أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية والمسائل الجديدة















المزيد.....



الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية والمسائل الجديدة


مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)


الحوار المتمدن-العدد: 8057 - 2024 / 8 / 2 - 20:11
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


مؤلف المقال: نيكولاي يوسيفوفيتش كونراد*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

مُقدمة المُترجم:
هذا المقال، هو أحد المقالات التي كتبها المُستشرق السوفييتي نيكولاي كونراد في دراسته للثقافتين الشرقية والغربية، أثناء فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تناوَلَ فيها مسائل عامة تتعلق بعلم التاريخ وتاريخ الأدب. وفي هذه المقالات، يجد المؤلف أثناء دراسته وحدةً لا تنفصم بين تاريخي الشرق والغرب. مثلاً يجد المؤلف انطلاقاً من عددٍ من وقائع التاريخ الصيني المُمتد بين القرن السابع الى القرن الثاني عشر ميلادي، أنها تُشبه الحقبة المعروفة في تاريخ أوروبا من القرن الرابع عشر الى القرن السادس عشر المُسماة بعصر النهضة. وهو يجد أن الظواهر الفكرية في التاريخ، هو ظواهر عالمية، وليست محلّية. ويُثبت كونراد، بدراسته العيانية لتاريخ الشرق والغرب، المبدأ المادي التاريخي حول وحدة البشر التاريخية العالمية.
سنقوم بترجمة عدد من مقالاته هذه، خلال الفترة القادمة.

القسم 1:
نشأت الدراسات الاستشراقية كقسمٍ من الفيلولوجيا، بمعناها الأساسي التاريخي التقليدية كمبحثٍ في الكتابات القديمة.
ظَهَرَت هذه الفيلولوجيا الى الوجود في الغرب والشرق خلال آواخر العصور القديمة (العبودية)، والتي تتوافق في الغرب مع الفترة الهيلينستية (323 ق.م-32 ق.م)، ومع فترة امبراطورية الهان (202 ق.م-9م) في الشرق، في الصين. قام العلماء الاسكندريين بجمع الأعمال الأدبية من الفترة الكلاسيكية لعصرهم-عصر دولة المدينة اليوناني. وجمَعَ الصينيين آداب عصر فترتهم الكلاسيكية (عصر لييه سيه جوان) Liexian Zhuan. لم يتم جمع النصوص فحسب، بل تم العمل على تدقيقها، وتطلّبَ هذا بدوره دراسة العمل المكتوب نفسه. وهكذا، تبلورَ الغرض الأساسي للدراسات الفيلولوجية وصارَ موضوعاً كلاسيكياً: فقد تمثَّلَ في جمع كتابات الماضي، وتفسير نصوصها الحقيقية.
لم تخضع هذه الأساسيات لأي تغييرٍ في العصور الوسطى، وكان هذا ينطبق على الشرق والغرب. ما تغيَّر هو أن هذا المجال صار أكثر اتساعاً: في الغرب، لم يشمل البحث في العصور اليونانية والرومانية القديمتين فحسب، بل تضمَّن أيضاً البحث في الكتابات العبرية (الكتاب المُقدَّس). وفي الشرق، لم تكن المخطوطات تتضمن الكونفوشية والطاوية القديمتين فحسب، بل تضمنت كذلك المخطوطات البوذية المعروفة باسم التريبيتاكا Tripiṭaka. ظَهَرَت اتجاهات جديدة في العمل: أصبَحَ الغرض الرئيسي من الدراسة الآن، هو تأويل النصوص والمخطوطات، انطلاقاً من المسيحية في أوروبا والكونفوشيوسية في الصين. واعتُبِرَ التأويل الذي يتجاوب مع الايديولوجيا الرسمية هو التفسير الصحيح.
مع ظهور عصر النهضة، في الغرب والشرق على السواء، دَخَلَت الفيلولوجيا مرحلةً جديدة. تمثّلَت حداثتها بحلول النقد والتفسير الفلسفي محل التأويل، وهو تفسيرٌ يُطرَحُ الآن في ضوء النزعة الانسانوية الحديثة في عصر النهضة التي أطلَقَت صراعاً طويلاً ضد دوغما الايديولوجيا الدينية المسيحية في أوروبا، والفلسفية الكونفوشيوسية في الصين. كما شُنَّ صراعٌ حاد ضد السكولاستية، وهو النظام التعليمي الذي عزز الدوغما الدينية. وهكذا، حلَّت الفيلولوجيا النهضوية محل الفيلولوجيا السكولاستية القروسطية.
في العصر الحديث، كانت الفيلولوجيا الى حدٍّ ما استمرارً لفيلولوجيا عصر النهضة، ولكنها صارَ تشملُ في دراستها الآن كلاسيكيات العصور الوسطى أيضاً. وظلَّت روحها كما كانت من قبل: الانسانية التقليدية. ولكن تغيَّرَت أساسيات النزعة الانسانية: فقد تحوَّلَت بالكامل الى مواقع الفلسفة العقلانية التي أصبَحَت فيما بعد المبدأ المُوجِّه للمعارف. في هذا الصدد، اكتَسَبَت عناصر النقد التي ظَهَرَت في الفيلولوجيا خلال عصر النهضة قوة، وصارَ الفيلولوجيين يهتمون الآن بفصل الحقيقي عن المُزوّر في الكتابات القديمة والتحقق من صحتها. وكان هذا الاتجاه سمةً من سمات الفيلولوجيا في عصر التنوير في الشرق والغرب، على سبيل المثال مدرسة هاو تشيتشيي أو كاوجينغ Kaozheng الفيلولوجية التنويرية في الصين، ومدرسة كانجاكو اليابانية Kangaku في دراسة الصين، والمدرسة اليابانية كوكوجاكو Kokugaku في دراسة تاريخ اليابان.

القسم 2:
من المفهوم أن الأبحاث حول صحة الكتابات القديمة وتفسيراتها المُختلفة كانت مُرتبطةً بمصالح عصرها الاجتماعية. وبما أن الهدف الرئيسي التاريخي لعصر التنوير-وهو العصر المركزي للتاريخ الحديث-كان صراع النظام الرأسمالي الجديد الذي كان في طور التشكَّل، ضد النظام الاقطاعي القديم، فقد كانت القُوى المُحافظة والرجعية ذات قوّة كبيرة، والتي بَذَلَت جهودٍ هائلة من أجل اضفاء الشرعية على النظام الاقطاعي، وبَذَلَ التنويريون جهوداً من أجل اثبات العكس. وهكذا كان الحال في حالة الفيلولوجيا الكلاسيكية في فرنسا، وكذلك الحال بالنسبة للفيلولوجيا الكلاسيكية في الصين واليابان. ولكن ظلَّ موضوع دراسة الفيلولوجيا كما هو: كتابات العصور القديمة، وتفحُّصها.
إن الفيلولوجيا ككُل، هي نتاجٌ لجميع الشعوب المُتحضرة ذات الثقافة القديمة، سواءاً كانت غريبةً أم شرقية. ولكن الفيلولوجيا الاستشراقية، أو الدراسات الاستشراقية في شكلها الأولي، هي نتاجٌ للغرب، والذي كان يرى في الشرق عالماً مُختلفاً وغريباً، بوصفه معكوس عالمِهم.
أخذَت الدراسات الاستشراقية شكلها النهائي في بداية القرن التاسع عشر، ولكنها بدأت تتشكل في زمنٍ باكر. حدَثَ، في الفترة الحديثة، توسّعٌ استعماريٌ رأسماليٌّ مُكثّف للمرة الثانية في التاريخ، وكان الأول توسعاً إقطاعياً. كانت دول أوروبا الغربية هي فاتحة هذا التوسّع: إما كانت بُلداناً رأسماليةً مثل هولندا وانجلترا، وإما أنها كان في صيرورتها لأن تُصبح رأسمالية مثل فرنسا. كانت مواضيع التوسّع هي البُلدان المُتحضرة القديمة في الشرق، مثل الهند وفييتنام واندونيسيا والصين وايران، بالاضافة الى البُلدان حديثة العهد نسبياً، والتي كانت ثقافتها تتطور بسرعة، مثل تُركيا والمنطقة العربية على الساحل الافريقي للبحر الأبيض المُتوسط. تم ضم هذه الدول، في أزمنةٍ مُختلفة، في نطاق المجال الاستعماري للامبراطوريات الهولندية والانجليزية والفرنسية، وأُدرجِت فيها كمُستعمراتٍ أو شبه مُستعمرات أو توابع (بهذه الدرجة أو تلك).
لم يكن التوسّع الاستعماري يتطلّب جيوشاً وحسب، بل كان يتطلب كذلك وجود نطاقٍ مُحددٍ من المعارف والمعلومات والبيانات، من جانب المُستعمِرين، حول البُلدان المُستعمرة والمُراد استعمارها. وكان ذلك يتضمن بياناتٍ ومعلوماتٍ عن أحوال وتاريخ وثقافة بُلدان المشرق في ذلك الوقت. وفي فترةٍ لاحقة، عُرِفَت بالدراسات الاستشراقية، وكان هُناك فرع خاص من هذه الدراسات يُسمّى دراسة "اللغات الشرقية الحيّة"، واستُخدِمَ هذا المُصطَلَح لتمييز اللغات الشرقية القديمة "الميتة" (مثل لغة مصر القديمة)، عن تلك اللغات القديمة "الحية" (مثل اللغة السنسكريتية) التي لا تزال قائمة.
وبالتوازي مع "الدراسات الاستشراقية العملية"، كما تم الاصطلاح عليه، فقد تطوَّرَ فرعٌ آخر أصبَحَ يُعرَف بـ"الدراسات الاستشراقية العلمية"، وهو نابع من الاهتمام الأكاديمي المُتزايد والعميق بالشرق. ومما لا شك فيه، أن هذا الاهتمام أملَتهُ اعتباراتٌ عملية: فالجَمع بين القوة العسكرية والتفوق التكنيكي والاقتصادي كان كافياً للغزو الاستعماري، ولكن في نفس الوقت، كان من الضروري، من أجل إدارة وحُكم تلك البُلدان المُخضَعة تحصيل معرفة ما بأحوالها الاقتصادية والثقافية. وقد صاغَ هذه الحقيقة بعد الغزو المغولي للصين يي لو تشو تساي Yeh-lü Ch u-ts ai مُستشار الخانية المغولية بالقول: "يُمكنك أن تغزو مملكةً مُمتطياً حصاناً، ولكن لا يُمكنك أن تحكمها وأنت تمتطيه".
ومع ذلك، سيكون من المُجحِف القول بأن جميع الدراسات الاستشراقية كانت نابعةً من تلك المُتطلبات المذكورة أعلاه فحسب. فبعيداً عن مسألة ما اذا كانت دراساتهم تخدم الطبقة الحاكمة أم لا، الا أن عدداً كبيراً من الفيلولوجيين المستشرقين كانوا مدفوعين برغبةٍ حقيقية وغير مُغرضة لمعرفة شعوب الشرق وتاريخهم وثقافتهم. ولقد كان احترامهم للشعوب الشرقية معروفاً. بل أن بعض المُستشرقين يولون الشرق قدراً من التبجيل، واكتسَبَت صيغة "الشمس تأتي من الشرق" ex Oriente Zmr والتي تعني أن الشرق هو مولد الثقافة، بُعداً جديداً في أذهانهم. ولقد لعبت العلوم الانسانية، التي تطوَّرَت مُتطلباتها بُسرعة في القرن التاسع عشر، دوراً بالغ الأهمية. فقد كانت السمات المُشتركة للحياة التاريخية لعددٍ من الشعوب، والتي تجلَّت بقوةٍ في ذلك القرن، تتطلَّب صياغة ومُعالجة مسائل واسعة النطاق، وهو ما كان مُستحيلاً دون دراسة الشرق. وفي ضوء ذلك، واجه المُستشرقون مهمةً خاصة: كان لا بُدَّ من استكمال المعارف القائمة ببياناتٍ أكثر تفصيلاً ودقةً ووضوحاً حول تاريخ وثقافة شعوب الشرق. ومن الطبيعي أن تكون الكتابات القديمة التي تركتها هذه الشعوب، هي أفضل المصادر لفعل ذلك، ولهذا السبب، كان لا بُدَّ للدراسات الاستشراقية العلمية أن تكون فيلولوجية الطابع حتماً. وبالاضافة الى ذلك، كان لا بُدَّ أن تكون على مُستوىً واتجاهٍ يتوافق مع علوم الفيلولوجيا في العصر الحديث: أي أن تكون نقدية.

