أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سعدي السعدي - الجدل والطبيعة وديالكتيك الطبيعة الجزء الأول















المزيد.....


الجدل والطبيعة وديالكتيك الطبيعة الجزء الأول


سعدي السعدي

الحوار المتمدن-العدد: 8059 - 2024 / 8 / 4 - 14:42
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ملاحظة:
الموضوع بقلم كاميلا رويل .. منشور في مجلة الاشتراكية الدولية - مراجعة فصلية للنظرية الاشتراكية - العدد 141 بتاريخ 9 كانون الثاني 2014 - قمت بترجمته

مقدمة
في عام 1873، بدأ فريدريك إنجلز، معاون كارل ماركس، العمل على مجلد طموح بعنوان ديالكتيك الطبيعة1. ووصف في رسالة إلى ماركس كيف انه، وبينما هو مستلقيًا على السرير في صباح أحد الأيام، استنتج أن العلوم الطبيعية تدور في الواقع حول "المادة المتحركة". وطلب من صديقه (كارل ماركس) ان يلتزم الصمت بشأن هذه الفكرة "كي لا يسرقها أي إنجليزي رديء".2
بدأ إنجلز يوضح أهمية النهج الماركسي في دراساته المكثفة في العلوم الطبيعية، وكانت أفكاره تمثل مشروعًا سيكون مدى اهتمام الباحثين على مدار العقد التالي من الزمن .. ولكن في النهاية لم يكتمل هذا العمل ..
ومنذ ذلك الحين ظلت فكرة جدلية الطبيعة مثيرة للجدل. إن الديالكتيك، كما هو مطبق على دراسة المجتمع، هو موضع خلاف مع العديد من التفسيرات حول ماهية الديالكتيك وما يفترض أن يستخدم من أجله. لكن العديد من المنظرين الذين يؤيدون فهم المجتمعات البشرية جدليًا رفضوا فكرة تطبيق ذلك على الطبيعة.
تثير المناقشات عن جدلية الطبيعة المزيد من الأسئلة حول الفلسفة الماركسية وما إذا كان بإمكانها مساعدتنا في فهم جوانب أكثر جوهرية للعالم الذي نعيش فيه. ويعتمد الأمر أيضًا على ما يمكن أن نعنيه بـ "الطبيعة"، وهو موضوع مثيرة للجدل مثل الديالكتيك.

انجلز وعلوم القرن التاسع عشر
يمكن القول إن إنجلز كان واحدًا من أكثر المثقفين العصاميين إثارة للإعجاب في عصره (أو في أي وقت آخر). لقد علم نفسه ليس فقط العلوم الاجتماعية والفلسفة وانما الأنثروبولوجيا والكيمياء والرياضيات والفنون كذلك. لقد عاش فترة شهدت تغيرات ثورية في كل هذه المجالات، ولعل أبرزها ما نشره تشارلز داروين عن أصل الأنواع في عام 1859، موضحاً أن أنواع الكائنات الحية، بدلاً من كونها كيانات ثابتة ومنفصلة، هي قادرة على التطور إلى أشكال جديدة ومختلفة جذريًا. قرأ كل من ماركس وإنجلز أعمال داروين ورآها دليلاً على مفهوم الطبيعة الذي يتغير عبر الزمن، وعلى الأقل مشابهًا لأفكارهما حول التغيير التاريخي في المجتمعات البشرية.3
لكن لم يكن علم الأحياء وحده هو الذي أحدث ثورة في القرن التاسع عشر، فقد اثبت جيمس بريسكوت جول، في الفيزياء، أن الحرارة يمكن أن تنتقل إلى طاقة ميكانيكية والعكس صحيح.
وفي الجيولوجيا، اكتشف تشارلز ليل الخلق والتدمير المستمر للطبقات داخل القشرة الأرضية.4
وأليكس كالينيكوس يؤكد أن علينا رؤية أفكار أنجلز في هذا السياق.
في الوقت الذي كان فيه انجاز يكتب كانت التطورات الحقيقية في العلوم الفيزيائية، تعتمد على نموذج مرتبط بقوانين نيوتن، حيث تكون العمليات الميكانيكية قابلة للعكس بمرور الوقت.
