|
فلوبير رجل العصر
الحسن علاج
الحوار المتمدن-العدد: 8056 - 2024 / 8 / 1 - 03:08
المحور:
مقابلات و حوارات
فلوبير رجل العصـــر " تعتبر جزيلا سيجنجر Gisèl séginger) ( من قدماء طلبة المدرسة العليا للأساتذة ، وهي أستاذة الأدب بجامعة غوستاف إيفل Gustave – Eiffel) ( وعضو بالمعهد الجامعي لفرنسا . متخصصة كبيرة في غوستاف فلوبير ، خصصت له العديد من المنشورات ، ولاسيما أنها عملت على نشر أعماله الكاملة ، التي ظهرت بدار لابلياد . أصدرت في الربيع الأخير كتاب شرق فلوبير في صور ( دار نشر (Citadelle et Mazenod) كما أصدرت طبعة جديدة لرواية تجربة القديس أنطونيوس ( غارنييه فلاماريون ) . في الوقت الذي يتم فيه الاحتفال بذكرى مرور مئتي عام على ميلاد مؤلف مدام بوفاري ، قدمت لنا شرحا بخصوص أهميته في تاريخنا الأدبي . حوار مع جزيلا سجينجر ترجمة : الحسن علاج
وقّع غوستاف فلوبير إحدى رسائله الأخيرة قبل وفاته ، " غوستاف فلوبير التسكع الرومنسي الأخير " . ماذا كان يقصد بذلك بالضبط ؟ ـ لم يرغب فلوبير في أي وقت من الأوقات ربطه بالواقعية ، لكن لأسفه الشديد ، بعد ظهور [رواية] مدام بوفاري ، فإن هذه السمة لطالما اقترنت به . كتب سانت بوف Sainte- Beuve) ( ( 1804 ـ 1869) على عجل مقالا تقريظيا ، وفيه اعترف لفلوبير ، ابن وأخ لطبيب ، بقيادته لجيل جديد من الكُتاب . فحتى وإن لم يتلفظ سانت بوف بعبارة " واقعية " ، فقد فهم فلوبير بأن الناقد قد ألحقه بالمدرسة الوليدة التي دافع عنها الروائيان : شامفلوري Champfleury) ( ( 1821 ـ 1889 ) ، ولوي إدموند دورانتي Louis Edmond Duranty) ( ( 1833 ـ 1880 ) ، وكذلك الرسام غوستاف كوربيه Gustave Courbet) ( ( 1819 ـ 1877 ) . أجابه في الحال بأنه رومنطيقي ساخط وسوف لن يتوقف ، كما يشير التوقيع إلى ذلك ، عن التعلق بالرومنطيقية . سوف يرفض على الدوام مصطلحي الواقعية والطبيعية ، حتى وإن كان زولا ، الذي أعجب كثيرا برواية مدام بوفاري و إلى حد كبير التربية العاطفية ، يعتبره طلائعيا . وبالتأكيد ، فقد أحب فلوبير بعض أعمال زولا ، [رواية] نانا Nana) ( مثلا ، وبالمقابل ، فقد انتقد لديه " تصنعا معكوسا " يكمن في تقديم وصف للأوضاع المزرية للمجتمع فقط . لم يكن فلوبير أيضا متفقا مع التزام إميل زولا ، لأنه كان يرفض الاشتراكية ... ـ سواء أتعلق الأمر بوجهة نظر سياسية أم أدبية ، فإن مواقف فلوبير غالبا ما كانت متوازنة . لقد فند الواقعية لكن أيضا جزءا كبيرا من الرومنطيقية ، رومنطيقية موسيه Musset) ( ولمارتين Lamartine) ( . ابتداء من سنة 1850 ، احتفظ بإعجاب كبير لفيكتور هوغو وجيل ميشليه Gules Michelet) ( ، وهذا حتى نهاية حياته ، إلا أنه استبعد المثالية وعواطفيةsentimentalisme) (لمارتين وموسيه ، اللتين استهوتاه في طفولته . وقد كان في السياسة متوازنا أيضا تمام التوازن . لقد نشأ في ظل عائلة متحررة ، مع والد