أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - نينهورساگ الإلهة الأم في الأساطير السومرية















المزيد.....


نينهورساگ الإلهة الأم في الأساطير السومرية


عضيد جواد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 8052 - 2024 / 7 / 28 - 17:43
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


نينهورساگ (أو نينهورساگا) هي الإلهة الأم السومرية ، وواحدة من أقدم وأهم الآلهة في بلاد الرافدين . وتُعرف أيضاً باسم "أم الآلهة" و"أم الرجال" لدورها في خلق الكيانات الإلهية والبشرية.
لقد حلّت نينهورساگ محل الإلهة الأم السابقة "نامو" (المعروفة أيضاً باسم ناما) ، والتي تم توثيق عبادتها في وقت مُبكر من الأسرة الثالثة (عام 2600-2334 قبل الميلاد) . ونينهورساگ كانت لها أسماء مختلفة وردت في العديد من الأساطير وذلك حسب دورها في موضوع القصة .
كانت نينهورساگ تُعرف في الأصل باسم "دامكينا ( بمعنى الزوجة الحقّة)"و"دمگالنونا" في سومر؛ وهي الإلهة الأم الراعية المرتبطة بالخصوبة في مدينة مل ـ گوم . كان زوجها / قرينها سول ـ پا ـ إي؛ إله صغير مرتبط بالعالم السفلي، وأنجبت منه ثلاثة مواليد (آسگي، ليسن، ليل). ويتم تخيلها بشكل متكرر على أنها زوجة/ قرينة الإله إنكي (إله الحكمة) الذي لديه صفات أخرى .

كلمة "نينهورساگ" تعني "سيدة الجبل" وجاءت تلك التسمية من ترنيمة " لوگالي" التي هزم فيها نينورتا (إله الحرب والصيد) الوحش آساگ ​​وجيشه الحجري ، حيث قام ببناء جبلاً من جثثهم . ونينورتا منح مجد انتصاره لوالدته "نينماه" (الملكة الجليلة) وأعاد تسميتها بـ "نينهورساگ" .
كانت تُعرف أيضاً باسم نينتود/ نينتور (ملكة كوخ الولادة)، وعند الأكديين باسم بيليت - يلي (ملكة الآلهة). وتشمل أسمائها الأخرى ماخ ، ننماخ ، أرورو ، مامّا، و ماما. وفي أشكال الأيقونات يتم تمثيلها بعلامة تشبه الرمز اليوناني أوميگا (Ω) الذي غالباً ما يكون مصحوباً بسكين؛ ويُعتقد أن ذلك يمثل الرحم ، والسكين تستخدم لقطع الحبل السرّي؛ مما يرمز إلى دور نينهورساگ كإلهة للأمومة.

ظهرت نينهورساگ لأول مرة في النصوص المدوّنة خلال فترة الأسرات الأولى (حوالي عام 2900-2800 قبل الميلاد). لكن الأدلة الملموسة تشير إلى عبادة شخصية الإلهة الأم التي يعود تاريخها إلى حوالي عام 4500 قبل الميلاد على الأقل؛ كان خلال فترة العُبيد (حوالي عام 5000-4100 قبل الميلاد). ونينهورساگ هي من بين المرشحين الأكثر احتمالاً لمُسمّى "الأرض الأم"، التي تطورت من شخصية نامو، لارتباطها بالخصوبة والنمو والتحوّل والخلق والحمل والولادة والتربية.
أحد أسمائها المبكرة الأخرى، "كي" أو "كيشار"، وتُعرّف على أنها "الأرض الأم". وغالباً ما كانت الأمهات يطلبنها؛ للاعتقاد في أنها تخلق الطفل وتعتني به في الرحم ، وتوفر له حليب الرضاعة بعد ولادته. ونينهورساگ هي واحدة من الآلهة الخالقة الأربع في المعتقد الديني السومري (جنباً إلى جنب مع آنو وإنليل وإنكي ) ، وكثيراً ما يرد اسمها في العديد من أهم أساطير بلاد الرافدين القديمة.