القسم 3:
تنوَّعَت المؤلفات التي درسها المُستشرقون. واذا أردنا أن نُصنفها في قوائم مألوفةٍ لنا اليوم، فإنها تشمل الأعمال التاريخية والاقتصادية والقانونية والفلسفية والدينية والأدبية. ولهذا السبب، نجد أن الفيلولوجيا الاستشراقية تتضمن طيفاً واسعاً من العلوم الانسانية. لقد كان هذا طيفاً مُترابطاً، وليس مزيجاً ميكانيكياً. لقد تضمَّنَ فهم الأدب القديم، بالدرجة الأولى، فهم لُغته وخطوطه، أي كتابات ولُغة الفترة التي ينتمي اليها، أو الكتابة واللغة المُستخدمة في الأدب في ذلك الزمن. وعلى هذا، لم يكن المُستشرق الفيلولوجي بحاجةٍ الى أن يكون على درايةٍ باللغة الشرقية ونصوصها فحسب، بل كان عليه أن يكون مُلماً بتاريخها كذلك. إن فهم النص القديم، يعني الالمام بطبيعته الأدبية، لأن كُل عمل مكتوب، أياً كان مُحتواه وشكله، هو عملٌ أدبي (هذا اذا لم ننظر الى مفهوم "الأدب" ضمن الحدود الضيقة التي أُدخِلَت على العلوم الانسانية في القرن التاسع عشر، بل أن ننظر اليه بالمعنى التقليدي، باعتباره مُصطلحاً يدل على الأعمال المكتوبة التي تُعبّر عن فكرةٍ مُحددةٍ من خلال وسيط اللغة في شكلها المكتوب، وتُعبّر عنها بدقة كما تتطلب الفكرة). لذلك، يجب أن يكون كُل فيلولوجيٍّ عالمأً مُتخصصاً بالأدب بمعنى الكلمة الواسع. اضافةً الى ذلك، نظراً لأن فهم الأعمال القديمة يعني الالمام بمحتواها، وأياً كان ذلك المُحتوى، فإنه يكون دائماً تاريخياً، فكان على الفيلولوجي بذلك أن يكون مؤرّخاً على أوسع النطاقات.
إن مثل هذه المؤهلات، تتطلب معرفةً مُحددةً من جانب المُستشرق الفيلولوجي. كثيراً ما نستخدم مُصطلح "المعارف المُركبة"، وهذا بالاجمال، أمرٌ مُبرر، اذا فهمنا طبيعة هذا المُركَّب على النحو الصحيح. اننا نستطيع أن نتوصل الى فكرة صحيحة حول الدراسات الاستشراقية اذا فهمنا مُكوناتها. وهذه المُكونات، هي الفروع البحثية التي تُغطي دراسة المُعتقدات الدينية، والآراء الفلسفية، والمفاهيم العلمية، والظواهر الثقافية المادية والروحية، وفي إطار هذه الأخيرة ظواهر الفن والأدب. ولكن سيكون من الخاطئ أن نتصور أن الدراسات الاستشراقية لم تبلُغ بعد مُستوى العلوم المُتخصصة، مثل اللغويات والأدب والفون والسوسيولوجيا والتاريخ والاقتصاد والفلسفة، وأنها مُجرّد علم يتكون من جميع هذه العناصر بشكلٍ مُختلط. واذا ما اقتنعنا بذلك، فسنرى أن وُجود مُستشرقين مُختصين في اللغويات والأدب والتاريخ وما الى ذلك، يُعتَبَر انتقالاً الى مُستوى أعلى من الدراسات الاستشراقية: أو قد يكون الأمر أبعد من ذلك، أي أن هذا الوضع هو علامةٌ على أن نهاية الدراسات الاستشراقية كما كانت في الماضي، قد حلَّت.
لا شك، أن ظهور الاختصاصيين الاستشراقيين هو وضعٌ جديدٌ تماماً في الدراسات الاستشراقية. ولا شك أن هذا الأمر هو خُطوةٌ الى الأمام. ولكن الاعتقاد بأن الاستشراق المُتخصص قادرٌ على إزالة "المُركَّب" هو خطأٌ جسيم. فلا يستطيع أيٌّ منهما أن يستثني الآخر. إن موضوع الاستشراق العلمي في شكله التقليدي، هو الكتابات القديمة، أي عمل أدبي مُحدد. وعندما يخضع للبحث، عليه أن يكون بحثاً "مُركباً" بالضرورة، لأن المخطوطة نفسها مُركبة. وأياً كان مُحتوى العمل الأدبي، فهو يُعتَبَرُ حقيقةً من حقائق التاريخ الفعلي، وكُل حقيقة من حقائق التاريخ تحوي بحد ذاتها، بشكلٍ أو بآخر، وبنسبةٍ أو بأُخرى، على عددٍ من عناصر الواقع التاريخي لعصرها.ولهذا السبب، من المُستحيل دراسة عمل قديم بحد ذاته من أي وجهة نظر أُخرى عدا عن كونه وحدةً لجوانب الواقع المُعبّر عنها فيه، مع التمييز بين هذه الجوانب، ولكن دون عزل مُصطنع لأحدها عن الآخر.
وهناك وضع آخر، يختلف عن ذلك، عندما تظهَر سِمة ما في عملٍ مُعيّن، وبالتالي، يحتل مكانةً قريبةً من الأعمال الأُخرى، بقدر ما تبرز فيه تلك السمة (مثلاً سمة فنيّة ما، تُقربه من الأعمال الفنّية). أي أن ذلك العمل يكون قريباً من تلك الأعمال نسبياً بسبب تلك السمة. وفي هذا الوضع، لا يُدرَسُ العمل نفسه باعتباره مثالاً للأعمال القديمة، بل تُدرَسُ تلك السمة فيه. وطالما أن كُل ظاهرة تمتلك سمةً خاصةً ذات طابعٍ مُعيّن، فيجب حينها أن تُدرَسَ بمنهجيات خاصة. فإذا كانت السمة المعنية ذات طبيعة اقتصادية مُحددة، فيجب أن تكون المنهجية التي تُعالجها نابعة من العلوم الاقتصادية، واذا كانت سمةً لغوية، فيجب دراستها على هذا النحو، وهكذا.
وهُنا يكمُن الفرق بين فرعين من فروع الدراسات الاستشراقية العلمية، والتي قامَتا تاريخياً وتعايشتا معاً: الفرع المُركّب، الذي يعمل ضمن حدود الفيلولوجيا كعلم انساني عام، والفرع المُختص، الذي يعمل ضمن حدود تخصصٍ مُعيّن كجُزءٍ من العلوم الانسانية.