في القرن التاسع عشر، بدأ العلم يأخذ في الاعتبار طبيعة العمليات التي لا رجعة فيها، العمليات التي لا تتغير طبيعتها فقط، بل تتطور ايضاً.5
لقد ساعدت الماركسية في تعزيز فهمنا للعلماء ودورهم في المجتمع. ومع ذلك، لم يكن إنجلز مهتماً بالوضع الاجتماعي للعلم فقط، بل قام أيضاً بتحليل المناقشات داخل العلم. وتوضح كتاباته حول هذا الموضوع على انه هو نفسه كان على دراية كافية بالمواضيع التي يشارك في مناقشتها. وثبت منذ ذلك الحين أن بعض أفكار إنجلز صحيحة.
في الموضوعة التي تتعلق بدور العمل في الانتقال من القرد إلى الإنسان، ناقش إنجلز وضعية الانتصاب لدى البشر الأوائل وسمح لهم تحرير أيديهم الى تطوير استخدام الأدوات، وحدث هذا جنباً الى جنب مع تطور الادمغة .. وقد أشاد علماء، مثل ستيفن جاي جولد، بهذه الفكرة باعتبارها مثالاً مبكراً لما يشار إليه الآن باسم التطور المشترك للثقافة الجينية.6
ومع ذلك، فإن فكرة جدلية الطبيعة لا تزال مثيرة للجدل، وهذا يدلل حقيقة أن إنجلز لم يعش قط طويلاً بما يكفي لإنهاء كتابه أو الدفاع عن مشروعه.
وعندما توفي ماركس في مارس 1883، وضع إنجلز عمله هذا جانباً ليتولى المهمة الهائلة المتمثلة في إعداد المجلدين الثاني والثالث من رأس المال للنشر. لكن مخطوطة ديالكتيك الطبيعة تم نشرها باللغة الروسية في عام 1925 وباللغة الإنجليزية في عام 1939. وكان جي بي إس هالدين مسؤولاً عن النسخة الإنجليزية. لقد كان هالدين عالماً بارزاً مسؤولاً عن تعزيز فهمنا لكيفية ارتباط التطور بعلم الوراثة، ولكنه كان أيضاً ماركسياً ملتزماً وعضواً في الحزب الشيوعي. طوال حياته، أصبح تدريجياً أكثر اقتناعا بالقوة التفسيرية للنهج الجدلي، مجادلاً في مقدمته لكتاب ديالكتيك الطبيعة أنه لو تم نشره في وقت سابق لكان قد وفر عليه الكثير من "التفكير المشوش".7 إنها مهمة سهلة: لقد كانت في الأساس سلسلة من الملاحظات. ربما كان إنجلز ينوي تعديل أو حتى حذف أجزاء من العمل.
هل من المفيد أن نطلق مفهوم " الجدلية" على الطبيعة ؟
لكي نناقش ميزات أفكار انجلز نحتاج أن تكون لدينا كذلك فكرة عن ماهية الديالكتيك، وما الذي يفترض أن يستخدم من أجل ذلك. فلا فائدة من تعلم الديالكتيك إذا كان مجرد تمرين مدرسي، أو إذا تعلمنا عنه في الكتب وفي المؤتمرات ثم نسيناه على الفور بعد ذلك، لأنه لا علاقة للديالكتيك بالممارسة اليومية.
رأى ماركس، في خاتمة لكتاب رأس المال، أن الديالكتيك المادي هو في الأساس فلسفة لأولئك الذين يريدون تغيير العالم. إن الديالكتيك المادي "في جوهره انتقادي وثوري على حد سواء".8 لقد بنى ماركس العديد من أفكاره على أفكار الفيلسوف المثالي الألماني جورج هيجل، الذي فقد تعاطفه مع الحركات الثورية، خاصة في نهاية حياته. ومع ذلك، أود أن أزعم أن النسخة المادية الماركسية من الديالكتيك لا تكون منطقية إلاّ عندما يُنظر إليها على أنها موضوع مركزية لمشروع التغيير الثوري.