كان يرأس قسم الجراحة بمستشفى روان ، تمت تسميته أثناء فترة أيام نابوليون المائة . في الرابعة عشرة من عمره ، عام 1835 ، عرف نفسه كشاب جمهوري في الرسائل التي أرسلها إلى أصدقائه حيث ثارت ثائرته ضد تمديد العمل بالرقابة على الصحف والمسارح في ظل ملكية يوليوز ، بين 1830 و 1848 ، والتي كان يعتلي عرشها آنذاك العاهل لوي فليب (Louis Philippe) ، ملاحظا : " سيشرع الشعب في الثورة الثالثة وحذار من رؤوس الملوك " ... وبعد وفاة والده ، سنة 1846 ، وتحت تأثير صديقيه ماكسيم دي كامب (Maxime Du Camp) وخصوصا لوي دو كورمونان Louis de Cormenin) ( ، أصبح فلوبير محافظا ، معجبا بالعصور القديمة وبالأباطرة المستبدين مثل هليوغابال Héliogabale) ( أو نيرون . وفي عام 1847 ، نأى بنفسه عن الأفكار الجمهورية ، في رسالة إلى لويزا كوليه Louise Colet) ( ، فقد روى بنبرة لاذعة وساخطة عن مأدبة إصلاحية حضرها بروان Rouen) ( ، مهرجان حقيقي للابتذال والسطحية ، بحسبه . وفي عام 1848 ، فقد كان شاهدا ، من دون اتخاذ أي موقف ، على ثورة فبراير التي سوف تفضي إلى تنحي لوي فليب وإلى نهاية النظام الملكي . وبعد تفكير عميق ، فتنه لوي نابوليون بونبارت لأنه أعاد استتباب النظام ووضع حدا للخصومات السياسية ، إلا أن إرادة الإمبراطور القادم للمراهنة على التطور الاقتصادي أقلق فورا فلوبير الذي لا يثق إلا في الفنون ... في ظل الإمبراطورية الثانية ، سوغت مساندة سانت بوف ، الأمير نابوليون ، ابن عم الإمبراطور ، أثناء رفع الدعوى القضائية ضد مدام بوفاري ثم ظهور [رواية] سلامبو ، التغلغل في الدوائر الثقافية والأدبية في ذلك العهد . تمت دعوة فلوبير إلى تويلري Tuileries) ( ، بقصر كومبياني Compiègne) ( ، في شهر نونبر 1864 ، وحيث كان المدعوون يخالطون الزوج الإمبراطوري لمدة أسبوع ، حضر الاستقبال الباريسي الكبير ، الذي أقيم على شرف الرؤوس المتوجة بمناسبة العرض العالمي سنة 1867 ، ليحوز على وسام جوقة الشرف . لم ينخرط في الإمبراطورية الثانية ، لكنه ثمّن تماما التكريمات التي أغدقت عليه بفضل رعاية الشخصيات التي يكن لها الاحترام ، مثل الأميرة ماتيلدا Mathilde) (أو المؤرخ فيكتور دوروا Victor Duruy) ( ... في فترة ثالثة من حياته ، بعد حرب 1870 ، واجتياح جزء من التراب الفرنسي من قبل البروسيين وكمونة باريس ، يتحول فلوبير إلى جمهوري معتدل ، ساخرا من حلم الاقتراع العام . ينافح عن فكرة حكومة من المثقفين ، مكونة من نخبة من الشخصيات المقتدرة ، بدون إيديلوجيا حقيقية .وفي نهاية السبعينات (1870 ) ،عرف نفسه ك " جمهوري أكثر رشاقة " ، قطعا ليس تقدميا وأقل اشتراكية أيضا . ومع ذلك ، فقد هاجم بعنف في مراسلته المحافظين المتشددين ، الممثلين في شخص الماريشال ماك ماهون Mac Mahon) ( ( 1808 ـ 1893) ، رئيس الجمهورية الجديدة ، الذي كان يأمل في وقت من الأوقات إصلاح النظام الملكي والذي أصبح يشكل أحد كوابيسه ، على غرار اليسوعيين ، القساوسة والاشتراكيين ... كيف تمكن ، بشكل مفاجئ من ربط صداقة عميقة جدا مع أحدهم مثل جورج صاند George sand) ( التي كانت على النقيض منه تماما ؟ ـ إن فلوبير شخص مثير للاهتمام ، لأنه يجيد النقاش ، الإصغاء وربط علاقات ودية حتى مع كُتاب يختلفون عنه أشد الاختلاف . لقد كانت تستهويه الكتابة ،على سبيل المثال ، والإجابة ،بين 1846 و 1848 ، إلى لويزا كوليه ، التي ـ فتنتها الرومنطيقية ، الوجدان والعشق ـ لن تشاطره مواقفه الجمالية ، الشيء الذي نجم عنه مراسلة رائعة كان يعرض عبرها إيثيقاه المغايرة للفن . فمع جورج صاند التي لم يكن معجبا بها إطلاقا في فترة شبابه ، شُيدت روابط بعد المقالات التي كتبتها ، تزامنا مع ظهور مدام بوفاري وسلامبو . فقد شرعا في التعرف على بعضهما البعض . إن فشل ثورة 1848 التي ظلت جمهورية ، والمحافظ الذي تلفظ بفكرة الاشتراكية قد عثرا على نقاط مشتركة مثلا ، بخصوص فكرة معينة للرومنسية . أثناء تحرير رواية التربية العاطفية شُيد حوار مدهش . شرحت صاند إلى فلوبير أنه لو كان يعاني من صعوبات في الكتابة فلأنه يمتنع عن تقديم وجهة نظره حول الأحداث أو السياسة . وبالنسبة لفلوبير ، فإنه لا ينبغي على الرواية أن تترك أي شيء يتم تخمينه من قبل القارئ عن أفكاره الدينية ، السياسية أو عن حياته الشخصية . أي بوح . أي وجهة نظر . لقد شكل المحافظون ، الجمهوريون ، الملكيون والاشتراكيون هدفا لسخريته في التربية العاطفية . ثمة أعمال فاضحة ، حماقات وأفكار نمطية لدى كيهما . وبالنسبة لصاند فإنها تعتقد العكس تماما ... لن يمنعهما هذا البتة من أن يشكلا أفضل الأصدقاء في العالم ثم إقامة أمسيات في منزل صاند ، بمقاطعة نوهانت Nohant) ( ذات تواطؤ عميق . هل مارس بالزاك ـ شيخه الشهير ـ على فلوبير تأثيرا ما ؟ ـ لطالما قرأ فلوبير وأعجب ببالزاك . يعتبر العنوان الفرعي لروايته مدام بوفاري ، عادات الإقليم ، بالتأكيد بمثابة تحية لمؤلف الكوميديا البشرية . نظرة خاطفة أخرى : فكما هو الحال في رواية بالزاك ، يعتبر لوي لمبير Louis Lambert) ( راويا كان حاضرا أثناء الأحداث ( والذي يقول " نحن " ) يقوم بسرد وصول الصبي شارل بوفاري ، إلى قاعة الدرس الجديدة حيث سيتابع بها دراسته ... ومع ذلك ، فقد اختفى هذا الراوي ال" بالزاكي " على وجه السرعة من المحكي ، كمالو أن فلوبير كان يرغب في التخلص منه لصالح راو خارج أحداث الرواية ، راو خارج حكائي كما يقول جيرار جونيت Gerard Genette) ( اهتم فلوبير ، شأنه في ذلك شأن بالزاك ، بالمجتمع وبالسياسة ، وبالمقابل ، فقد كان يعتبر أن الكاتب ما كان عليه الالتزام ولا ينبغي عليه الترشح للانتخابات . ففي توطئة الكوميديا البشرية ، سجل بالزاك : "إني أكتب على ضوء حقيقتين ،الملكية والدين . " وبالنسبة لفلوبير ، فإنه ينبغي على الكاتب أن يتحاشى الكتابة