القسم 4:
إن ما يبدو للوهلة الأُولى وكأنه صورة واضحة تماماً، سيتبيّن في واقع الأمر أنهُ مُعقّدٌ جداً. تكمُن الصعوبة فيما يلي: ليس بالامكان دائماً فرز السمة التي تُميّز العمل الأدبي المعني. بعبارةٍ أُخرى، ليس بالامكان دائماً فرز النصوص التي تاريخية وفلسفية وأدبية، وما الى ذلك. على سبيل المثال، يبدو أن أسهل الأعمال فرزاً، هي تلك الأعمال التشريعية. ولكن يُوجد أعمالٌ قانونية قد يُصاحبها تعليقات وآراء، وهذا يضعها تحت قائمة القانونية والفلسفية. وفي حالاتٍ أُخرى، يُستَكمَل القانون أو التشريع بسردٍ لتاريخ ذلك القانون، وهذا ما يضع القانون في قائمة الأعمال القانونية والتاريخية في الوقت نفسه. اذا كانت الطبيعة العامة للمادة، تاريخية، حينها تُصنّفُ على أنها تاريخية. ولكن النقطة الهامة، هي أنه قد لا نجد مادةً تاريخيةً في شكلها الخالص الصرف الا في الحوليات والسجلات التاريخية، وما الى ذلك، أي مادة وقائعية صرف. في حين أن بعض الأعمال الأُخرى تجمع أحياناً بين عناصر الواقع وعناصر الخيال، فضلاً عن أنها قد تكون اختلاقاً صريحاً (أي قد تكون اختلاقاً تخيلياً صرفاً ومقصوداً، وليس خلطاً للواقع بالخيال). قد تكون هذه الأعمال، على سبيل المثال، أعمالاً يجعل فيها الكاتب شخصياتٍ تاريخية مُعينة، تُلقي خُطَباً لم تنطق بها في الواقع، ولكن المؤلف يعتقد أنها قالتها. في بعض الأعمال، لا تُطرَحُ البيانات التاريخية بشكلٍ سردٍ بسيطٍ ومُباشرٍ للأحداث، بل تُطرَح بشكلٍ تفسيري مُحدد، هذا عندما يرغب الكاتب في إحداث انطباعٍ ما عند القارئ واستحضار مشاعر مُحددة لديه. وبالتالي، هُناك أعمالٌ تبدو، انطلاقاً من واقع بياناتها، تاريخية، ولكنها تحوي على عناصر ذات طبيعةٍ أدبيةٍ وفنية. وهُناك أعمالٌ تتميز بمزيجٍ من الأحكام الفلسفية والبلاغية والشِعرية. والهام هُنا، هو أن بُنية تلك الأعمال بالذات، هي التي تُصعب مهمة وضعها تحت قائمةٍ مبحثية نموذجية مُعينة، نقول أن بُنيتها هي التي تفعل ذلك، وليس الأمر مُتعلقاً كثيراً بالصعوبة المنهجية في فعل ذلك.
من المفهوم بطبيعة الحال، أن الحركة التاريخية في الأدب، هي عملية خلق المزيد والمزيد من أنواع الأعمال الأدبية الجديدة، إما نابعة من الأعمال الأدبية السابقة، أو مُرتبطةً بها، أو ناشئةً بشكلٍ مُستقلٍ عنها: قد تكون أنواع جديدة أكثر تعقيداً من تلك السابقة لها، وأحياناً تكون أبسط، ولكنها كاملة وتحتفظ بنفس القيمة. إن مفهوم القيمة الأدبية لعملٍ ما، لا علاقة له بنوعه، بل يتعلق بمحتواه وشكله.
مهما كانت الأفكار التي يتضمنها العمل الأدبي هامة، فلن تضمن له قيمة أدبية عالية اذا كان الشكل الذي يُطرَحُ به العمل الأدبي غير مُنتظم. ومن ناحيةٍ أُخرى، لا يُمكن لأي كمالٍ شكليٍ خارجي أن يُضفي قيمةً على العمل الأدبي اذا كانت الفكرة التي يقوم عليها العمل غير هامة. لا يُمكن اعتبار ظهور المزيد من أنواع الأعمال الأدبية الجديدة باستمرار بأنه تطوّرٌ وتمايزٌ لها، وخاصةً ذلك النوع الذي يتغلّب على الطابع المُركّب لسابقاته، ولكنه يُظهر بدائيةً ما. من الخطأ أن نفهم التطور التاريخي للأعمال الأدبية بشكلٍ خطّي. إن قُدرة الباحث الحقيقية، تكمن في تمييزه الأعمال الأدبية أياً كان نوعها وعصرها، وفي عدم اعتبار أن الأنواع الأدبية الحديثة مُتفوقةً دائماً على الأنواع الأقدم.
إن هذه الاعتبارات يجب، ليس فقط على المُستشرقين الذين يدرسون الآداب القديمة، أن يضعوها في الأذهان، بل وعلى المستشرقين الذين يدرسون بعض العلوم الخاصة، مثل التاريخ والأدب، الخ. إن المؤرخ المُستشرق ليس مُلزماً بإجراء بحثٍ في عملٍ أدبيٍ بحد ذاته، بل يجب أن يكون مُدركاً تمام الإدراك للطبيعة الأدبية للعمل الذي يستقي منه البيانات التي يستند اليها في نظريتاته. بعبارةٍ أُخرى، ينبغي أن يقترن كُل بحثٍ يُجرى على المواد الأصلية، بتصورٍ واضحٍ لطبيعتها التاريخية. ويظل مُحتوى الدراسات الفيلولوجية، والاستشراقية المُختصة، مُختلفان عن بعضهما، بطبيعة الحال. فالأولى تتكون من دراسة الأعمال المكتوبة باعتبارها أدلةً على الثقافة الروحية لعصرٍ مُعيّن، أما الثانية، فهي ليست دراسة تلك الأدلة الأدبية، بل دراسة مجالات مُعينة من الحياة التاريخية والثقافية للشعوب كما هي مُنعكسة في هذه الأعمال الأدبية. إن هذين الفرعين من الدراسات الاستشراقية، يُقدمان اجاباتٍ، على مسألةٍ عامة، كُلٌّ منهما من مُنطلقاته الخاصة: وصف وتفسير تاريخ وثقافة الشعوب الشرقية ككُل في جميع مجالاتها وعصورها المُتنوعة.

القسم 5:
السؤال هو: هل أصبحت الدراسات الاستشراقية، بوصفها مجموعة خاصة من العلوم، في طريقها الى الزوال؟ لقد كانت هذه المسألة محل اهتمامٍ شديدٍ وقت اكتمال نشوء فروع خاصة من هذه الدراسات. وقد نتسائل على سبيل المثال: هل تختلف دراسة التاريخ والأدب الياباني من حيث المبدأ، مع دراسة تاريخ وأدب أي بلدٍ آخر. هل يرجع ذلك الى أن تاريخ وأدب اليابان أصيلان وفريدان الى حدٍّ كبير؟ ولكن، لكل شعبٍ تاريخه وأدبه الخاص في نهاية المطاف. كان يُمكن الحديث عن الأصالة الفريدة لتاريخ وثقافة الشعوب الشرقية، في زمنٍ كان فيه مفهوم "سحر الشرق" exoticism سائداً في الغرب، وهو يعني أي شيء غريب تماماً عن كُل ما هو أوروبي، ويمتلك جاذبيةً بسبب طبيعته الغامضة. لقد حَظيَت هذه الفكرة بشعبيةٍ خاصة خلال النصف الأخير من القرن الثامن عشر، والنصف الأول من القرن التاسع عشر في فرنسا وانجلترا وألمانيا. لم تحظَ فكرة "سحر الشرق" انعكاساً لها في الأدب الجميل فحسب، بل وفي العلوم أيضاً. وفي وقتٍ لاحق، اختَفَت هذه الفكرة من الدراسات الجادّة، وصارت فكرةً غريبةً علينا، وخاصةً في الآونة الأخيرة. وعلى هذا فإن الأساس الهش لاعتبار الدراسات الاستشراقية "تركيبياً" من العلوم الخاصة بالشرق، قد تلاشى منذ زمنٍ طويل.
إن الادعاء بوجود حقل معارفٍ مُستقل، أو تخصص علمي خاص، يتوقف على ما اذا كان لهذا الحقل موضوعاً يختص بدراسته. فما هو الموضوع الخاص الذي يدرسه المُستشرق؟ أهوَ تاريخ شعبٍ شرقي؟ أم أدبه، أم اقتصاده؟ إن هذا الموضوع، هو نفسه الذي يبحث فيه الدارس لتاريخ أو أدب أو اقتصاد أيٍّ من الشعوب الغربية. صحيح، أن الفرع العلمي قد يحصل على حق أن يكون في مكانةٍ حصرية، إن لم يكن وجوداً مُستقلاً، عندما تجري أبحاثه وفقاً لأساليبه ومناهجه الخاصة، التي يستخدمها هو حصراً. نظراً لأن المُستشرقين كانوا علماءاً من بُلدانٍ غربيةٍ مُختلفة، وتلقوا التعليم الأكاديمي السائد في عصرهم، فقد استخدموا بالتالي المناهج السائدة في العلوم في زمنهم. ولكن هناك شيءٌ هام: من الخاطئ من حيث المبدأ أن نفترض أن دراسة تاريخ تركيا، على سبيل المثال، تتطلب مناهج بحثية تختلف جذرياً عن تلك المُستخدمة في دراسة تاريخ فرنسا. بعبارةٍ أُخرى، لا يختلف أي فرعٍ من فروع الدراسات الاسنشراقية في موضوع بحثه ولا في مناهجه، بأي قدرٍ، عن فرع دراسة تاريخ أو ثقافة الغرب. فلماذا اذاً نتحدث عن "الدراسات الاستشراقية"؟
إن الأساس الذي يقوم عليه فصل الدراسات الاستشراقية" عن العلوم الأُخرى "الغربية"، لن يظل قائماً اذا خَرَجَت هذه الدراسات عن الاطار المرسوم لها تقليدياً في الماضي. ولا شك، أن مهمة دراسة الكتابات القديمة، لا تزال على نفس الأهمية التي كانت عليها في أي وقتٍ مضى. ولكن، مرةً أُخرى، ما هو الاختلاف المبدأي بين دراسة الكتابات الشرقية القديمة وتلك الغربية القديمة؟ أن مهام الدراسة الخاصة لتاريخ وأدب واقتصاد شعوب الشرق قد تظل ضرورية، ولكن ألا تندرج هذه الفروع الاستشراقية ضمن الفروع المُقابلة لها: الاقتصاد والأدب واللغويات وما الى ذلك؟ إن هذه الدراسات قد لا تحتفظ بمكانتها الحصرية المُستقلة الا عندما تبرز أمامها مهام جديدة، خاصة وتُميّز الدراسات الاستشراقية وحدها. ويبدو لي أن هذه المهام موجودة، ونحن نواجهها بوضوحٍ خاص في هذا الوقت.
في الواقع، لا يتعلق الأمر بمهام، بل بمهمةٍ واحدة، مُعقدة للغاية في محتواها وبارزة في أهميتها. وقد تشكَّلَت هذه المهمة في سياق تاريخ هذا الفرع من العلوم.
من النافل القول، أن أُسس نظرية العلوم الانسانية التي يعترف بها الباحثون من كُل البلاد في عصرنا، قد تشكَّلَت أثناء عملية دراسة تاريخ وثقافة الشعوب الأوروبية، واستُكمِلَت بموادٍ مُتعلقةٍ بتاريخ وثقافة شعوب منطقتي البحر الأبيض المتوسط في آسيا وافريقيا (خاصةً عندما يتعلق الأمر بالعصور القديمة). ارتبطت حياة هذه الشعوب المذكورة آخراً، ارتباطاً وثيقاً بالحياة اليونانية والرومانية، وكانت لفترةٍ محدودة جُزءاً مُباشراً من العالم اليوناني-الروماني. وعلى أساس هذه المبادئ النظرية، أُجرِيَت دراسة تاريخ وثقافة جميع البُلدان والشعوب الأُخرى، بما في ذلك بُلدان الشرق. ومن الناحية التاريخية، فهذا أمرٌ طبيعيٌّ تماماً: فقد أُقيمَت الأُسس النظرية للعلوم الانسانية- التي لا تزال سارية المفعول- في فترة أوروبا العصر الحديث، أي في اللحظة التاريخية التي بدأ فيها التقدم التكنيكي والاقتصادي-الاجتماعي للشعوب الأوروبية يتفوق على التقدم في البُلدان الآسيوية، أي يتفوق على تلك البُلدان التي كانت قادرةً، بالنظر الى تاريخها، أن تعتبر نفسها حضاراتٍ عظيمة وقديمة للغاية، مثل ايران والهند والصين. وعلى أساس هذا التقدّم الذي أحرزته البُلدان المُتقدمة في أوروبا، صارت مجالات المعرفة، بما في ذلك المعارف الاجتماعية، تتقدم بسرعةٍ بالغة. وبلَغَ تطور علم المُجتمع أعلى مُستوياته في الماركسية. ويُجري المؤرخون والفلاسفة والسوسيولوجيون والاقتصاديون السوفييت، فضلاً عن العديد من عُلماء بُلدانٍ أُخرى، وخاصةً الاشتراكية، دراساتهم، على أساس النظرية الماركسية.
إن صحة النظرية الماركسية، يتبيّن من حقيقة أن هذه النظرية، قد استقَت كُل ما هو تقدمي من الدراسات السابقة بالاضافة الى ذلك، ان الدراسات العيانية التاريخية والاجتماعية المُعاصرة تؤكدها يوماً بعد يوم.
إن العلم ليس مجالاً ثابتاً من الحقائق، لأن معرفة الواقع تتجدد باستمرار، من خلال المواد التي تُوفرها لنا العلوم المُعاصرة. والماركسية هي جُزءٌ من ذلك العلم، ورائدٌ له في ذات الوقت. على الرغم من ذلك، فحتى البيانات الجديدة التي تتكشف كُل يوم من خلال الأبحاث العيانية التي تُجريها العلوم الانسانية بمُختلف مجالاتها، يُمكن أن تكون مؤقتة، فقد تكون خاطئة، أو، قد تتضح محدوديتها، أو تُثرى وتكتمل من خلال اكتشاف بياناتٍ جديدة تُثري معارفنا حول تاريخ البشرية. لقد بَلَغَت معارفنا اليوم، وأخص بالقول، معارف الماركسيين، حول تاريخ وثقافة الشعوب الشرقية، أبعاداً هائلةً ودقيقة للغاية، وهذا يرجع الى حقيقةٍ مفادها، أن دراستنا تستند الى النظرية الماركسية حول التطور الاجتماعي.
إن النطاق المُتوسع والمستوى المُرتفع لمعارفنا، يفرضان مطالبهما الخاصة على النظرية. ومع تكشّف التطور المُعقد والمتنوع لتاريخ الشعوب الشرقية، في الماضي والحاضر، نجد أنه لا يوجد نظريةٌ يُمكنها أن تتنبأ به (بذلك التطور)، وأنه لا بُدَّ من استكمال دراسة تلك البُلدان بافتراضاتٍ نابعةٍ من دراسة المواد الجديدة. ومن الأُمور اللافتة للنظر أيضاً، أن بعض الافتراضات العلمية المعروفة والتي تبدو مؤكَّدةً تماماً، قد تظهَرُ في ضوء البيانات الجديدة بشكلٍ مُختلفٍ عما اعتدنا عليه. وسأسمح لنفس بذكر بعض الأمثلة التي قد تُوضّح هذه الفكرة.

