ما يشبه الميليشيا المسلحة، فضلا عن استنصاره الخفي بالعصبية العربية في وجه ايران ومراجع النجف (ذوي الاصول غير العربية)". ولكن الامور اكثر تعقيدا اذ ان المرجع الديني للصدر هو الحائري المقيم في ايران، ويتجلى التعقيد في مقولة احد اتباع الصدر يدعى الناصري للنيويورك تايمز (23 نيسان): "اريد حكما شيعيا في العراق، سواء بادارة عراقية او ايرانية. انا افضل شخصا مثل الخميني ان يحكم العراق على ان يحكمها عراقي علماني".
ومن المتوقع هو ان يسوء حال الشعب العراقي اكثر مما كان عليه زمن نظام صدام حسين. فاذا كان النظام السابق مضطرا للاستثمار في الدولة ورشوة شرائح معينة من الشعب لحفظ مكانته، فان الامريكان فيفرضون وجودهم في العراق بقوة السلاح، كأي استعمار تقليدي. والاستعمار بطبيعته عابر، وهو في عبوره يسعى لابتلاع اكبر قدر ممكن من النفط والموارد الاخرى لزيادة ارباحه، دون ان يكون ملزما باي شيء تجاه الشعب. لهذه الاسباب ينظر الشعب العراقي بعين الشك للمشروع الامريكي برمّته.
الصبار