أسطورة إنكي ونينهورساگ
تحكي الأسطورة السومرية (إنكي ونينهورساگ) قصة بداية العالم في فضاء الجنّة المعروفة باسم "دلمون". ونينهورساگ التي تم تخيلها على أنها إلهة شابة ونشطة؛ قد انزوت في فصل الشتاء للمثول إلى الراحة بعد دورها في عملية الخلق . أما إنكي (إله الحكمة و السحر والمياه العذبة) ، قد صادفها هناك وهام في عشقها. وبعد أن أمضيا سوياً في ليالٍ عدة ؛ حملت نينهورساگ بابنة أطلقا عليها اسم "نينسار" (سيدة النبات) .
تُبارك نينهورساگ المولودة بنمو سريع، فتبلغ وتصبح امرأة كاملة في تسعة أيام . وعندما جاء الربيع، كان على نينهورساگ العودة إلى واجباتها في رعاية الكائنات الحية الأرضية ومغادرة دلمون، إلا أن إنكي و نينسار لم يغادرا .
افتقد إنكي زوجته نينهورساگ بشدة. وذات يوم ، لمح ابنته نينسار تتجوّل بجوار الهور( المستنقع المائي) فتراءى له انها نينهورساگ . راح يغويها فتحمل منه بابنة أسماها "نينكورا" (إلهة المراعي الجبلية). ثمّ كبرت نينكورا أيضاً بسرعة وأصبحت امرأة شابة خلال تسعة أيام ؛ لكن إنكي كرر الأمر نفسه مرة أخرى مع الصبية نينكورا ؛ ظنّاً منه انها حبيبته نينهورساگ .
تخلّت نينسار عن إنكي من أجل ابنتها نينكورا التي أنجبت ابنة اسمها "أوتو" (حائكة الأنماط ورغبات الحياة) بعد اغوائها . وكانت أوتو سعيدة مع إنكي لفترة من الوقت. ومثلما كان الحال مع نينسار و نينكورا، وقع إنكي في غرام أوتو أيضاً ؛ ولكن بمجرّد ما أن أدرك أنها ليست نينهورساگ ؛ تركها وعاد إلى مهامّه المعتادة على الأرض .
أصاب أوتو الذهول ، واستنجدت بـ نينهورساگ لمساعدتها . وبعد أن حكت لها عن الذي حصل ؛ طلبت منها نينهورساگ التخلّص من بذور إنكي التي تحملها في جسدها ودفنها في أرض دلمون . فعلت أوتو ما قيل لها، وبعد تسعة أيام نمت ثمانية شتلات جدد في الأرض . وعند هذا المشهد ، يعود إنكي مع خادمه إسيمود إلى دلمون .
عند مروره بالشتلات، يتوقف إنكي متسائلاً عن ماهيتها، فيقطف إسيمود واحدة منها ويقدمها إلى إنكي الذي أكلها. وعندما وجدها لذيذة جداً ؛ طلب من خادمه أن يقطف له السبعة الأُخر، ليأكلها أيضاً وبنهم . ولمّا حضرت نينهورساگ ؛أدركت أن إنكي قد أكل جميع الشتلات ؛ فغضبت منه ، وقررت الانتقام منه بقذفه بـ " عين الموت" مع سيل من اللعنات ، وطرده من دلمون والأرض .

مرض إنكي مرضاً شديداً وهو على شفا الموت، فحزنت عليه الآلهة الأخرى، بيد أن لا أحد يستطيع أن يشفيه باستثناء نينهورساگ التي من الصعب العثور عليها وسط هذه المحنة.
ظهر ذلك الثعلب ؛ وهو أحد حيوانات نينهورساگ الذي يعرف مكانها ، فقرر الذهاب اليها لإبلاغها . وسرعان ما توجهت نينهورساگ نحو إنكي وجذبته إليها، ثم وضعت رأسه في حضنها الأنثوي ، وأخذت تداعبه وتسأله عن مكان وجعه ، وفي كل مرة يقول لها أن تسحب الألم إليها ؛ فتلد إلهاً . وبهذه الطريقة، يولد ثمانية من الآلهة ( ذكور وإناث) الأكثر ملائمة لحياة البشر:
آبو - إله النبات والنمو .
نينتولا - إله ماگان، الذي يرعى النحاس والمعادن الثمينة .
نينسيتو - إلهة الشفاء وقرينة نينازو .
نينكاسي - إلهة البيرة .
نانشي - إلهة العدالة الاجتماعية والنبؤة .
أزيموا - إلهة الشفاء وزوجة نينگيشيدا في العالم السفلي .
إمشاگ ـ إله أرض دلمون والخصوبة .
نينتي - "إلهة الضلع" التي تمنح الحياة .
أخيراً؛ يُشفى إنكي ويندم على أكله للشتلات وتهورّه في إغواء الفتيات. كما أن نينهورساگ قد سامحته لإعترافه بخطئه ، ويعود الاثنان إلى مهام الخلق المعتادة .