القسم 6:
إن النظرة الماركسية حول التكشيلات الاجتماعية-الاقتصادية معروفة جيّداً. ووفقاً لهذه النظرة، فقد لوحِظَ ظهور تشكيلات اجتماعية مُختلفة في التاريخ، وكان كُلٌّ منها بحد ذاته نظاماً اجتماعياً-اقتصادياً كاملاً. وقد تلاحقت هذه الأنظمة على التوالي، حيث حلَّ النظام التالي محل النظام السابق، وهذا التعاقب يُمثّل الاتجاه الصاعد للتطور الاجتماعي.
لقد استندت النظرة الماركسية فيما يتعلق بالتشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية الى بيانات التاريخ الأوروبي، ولم تتطرق الا بشكلٍ عابرٍ الى بيانات تاريخ الشرق (القديم في المقام الأول)، والتي لم تكن البيانات حوله كافياً في ذلك الزمن، والتي (أي البيانات) تم تفسيرها في كثيرٍ من الحالات بشكلٍ غير دقيق. إن تاريخ الشعوب الأوروبية، كما يٌفهَم، يوفر مادةً غنيةً من أجل بناء نظرية تاريخية عامة. تشمل الشعوب الأوروبية، تلك القديمة منها، مثل الاغريق والايطاليين، الذين عاشوا في العصور القديمة، أي عصر تشكّل المُجتمعات العبودية. وقد عاصرَت تلك الشعوب القديمة، بالاضافة الى الشعوب التي دخلت تيار الحياة التاريخية المُشتركة في فترةٍ لاحقة: الشعوب الجرمانية والسلافية والرومانية، نقول، عاصرَت فترة العصور الوسطى المُتطورة، وهي فترة الاقطاعية. وبعد ذلك، دخلت جميعها العصر الرأسمالي، ومن ثم دَخَلَ بعضها الآخر المرحلة الاشتراكية. وبالتالي، يُمكننا أن نجد في أوروبا مادةً ثريةً من أجل بناء نظريةٍ حول التشكيلات التاريخية وتلاحقها.
لقد ساعدَت المواقف العامة المُستنبطة من تاريخ الشعوب الأوروبية المُستشرقين الماركسيين على الفهم الصحيح لما لاحظوه في العملية التاريخية التي مرَّت بها بُلدان الشرق. لقد كان الكشف عن تشكيلات اجتماعية في الشرق مُتطابقة مع التاريخ الأوروبي، من النجاحات البارزة التي حققتها الماركسية، ونعني هُنا التشكيلة المشاعية البدائية، والتشكيلة العبودية والتشكيلة الاقطاعية.
ولكن تاريخ الشرق سمَحَ لنا بالحصول على فكرة أكثر شمولية حول تعاقب التشكيلات التاريخية. فتاريخ اليابان على سبيل المثال يُثبت أن هناك حالات يُفسح فيها التحالف القَبَلي المجال لنشوء دولة إقطاعية وليس عبودية، هذا على الرغم من وجود علاقات عبودية الى حدٍّ ما. يُظهِر تاريخ الصين أنه يُمكن لبلدٍ ما أن ينتقل من الاقطاع الى الاشتراكية، مُتجاوزاً بذلك المرحلة الرأسمالية، على الرغم من وجود علاقات رأسمالية مُتقدمة وقائمة مُنذ أمد فيه. ومن دراسة هاتين الحالتين، يُمكننا أن نُلاحظ الدور الذي تلعبه العوامل الخارجية، وأن تاريخ كُل شعب يرتبط دوماً بتاريخ الشعوب المُجاورة. ومن المؤكد أن هذه العلاقة قد تتباين الى حدٍّ كبير في طابعها وكثافتها ومداها، ولكنها علاقة قائمة دوماً.
في كُل حالة من حالات التأثير المُتبادل بين الشعوب. إن مُجتمعاً مُحدداً، يتأثر ويؤثر في بُلدان مُتقدمة على مسار التقدم التكنيكي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ويتأثر ويؤثر في بُلدانٍ أُخرى على مُستويات مُختلفة من التطور. إن الحركة التاريخية، لا تتسم عادةً بالتساوي العام، وهذا التفاوت هو الذي يُحدد موقع كُل مُجتمع معني في تيار التطور التاريخي. قد يحتل بلد ما أو عدة بُلدان، في مرحلة تاريخية عالمية واحدة، مكانةً هامةً في قيادة التطور التاريخي (مركز التطور التاريخي). ففي القرن السابع، في شرق آسيا، وهي المنطقة التي تقع فيها مجموعة كاملة من البُلدان في موقع تاريخي مُشتَرَك، كانت الصين تقع في مركز التطور التاريخي وتحتل مكانةً قيادية، والتي كانت في ذلك الزمن، قد مرَّت في مرحلةٍ طويلةٍ ومُتطورةٍ من اقتصاد العبودية، وانتقَلَت الى النظام الاقطاعي، وتطوَّرَت في هذا المسار. وأصبَحَت كوريا بلداً إقطاعياً في ذلك الوقت،، وتبِعتها فييتنام.
في ظل هذه الظروف (الصين كمركز تاريخي اقطاعي مُتطور، واقطاعية كوريا وفييتنام)، هل كان بوِسع اليابان التي كانت قد خَرَجَت في ذلك الوقت من المرحلة القَبَلية الأبوية، أن تُحوِّلَ تحالفها القَبَلي الى دولةٍ على أساسٍ عُبودي؟ وهل كان بوسعها أن تنتقل الى العبودية لو سمَحَت الظروف بذلك وخاصةً أنها طوّرَت علاقات عبودية الى حدٍّ ما، كما ذكرنا سابقاً؟ ولكن لكي يتم هذا، كان يجب أن تتوافر ظروف داخلية وخارجية. ولكن الاقطاع الذي تأسس في البلدان المُجاورة، وخاصةً الصين، ألغى الظروف الذي قد تكون مواتية لظهور المُجتمع العبودي ضمن الحدود الاقليمية المعنية. وكان هذا هو السبب وراء تراجع العناصر العبودية في اليابان الى مؤخرة المشهد، وظُهور عناصر أُخرى- رُغمَ أنها نشأت في ظروفٍ قبلية- كانت قابلة للتحوّل الى عناصر اقطاعية. لقد ثَبُتَ أن هذه الأشكال (العبودية الناشئة) التي اتخذتها العلاقات بين أفراد القبائل العوام من جِهة، وكبار القادة والزُعماء من جهةٍ أُخرى: هي العلاقات التي تجلَّت في الضريبة (مُنتجات الزراعة والصيد والنسيج) التي كان يدفها اولئك الأفراد لزعمائهم، فضلاً عن العمل من أجل الصالح العام تحت اشراف وتوجيه هؤلاء الزُعماء أنفسهم. إن من السهل أن نلاحظ أن الأشكال الثلاثة من الالتزامات الاقطاعية التي نشأت فيما بعد في اليابان: ضريية الغذاء، ضريبة الصياديين والحرفيين، وخدمات العمَل، أعادَت انتاج المؤسسات القديمة في شكلٍ آخر، وعلى أساسٍ مُختلف (أساس اقطاعي). والواقع أن الدور الذي لعبته الصين في الانتقال من الاقطاعية الى الاشتراكية، مع تجاوز المرحلة الرأسمالية (على الرغم من نشوء بعض العلاقات الرأسمالية المُتقدمة في البلاد)، هو أمرٌ مألوفٌ للجميع.
ومن الطبيعي أن نُلاحظ، في تاريخ بعض الشعوب الأوروبية، أمثلةً تاريخيةً مُوازيةً لتلك التي شهدناها في تاريخ اليابان والصين، وهي أمثلة تُثبِت أن نظرية تعاقب التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية ليست قانوناً من قوانين التاريخ، بل هي مُقدمة علمية. وما كان هذا ليُصبح واضحاً الى هذا الحد لولا دراسة تاريخ البُلدان الشرقية وتراكم البيانات الوقائعية، وما كان ليتضح لولا ذلك، الأهمية النظرية لمسألة التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية.

