فتحية دبش
كاتبة، روائية، ناقدة ومترجمة
(Fathia Debech)
الحوار المتمدن-العدد: 8056 - 2024 / 8 / 1 - 04:49
المحور:
الادب والفن
قراءة في ظل أعرج لزهرة الظاهري.
فتحية دبش، تونس/فرنسا
تستشهد زهرة الظاهري بفيرجينيا وولف وكتابها المعنون بغرفة تخص المرء وحده وتدرج ذلك لتبيان أهمية أن يكون للمرء فضاؤه الآمن (مصطلح نسوي يعني فضاء يمكن فيه للمرء أن يكون نفسه) حيث لا يختلي بنفسه وحسب، بل ويلتقي بها على سجيتها بكامل نقصانها، وكامل انكساراتها، ونجاحاتها، دون شعور بالذنب ولا الخوف من اللوم والتقريع، ولا حتى الخوف من مغبة كل فعل داخل هذه الخلوة. فهل وجدت في الكتابة غرفة تخصها وحدها؟
تدخل زهرة الظاهري نصها بخطوات تكاد لا تبين فتنشغل بسؤال الكتابة عوضا عن الانشغال باستهلال تقليدي لمثل هذه النصوص المنشغلة بكتابة الذات. تطرح أسئلة النص والكتابة بوصفها منطقة بوح متوخية بذلك الميتاسرد وهي واحدة من التقانات الأشد تأكيدا على تحول الكتابة من مجرد إجراءات إلى أسئلة ومن تحول الكاتب/ة من ذات إلى موضوع. ومع أنها تصدر فصلها الأول بمقولة لكافكا يقول فيها إن " الكتابة انفتاح جرح ما" غير أن هذه المقولة وإن وردت كجواب لسؤال ما هي الكتابة إلا أنها لا تضع حدا لسؤال ما الكتابة. وطالما بقي السؤال معلقا فإن الكاتبة، الساردة وهي الشخصية الرئيسية للنص ما تفتأ تفتح جبهة البحث عن الجواب منذ مفتتح النص وحتى نهايته دون أن تطمئن إلى إجابة نهائية وحاسمة خاصة وأن الأمر متعلق لا بالكتابة وحسب وإنما بالكتابة عن حياتها الماضية كما جاء في الص 14 حيث تقول:" كثيرا ما فكرت في الكتابة عن حياتي الماضية."
مخاتلة تتخلص من سؤال ماهية الكتابة بتركه مفتوحا لتطرح سؤالها الحقيقي [ الكتابة عن حياتها الماضية] وهي بذلك تحدد جنس النص الذي تقدمه إلى قارئها. نص تفصلها عنه مسافة زمنية. فإذا كان فعل الكتابة في الحاضر فإن موضوع الكتاب محدد بزمن مضى. وهذا الفاصل الزمني بين الفعلين أوالحدثين باعتبار أن الكتابة حدث وحياتها الماضية حدث آخر سابق على الأول هو فاصل موضوعي تتحول فيه الذات من الفعل إلى الرّوي/ السرد ومنه إلى التذكر. ولعل هذا الفاصل الدقيق يكشف ارتباك التجنيس على الغلاف. فهل ينتمي الكتاب الى جنس الرواية أم إلى جنس السيرة؟
دون الرجوع إلى تعريفات الرواية ولا إلى تعريفات أدب السيرة الذاتية، يمكن القول بأن هذا النص يشتمل على مقومات الرواية كما على مقومات السيرة ولعله -بنظري لا يندرج ضمن هذا ولا ذاك. فلا هو رواية وما هو بسيرة ومن هنا يكون اعتماد تجنيسين على الغلاف خطأ إجرائي بنظري. بل لعل ظل أعرج ينتمي إلى الرواية-المذكرات Roman-mémoires وهو جنس أدبي شاع في الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر، غير أن المصطلح لم يجد ما يقتضيه من وفاء في ترجمته للعربية فجنح بعض النقاد إلى اعتماد مصطلح الرواية السيرية وهو بنظري مصطلح غير دقيق ويخلط بين جنسين مختلفين من الكتابة.
يعتمد ظل أعرج على مسافة الوعي الفاصل بين فعل الكتابة وفعل الحياة الماضية. فلا تأتي الرواية إلا من خلال فعل التذكر الذي لا يقتضي فقط الفصل بين زمنين دقيقين بل ويفرض حالة وعي خصوصية جدا تضطلع بمهمة الحكي والتخيل والتشذيب بل وبمهمة الرقيب أيضا.