إن أهم جوانب الديالكتيك، من وجهة نظر العديد من المنظرين، هي التغيير والتناقض .. فهو يسمح لنا بفهم طبيعة العالم وهو يتغير باستمرار، كما ان الديالكتيك هو العنصر الذي يسلط جون مولينو عليه الضوء ويتعامل معه في دليله الأخير على الفلسفة الماركسية.9 يمكن تسمية الديالكتيك بالفلسفة النقدية لأنه يدعو إلى التشكيك في فكرة أن عالمنا ظل دائمًا كما هو وسيستمر دون تغيير في المستقبل. ولكنه يرى (جون) أيضاً أن هذا التغيير لا يكون تدريجياً دائماً، إذ يمكن للأشياء أن تتقدم بقفزات كبيرة10، وهو ما يمكن وصفه بالتغيير الثوري.
في كتابه "رقصة الديالكتيك"، شبه برتيل أولمان محاولة فهم هذا العالم بمحاولة القفز إلى سيارة متحركة، أو محاولة القفز إلى سيارة وانت معصوب العينين ولا تعرف الاتجاه الذي تتحرك فيه السيارة وسرعتها؟
ويرى أولمان أن العالم من حولنا يتغير ونحن بحاجة إلى نظرية يمكنها فهم ذلك.11
وحسب معظم النظريات ان المسلّم به ان نبدأ بالنظر إلى العالم كما لو كان ثابتاً، ثم نحاول تفسير أي تغييرات قد تحدث، ولكنه بالنسبة للمفكرين الجدليين يكون العكس هو الصحيح، فالتغيير هو الحالة الافتراضية للكون ..
كما أن الجغرافي الماركسي ديفيد هارفي استخدم الطريقة الجدلية في عمله ولعدة سنوات كمنظر اجتماعي. وهو (هارفي) يعارض الاختزالية الديكارتية، التي تقوم على افتراض أنه يمكننا دراسة العالم من خلال تقسيمه إلى "أشياء" منفصلة، فالديكارتيون يرون أن للأجزاء صفاتها الخاصة الموجودة بشكل مستقل عن الكل، حيث يمكننا تحليل كل منها على حدة ثم النظر في كيفية ارتباطها12. لذا فإن الجغرافي الذي يحاول فهم المدن على أساس ديكارتي قد ينظر إلى لندن ويعرفها على أنها كل شيء موجود داخل الطريق السريع M25 فيسأل من يعيش في لندن، وما نوع السكن الذي يعيشون فيه، وما نوع الصناعات الموجودة في أجزاء مختلفة من المدينة والعديد من الأسئلة الأخرى .. وفعل الشيء نفسه بالنسبة لمدينة أخرى، ربما نيويورك. وبمجرد أن يفهم سمات كل مدينة ككيان منفصل يعمل مقارنة بين الاثنين.
يوجه المفكر الجدلي أنظاره نحو العمليات التي تشكل تلك المدن، مثل الهجرة من وإلى المدن، أو نمو الليبرالية الجديدة في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا. وهو لا يقدم المدن على أساس انها أشياء منفصلة بل هي سلسلة من العمليات ..
وتتساءل طريقة تفكير هارفي عما إذا كان بإمكاننا التفكير في مدينة ما دون الاخذ بنظر الاعتبار سياقاتها، ولكي نعالج موضوعة الهجرة إلى المدن، علينا ان نفهم كل ما يحدث في الأماكن خارجها وكل الأماكن التي يأتي منها المهاجرون. ولكنه يلفت الانتباه أيضاً إلى وجود أوجه تشابه بين المدن، لذا فإن الهجرة في كل من لندن ونيويورك قد تؤثر على كليهما بطرق مماثلة.