القسم 7:
يُمكن مُلاحظة، كيف أن الحصول على بيانات وافرة حول الشرق يُطوّر النظرية التاريخية العامة، من خلال مفهوم عصر النهضة الشرقي، وهو مفهوم ظَهَرَ في العلوم السوفييتية.
إن النقطة الأساسية هُنا، هي أن العُلماء السوفييت تمكنوا من تمييز معالِم عصر النهضة في تاريخ بعض الشعوب الشرقية. ففي بعض الحالات، كما في جورجيا على سبيل المثال، كانت ملامح عصر النهضة واضحةً في بعض الظواهر الأدبية والتربوية. وفي حالاتٍ أُخرى، مثل الصين، كانت هذه الملامح واضحةً في بعض ظواهر الفلسفة والأدب. وفي حالاتٍ أُخرى، كما في أرمينيا على سبيل المثال، كانت هذه الملامح تتخلل المُحتوى الثقافي بأكمله. ولا بُدَّ من الاشارة الى أن العُلماء السوفييت نظروا الى مسألة عصر النهضة في تلك البُلدان على مُستواه العلمي والتاريخي، على أساس تصور نظري مُحدد، ينطلق من الوحدة العامة لتاريخ الشعوب، وعمومية هذه المرحلة التاريخية على مُستوى العالَم، ولم يُناقشوا هذه المسألة في سياقٍ مجازي صرف، كما يفعل عدد من العُلماء الغربيين أو الشرقيين، الذين يُطلقون مُصطلح "عصر النهضة" بشكلٍ تعسّفي على كُل نهوضٍ جديدٍ في الفن والأدب، مُتجاهلين الفترة التاريخية التي تُحدد عصر النهضة بمفهومه بمفهومه العلمي المُتعارف عليه، أي مُتجاهلين التاريخ العام، وأُسسه الاجتماعية-الاقتصادية.
يخضع عصر النهضة الى نقاشات عُلماءٍ ماركسيين وغير ماركسيين، ويختلف كلا الطرفين في ذلك بالطبع. فالأخيرون يربطون ظاهرة عصر النهضة بتاريخ الثقافة بالدرجة الأولى، وخاصةً الفن. أما الماركسيون فيربطونها بالتاريخ العام، وأُسسه الاقتصادية-الاجتماعية. ولكن وجود عصر النهضة في تاريخ الدُول الغربية يظل مُتفقاً عليه تماماً. كما أن حُدوده الزمنية: من القرن الرابع عشر وحتى القرن السابع عشر، تظل مقبولةً أيضاً. إن مهمة التأريخ الأوروبي في الوقت الحاضر، اذاً، هي تسليط الضوء على ظواهر عصر النهضة في مُختلف البُلدان الغربية، والتحقق من مُحتوى هذه الظاهرة وتاريخها، وتحديد خصوصيتها في كُلِّ بلدٍ على حِدة، وتحديد روابطها داخل حدود بُلدانٍ مُعينة، وكذلك داخل حدود مجموعة البُلدان التي شهدت تلك الظاهرة.
إن الوضع فيما بتصل بعصر النهضة في الشرق، مُختلفٌ جداً. فبما أن نُقطة انطلاق القول بوجود ظواهر عصر النهضة في بعض البُلدان غير الأوروبية تتلخّصُ في التشابه بين هذه الظواهر وتلك التي حَدَثَت في البُلدان الغربية، فعندها يطرح السؤال التالي نفسه: هل نشأت ظواهر عصر النهضة في البُلدان الشرقية المعنية بالارتباط مع عصر النهضة في الغرب؟ هل كان هُناك، ربما، توسّع جُغرافي بسيط لعصر النهضة الأوروبية حتى وصلَ بُلدان الشرق؟
لا يجوز طرح هذه الأسئلة بهذه الطريقة الا اذا توافَرَ شرطان: التطابق الزمني العام لعصر النهضة في البلد الشرقي المعني، مع الفترة الزمنية للنهضة الغربية. وثانياً، وُجود عناصر مُتطابقة في ثقافتي عصر النهضة في البُلدان الشرقية والغربية المُتجاورة. وهذا ينطبق تماماً على مسألة عصر النهضة في جورجيا وأرمينيا. ففي حالة أرمينيا، هُناك تطابق في عناصر ثقافة عصر النهضة "الكلاسيكية"، أي الرومانية-اليونانية مع تلك العناصر التي كانت حاضرة في ايطاليا. ومن حيث الزمن، فإن ظاهرة عصر النهضة الأرمينية توافقت مع الحدود الزمنية لعصر النهضة في أوروبا. فضلاً عن ذلك، فأن تاريخ أرمينيا منذ أقدم العصور يتعلق بالغرب بقدر ما يتعلق بالشرق. بالتالي، فإن اكتشاف عصر النهضة في هذا البلد قد يُعَدُّ امتداداً ضروريا لحدود عصر النهضة الغربي.
قد يكون الحال مُختلفاً لو اكتُشِفَ عصر النهضة في بلدٍ شرقيٍّ لا ينتمي الى مجال الثقافة الأوروبية، وخاصةً إن حَدثَ ذلك في زمنٍ أسبق من الغرب، أو بعبارةٍ أُخرى، لو استبعدنا احتمالية انتقاله من الغرب. في مثل هذه الحالة، يتعيّن علينا أن نعترف باستقلالية ظواهر عصر النهضة في ذلك البلد الشرقي. لقد توافَرَت مثل هذه الظروف من القرن العاشر حتى القرن الثاني عشر في منطقة الشرق الأوسط التي ضمَّت ايران وشمال غرب الهند وتركستان الغربية خلال العصور الوُسطى. ويتعيَّن علينا، في مثل هذه الحالة، أن ننظر الى النهضة في تلك المنطقة باعتبارها ظاهرةً ناشئةً تخلو من الاعتمادية على النهضة الأوروبية. والحال كذلك في الصين، حين نتحدث عن زمنها التاريخي المُمتد من القرن الثامن الى القرن الثاني عشر.
ان عامل الزمن، يستبعد أي ارتباطٍ بين ظاهرة النهضة في الثقافة الصينية ونفس الظاهرة في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط المُشار اليها. فقد نشأ عصر النهضة في الصين قبل قرونٍ عديدةٍ من ظهورها في أوروبا، ونشأت قبل ذلك في شرق الأوسط. وقد يُطرَحُ السؤال بالاتجاه المُعاكس: هل كان ظهور عصر النهضة في أوروبا خاضع لتأثير عصر النهضة في المناطق التاريخية التي سبقتها (الصين والشرق الأوسط)؟ ولكن فيما يتعلق بالصين وأوروبا فإن هذا السؤال عقيم، لأن التأثير والارتباط يتطلب نقاط اتصال تاريخية وثقافية. وفي هذه الحالة، لم يكن أيٌّ من تلك النقاط موجوداً على نطاقٍ فعالٍ بما يكفي في تلك العصور التاريخية.
إن الحل الايجابي لمسألة وجود ظواهر النهضة في تاريخ شهوب ايران وشمال غرب الهند وتركستان الغربية في الشرق الأوسط والصين، سيكون ذو أهمية كبيرة ليس فقط من أجل تاريخ تلك البُلدان، بل وأيضاً لتقييم ما كان يُعرَف في أوروبا بعصر النهضة.
اذا لم نُطبّق المُصطلح على أي عصرٍ ازدهرت فيه العلوم والثقافة، وخاصةً الفن والفلسفة والأدب، وربطنا هذا العصر بمرحلةٍ مُحددةٍ من التاريخ العام للبلد، فإن عصر النهضة، سيُصبح ظاهرةً تاريخية تحتل مكانها الصحيح في تاريخ البلد المعني. وان دراسة عصر النهضة في جميع البُلدان التي لوحِظَ فيها يُمكننا من فهم مكان ومُحتوى هذه الظاهرة بشكلٍ دقيق. وبالتالي، سُيُنظرُ الى عصر النهضة باعتباره ظاهرةً تاريخيةً طبيعيةً لا مفرَّ منها. عدا ذلك، فمن وجهة نظر التاريخ العالمي، اذا افترضنا أن هذا العصر قد وُجِدَ في التاريخ الأوروبي وحده، فإنه سيبدو عَرَضياً تماماً.
إننا نُلاحظ شيئاً آخر: وُجود نهضة مُستقلة ونهضة "مُنعكسة". يؤدي عامل الحياة التاريخية المُشتركة بين مجموعات مُعينة من الشعوب، الى انتشار الظواهر التي تنشأ في بلدٍ ذو حضارةٍ مُتقدمة الى بُلدان أُخرى مُجاورة. وهكذا كان الحال في الغرب، عندما انتشرَت النهضة التي بدأت في ايطاليا، في فتراتٍ مُختلفة، الى بُلدانٍ أُخرى في غرب ووسط أوروبا وحتى شرقها. في بعض هذه البُلدان، في انجلترا على سبيل المثال، بدأت النهضة في وقتٍ مُتأخرٍ للغاية، في القرن السادس عشر، حينما كانت قد انتهت في ايطاليا. وهكذا كان الأمر في الشرق، حيث انتشرت النهضة التي بدأت في الصين، الى بُلدانٍ أُخرى في شرق آسيا، في كوريا واليابان. وكما يُمكننا أن نفترض، فإن البُلدان التي تأثرَت بنهضةٍ نشأت في أرضٍ أُخرى، لم تقم باستنساخها حرفياً. فقد كانت ظواهر النهضة، في المقام الأول، محليةً من حيث الأساس، ومشروطةً بالاتجاه العام لتاريخ البلد ومُتطلبات العصر، ولكنها كانت في طابعها العام وطبيعتها الاجتماعية انعكاساً لما يحدث في بلد المنشأ. وعلى هذا، فإذا ثَبُتَ أن النهضة لم تكن وليدة الصُدفة التاريخية، بل كانت حتميةً تاريخية، فلا بُدَّ من اعتبارها جُزءاً من تاريخ تلك الشعوب التي سَبَقَ أن مرَّت بالعبودية والاقطاع، والتي تطورت أنظمتهم الاجتماعية-الاقتصادية الى أقصى حد. ويبدو أن هذه العشوب كانت شعوب الصين والهند وايران وتركستان الغربية واليونان وروما. وهذه مُساهمة أُخرى قد يُقدمها لنا علم تاريخ الشرق، للنظرية العامة للتطور الاجتماعي.