تمثل هذه الأسطورة شخصية نينهورساگ باعتبارها ذات قوة مطلقة بسبب قدرتها على إلحاق الموت بأحد أقوى الآلهة ، وهي الوحيدة القادرة أيضاً على شفائه. ومع ذلك، فقد تم الاستدلال أيضاً بإنكي ونينهورساگ معاً كأساس لقصة الخلق التي جرى سردها في سفر التكوين التوراتي . وقد كتب خبير السومريات البروفيسور صموئيل نوح كريمر تعليقاً حول هذه القصة :
"لعل النتيجة الأكثر إثارة للاهتمام في تحليلنا المقارن للنّص السومري؛ هو التفسير الذي يقدمه لأحد أكثر المواضيع المحيّرة في قصة الجنّة التوراتية من خلال المقطع الشهير الذي يصف خلق حواء [أم البشر] من ضلع آدم . ولكن لماذا الضلع؟ ولماذا وجد الراوي العبري أنه من الأنسب اختيار الضلع بدلاً من أي عضو آخر من أعضاء الجسم لخلق المرأة التي يعني اسمها حواء حسب المفهوم التوراتي، [التي تحيي]؟؟. قد يصبح السبب واضحاً تماماً إذا افترضنا وجود خلفية أدبية سومرية، مثل تلك التي تمثلها الأسطورة الدلمونية وراء حكاية الجنّة التوراتية . ففي أسطورتنا السومرية، أحد أعضاء إنكي المريض هو الضلع، والكلمة السومرية التي تعني ضلع هي [ti] (وتُنطق تي tee) . لذا سُميّت الإلهة التي خُلقت لشفاء ضلع إنكي بالسومرية [نينتي] (إلهة الضلع). إلا أن الكلمة السومرية ti تعني [تُحيي] و [إلهة الضلع] أيضاً . لذلك، في الأدب السومري تم تعريف [إلهة الضلع] بـ [الإلهة التي تحيي] من خلال ما يمكن تسميته [التلاعب بالكلمات ] . وقد كانت هذه واحدة من أقدم التوريات الأدبية التي تم تناقلها وادامتها في قصة الجنّة التوراتية ، على الرغم من أن التورية تفقد مصداقيتها بالطبع، لأن الكلمات العبرية التي تعني [ضلع] و[التي يحيي] لديهما شيء مشترك." (ص149)
بصرف النظر عن تأثير الأسطورة على الرواية التوراتية اللاحقة؛حيث توضح الأسطورة قوة شخصية الإلهة الأم في المعتقد السومري . إذ لا يستطيع أي من الآلهة الذكور الذين شاركوا في الخلق ( ولا حتى الأقوى مثل آنو أو إنليل ) أن يفعل شيئاً لشفاء إنكي؛ فقط الإلهة الأم يمكنها أن تزيل المرض وتحوّل الموت إلى حياة. وفي كل الأساطير المتعلقة بها، ترتبط نينهورساگ بالحياة والقوة، لكن إنكي يأتي لمنافستها وفي النهاية يسيطر عليها .