يقلب نهج هارفي الجدلي طريقة تفكيرنا المنطقية رأساً على عقب، حيث يقول إنه لا يوجد فعلياً ما يطلق عليه "شيء" .. فكل ما نعتبره أجساماً صلبة تتكون في الواقع من عمليات .. ويمكن أن تجتمع العمليات المختلفة معاً بشكل مؤقت لإنتاج الأشياء، ولكنها دائماً ما تكون مؤقتة. فالأشياء دائماً في طور الخلق أو التدمير. في هذا النهج، يمكن أن يكون الشيء فكرة أو مفهوماً أو شيئاً موجوداً بشكل ملموس مثل المدينة. كما جادل إنجلز بشيء مماثل في كتابه لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية: “لا ينبغي فهم العالم باعتباره مجموعة معقدة من الأشياء الجاهزة، وإنما باعتباره مجموعة معقدة من العمليات، حيث تمر الأشياء فيها بتغيير متواصل، من الوجود والفناء".13
إن الديالكتيك بالنسبة لماركس، والعديد من أتباعه، يدور حول التناقض والتغيير، فالاثنان مرتبطان، والتناقضات الداخلية تدفع التغيير إلى الأمام وتؤدي إلى الديناميكية التي نلاحظها. كل شيء في ظل الرأسمالية يبدو متناقضاً، وهو متناقض.14
ومع ذلك، يرى هارفي أن التفكير في موضوعة التناقضات يتوافق مع منهجه الخاص. إذا كانت الأمور مكونة من مجاميع متغيرة من العمليات، فمن المنطقي أن بعض هذه العمليات ستكون متعارضة مع بعضها البعض15. خذ على سبيل المثال حزب العمال في بريطانيا، وهو منظمة برجوازية ولكنها تحافظ على عضوية الطبقة العاملة بشكل رئيسي، وأن تسميتها بالطبقة البرجوازية والطبقة العاملة يبدو أمراً متناقضاً، ويشير إلى التناقض. والمفتاح هنا هو النظر إلى العمليات المتنوعة التي أدت إلى ظهور حزب العمال إلى الوجود. في ذلك الوقت، أصبحت دولة الرفاهية ذات أهمية متزايدة بالنسبة لقطاعات رأس المال، بينما كان العمال يتطلعون نحو الأفكار الإصلاحية والأحزاب الإصلاحية. إن احتياجات العمال والرأسماليين تتعارض مع بعضها البعض، لكنها كانت قادرة على الاندماج في مرحلة معينة من التاريخ، نتج عنها تشكيل منظمة متناقضة للغاية، هي حزب العمال. هذا النهج يعترف بالوجود الحقيقي للتناقضات، ولكنه يبحث عن الآليات الملموسة التي تتطور من خلالها العمليات كي تولد منها الأشياء الى الوجود.
لا يكفي أن نقول ببساطة أن كل شيء متناقض دون أن نسأل لماذا؟
علماء الاحياء الجدليون
إذا كان الديالكتيك يساعد الماركسيين على فهم شيء ما عن المجتمع البشري، فهل يمكن أن يكون مفيداً أيضاً لعلماء الطبيعة، الذين يحاولون فهم جوانب مختلفة جداً من العالم؟
لقد جادل عدد قليل من علماء الطبيعة صراحةً بأنهم يمارسون العلوم الجدلية.
في عام 1985 نشر ريتشارد ليفينز وريتشارد ليونتن مجموعة من المقالات بعنوان عالم الأحياء الجدلي. كلاهما كانا (وما زالا) أستاذين متميزين في علم الأحياء في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة.
