|
بداية الخلق
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8056 - 2024 / 8 / 1 - 14:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم العقل المحاصر" ٤ بداية التكوين حسب الإسلام
فمنذ البداية إذا وجد الإنسان نفسه في هذا الموقف الذي يحتم عليه أن يتخيل ويفترض ويفكر ويتحسس ويتخيل دون أن يصل مطلقا إلى معرفة يقينية، ومع ذلك فإنه لم يكف عن البحث والتفكير في محاولة الإحاطة بهذه الآلة الغريبة التي بين يديه، ماهي، من أين جاءت وما هي وظيفتها أو الهدف منها ومن هو خالقها أو صانعها ..إلخ. ومن هنا تكونت عشرات ومئات الفرضيات والنظريات والقصص والأساطير المتعلقة بقصة الخلق والتكوين، وكل الشعوب والثقافات وفي كل العصور والأجيال، هناك إفتراضات وتصورات لبداية التكوين وكيفية ظهور الأرض والسماء والبشر والحيوانات والنباتات والجبال والأنهار. وأغلب هذه النظريات والأساطير تفترض وجود شيء سابق على بداية التكوين، شيء ما قبل البداية، شيء بُنيت عليه هذه العوالم المتعددة، الماء، الهواء، الأرض، النور أو الظلمة، ومن إلتقاء بعض من هذه العناصر تكونت الطبيعة وخُلِقت الآلهة التي كونت البشر لخدمتها، ورغم أن أغلب الثقافات أفترضت "العدم" كمكون أساسي للكينونة "المخلوقة"، حيث في البداية لم يكن هناك شيء ورفضت أزلية أو قِدم العالم. في بداية التاريخ وقبل ظهور الفكر والفلسفة كان العالم الذي يعيش فيه الإنسان موجودا عينيا ومدركا بالحواس مباشرة ولا ريب فيه، بعواصفه وبراكينه وزلازله وحرائقه وبرده وحرارته، الإنسان كان يعاني من وجود الظواهر الطبيعية ولم يكن له الترف أو إمكانية الشك في وجودها. العالم كان حاضرا هنا كما كان الإنسان ذاته، بلا مبرر وبلا هدف. ومع تطور الإنسان وتطور قدراته العقلية أصبح يميز بينه وبين الحجر الذي بدأ يستعمله لحاجاته الضرورية، بينه وبين النار التي تمكن من تطويعها وبينه وبين الشمس والقمر والريح والمطر .. لقد بدأ ينفصل تدريجيا عن العالم وبدأ في تكوين ذاته الجماعية كقطيع من البشر يحاول أن يظل حيا في عالم من المصائد والمطبات والعوائق. وعندما أكتشف الإنسان عملية الإنفصال، وبأنه يختلف إختلافا جذريا عما يحيط به من الأشجار والأحجار والبحار والأنهار، بدأ الخوف الحقيقي يدخل قلبه. وهنا بدأت بضاعة الدين في الظهور، وإنتشار تجارة الآلهة كبضاعة بلا منافس. ويجب القول بأنه في تلك الظروف المعرفية، ربما لم يكن للإنسان حل آخر. الآلهة أو الأنظمة الدينبة، كانت بضاعة رائجة لأنها كانت لها وصفة، بل وصفات متعددة فيما يتعلق بالموت والحياة وقصة الخلق. نعرف اليوم بأنه في ثقافة النهرين، والثقافة الفرعونية، وثقافة أمريكا الشمالية والجنوبية قبل إبادة الهنود بوجود العديد من قصص التكوين التي تتخيل بداية الكون وبداية البشرية كما هو الحال فيما بعد في الثقافة الفرعونية واليهودية واليونانية ثم الإسلامية. وقد ذكرنا سابقا تفاصيل قصص التكوين السومرية واليونانية المتعددة، وسنتطرق الآن لقصة الخلق في الإسلام، نظرا لعلاقتها بفكرة العدم، رغم أنها لا تختلف جوهريا عن بقية أساطير الخلق والتكوين، سواء السومرية أو اليهودية وغيرها. منذ بداية القرن العشرين، أنتشرت فكرة بين بعض مفكري الديانة الإسلامية مفادها أن القرآن يحتوي جميع المعارف والحقائق العلمية، وبالتالي فإنهم يرون أن كل الإكتشافات العلمية الجديدة مذكورة في القرآن، من الذرة ونظرية الكوانتا إلى البق بانق، ويروجون لفكرة أخري وهي أن الله قد خلق العالم من العدم حسب تعاليم الإسلام وأنه سيعود إلى العدم. فهذا الفكر الغيبي منذ بداياته الأولى استند إلى فكرة "العدم" ليبني مشروعه الأيديولوجي عن "الخلق" وحدوث العالم وظهور الكائنات في لحظة زمانية معينة أختارها الكائن المطلق، ولكنه بعد هذه اللحظة المؤسسة للوجود بأسره، لحظة بداية الخلق، يختفي "العدم" بعد ذلك نهائيا من الحياة ومن الفكر، ويصبح "الموت" ذاته مجرد إنتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، أي إنتقال من حالة وجود أرضي مؤقت إلى حالة وجود سماوي دائمة وأبدية. الحسين بن علي بن أبي طالب قال مخاطباً أنصاره يوم عاشوراء: « صبراً بني الكرام ، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم من البؤس والضرّاء الى الجنان