على ضوء أي حقيقة مهما كانت . يعتبر مؤلف التربية العاطفية متشككا وقد نأى بنفسه عن بالزاك بشكل متزايد . ففي مدام بوفاري ، لم يصدر حكما لصالح الراهب ولا لصالح الصيدلاني الوضعاني ، الذي يعتقد أنه ينافح عن العلوم لكنه لا يتحدث إلا عن علوم تفتقد إلى الأصالة وأفكار نمطية . إن إرادة أن يكون مجهولا ، ألا يفصح عن أفكاره ، قد ساهم في تشييد سمعة المحبط ، بدون أخلاق ، لفلوبير . لم يكتف فقط ، بأن يقدم في مدام بوفاري خيانة زوجية ، فضلا عن ذلك ، بحسب مغتابيه ، فهو لم يسمح للقارئ بإدراك مكان تواجد الأخلاق بالتدقيق . الشيء الذي ترتب عنه رفع دعوى قضائية بعد صدور روايته ... لدى زولا ، ينتصر الفهم وشرح الواقع ، كما أن إدانة الإمبراطورية الثانية لا شك فيها . إن ما يكتسي أهمية أكبر ، بالنسبة لفلوبير ، هو الأسلوب : تحويل الموضوعات الهزيلة إلى فن ، ابتكار عمل استثنائي مع أشياء مبتذلة ، إقامة حوارات مبتذلة مع إجادة صياغة كتابتها وجعلها تتسامى عبر السخرية ...انتهى به المطاف إلى الانزعاج من خلال التقريب الذي تمت إقامته بين رواياته الحديثة وروايات بالزاك . وفي نهاية المطاف ، فهو يستند دائما إلى نوع من الرومنسية . إنه يعشق قوة الشكيمة ، الرفعة في الأدب مثلما في الحياة . وقّع فلوبير في بعض رسائله " المفرط " . فهو لا يجتر الكلام حينما يصدر أحكاما في رسائله . إنه يعشق في الأدب الجرأة ، القوة ، سعة نظر هوميروس ، رابليه Rabelais) ( ، شكسبير أو بيرون وأسطورة العصور لفيكتور هوغو . إن الجمال يرتكز ، بحسبه ، على قوته ولا أهمية للأخلاق ، والفضيلة . " رومنسي ساخط " ، تبعا لعباراته ، إنه يعشق التناقضات والاتقاد ، ثم إنه يستحضر أحيانا بفظاظة اللحظات القوية لرواياته ـ " مضاجعة " ، " شواء الصبية " ( سلامبو ) ـ ، في مخطوطاته أو في المراسلة . لقد كان ينتابه حنق شديد بخصوص البورجوازيين ، من ماك ماهون الذي لا يريد أن يأخذ في حسبانه التطور الجمهوري لفرنسا ( " تبّا لماك ماهون ! " ) .هذه الطاقة التي تنعش على الدوام كتابته . تشددون في عملكم شرق فلوبير ، على أهمية النظرة بالنسبة لفلوبير ، والحدقة كما يؤكد على ذلك ، حيث تبدو أوصافه وكأنها تنفلت غالبا من لوحة دولاكروا Delacroix) ( أو جيروم Gérome) ( ؟ ـ إن الكاتب هو رسام ، عين ، ينظر . " كن عينا مبصرة " ، ينصح فلوبير أحد أصدقائه . لابد أحيانا من معرفة إدراك أسرار ، عبر ما نراه ، من دون إصدار أحكام أخلاقية ، دون التوفر على أفكار فلسفية أو دينية كبرى . فأثناء رحلته الكبرى إلى الشرق ، من 1849 إلى 1851 ، والتي تعلم فلوبير خلالها النظر بقوة إلى سماء ، غروب شمس ،الألوان والتأثيرات غير المألوفة للأضواء التي تمتزج ؛ ينسحب على ذلك الأوصاف التجريدية في رسائله وملاحظاته على هامش الرحلة . لذلك فهو يتصرف وفق دولاكروا في اللوحات المائية حيث كان يرسم ألوان السماء . إن الشرق ، بالنسبة لفلوبير ، هو الألوان والتباينات في ذات الوقت ... " إني أرغب في كتابة رواية أرجوانية " ، يشرح للأخوين غونكور أثناء تحريره لرواية سلامبو . منذ الصفحات الأولى ، هيمن الأحمر والأسود ، لونا الدم ، لونا الحب والموت ... لقد ارتبطت هذه الرواية بأسفاره في الشرق ، بتناقضاته حينما يكون بمقدور اللون الأسود ، تحت ضوء ساطع ، أن يصبح أبيض والعكس بالعكس . كما أنه فُتن ، من وجهة نظر جمالية ، بالتركيب المتنافر للأشياء الذي لاحظه هناك . وهو لقاؤه ب[مدينة]إسنا ، بكوتشوك ، وهي مومس وراقصة ، " إمبراطورة متسامحة " أدت لفائدته " رقصة نحلة " قبل استقباله في غرفتها ، التي يجتاح حيطانها البق الذي أمضى الليل في سحقه ، وقد منحته رائحة تلك الحشرات نشوة جمالية حقيقية ...سوف تعثرون على التناقض ذاته في مدام بوفاري ، أثناء مشهد جمعية المزارعين ، حيث باح ردولف بحبه لإيما ، في اللحظة التي تم فيها منح جائزة أفضل سماد ... بدت النساء اللواتي يرافقن جيش البرابرة في رواية سلامبو ، في نظافة وملبس سيئين ، لكنهن عملن على تزيين صدورهن بأحجار كريمة ، التي كانت تسمح بشراء إمبراطورية ... لا يحب فلوبير حقبته ، القرن التاسع عشر ، حيث تنتصر الصناعة والبورجوازية بمعاطف سوداء . إنه يحلم بالشرق ، فهو ، بالنسبة إليه ، وطن يرمز إلى الجميل ، لأنه يشعر أن القليل من العصور القديمة قد نجت هناك . فقد عثر هناك على الأزمنة التوراتية . لطالما رفض فلوبير الزواج ، الشيء الذي لم يمنعه من مراكمة علاقات طيلة حياته ... رفض فلوبير الزواج ، لأنه لا يرغب في تحمل وزر البورجوازي . فلكي يكون المرء كاتبا ، ينبغي عليه أن يكون عازبا ، لأنه ينبغي أن يكرس نفسه لفنه تماما . يكتب فلوبير ببطء شديد ، يقوم بالشطب إلى ما لانهاية ، يعيد الكتابة ، وهو بحاجة إذن إلى سنوات عديدة من أجل إنهاء رواية ما . فمن المستحيل ، في ظل هذه الظروف أن تكون له أسرة ، أطفال ووضع في المجتمع ... وحدها والدته عاشت إلى جانبه بقرية كرواسيه Croisset) ( إلى حدود وفاته ، وكذلك كارولينا Caroline) ( ابنة أخته التي كان مسؤولا عن جزء كبير من تربيتها . لم يكن الأمر متعلقا بالنسبة إليه بأن تكون له زوجة أو عشيقة فخرية . وهذا هو السبب الذي جعله يقطع علاقته ، في غضون بضع سنوات مع لويزا كوليه ، التي كانت ترغب في أن تكون زوجة له ، أو على الأقل عشيقته الرسمية ، على أنه لم يتم على الإطلاق تقديمها إلى أمه ناهيك عن استضافتها بكرواسيه . لاشك أنه ابتداء من الخمسينات (1850 ) ، قد عاش فلوبير صداقة غرامية مستدامة لكنها كانت عن بعد ، مع جوليا هربرت (Julie Herbert) ، وهي مدرسة إنجليزية ، كانت تهتم بتدريس ابنة أخته كارولينا ؛ على أنها كانت تقيم بأنجلترا ، وقد قام بزيارتها بلندن . لقد كانت امرأة مثقفة و كان له معها بالتأكيد تبادلات ثرية ، ولسوء الحظ لم يبق شيء من مراسلتهما . كان هذا النوع من