وكما يوحي اسم الكتاب (عالم الاحياء الجدلي) تجنب ليفينز وليونتن القول بأنهما كانا يحاولان تطبيق الديالكتيك على علم الأحياء.16 وهذا ليس جدل في علم الأحياء لأنهما ليسا فلاسفة يتعاملان مع علم الأحياء من الخارج. وبدلاً من ذلك، زعموا أنهم اعتمدوه كمنهج، وأدرجوه في ممارساتهم كعلماء أحياء. كان هذا الكتاب مخصصاً لإنجلز، الذي "أخطأ في تحقيق الهدف الصحيح".17
سيدرك القراء المطلعون على ليفينز وليونتن أن لديهما مجموعة واسعة من الاهتمامات. انهم ينتقدون بعض الأساليب الإحصائية المستخدمة في علم الأحياء، ويتبنون الحتمية البيولوجية (وهي فكرة مفادها أن السلوك البشري يمكن تفسيره من خلال علم الوراثة فقط)، ويدافعون عن حقوق العمال المهاجرين من أمريكا اللاتينية في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن أحد خطوط الاستدلال الأكثر ابتكاراً التي طورها ليفينز وليونتن هو ما يشيران إليه بفكرة الكائن الحي، باعتباره موضوعاً وموضوعاً للتطور.18 يشير ليونتن، على وجه الخصوص، إلى أن المقاربات الكلاسيكية في علم الأحياء التطوري نظرت إلى الكائنات الحية على أنها كائنات سلبية لقوى خارجة عن سيطرتهم، وقد تكون هذه القوى إما داخلية للكائن الحي أو خارجية.19
لكن داروين رأى أن الكائنات الحية تستجيب للتغيرات في بيئتها، وان الافراد ضمن السكان يختلفون في قدرتهم على البقاء والتكاثر، ولكن الأمر يتطلب ضغوطاً خارجية من البيئة للتأثير على هذا الاختلاف وتحديد الأفراد الذين سيكونون الأكثر نجاحاً. وينقل هؤلاء الأفراد جيناتهم إلى الجيل التالي. وعندما يتم تفسير التطور بهذه الطريقة، يُنظر إلى البيئة على أنها تقدم لمجموعات معينة عدد من المشكلات التي يجب أن تجد حلاً لها من خلال عملية التجربة والخطأ، وعلى سبيل المثال، بيئة الحوت الأحدب باردة ومليئة بالكريل المغذية والأسماك الصغيرة. إنه "يحل مشكلة" كيفية العيش في هذه البيئة من خلال تطوير دهنه للبقاء على قيد الحياة في المياه الجليدية، وفم ضخم وبعض التقنيات الرائعة لالتقاط طعامه. إن وظيفة آكل الكريل الكبير الذي يسبح في المياه الباردة هي ما يشير إليه علماء البيئة على أنه مكان متخصص.
فبينما يرى الداروينيون الكلاسيكيون أن الكائنات الحية تستجيب للقوى المؤثرة عليها من الخارج، فإن الحتمية الجينية تنظر من الاتجاه الآخر، ويجادلون بأن النباتات والحيوانات تستجيب للقوى الداخلية الناشئة عن جيناتها. لقد قارن ريتشارد دوكينز مراراً وتكراراً الكائنات الحية بالروبوتات: "نحن آلات البقاء - مركبات روبوتية مبرمجة بشكل أعمى للحفاظ على الجزيئات الأنانية المعروفة باسم الجينات"20. مشفرة في جيناتنا.
وهذا لا يعني أن أياً من النهجين خاطئ، أو أنهما غير متوافقين مع بعضهما البعض. لقد حاول دوكينز باستمرار الدفاع عن التطور ضد الخلقيين. لكن كلا النهجين، أحدهما يؤكد على العوامل الخارجية والآخر يركز على العوامل الداخلية، لا ينظران إلا إلى جزء من الصورة.
يجادل ليفينز ولوونتين بأن مثل هذه الأساليب تتجاهل الدور الذي يلعبه الكائن الحي نفسه في تطوره.21 ويُنظر إلى الكائن الحي على أنه موقع سلبي تتفاعل فيه الجينات والبيئة. ويؤكد علماء الأحياء الجدليون أن الكائن الحي أيضا، بطريقة ما، ليس مجرد موضوع، بل "موضوع تطوره الخاص".22 تحدد الكائنات مكاناً مناسباً حول نفسها لأنها تحدد أي جوانب محيطها المباشر أكثر أهمية. على سبيل المثال، قد يجد نقار الخشب أن لحاء الشجرة ذو صلة ولكن ليس الحجارة الموجودة في قاعدة الشجرة. الطيور الأخرى التي تستخدم تلك الحجارة لتحطيم أصداف الحلزون ستجدها ذات صلة وتعاملها كجزء من بيئتها.23 ولا يمكننا أن نعرف ما هو المكان المناسب في غياب الكائن الحي الذي يسكنه. لم يكن هناك أبداً وظيفة شاغرة لشيء يعيش في الماء البارد ينتظر فقط أن يتطور الحوت الأحدب ليملأه. لقد تطورت هذه المكانة الخاصة في علاقة مع تطور الحوت.