تجعل الكاتبة إذن مسافة بين الحدث والكتابة ولا تمارس في ذلك نوعا من المخاتلة والارباك بل فعل الانتقاء مما أدى بها إلى اختيار محطات من حياة ماضية نقلتها بمجهر حاضر الكتابة وحاضر وعي الشخصية الكاتبة في علاقتها الحميمة بذاتها المسرودة في النص. تقول مثلا في ص 24 " كنت أرى حزنا بليغا في عيني أختي الكبرى كلما رأتني احتفي بكتبي" أو في ص 38:" ورحت أتساءل لماذا يكره أخي أن يزاول تعليمه بعد أن نال الحق في حين حرمت منه أختي الكبرى؟" والأمثلة عديدة على تدخل وعي الحاضر/ زمن الكتابة في تقديم حدث الماضي وصقله ليبدو أكثر اقناعا وأخلقة، وهو ما تعتمد عليه الرواية-المذكرات التي تجنح بالحدث من الواقع في الماضي إلى التخيّل أو التخييل في الحاضر.
ولا تكتفي الكاتبة/ الساردة/ الشخصية بسرد الحياة الماضية بل تسمح لنفسها الكاتبة الساردة بتحليل نفسها الشخصية فتحيلنا على شروحها لرغباتها في العزلة مثلا وتقديمها لحكايات الأخريات ( حكاية الجارة هادية، الصديقة سمية وأختها الكبرى وأمها) تقديما لا يكتفي بالحكاية بل يتجاوزها إلى التحليل والغوص في نفسية الشخصيات ورؤيتها من الداخل ومن الخارج وهو ما تمنحه الرواية- المذكرات دونا عن السيرة والرواية.
بقي السؤال الأهم وهو هل فعلا كتبت زهرة الظاهري حياتها الماضية أم أنها كتبت (عن) حياتها الماضية كما أبرمت عقدها مع المتلقي؟
لا يمكن الإجابة القطعية على هذا السؤال إلا بالاستناد إلى حقيقة مفادها صعوبة كتابة الذات لدى النساء الكاتبات بصفة عامة والكاتبات العربيات بصفة أشد خصوصية. لئن تغيرت كتابة الذات لدى الرجل العربي من كتابة تضفي نوعا من القدسية على الذات كما جاء في الأيام لطه حسين إلى كتابة [لا أخلاقية] كما في الخبز الحافي لمحمد شكري فإن النساء الكاتبات يذهبن -دون تعميم بحكم عدم اطلاعي على كل التجارب - مذهبا عكسيا حيث كتبت نوال السعداوي بجرأة قل نظيرها لدى الكاتبات اللاحقات عليها. وهو ما يفسر فراغات النص في ظل أعرج.
هذه الفراغات التي برأيي تحولت إلى إجراء كتابي في ظل أعرج فهيمن عليه اللا انتهاء بمعنى L inachevé ولا أقصد النقصان. فالوعي الذي كان حاضرا في لحظة الكتابة لم يكتف بالتحليل بل عوّض الرقيب الذي كان يفترض أن الكاتبة قد تركته وراء باب الكتابة حيث تدعو إلى ذلك مستوردة الفكرة من ايزابيل اللندي.
زهرة الظاهري تكتب حياة الجارة هادية التي كانت تستمع إلى نداء الجسد والروح في غياب زوجها حتى وصلت إلى الطلاق وكتبت حياة سمية التي غادرها حبيبها بسبب رفضها مصاحبته إلى شقته ولكنها لم تشر إلا لماما لتقلبات الروح والجسد التي تخصها بل اعتمدت الإحالة والايحاء والفراغات لتوجيه القارئ نحو سؤال كتابة الذات لدى النساء ومزالقها وهو ما يفسر الجملة التي أوردتها في الصفحات الأولى.
زهرة الظاهري كتبت عن حياتها الماضية ولكنها لم تكتب حياتها الماضية كما ينبغي لهذه الحياة أن تكتب. وليس في الأمر مثلبة للنص ولا مدح. بل في ذلك خلاصة أن الكتابة ليست فضاء آمنا للنساء. وهو سؤال حقيق بالنظر والتمعن.
#فتحية_دبش (هاشتاغ)
Fathia_Debech#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