العلاقة مثاليا بالنسبة إليه ، لأنه لم يتطفل على حياته اليومية ولم يعرض موهبته كأديب للخطر . يقدم فلوبير نفسه مثل ناسك بقرية كرواسيه . وهو ما لم يمنعه من ارتياد الصالونات الباريسية إبان جزء كبير من حياته ... ـ لقد كان يحلو له جدا تقديم نفسه كشهيد للفن ، قديس معتزل ، مبشر بعبادة الفن . إلا أن ذلك كان على الخصوص في الرسائل التي تم توجيهها إلى لويزا كوليه ، التي طالبت برؤيته في معظم الأحيان . أجاب محتميا بها : " نمارس عشقنا في الفن " ، مع تحاشي الذهاب إلى باريس في أغلب الأوقات . وفي ما تبقى من مراسلته ، يُلاحظ جدا عشقه لباريس ، لاسيما حينما أصبح له فيها موطئ قدم قبل نشر رواية مدام بوفاري ، ثم رواية سلامبو . لم يكن يتردد فقط على صالونات الأميرة ماتيلدا Mathilde) ( والأميرة جوليا بونبارت Julie Bonaparte) ( لكنه كان يحضر أيضا العشاءات التي كان ينظمها سانت بوف ، كما كان يخالط الأخوين غونكور ، رينان Renan) ( ، زولا ، غوتييه Gautier) ( ، وكان يذهب بانتظام إلى المسرح . قام كذلك بزيارة مدام سباتييه (Madame sabatier) ، وهي امرأة تعيش على نفقة زوجها ، وقد كانت تستقبل في صالونها كتابا و شخصيات ، وهناك كان يتم قضاء حياة سعيدة . هناك يتنكر المرء وهناك لقّب فلوبير بفوفريلار Vaufrilard) (( ظهر هذا الاسم في مدام بوفاري : يتعلق الأمر بالمصور الذي اختار إلى جانب هومي Homais) ( قبر إيما بروان ) ، ولقب صديقه بلوي بوييه Louis Bouilhet) ( بمونسنيور . كان فلوبير رجلا مرحا ، شرها ، محبا للمناقشة والتبادلات الخليعة في الغالب الأعم ، مع البعض من ممثلات عصره .عاشر فلوبير في شبابه النحات برادييه Pradier) ( ، المصور غليري Gleyre) ( ، وفي وقت لاحق ، وبفضل الأميرة ماتيلدا ، وهي نفسها مصورة ، فقد أنجزت بعد وفاة فلوبير بورتريها محركا للمشاعر لسلامبو ) ، احتك في صالونها بالمصور والكاتب الفرنسي أوجين فرومنتان (Eugène Fromentin) الذي أعجب به ، جان ليون جيروم Jean-Léon Gérome) ( ومصورين شرقيين آخرين . ومهما يُقال فإن فلوبير أحب العالم أحيانا ... كانت الصداقة تحتل ، بالنسبة لفلوبير ، مكانة مرموقة ... ـ تماما ، كنت سأقول أن الصداقة أهم من الحب بالنسبة لديه . فعندما تكون لديه علاقات غرامية مع نساء ، فإنه كان سيفضل أن تظل في إطار الصداقة الرومانسية ، بلا حسد ، مع التباعد ، الشيء الذي لم تفهمه كوليه ، وبالمقابل ، فإن جولييت هربرت (Juliet Herbert) فهمت ذلك جيدا . مع جورج صاند ، التي كانت امرأة مسنة فعلا ، أثناء لقائهما ، فإن السؤال لم يكن ليُطرح فربط معها صداقة رائعة . ستكون له صداقة طويلة الأمد مع ماريا صوفي لورواييه ( Marie-Sophie Leroyer) من شانتوبي ، وهي الكاتبة التي سوف لن يلتقي بها أبدا ، كما أن مراسلتهما كانت ذات قيمة كبيرة من أجل فهم قوة إبداعها وعملها . عديدة هي الصداقات الذكورية المتينة التي