القسم 8:
من المستحيل في الوقت الحاضر أن نحسب أو حتى نتنبأ بكُل ما تُقدمه الدراسات الاستشراقية في العلوم الاجتماعية. وأنا أتصور أنه سنتمكن من خلالها اضفاء مزيد من الدقّة على تصوراتنا حول تعاقب التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية. ومن الضروري أن نولي اهتماماً خاصاً لحقيقة مفادها أن تعاقب التشكيلات ليس مُجرّد حَدَث واحد، بل هو عملية يلعب أمرين فيها دوراً أساسياً: تفكك وانحلال التشكيلة السابقة، ونشوء التشكيلة الجديدة. وقد يمر زمنٌ طويلٌ بين هاتين النُقطتين. على سبيل المثال،، لم يتلخَّص الانتقال من التشكيلة العبودية الى الاقطاعية في انحلال اسلوب الانتاج العبودي فقط، بل وفي نشوء وضعية التبعية لسكان كانوا أحراراً في السابق. هذه النقطة الثانية لا تقل أهميةً عن الأولى في نشوء التشكيلة الجديدة. وقد يكون الدافع وراء هذه الفكرة، أو كما يبدو لي، هو تاريخ الصين، حيث توطَّدَت الاقطاعية بعد سحق ثورة العمائم الصُفر أو الأوشحة الصفراء Yellow Turban Rebellion في نهاية القرن الثاني بعد الميلاد. كان هذا تمرداً ثورياً للفلاحين والحرفيين، الذين كانوا أحراراً في السابق، ولكنهم أصبحوا الآن مُقيدين بالاقطاعية.
ولعلنا نكتشف، في هذا السياق، وجود عصورٍ انتقاليةٍ غطَّت مرحلةً أخيرةً من تشكيلةٍ ما، ومرحلةً ابتدائيةً من تشكيلةٍ أُخرى. استمرت عملية انحلال تشكيلة ما ونشوء تشكيلة أُخرى، خلال هذه العصر الانتقال. من بين هذه العصور، التي عرفها التاريخ الغربي، الفترة الهلنستية، أي من القرن الثالث الميلادي، عندما تشكَّلَت الممالك الهلنستية، الى القرن السابع الميلادي، عندما انتقلَت المناطق الآسيوية وشمال افريقيا الواقعة في العالَم الهيلينستي الى أيدي الغُزاة الجُدد، وهم العرب. وخلال هذه القرون، وفي تلك المناطق الشاسعة من العالَم القديم، بدأت التشكيلة العبودية في الانحلال ونشوء النظام الاقطاعي الجديد في العصور الوسطى. وكانت الفترة الانتقالية الثانية الكُبرى في الغرب، هي عصر النهضة: والذي قاد شعوب أوروبا الغربية نحو الرأسمالية، بالانطلاق ليس بتلك البُلدان التي نَمَت فيها العناصر الرأسمالية في زمنٍ أبكر من غيرها، بل بتلك البُلدان التي ظَهَرَت فيها تلك العناصر في وقتٍ مُتأخرٍ عن غيرها وتطورت بشكلٍ أكثر فاعليةٍ وسُرعة، أي لم تبدأ في ايطاليا، بل في هولندا وانجلترا، ومن ثم لحقتهما فرنسا. في الشرق، نشأ عصر النهضة في الصين. ولكن اليابان هي التي صارت دولة رأسمالية آسيوية، حيث كان عصر النهضة من النمط "المُنعكس".

القسم 9:
هذه بعض وجهات النظر المُحتملة التي قد يقترحها علم تاريخ الشرق فيما يتعلق بالنظرية العامة حول التطور الاجتماعي. ومن المُرجح للغاية أن تُطرَح وجهات نظر أُخرى، من بينها نظرات ذات طبيعة أقل عموميةً. على سبيل المثال، قد يكون لزاماً علينا أن ندرس مركزية السُلطة في الدولة الاقطاعية من جوانب جديدة. في الوقت الحاضر، ينظر الباحثون الى هذه المركزية فيما يُسمّى الاستبداد، في نظامٍ سياسيٍّ مُعيّن تشكَّلَ خلال المرحلة الختامية من الاقطاعية. ويُلاحظ هذا النظام بشكلٍ أكثر وضوحاً في تاريخ فرنسا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر(أ). إن تاريخ اليابان خلال الفترة المعروفة باسم فترة توكوغاوا Tokugawa period، من القرن السابع عشر وحتى التاسع عشر، تؤكّد حقيقة مفادها أن مركزية السُلطة ربما قد تبلورَت فعلاً خلال المرحلة الأخيرة من الاقطاع. كما نجد تأكيداً على ذلك في تاريخ الصين من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر.
ولكن في الوقت نفسه، يُظهِر تاريخ الصين ظهور السُلطة المركزية من القرن السابع حتى القرن الثامن الميلادي، في مرحلةٍ أبكر كثيراً من الاقطاع، خلال الترسّخ العام والشامل للعناصر الاقطاعية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والساسية. ونُصادف من القرن الثامن وحتى القرن العاشر في تاريخ اليابان الاقطاعية مرحلةً مُوازيةً لما كان يحدث في الصين. وعلى هذا، يبدو أن مركزية السُلطة السياسية قد لا تكون وسيلةً للحفاظ على النظام المُستقر والمُنحل وحسب، بل وتكون كذلك سلاحً لإقامة النظام الاقتصادي-الاجتماعي على نحوٍ شاملٍ وترسيخه.
إن الأمثلة التي ذكرتها، تكفي، باعتقادي، لتقوية مواقع الطرح القائل بأن هناك مهام جديدة مُلقاة على عاتق المُستشرقين: مهمة اعادة دراسة بعض المواقع في النظرية العامة للتطور الاجتماعي، ومن خلالها، دراسة بعض فصول علم المُجتمع ككُل. لقد اقتصرت على التاريخ. ولكن المهمة نفسها يجب أن يقوم بها دراسي الفلسفة والأدب، وجميع العلوم الانسانية. إن هذا في حد ذاته يُعزز مُبررات وجود الدراسات الاستشراقية كفرعٍ خاص من فروع البحث، مُختلف في طبيعته عن الأساس الأولي الذي انطلق منه في بداياته.

القسم 10:
إن انجاز المهام السالفة الذكر لا بُد وأن تصل كذلك الى ما أُسميه التغلّب على المركزية الأوروبية.
من الأفضل أن نُنوه بأننا لا نعني بالمركزية الأوروبية هُنا، التفوق العُنصري للشعوب الأوروبية "البيضاء"على الشعوب "المُلونة" في القارات الأُخرى.إن فكرةً مثل هذه تبدو سخيفةً في نظر العُلماء الماركسيين. ولا أعني بالمركزية الأوروبية باعتبارها نتيجةً لقناعةٍ تتعلق بالتفوق الثقافي للشعوب الأوروبية على ثقافات شعوب آسيا وافريقيا. إن العُلماء الماركسيين، يُدركون تمام الإدراك أن مثل هذه القناعة لا يُمكن أن تنشأ الا من الجهل والافتقار لفهم ما هو معروف. إن المناقشات الواسعة التي دارت مؤخراً في مُختلف المُنتديات حول المُساواة بين الشرق والغرب غريبةٌ تماماً على العُلماء الماركسيين، وخاصةً المُستشرقين منهم. إن مُجرّد الاشارة الى أي نوعٍ من عدم التساوي بين الشعوب أمرٌ غريبٌ وغير مفهوم، ناهيك عن كونه ضار. عندما أتحدث عن المركزية الأوروبية، فإنني أقصد طريقتنا في التفكير: فنحن نعمل بوعي أو بغير وعي على مبادئ أسسها العلم الأوروبي. وعندما أقول "نحن"، فإنني لا أعني عُلماء بلادنا أو حتى عُلماء أوروبا وأمريكا، أي الغرب بشكلٍ عام، بل أشمل كذلك عُلماء الشرق المُعاصر الذين يقومون بالشيء ذاته.
إن هذا الموقف مفهوم بسهولة ولا شيء يُعيبه. وهو موقفٌ تُفسره حقيقةٌ لا تقبل الجدل، وهي مُستوى العلم العالمي المُعاصر. ولا شك أن العلم المُعاصر في جميع فروعه يرتكزُ على أُسسٍ نشأت في الدول الأوروبية خلال القرون الأخيرة، منذ القرن السابع عشر على الأقل، عصر ديكارت ونيوتن. والطابع المُتقدّم للعلم الأوروبي خلال هذه القرون هو بحد ذاته انعكاس للتقدم التاريخي العام في هذه البُلدان، والذي قادها الى طليعة التطور الانساني العام الاجتماعي-التاريخي. ومن الطبيعي إذاً، أن يكون علم الفيزياء في الوقت الحاضر، هو ذلك العلم الذي نشأ في العصر الحديث في أوروبا. وأن يكون علم التاريخ هو ذلك الذي أسسه مؤرخو الدُول الأوروبية، وهكذا. وبما أن الأمر كذلك، فإن الأبحاث في الغرب تجري على مُستوى العلم الأُوروبي. ولا بُدَّ لكُل باحث أن يعمل على أعلى مُستوى معروف في مبحثه. من المفهوم أن يقوم عُلماء الشرق المُعاصر بالشيء ذاته، وخاصةً أن العديد منهم تلقّوا تعليمهم في الجامعات الغربية. ومن غير المعقول أن يحيد العلم عن هذا المسار في المُستقبل، ولا يُمكن تصوّر ذلك، لأن العلم في الوقت الحاضر ظاهرةٌ عالمية، سواءاً بوصفه نتاجاً لأنشطة العُلماء المُشتركة، أو بوصفه مُلكاً مُشتركاً لجميعهم. وإن كان بوسعنا أن نقول أن هُناك تاريخاً مُشتركاً، فإن العلم المُشتَرَك ربما يكون أوفى تعبيرٍ عن ذلك. وفي بعض المجالات، قد يُناضل العلم ضد شيءٍ ما ويدعم شيئاً آخر: قد تختلف المُثُل، لكن النضال من أجل هذه المُثُل يتم على أساس المبادئ العلمية المقبولة عموماً. وإن طُرِحَت مسألةٌ جديدة، فيجب أن تُطرَح على ذلك المُستوى الذي بلغه العلم المعني ككُل.
ولكن عندما يدور الحديث حول العلوم الانسانية، فإن الأمر يظل محفوفاً على الدوام بمخاطر السحب الميكانيكي للمقولات المُكتشفة والمُستمدة من تاريخ وثقافة البُلدان الغربية، الى تلك الظواهر التي تُلاحَظ في ثقافة وتاريخ البُلدان الشرقية. اننا اذا استخدمنا، مثلاً، مقولة الاقطاعية، والتي تنبُعُ من التاريخ الغربي، بشكلٍ مشروع، في وصف ظواهر التاريخ الشرقي، فلا يُمكننا بأي حال السعي للبحث عن أشكال الريع الاقطاعي الغربية في كُل مكانٍ في الشرق، قد يكون هناك ما يُماثلها في الشرق، وقد تكون هُناك أشكال مُختلفة عنها أيضاً. وفي مثال آخر. مقولة العقلانية موجودة في تاريخ الفكر الفلسفي في الشرق والغرب. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن نجد في الفلسفة العقلانية الهندية أو الصينية أو العربية-الاسلامية نفس أشكال العقلانية التي كانت موجودةً في الفلسفة الغربية. وينطبق الشيء نفسه على أي مجال من مجالات العلوم الانسانية.
إن الأمر لا يتعلق ببساطة بإدراك وجود أشكالٍ خاصةٍ من المقولات العامة في الشرق والتي اكتُشِفَت في تاريخ الغرب: إن أغلب العُلماء يُدركون هذا الأمر تمام الادراك. الأمر المُهم، هو أن نقتنع بفكرة مفادها أن نمذجة هذه المقولات، وتعميمها، يجب أن تتم على أساس المواد العلمية المُتأتية من دراسة الشرق والغرب معاً. إن نمذجة نوع عام من التشكيلة العبودية، والتي يتضح في ضوئها وجود تنويعات تاريخية ملموسة لها في كُل مكان، لا يجب أن تستند الى بيانات تاريخ اليونان القديمة وروما القديمة وحدها، بل ينبغي أن تقوم على أساس الدراسة المُقارنة للمواد التي تُميز التشكيلة العُبودية أينما وُجِدَت. وتوجد هذه الظروف الى حدٍّ كبير في تاريخ خمسة شعوب: اليونان وروما وايران والهند والصين، أي شعبان غربيان وثلاثة شعوب شرقية تقليدية(ب). إن المُقارنة بين الفترات التاريخية التي امتدت فيها التشكيلة العبودية لهذه المراكز التاريخية من شأنها أن تُبرِزَ الأجزاء المُكونة التي تُحدد التشكيلة العبودية. كما أن دراسةً مثل هذه يُمكنها أن تُبرِزَ العناصر القومية والخصائص المحلية لهذه التشكيلات في كُل بلد.
عندما نلتفت الى التاريخ والفلسفة، سنجد أن هُناك ما يُسمّى بالعقلانية، في تاريخ الفكر الفلسفي في الشرق والغرب على حدٍّ سواء. ونجد تعريفها الأكثر وضوحاً في فلسفة الصين منذ القرن العاشر وحتى القرن الثاني عشر، وفي فلسفة القرن السابع عشر الى القرن الثامن عشر قي فرنسا. وعندما ندرس هذا الموضوع، يتضح لنا أن العقلانية نشأت في عصر تجديد الوعي الانساني، المعروف باسم عصر النهضة، ولكنها لم تتطوَّر بالكامل الا في العصر المعروف في تاريخ الغرب باسم عصر التنوير. وهذا يُفسّر المهمة التاريخية الأساسية للعقلانية: وهي أن تكون بمثابة أساس لإعادة انتاج عقول الناس أثناء الانتقال من استبداد العصور الوسطى الى النقد الحديث. وهي تُفسّر كذلك المراحل المُختلفة للفكر العقلاني، يحيث صارت حدودها الفكرية الطبيعية والفعالة واضحةً تماماً. ومن هُنا أنطلق فيما أُسميه بالنمذجة، أي تعريف جوهر العقلانية، كمقولةٍ فلسفية، بحيث لا نستند على تعريف تخميني صرف، بل على تعريف مبني على تاريخ النظرات العقلانية الفلسفية في بُلدانٍ أُخرى، حيث تشكَّلَت هذه النظرات.