أسطورة إنكي و نينماه
في أسطورة إنكي ونينماه ، تبدأ نينهورساگ كإلهة مساوية للإله إنكي، لكنها في الأخير تفقد مكانتها. ومن المعروف أن الآلهة الذكور في بلاد الرافدين طغت على الآلهة الإناث في عهد حمورابي البابلي (عام 1792-1750 قبل الميلاد ). وإذا كان بالإمكان تحديد تاريخ قصة إنكي مع نينماه في ذلك الوقت؛ فإن الأسطورة ستتوافق مع الانحدار السريع للمكانة والمساواة التي كانت تعاني منها المرأة بشكل عام وبما يشمل حتى الإلهات. ولكن لا يُعرف بالضبط تاريخ تأليف هذه الأسطورة . وكما أشار البروفيسور جيريمي بلاك الى ذلك في المقطع التالي :
" إن عدم وجود أي شيء سوى إطار تاريخي عام إلى حدّ ما للمؤلفات السومرية ؛ ما يعني أن أي مسار زمني للأعمال الأدبية، مثل تطور الأساليب أو الارتباط بالمناهج أو الأحداث التاريخية، يجب عدم التمسك به تماماً. (قراءة الشعر السومري،ص 23)
من الممكن أن الحكاية في الأصل قد تم تأليفها في فترة لاحقة من تاريخ بلاد الرافدين . وبما ان الإلهة قد فقدت مكانتها في الأسطورة ، فمن المرجح أن يكون للحكاية تاريخ لاحق . وعلى الرغم من أن القارئ قد يميل إلى تحديد موقع هذه الحكاية قبل أسطورة إنكي ونينهورساگ ، لأنها معروفة باسمها السابق في هذه القصة، بيد أن أية أفكار من هذا القبيل لا يمكن الأخذ بها. فقد تغيرت أسماء الإلهة من قصة إلى أخرى ولا تساعد ابداً في تحديد تأريخ نصّ بذاته ، ربما فقط باستثناء النصوص التي عرّفت على ان نينهورساگ هي نفسها دمگالنونا في السابق .
تبدأ القصة بالآلهة الشباب الذين سئموا من واجباتهم الشاقة التي لا نهاية لها. فقد كانوا مجبرين على حفر القنوات وحصاد الحقول والقيام بجميع الأعمال الوضيعة ، مما منعهم من القيام بأعمال أخرى فيها راحة لهم . وعليه فقد أخذوا يناشدون الإله إنكي طالبين المساعدة إلا أنه فضلّ النوم متجاهلاً توسلاتهم. وعندما توقظه والدته الإلهة نامو وهي حاملة دموع الآلهة إليه (كان ظنّا منها قد تؤثر فيه فيستجيب !) ؛ انزعج إنكي من هذا الأمر لكنه وافق نزولاً عند رغبة والدته في خلق كائنات تخفف العبء عن الآلهة الشباب. لذا فقد طلب منها أن تساعده الإلهة نينماه وغيرها من آلهة الخصوبة لخلق البشر ومنحهم الحياة .
بمجرّد خلق البشر، يقيم إنكي مأدبة عظيمة احتفالاً بهذا المُنجز، حيث أشادت الآلهة المُسنّة بحكمته، وابتهاج الآلهة الشابة بنيل مطالبها في الراحة. بعد ذلك جلس إنكي ونينماه يحتسيان البيرة معاً ووصلا إلى حدّ الثمالة في النهاية. ثم أخذت نينماه تتحدى إنكي بخلق أجساد البشر والذين هم من تصميم وفكرة إنكي ؛ والتي ربما تكون سليمة أو معيبة ،ولكن أقدارهم أو حظوظهم في النهاية ربما تكون صائبة أو خائبة اعتماداً على مشيئتها هي .
قبل إنكي تحديها قائلاً لها: "مهما كان قدر الإنسان الذي تولينه له ، سواء كان جيداً أم سيئاً ، فسوف أقوم بتغييره".
خلقت نينماه رجلاً يداه ضعيفة ؛ الا إنكي يجود عليه ويغير قدره بجعله خادماً لملك ، لأن ليس باستطاعته أن يسرق . ثم خلقت رجلاً فاقد البصر، لكن إنكي يغير قدره من خلال منحه موهبة عزف الموسيقا وجعله مغنياً للملك. ويستمر هذا النمط نفسه مع صعوبة التحديات أكثر فأكثر بين نينماه وإنكي التي كان يواجهها بحكمته . أخيراً؛ خلقت كائناً بلا عضو تناسلي، لكن إنكي وجد له وظيفة حارس عند الملك باعتباره مخصياً لا يُخشى منه في البلاط .
تشعر نينماه بالإحباط وترمي قطعة الطين التي بين يديها على الأرض بنفور، لكن إنكي التقطها ليستأنف الجولة، ثم يخبرها كيف سيخلق كائناً وعليها أن تغيّر قدره كما فعل هو .
خلق إنكي رجلاً عليلاً في كل جزء من جسده ويسلّمه إلى نينماه . حاولت إطعامه، لكنه لا يستطيع أن يأكل، ولا يمكنه الوقوف أو المشي، أو التحدث، أو العمل بأي شكل من الأشكال. قالت لإنكي: "الرجل الذي خلقته ليس حيّاً ولا ميتاً. فهو لا يستطيع إعالة نفسه". إلا أن إنكي قد اعترض على ما قالته نينماه، مشيراً إلى أنها قدمت له عدداً من المخلوقات العاجزة وتمكن من تصحيح أوضاعها جميعاً.
لا يُعرف ما كان رد نينماه على إنكي في النّص بسبب التلف في هذا الجزء من اللوح الطيني ، ولكن عندما تُستأنف القصة، على ما يبدو أن إنكي هو الفائز في هذا التحدي، وينتهي النّص بالسطور؛ "نينماه لم تستطع منافسة السيد العظيم إنكي. الأب إنكي ، مباركتك واجبة!".
وعلى الرغم من أن الإلهة نينماه قد فقدت مكانتها في هذه الأسطورة، إلا أنها كانت لا تزال تعتبر إلهة قوية يمكن اللجوء إليها في أوقات الشدة ويُعتمد عليها في الحماية والتوجيه والرعاية ، والأمور المرتبطة بنواحي الحياة .