وقد لفت ليفينز ولوونتين الانتباه أيضاً إلى الأمثلة العديدة للطرق التي تتصرف بها الكائنات الحية في بيئتها بالإضافة إلى الاستجابة لها فقط. يقوم القنادس ببناء السدود لجعل محيطهم المباشر أكثر ملاءمة للسكن لأنفسهم؛ تغير جذور النباتات تكوين التربة المحيطة بها حتى تتمكن من استخلاص العناصر الغذائية بسهولة أكبر. لقد غيرت الكائنات الحية الكوكب على نطاق مذهل، حتى أنها غيرت الغلاف الجوي بشكل لا رجعة فيه عن طريق إضافة الأكسجين. نحن لسنا مجرد أشياء تؤثر عليها قوى خارجية.
يدرس ليفينز ولوونتن الطرق التي ترتبط بها الكائنات الحية بشكل فعال بالبيئة المحيطة بها، مما يعني أنه لا يمكن فهم الكائن الحي أو البيئة دون الرجوع إلى الآخر. وهذا يتناقض بشكل مباشر مع المقاربات الديكارتية التي قد تحاول النظر إلى الكائن الحي بمعزل عن غيره. علاوة على ذلك، تتطور هذه العلاقة عبر الزمن مع نمو الكائن الحي، فالحيوانات والنباتات لها تاريخ.
كما طبق ستيفن جاي جولد ونايلز إلدردج فهمًا جدليًا للعمليات التي تتطور بطريقة مفككة وليست بطريقة سلسة وتدريجية. في نظريتهم عن التوازن المتقطع، يتميز التطور بفترات طويلة من الركود تتخللها حالات تتطور فيها أنواع جديدة بسرعة كبيرة24. واعترف جولد بأن النظرية تأثرت بالفلسفة الماركسية وجادل بأن "التفكير الجدلي يجب أن يأخذ على محمل الجد من قبل العلماء الغربيين". 25، ولكن على الرغم من التشابه الوثيق بين التوازن المتقطع والرؤى الجدلية حول التدرج والقفزات، فقد ظلت مرنة بشكل ملحوظ كنظرية.
ستيفن روز، عالم أعصاب وكاتب مشهور في فلسفة علم الأحياء، يستشهد بالتقليد الجدلي كأحد مؤثراته.26 حجته بأن الأنظمة المعقدة لها خصائص لا يمكن تفسيرها من خلال النظر إلى كل جزء من النظام بمعزل عن رؤى بعض المفكرين الجدليين مثل هارفي.

المصادر:
1. إنجلز، 1939. شكرًا لبول بلاكليدج، وأليكس كالينيكوس، وجوزيف تشونارا، وأليكس لوفتوس على نصائحهم وتعليقاتهم القيمة على نسخة سابقة من هذا المقال.
2. نقلا عن شيهان، 1993، ص24.
3. وصف ماركس وإنجلز نظريات داروين بشكل واضح بأنها توفر، في مجال التاريخ الطبيعي، "الأساس لوجهات نظرنا" - فوستر، 2000، صفحة 197. على الرغم من أن الادعاء بأن ماركس اقترح تخصيص رأس المال لداروين هو، للأسف، خطأ، فإن استمرار هذه الأسطورة يظهر أنها معقولة بما فيه الكفاية بحيث لا يزال الناس يصدقونها (انظر بلاكليدج، 2002، ص 11).
4. شيهان، 1993. تلقى ماركس الشاب أيضًا تدريبًا في الجيولوجيا بعد أن درس على يد يوهان شتايننجر، الذي كان هو نفسه تلميذًا لأبراهام فيرنر - وهو من أوائل الدعاة للفكرة الراديكالية آنذاك بأن الأرض لها تاريخ - فوستر، 2000، ص 117.
5. كالينيكوس، 2006، ص210-211
6. فوستر، 2000، ص 203.
7. شيهان، 1993، ص316-326
8. ماركس، 1976، ص15
9. مولينو، 2012
10. انظر مقالة جون مولينو في العدد السابق من الاشتراكية الدولية-مولينو، 2013.