القسم 11:
يُمكن لمزيدٍ من الأمثلة الأُخرى أن توضّح الفكرة التي عبّرنا عنها للتو فيما يتعلق بأهمية دراسة الشرق في التغلّب على المركزية الأوروبية، وهو ما من شأنه أن يؤدي الى تطوير أُسس المعارف العلمية. ولكنني أعتقد أن ما قيل هُنا يكفي. ولكن من الضروري أن نُوجه الانتباه الى ما قد يُثبت أنه عونٌ كبير في هذا العمل: تاريخ العلم في الشرق.
يجب أن نعترف أن التقدم العظيم الذي أحرزته أوروبا في العصر الحديث قد طَمَسَ في أذهاننا كُل ما قد تحقق في العالم في السابق، بما في ذلك أوروبا القروسطية والقديمة. عندما نُشير الى علم العصور الوسطى، فلا يكون ذلك في أغلب الأحيان الا الى الاشارة الى مدى سوء الأمور ومدى عَظَمة ما حَصَلَ بعد ذلك. في هذا الصدد، نكون ورثةً لأمزجة عصر النهضة. وموقفنا من علم عصر النهضة نفسه يتسم بالاحترام،، لأننا نعتبر أنه في ذلك العصر، على الأقل في بعض فروع البحث العلمي، وُضِعَت أُسس لا تزال صالحة حتى يومنا هذا. وعادةً ما يتبادر الى أذهاننا، فيما يتعلق بهذا، أسماءاً مثل كوبرنيكوس وجيوردانو وغايليو. ونسمع أصداء موقف عصر النهضة من العصور القديمة في وجهات نظرنا حول علوم ذلك الوقت: فنحن نُشير اليه دائماً بأسمى العبارات. ولكن هذا يرجع بشكلٍ أساسي الى أن مصدر العديد من الأفكار والمفاهيم الصالحة في العلم الحديث تعود الى العصور القديمة اليونانية-الرومانية. بعبارةٍ أُخرى، تحظى بالتقدير بعض الأمور التي تعود الى عصور قديمة، والتي تحمل بعض التشابه مع الأشياء التي نعيشها اليوم. في حين تظل الأشياء التي كانت في السابق مُختلفةً عما هي اليوم، غير ملحوظةٍ أو مرفوضة. وبطبيعة الحال، لا يجب أن يُنظَرُ الى علم العصور القديمة والوسطى، هذين العصرين العظيمين في حياة البشرية، باعتبارهما ظاهرتين مُستقلتين بحد ذاتهما عن فكرنا العلمي المُعاصر.
هذا هو الوضع فيما يتعلق بتراثنا العلمي الأوروبي. ولكن التقدير الذي يحظى به العلم الذي نشأ وتطور خارج الحدود الأوروبية، في الهند والصين والبُلدان العربية، هو أقل بكثير. ولا يُلاحَظُ هذا العلم ويُدرَس الا في مجال تاريخ الثقافة والتعليم والعلم في تلك البلاد فقط، في حين أن أهميته بالنسبة للمبادئ النظرية العامة للمعرفة العلمية، لا تحظى، كقاعدةٍ عامة، بالاهتمام الذي تستحقه.
ولكن ينبغي لنا أن نولي هذا الأمر اهتماماً خاصاً. فبصرف النظر عن العلوم الطبيعية. يكفي أن نُلقي نظرةً سريعةً على ما أُنجِزَ في بعض بُلدان الشرق في مجال العلم حول الانسان والمُجتمع. إن تاريخ الفكر الفلسفي في الهند والصين معروفٌ لنا الى حدٍّ كبير. ولكننا عادةً ما ندرس نشوء وتطور الأفكار والمفاهيم الفلسفية نفسها، ولا نولي اهتماماً كافياً للطريقة التي كانت هذه الأفكار تُقيّم وتُفهَمُ من خلالها في تلك البلدان. وبعبارةٍ أُخرى، فإننا نُهمل اجراء تقييمٍ سليم لعلمٍ يتخذ الفكر الفلسفي موضوعاً له. فنحن نُطبّق في تقييم الأفكار الفلسفية الشرقية تلك المفاهيم التي تطورت في العلوم الفسلفية في اوروبا: على سبيل المثال: المادية، المثالية، العقلانية، الحدسية،، التصوف، النقد، الواحدية والتعددية، وكُل ما تبقى، دون أن نتوقف بجدّية لنفكر فيما اذا كانت هذه المصطلحات قابلة للتطبيق بشكلٍ عام حيث نُريد تطبيقها. ألا يكون من الأفضل أن نستخدم المُصطلحات التي تطورت في الشرق؟ ألا تتجاوب مثل هذه المُصطلحات والتوصيفات بشكلٍ أوثق مع طابع ومُحتوى الظواهر التي تنطبق عليها؟(جـ). على أية حال، فإن أول ما ينبغي علينا أن نفعله، هو إخضاع هذه المفاهيم للتدقيق، والسعي الى فهمها من خلال ذاتها، كما تشكَّلَت في تاريخ الفكر الفلسفي في البلد الذي ندرسه. لا بُدَّ أن نُدرك أنه خلال العصور القديمة والوسطى في الهند والصين، كان هُناك فكر فلسفي غني ومُتطور بمفاهيمها ومُصطلحاتها الخاصة. وفي السنوات الأخيرة، تم القيام بالكثير من العمل لتفسيرها وتوضيحها ودراستها. ولكن لا توجد حتى الآن تقديرٌ لأهمية الدراسات الفلسفية الشرقية، ومدى قُدرتها على اثراء النظرية العامة للفلسفة. إن نمذجة المقولات الفلسفية (دراسة المقولات الفلسفية على ضوء التطور الفكري الفلسفي العالمي) هي مهمة جليلة للغاية.
إن كُل ما قيل حول العلوم الفلسفية ينطبق أيضاً على علم التاريخ. فلم تكن بُلدان الشرق تمتلك علماً تأريخياً ثرياً فحسب، بل كانت كذلك تمتلك علماً في منهجية التأريخ. تم تفسير كُلّاً من وقائع التاريخ والعملية التاريخية من وجهة نظر تصورات مُحددة. ففي الصين على سبيل المثال، تطوَّرَت تصورات حول العملية التاريخية العامة، ووُضِعَت الخطوط العريضة للتطور التاريخي. ومن الضروري أن نفهم ما الذي تعنيه، وكيف نشأت، وفي أي علاقةٍ تقف مع العملية التاريخية الفعلية.
بالاضافة لى ذلك، من الضروري أن نتأمل ما تحتويه هذه التصورات مما يجب أن يؤخَذَ بعين الاعتبار، الى جانب البيانات الأوروبية، من أجل وضع صياغةٍ عامةٍ حول تاريخ العلوم التاريخية. وباختصار، من الضروري أن نأخذ في الاعتبار الفكر النظري الشرقي في كُل مجال من مجالات الدراسات حول الانسان والمُجتمع.
إن العمل في هذا الاتجاه، هو ما أُسميه التغلّب على المركزية الأوروبية في العلم، وأعتبر أن التخلّصَ منها هي من أجلّ المهام التي تواجهنا في عصرنا في العلوم الانسانية.
إن مهمة المُستشرقين هي توفير الواد اللازمة لهذه العملية، أي عملية التغلّب على المركزية الأوروبية. ومن أجل القيام بذلك، يجب أن يتملّكوا ليس فقط المعرفة حول بُلدان الشرق، أي تاريخها وثقافتها وتعليمها وعلمها، بل وأيضاً القُدرة على على مُقارنة ما يُلاحظونه في الشرق بما يعرفونه عن الغرب. بطبيعة الحال، يجب أن يكون لدى المُستشرقين معرفة بأُسس العلم التي وُضِعَت في الغرب، وفهم أصولها، والا فلن يتمكنوا من فهم المسائل التي تواجههم، وبالتالي عدم تمكنهم من حلها.
عندما أتحدث عن المُستشرقين، فإنني لا أعني فقط عُلماء الدول الغربية، بل أقصد أيضاً علماء الدول في الشرق الذين يدرسون تاريخ وثقافة شعوبهم، ليس فقط لصالح العلم في بلادهم، بل ولصالح العلم العالمي. وفي مثل هذا العمل التعاوني، سيتلاشى الموقع الانعزالي للمُستشرق، ذلك الموقع الذي نشأ في العلم الأوروبي، وستكتسب الدراسات الشرقية أهميةً جديدة. وسيظل الاستشراق قائماً من خلال مُساهمته الوقائعية في صياغة نظرية عامة تشمل كافة الجوانب التاريخية وثقافة الانسانية، نظرية مؤسسة على تاريخ جميع الشعوب، أياً كانت شرقيةً أو غربية.
إن هذا الهدف، لن يقضي على خطر المركزية الأوروبية فحسب، بل ستُصبح المركزية الآسيوية مُستحيلةً أيضاً. قد يظهر نوعٌ من المركزية الآسيوية عند اولئك المُستشرقين الغربيين الذين يعتقدون أن "الشمس تأتي من المشرق"، مُتناسين نور الغرب العظيم. أما بالنسبة للمركزين الآسيويين في الشرق، فقد يملؤهم الفخر الطبيعي بآلاف السنين من تاريخ بلادهم، وتطور الثقافة الواسع فيها، فقد لا يرون نفس التقدم المُتحقق في بُلدان أُخرى، وخاصةً في أوروبا. وكما لا تُوجد شعوبٌ مُتقدمةٌ بطبيعتها، فلا توجد شعوبٌ مُتخلفةٌ بطبيعتها. لقد شَهِدَت جميع الأُمم المُتحضرة الكُبرى في الشرق والغرب فتراتٍ في تاريخها كان التقدم فيها سريعاً، وفتراتٍ تباطأ تطورها التاريخي، مما أدى الى ركودٍ مؤقّت. لا يحق لأي أُمةٍ أن تعتبر نفسها فريدةً ومُتفوقةً على جميع الأُمم الأُخري. يجب على كُل أُمةٍ أن تمتلك احساساً بكرامتها وقيمتها. أما المُبالغة وتضخيم مكانة الأُمة على حسب الأُمم الأُخرى، فهو خاطئٌ وسخيف، بل وحتى خطِر.