الأم نينهورساگ في أسطورة الخلق
تظهر نينهورساگ أيضاً في أسطورة "أطرا ـ هاسيس" حيث تقوم بخلق إنسان من الطين الممزوج بلحم ودم وذكاء أحد الآلهة الذي يضحي بنفسه من أجل خير الكثيرين . كما تقدم تلك الأسطورة أيضاً الإله إنكي باعتباره خالق البشر الذين هم من ابتكاره ؛ كوسيلة لتخفيف عبء العمل عن الآلهة الشباب. في هذه الأسطورة، عندما أطلق الإله إنليل الطوفان الكبير ودُمرت البشرية بأثره ؛ حزنت جميع الآلهة ، لكن نينهورساگ جاء ذكرها على وجه التحديد وهي تولول على موت أبناءها البشر.
في بعض الأساطير التي يُفترض أنها نصوص أقدم ، تظهر نينهورساگ هي زوجة الإله آنو وشريكته في خلق الكون . وفي حالات أخرى يتم التعرّف عليها باسم "كيشار" (المعروف أيضاً باسم ـ كي) وهي الأرض الأم .
البروفيسور كريمر يرى أن نينهورساگ قد عُرفت على أنها آخر الآلهة الخالقة الأربع ، ولكن كيف ؟
"في ذات يوم كانت هذه الإلهة على الأرجح تحمل منزلة أعلى ، وكان اسمها غالباً ما يسبق اسم إنكي عندما تم إدراج الآلهة الأربعة معاً" (ص122). واستمر تضمينها في قائمة القوى الإلهية السبع (أقدم الآلهة السومرية): آنو، إنكي، إنليل، إنانا ، نانا ، نينهورساگ ، وأوتو ـ شمش . وكان لكل من هذه الآلهة تخصصه في حياة الناس، لكن نينهورساگ باعتبارها الأم العظيمة، ترأست البشرية جمعاء، من الملك إلى عامة الناس على حد سواء. وكان يُنظر إليها في المقام الأول على أنها حامية النساء والأطفال التي ترعى الحوامل ومواليدهن، وقد احتلت أيضاً مكانة مرموقة بين الآلهة.
يرى السير "إرنست ألفريد واليس " كيف أن نينهورساگ :"خلقت الآلهة وأرضعت الملوك ، وتماثيل الطين التي تمثلها تبيّن وهي تُرضع طفلاً من ثديها الأيسر" (ص84).
في بلاد الرافدين القديمة، كما هو الحال في أي مكان آخر من العالم؛ كان الجانب الأيسر يعتبر أنثوياً و"مظلماً "، بينما الجانب الأيمن كان ذكورياً و"منوراً" (مفهوم مألوف عند أي شخص لديه فكرة عن " علاج الطاقة الـ ريكي Reiki "[ تقنية الشفاء بالكف] في العصر الحديث). والتماثيل التي جسّدت الإلهة تؤكد دائماً على الجانب الأيسر بطريقة أو بأخرى . ففي المثال الذي أشار له السير واليس عن طفل يرضع من الثدي الأيسر يمكن أن تكون له رمزية معينة، وتشمل تلك أيضاً ثدي أيسر مكشوف ، أو ذراع يسرى مرفوعة، أو بعض التفاصيل الجسدية الصغيرة الأخرى .
عُبدت نينهورساگ في مدينة "آدب" وكانت أيضاً مرتبطة بمدينة "كيش"(كما يؤكد أحد أسمائها، بيليت ـ إيلي الكيشية). وقد تم تبجيلها أيضاً في معابد آشور ،أور، أوروك ، إريدو ، ماري ، لگش ، والعديد من المدن الأخرى في جميع أنحاء بلاد الرافدين لآلاف السنين . ويشير البروفيسور كريمر إلى أن "الحكام السومريون الأوائل أحبوا أن يصفوا أنفسهم بأنهم يتغذون بالحليب باستمرار من نينهورساگ. لقد كانت تُعتبر أم جميع الكائنات الحية، والإلهة الأم المميزة" (122).