الواسعة ، والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ ». وهذا التراجع الفكري عن تقبل فكرة العدم والخواء راجع بطبيعة الحال إلى صعوبة إحتمال هذه الفكرة وكونها باعثة على القلق والألم واليأس والخوف من الفناء وهو ما يؤكده إبن مسكويه في"رسالة في الخوف من الموت" حين يقول «لما كان أعظم ما يلحق الإنسان من الخوف هو الخوف من الموت. وكان هذا الخوف عاماً، وهو مع عمومه أشد وأبلغ من جميع المخاوف، وجب أن أقول: إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري الموت على الحقيقة، أو لا يعلم أين تصير نفسه..» ليستنتج أن جهل "خلود" النفس هو سبب الخوف، وهذا الخوف هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم أينما كان ويقول: « فلما تيقن العلماء ذلك واستبصروا به وهجموا على حقيقته وصلوا إلى الروح والراحة، هانت عليهم أمور الدنيا كلها، واستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الخسيسة». وهذه التفرقة بين الروح والنفس والجسد هي الفكرة الأساسية المبنى عليها كل الصرح المعماري الغيبي، حيث الموت ليس شيئاً أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها المادية أي بدنها، والنفس - حسب المنظور الغيبي - جوهر غير جسماني، وبالضرورة فإنها أزلية وغير قابلة للفساد، وحين تغادر النفس جسدها، فإنها تصبح نقية وشفافة وسعيدة، ولا سبيل إلى فنائها، لأن الجوهر لا يفنى، حيث لا ضد له، وما لا ضد له لا يفسد حسب ما يقول مسكويه في رسالته. ومنذ البدايات الأولى للفكر الإنساني، كان "العدم" المتجسد في فكرة الموت والفناء حاضرا في أغلب الأساطير والقصص القديمة التي تحاول بطرق مختلفة القضاء عليه وإنكاره كليا لأنه يجعل الحياة غير محتملة ولا مبرر لها طالما هي محدودة ومنتهية، ها هو جلجامش يتألم بعد موت إنكيدو "ماذا عساي أن أفعل، وإلى أين اتجه، إن الموت قد تمكن من لبي وجوارحي، أجل، في مضجعي يقيم الموت، وحيثما أضع قدمي يربض الموت". وفي الديانة الهندوسية مثلاً، الموت هو مرحلة من مراحل دورة التناسخ، التي تنظمها وتسيرها "الكارما" الخاصة بكل فرد والتي هي قانون الجزاء والعقاب الذي يثاب به الميت على حسناته ويعاقب على أفعاله السيئة في أطوار تناسخه المتتابعة، بمعنى أن الإنسان لا يفنى بعد موته بل يظل باقيا في صور مختلفة للمادة حسب أعماله. أما الموت عند البابليين والسومريين فهو أيضا ينفي فكرة العدم والفناء حسب ما ذكرته النصوص القديمة، وينتقل الميت إلى ما يسمى عند السومريين بالعالم السفلي، وكانوا يعتقدون بأن روح الميت لا تفنى، بل تتمثل في شبح يدعى "أدمو" يرافق الميت في رحلته إلى العالم السفلي ويظلُّ ملازماً له، لذلك يشترط أن يُدفن الميت حسب المراسيم والطقوس الدينية المنصوص عليها، وإذا لم تتوفر هذه الشروط تحول هذا الحارس الشبحي روحاً شريرة تخرج من عالم الأموات وترعب الأحياء وتثير الهلع في قلوبهم.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين التأمل والتجربة
-
بين الإحتمال واليقين
-
ساعة إينشتاين
-
حريق الظل الطويل
-
عن الأخلاق واللاهوت
-
الغرامشية اليمينية
-
الثقافة ضد الدكتاتورية
-
الثورة المضادة في فرنسا
-
الخطر الفاشي في فرنسا
-
القشور
-
لعبة الروليت الماكرونية
-
الفلسفة الأولى
-
ثقوب الوعي
-
عن الميتافيزيقا
-
الإنفصام
-
عن كون ولا كون الكائن
-
نكبة الحرف المجنون
-
ماهية العدم
-
طرق المعرفة
-
الكينونة بين المعرفة والخيال
المزيد.....
-
ترامب و نتانياهو، علاقة دعم وصداقة، فهل تلتقي المصالح؟
-
المحافظون الألمان يشككون في نظام اللجوء بالاتحاد الأوروبي
-
القناة -14-: ارتفاع عدد إصابات عملية تياسيير إلى 8 بينها حا
...
-
المكسيك تعلن نشر 10 آلاف جندي على الحدود مع الولايات المتحدة
...
-
شاحنات المساعدات تتحرك من مصر إلى غزة
-
-إسرائيل صغيرة كرأس القلم-.. تصريح صادم من ترامب يثير الجدل
...
-
-بوليتيكو-: قوات كييف تحاول إخفاء الخسائر الفادحة بتقارير عن
...
-
الجيش اللبناني ينتشر في بلدة الطيبة بعد انسحاب إسرائيل
-
مكتب نتنياهو: إسرائيل تستعد لإرسال وفد إلى الدوحة لمناقشة تف
...
-
-حماس- تبارك عملية حاجز تياسير وتؤكد أن -الجرائم الإسرئيلية
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|