*نيكولاي يوسيفوفيتش كونراد 1891-1970، مُستشرق ماركسي سوفييتي، دكتور في الفيلولوجيا وأكاديمي في أكاديمية العلوم السوفييتية 1958. تخرّجَ من القسم الصيني الياباني لكلية اللغات الشرقية في جامعة سان بطرسبورغ عام 1912. دَرَسَ اللغتين اليابانية والصينية والثقافة اليابانية الكلاسيكية في جامعة طوكيو أعوام 1914-1917. كان استاذاً في معهد لينينغراد للغات الشرقية الحية منذ عام 1926-1938. في الوقت نفسه عمل أستاذاً في المعهد الجغرافي لجامعة لينينغراد. كان باحثاً في معهد الدراسات الاستشراقية التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية منذ عام 1931. وصارَ استاذاً في كلية موسكو للدراسات الاستشراقية في جامعة موسكو الحكومية منذ عام 1941-1950، وعضواً في قسم الأدب واللغة في أكاديمية العلوم السوفييتية منذ عام 1958.
كان مجال اهتمامه يشمل الأدب الياباني الكلاسيكي والحديث، والتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ليابان العصور الوسطى ونظام التعليم الياباني والفلسفتين اليابانية والصينية واللغويات. نَشَرَ ترجمات لعدد من كُتُب الأدب الكلاسيكي الياباني باللغة الروسية. حَصَل على وساميّ لينين عامي 1945 و1954، ووسام الشمس المُشرقة الياباني عام 1969. من مقالاته: (حول اللغة الصينية) 1952، (مُختصر تاريخ الأدب الصيني) 1959، (أدب شعوب الشرق ومسائل حول المعرفة الأدبية العامة) 1961. (شكسبير وعصره) 1964.

أ- يُشير عدد من المؤرخين السوفييت الى هذه الظاهرة في فرنسا، بالاضافة الى تمركز السُلطة في أواخر فترة وجود الامبراطورية الرومانية، باعتبارها ظواهر تُثبت أن تركّز السُلطة والاستبداد، ليست ظواهر تُميّز الشرق وحدها، كما يدّعي أنصار نظرية أُسلوب الانتاج الآسيوي، من أمثال موريس غودلييه وجان سوريه كانال وجان شينو.
ب- قد يكون كونراد قد ذَكَرَ أهم مراكز التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية العبودية في التاريخ. ولكننا نعتقد أن هُناك مراكز تاريخية عبودية أُخرى غير تلك الخمسة التي ذكرها: حضارة المايا في جنوب المكسيك وغواتيمالا وهندوراس، بالاضافة الى بابل القديمة ومصر القديمة وغانا القديمة.
جـ- يُمكننا أن نتفق مع المؤلف في المهمة التالية التي طرحها أعلاه: ايلاء الاهتمام الكافي "للطريقة التي كانت هذه الأفكار تُقيّم وتُفهَمُ من خلالها في تلك البلدان". ولكننا قد لا نتفق معه عندما يقول أن علينا أن نستخدم مفاهيم فلسفية شرقية عند تقييم فلسفة الشرق، كما نستخدم مفاهيم فلسفية غربية عند تقييم فلسفة الغرب. على سبيل المثال: يُشير مُصطلح المادية، الى ذلك الفكر الفلسفي الذي يحل المسألة الفلسفية حول أولوية الوجود والوعي، باعتبار الوجود أولياً على الوعي. ولكن هذا المفهوم لا يكتسب أهميةً فلسفية "غربيةً وحسب"، إنه مفهوم قادر على الاحاطة بكافة جوانب الفكر الفلسفي للانسانية قاطبةً على مدار التاريخ منذ نشوء الفلسفة. وبالتالي، لا يُمكننا أن نجد فكراً فلسفياً شرقياً (ولا حتى غربياً)، يقع خارج اطار مقولتي المادية والمثالية.

ترجمة لمقال:
The Classical Oriental Studies and The New Problems, N. I. Konrad, 1967
this article is one of articles collection in book: West-East Inseparable Twain



#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)       Malik_Abu_Alia#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدفن الانساني الطقوسي الواعي: العصر الحجري القديم الأوسط، ب ...
- حول مسألة دراسة تاريخ المُجتمعات البدائية انطلاقاً من الاثنو ...
- مسألة المُلكية الخاصة البدائية في الاثنوغرافيا الأمريكية الم ...
- المراكز المدينية في المُجتمع الطبقي الباكر
- تاريخ الري الزراعي في جنوب تركمانستان
- الشروط الايكولوجية لنشوء الزراعة في جنوب تركمانستان
- سوسيولوجيا الدين الانجلو أمريكية المُعاصرة: مُشكلاتها واتجاه ...
- الرد الثاني لسيرجي توكاريف على ستيفن دَن
- بعض الأفكار في طُرُق دراسة الدين البدائي- رد على سيرجي توكار ...
- الرد الأول لسيرجي توكاريف الأول على مُراجعة ستيفن دن لكتابيه ...
- مراجعة ستيفن بورتر دن لكُتب سيرجي توكاريف
- مبادئ تصنيف الأديان 2
- مسألة أصل ثقافة العصر البرونزي الباكر في جنوب تركمانستان
- مبادئ تصنيف الأديان 1
- تاريخ انتاج المعادن عند القبائل الزراعية في جنوب تركمانستان
- ردّاً على نُقادي فيما يخص مقالة -حول الدين كظاهرةٍ اجتماعية ...
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين
- بصدد الفهم الماركسي للدين
- حول جوهر الدين
- حول مفهوم -الشرق القديم-


المزيد.....




- الجبهة الشعبية في تصريح صحفي لها تُحمّل الاحتلال الصهيوني م ...
- الصحافة مش جريمة، وقتل الحقيقة لن يوقف التغطية
- النهج الديمقراطي العمالي يتابع عن كثب التطورات الأخيرة لمعار ...
- بيان الحزب الشيوعي العمالي العراقي حول جريمة اغتيال “إسماعيل ...
- ترامب يقبل مناظرة هاريس ويصفها باليسارية المتطرفة
- النقابة الوطنية للعاملين بالتعليم العالي: “نضال مستمر من أجل ...
- مرشح رئاسي أمريكي: خروشوف كان محقا بأن الاتحاد السوفييتي هو ...
- منظمة حماية البيئة: مدن ألمانية بحاجة إلى مساحات خضراء أكثر! ...
- الفصائل الفلسطينية تعزّي بالشهيد شكر: اغتيال القادة يقوّي ال ...
- بريطانيا.. اشتباكات بين الشرطة ومتظاهرين أمام مبنى رئاسة الو ...


المزيد.....

- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي
- تحديث. كراسات شيوعية (الهيمنة الإمبريالية وإحتكار صناعة الأس ... / عبدالرؤوف بطيخ
- لماذا يجب أن تكون شيوعيا / روب سيويل
- كراسات شيوعية (الانفجار الاجتماعي مايو-يونيو 1968) دائرة ليو ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مقدّمات نظريّة بصدد الصراع الطبقيّ في ظلّ الإشتراكيّة الفصل ... / شادي الشماوي
- ليون تروتسكى فى المسألة اليهودية والوطن القومى / سعيد العليمى
- كيف درس لينين هيغل / حميد علي زاده
- كراسات شيوغية:(الدولة الحديثة) من العصور الإقطاعية إلى يومنا ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية والمسائل الجديدة