كان الناس يعبدون الإلهة كما فعلوا مع أي إله آخر في بلاد الرافدين من خلال الطقوس الخاصة بالقرابين والنذور والهبات المقدمة للمعبد . ولم تكن هناك طقوس في المعبد يجتمع فيها المصلّون للعبادة اليومية او الأسبوعية، ولكن الأعياد والمناسبات التي تقام على مدار العام قد أتاحت الفرصة للتعبير عن إيمان المتعبد علناً .
في الألفية الثانية قبل الميلاد كما لوحظ ؛ عانت الآلهة الأنثوية من فقدان مكانتها ، حيث كانت الأسبقية للآلهة الذكور عند الأموريين في بابل خلال عهد الملك حمورابي. وبعد حكم حمورابي من عام 1750 قبل الميلاد فأعلى؛ سيطرت الآلهة الذكور على آلهة بلاد الرافدين ،وحتى بعد هزيمة الأموريين استمر هذا الاتجاه نفسه. إذ أصبحت الإلهة إنانا/ عشتار القوية وذات الشهرة الواسعة ؛ثانوية بالنسبة للآلهة الذكور مثل آشور.كما أن الإلهة المتنفذة إريشكيگال التي حكمت العالم السفلي، أُشرك قرينها الذكر ( نرگال ) معها في إدارة مملكة الأموات .

بمرور الزمن، أصبح الجانب الأيسر المرتبط بمفهوم الإلهة مقترناً بالظلام والشر ، كما يمكن رؤيته في كلمة "شرير Sinister"، والتي كانت في الأصل كلمة لاتينية تعني "يسار" ولكنها أصبحت تعني "تهديد" و"شر" .
وهناك مفاهيم مماثلة قبل وقت طويل من ظهور الكلمة لمثل تلك الدلالات في أواخر اللغة الإنكليزية الوسطى (حوالي عام 1375-1425 ميلادي). وقد تعود ممارسة ارتداء خاتم الزواج في اليد اليسرى إلى روما ، لدرء القوى الشريرة المرتبطة باليد اليسرى .
وليس من قبيل الصدفة في أسطورة ليليث العبرية؛ تخرج زوجة آدم الأولى المتمرّدة من جانبه الأيسر لتحلّق بعيداً عن الجنّة مع شياطينها؛ حيث كان لا بدّ من قلب جنس رموز الآلهة وشحنها بأفعال سلبية حتى يتمكن الإله الذكر من تحقيق الهيمنة.
وقد شهدت نينهورساگ هذا التراجع نفسه أيضاً كما لمسته الإلهات الأخريات . وبحلول سقوط الإمبراطورية الآشورية عام 612 قبل الميلاد، لم تعد نينهورساگ تُعبد. ورغماً من ذلك، فقد اُعتبر تأثيرها مهماً في تطور الآلهة اللاحقة ؛ حيث ارتبط بصفاتها كلتا الالهتين بحتحور وإيزيس في بلاد النيل ، وگايا في اليونان ، وسيبيل في الأناضول ، والأم الكبرى Magna Mater في روما ؛ ومن ثم ظهور شخصية مريم العذراء في النهاية ..