11. أولمان، 2003 (على الرغم من أن استعارة السيارة المتحركة قد استخدمها سابقًا لويس ألتوسير، وذلك بفضل أليكس كالينيكوس لتوضيح ذلك).
12. هارفي، 1996
13. إنجلز، 1947، ص 52، التأكيد على الأصل.
14. أولمان، 2003.
15. هارفي، 1996
16. لا يُقصد من هذه المناقشة لدور الديالكتيك في علم الأحياء الإشارة إلى عدم وجود دور للفكر الديالكتيكي في مجالات العلوم الأخرى مثل الفيزياء. لقد اخترت علم الأحياء بسبب التأثير الخاص لليفينز ولوونتن وأيضًا لأنه الموضوع الذي أعرفه كثيرًا. للحصول على نظرة عامة مفيدة عن الفيزياء، انظر McGarr, 1994.
17. ليفينز ولوونتين، 1985.
18. ليفينز ولوونتين، 1985؛ ليونتين، 1982.
19. ليفينز ولوونتن، 1985، الصفحات 85-106، انظر أيضًا كلارك ويورك، 2005.
20. دوكينز، 1976، ص.
21. ليفينز ولوونتن، 1985، الصفحات 87-89.
22. 22: ليفينز ولوونتن، 1985، ص 89.
23. ليفينز ولوونتن، 1985، ص 99.
24. إلدردج وجولد، 1972.
25. جاسبر، 2002.
26. روز، 1997.



#سعدي_السعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الماركسيون والانتخابات - الجزء الثالث
- الماركسيون والانتخابات - الجزء الثاني
- الماركسيون والانتخابات - الجزء الاول
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الخامس: النشاط ...
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء السادس: الماركس ...
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية – ثالثاً: المنظمة
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الرابع: الاستيل ...
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الثاني: الطبقة ...
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الأول - اختلافا ...
- افكار في موضوعة الضمان الاجتماعي
- عمار الحكيم وجمهورية العراق الاسلامية الفدرالية
- دعوة للمشاركة في الحوار حول العمل المشترك بين القوى اليسارية ...
- من اجل حملة لدعم دستور ديمقراطي في العراق
- أوقفوا اللعبة السياسية على اقدامها
- حجاب ام تيزاب
- المرأة العراقية والمجتمع العراقي إلى أين؟؟؟


المزيد.....




- مشاركة الحزب الشيوعي العمالي العراقي في الوقفة الاحتجاجية ال ...
- صعود اليمين المتطرف في أوروبا
- الجبهة الشعبية: الاحتلال الصهيوني يواصل تجاوز المحرمات باسته ...
- وقفة تضامنية امام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بمناسبة يو ...
- اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين يطالبون باتفاق لإط ...
- «الديمقراطية» نتنياهو يشعل المنطقة بنار أعماله الإرهابية ووا ...
- الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع تستمر في الحشد ا ...
- بنغلادش: مقتل ثمانية أشخاص على الأقل في مواجهات بين متظاهرين ...
- شرطة نيجيريا تفرق وتعتقل عشرات المتظاهرين ضد الحكومة
- نظر تجديد حبس رسام الكاريكاتير أشرف عمر غدًا الأحد


المزيد.....

- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي
- تحديث. كراسات شيوعية (الهيمنة الإمبريالية وإحتكار صناعة الأس ... / عبدالرؤوف بطيخ
- لماذا يجب أن تكون شيوعيا / روب سيويل
- كراسات شيوعية (الانفجار الاجتماعي مايو-يونيو 1968) دائرة ليو ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مقدّمات نظريّة بصدد الصراع الطبقيّ في ظلّ الإشتراكيّة الفصل ... / شادي الشماوي
- ليون تروتسكى فى المسألة اليهودية والوطن القومى / سعيد العليمى
- كيف درس لينين هيغل / حميد علي زاده
- كراسات شيوغية:(الدولة الحديثة) من العصور الإقطاعية إلى يومنا ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سعدي السعدي - الجدل والطبيعة وديالكتيك الطبيعة الجزء الأول