رافقته طيلة حياته . ثمة بادئ ذي بدء إرنست شوفالييه(Ernest Chevalier) ، الذي فكر ، إلى جانبه ، منذ التاسعة من عمره ، في الكتابة ( سيقوم فلوبير بتأليف مسرحيات هزلية سيتحدث إرنست عن أحلامه ) ، ثم ألفرد لوبواتوفان(Alfred Le Poittevin) الذي لقنه أسرار الشعر ، الرومنسية ، الفلسفة وقاده إلى قراءة سبينوزا ... وابتداء من 1846 ، ربط علاقة صداقة مع لوي بوييه ، الذي كان يدرس الطب مع الدكتور فلوبير قبل أن ينطلق بنجاح في مهنته ككاتب مسرحي . كانا يمتلكان ذات التصور للأدب واعتادا قراءة مخطوطاتهما بشكل متبادل وتقديم المشورة لبعضهما البعض . سوف يتوقف هذا التعاون الضيق في عام 1869 ، قُبيل إنهاء كتابة رواية التربية العاطفية ، عند وفاة لوي بوييه التي سيعاني منها فلوبير عميقا . إن الصداقة مع ماكسيم دي كامب ، الذي انطلق معه إلى الشرق من عام 1849 إلى 1851 والذي سيقوم بنشر مدام بوفاري على صفحات مجلة باريس ( مع العمل على إزالة المشهد الشيطاني للعربة ) ، كانت صداقة متينة ، بالرغم من أن الطموحات الباريسية للشاب الوصولي تزعج الكاتب . وسوف يكون هو من سيكلفه فلوبير على إعادة قراءة التربية العاطفية ، من دون الأخذ بعين الاعتبار بكل ملاحظاته . لقد كرست جهودك لسنوات عديدة لفلوبير ، كمدرسة بالجامعة أو كمشتغلة على طبع مراسلاته في لابلياد أو العمل على كتابة العديد من الكتب حوله ؟ ـ قرأت مدام بوفاري وسلامبو وأنا في الثالثة عشرة من عمري . ولو أنني في ذلك العهد ، لم يكن بمقدوري إيجاد تفسير حول ما الذي يجعل أن هاتين الروايتين قد تركتا لدي انطباعا عميقا . وفي ذلك الوقت بالذات ، قمت بقراءة بؤساء فيكتور هوغو ، ثم إن الجانب العاطفي لبعض الفقرات أزعجني . اكتشفت ، فيما بعد ، أن فلوبير لم يعشق هذا الكتاب والذي كان يضايقه فيه هو أسلوبه المثير للشفقة المبالغ فيها . فضلا عن ذلك ، فقد تلقى فيه فكرا اشتراكيا ، سيعجل بالسخرية منه في الرواية التي كان يشرع في كتابتها ، التربية العاطفية . لطالما حلمت بالشرق ، بفضل سلامبو ... بعد ذلك مباشرة ، أحببت عمله برمته حتى آخر عمل ، بوفار وبيكوشيه ، " الموسوعة النقدية في مزحة " الذي استعرض معارف ذلك العهد ، ثم إني كتبت أطروحة حول تجربة القديس أونطونيوس التي تستوحي تاريخ الأديان في عصره ( 1849 ـ 1856 ـ 1874 ) . إن فلوبير ، بالنسبة لي ، هو رجل العصر . انطلاقا من أعماله لكن أيضا من خلال مراسلاته ، بإمكان المرء الاقتراب من مجموع حياة وتاريخ القرن التاسع عشر . لقد كرس نفسه لكل شيء على الإطلاق ، سواء أتعلق الأمر بالأدب ، فن التصوير ، العلوم ، تاريخ الأديان أم بالسياسة . لقد كان رجلا من زمانه كما أنه فكر في كل الأسئلة العظيمة لتلك الفترة . وبالتأكيد ، فقد كان يكره التصنيع الناشئ ، إلا أن ذلك لم يكن ليمنعه من كتابة رواياته استجابة لتساؤلات عصره وتاريخه المضطرب ، دون أخذ موقف في أعماله لفائدة هذه الفلسفة أو تلك ، لفائدة هذا التوجه السياسي أو ذاك . أقول ، أنه بفضل فلوبير ، اقتربت من القرن التاسع عشر برمته ... على أنه أيضا ثمة أسلوب فلوبير ، إيقاع جمله ، اشتغاله على النغميات ، اهتمامه بالألوان ، طريقته في تقطيع المشاهد الملفتة للنظر في الواقع أو رسم لوحات تشكيلية ... حتى أنه سمح لنفسه في رواية سلامبو ، بإعادة رسم جزء من لوحة أوجين دولاكروا ، " موت ساردنابال Sardanapale) ( " . قدم وصفا للمتاريس التي هاجمها المرتزقة البرابرة ، نساء بيضاوات عاريات ، وهو أمر غير محتمل إطلاقا . لماذا هذه الجزئية ؟ في المستوى الأول للوحة دولاكروا ، يُلاحظ المرء امرأة مجردة من ملابسها تم طعنها من قبل عبد لكنه أبيض . إن نساء فلوبير العاريات ، قد تم طعنهن من قبل مرتزقة سود . يراهن فلوبير على التناقض التصويري . إنه أشبه ما يكون بتكريم خفي لدولاكروا . لكل تلك الأسباب فإنه يستمر في جذب انتباهي . ــ مصدر النص : مجلة Le Monde ) ( الفرنسية في عدد ممتاز ( دجنبر 2021) خصص لغوستاف فلوبير تحت عنوان : غوستاف فلوبير الرومنسي الساخط .
#الحسن_علاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفاتيح السعادة المسيحية
-
هل يخضع تاريخ الفلسفة إلى دورات ؟
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
-
فرويد والدين
-
أمثلة عن الأجساد :أمكنة النوم في رواية الأستريا
-
على ساحات المعركة
-
الشر الكوني
-
العقدة الأخوية العتيقة
-
حوار مع جان بول سارتر حياة من أجل الفلسفة
-
أفلوطين : نوم النفس واستيقاظها من تلقاء ذاتها
-
يمتدح نيتشه ديونيزوس ، إله المعاناة واللذة
-
الوباء في الأدب ، من خلال 6 روايات عظيمة
-
نحن كلنا إلى حد ما ، جزء من شخصيات ألبير كامو
-
وار معجورج أرثور غولدشميث .. قلق الصفحة الممتلئة
-
الجسد ، طريق موصل إلى الآخر
-
المغارة
-
العود الأبدي ، تكوين وتأويل
-
الأريكة والريشة ، سيوف غير مؤذية
-
مستكشف الأضواء الخافتة
-
العود الأبدي ديانة مشركة وميتافيزيقا مادية ؟بعض التساؤلات حو
...
المزيد.....
-
-أرض العجائب الشتوية-.. قرية ساحرة مصنوعة من كعكة الزنجبيل س
...
-
فيديو يظهر ضباط شرطة يجثون فوق فتاة ويضربونها في الشارع بأمر
...
-
الخارجية اليمنية: نعتزم إعادة فتح سفارتنا في دمشق
-
تصفية سائق هارب اقتحم مركزا تجاريا في تكساس (فيديو)
-
مقتل 4 أشخاص بحادث تحطم مروحية تابعة لوزارة الصحة التركية جن
...
-
-فيلت أم زونتاغ-: الاتحاد الأوروبي يخطط لتبنّي حزمة العقوبات
...
-
مقتل عنصر أمن فلسطيني وإصابة اثنين آخرين بإطلاق للنار في جني
...
-
بعد وصفه ضرباتها بـ-الوحشية-... إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب
...
-
أكاديمي إسرائيلي: بلدنا متغطرس لا تضاهيه إلا أثينا القديمة
-
كيف احتمى نازحون بجبل مرة في دارفور؟
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|