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيفن بيرتمان ـ الحياة اليومية في بلاد الرافدين القديمة ـ طباعة جامعة أوكسفورد ـ 2005 .
جيريمي بلاك ـ الآلهة ، العفاريت والرموز في بلاد الرافدين القديمة ـ طباعة جامعة تكساس ـ 1992 .
جيريمي بلاك ـ قراءة في الشعر السومري ـ طباعة جامعة كورنيل ـ 1998 .
مارك شاڤالاس ـ النساء في الشرق الأدنى القديم ـ روتليدج للنشر ـ 2013 .
ستيفاني دالي ـ أساطير من بلاد الرافدين القديمة ـ طباعة جامعة أوكسفورد ـ 2009 .
صموئيل نوح كريمر ـ التاريخ يبدأ من سومر ـ طباعة جامعة بنسلفانيا ـ 1988 .
صموئيل نوح كريمر ـ السومريون : تاريخهم ، ثقافتهم ، شخصياتهم ـ طباعة جامعة شيكاغو ـ 1971 .
گويندولين ليك ـ بلاد الرافدين القديمة من الألف الى الياء ـ سكاريكرو للنشر ـ 2010 .
إي . أي واليس بادج ـ الحياة والتاريخ البابلي ـ بارنز و نوبل للنشر ـ 2005 .
ريڤكا هاريس ـ نوع الجنس والشيخوخة في بلاد الرافدين القديمة ـ طباعة جامعة أوكلاهوما ـ 2003 .



#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقيدة البوذية في نشوئها وفلسفتها
- نظام التعليم في بلاد الرافدين القديمة
- الدفن في بلاد الرافدين القديمة
- كذبة أفلاطون في الروح
- الأزياء والملابس في بلاد الرافدين القديمة
- الفنّ والعمارة في بلاد الرافدين
- ثورة العمّال اللودّيين
- مَن هم شعوب البحر ؟؟
- الأعياد في بلاد الرافدين القديمة
- الحكومة في بلاد الرافدين القديمة
- النساء العالمات في ثورة العلوم
- قصة الوسيم نارسيسوس (نرجس)
- دعوى استئناف لإمرأة سومرية أمام محكمة في مدينة أوما
- هيبي إلهة خلود الشباب
- كيف كانت التجارة في بلاد الرافدين القديمة ؟
- معاداة السامية في أوروبا المسيحية
- الزقّورات في بلاد الرافدين
- الحروب وأدواتها في بلاد الرافدين القديمة
- الماء والخلق في فلسفة طاليس
- مملكة إسرائيل في التاريخ القديم


المزيد.....




- -كان ضخما-.. شاهد منطاد هواء ساخن يهبط بشكل غير متوقع في حي ...
- الأزهر يدين -مشاهد الإساءة للمسيح- في افتتاح دورة الألعاب ال ...
- كامالا هاريس تجمع 200 مليون دولار في الأسبوع الأول من حملتها ...
- كيف تحمي نفسك من التهاب الكبد؟
- إطلاق سراح 3000 سجين أوكراني لتعزيز الجيش في مواجهة روسيا
- قلق في تل أبيب من التصعيد في الجولان السوري المحتل وحادثة مج ...
- لبنان يدعو لتحقيق دولي وواشنطن تتهم حزب الله بشن الهجوم
- من ضمنها حرب شاملة.. 3 سيناريوهات الرد الإسرائيلي المرجحة عل ...
- وزير الدفاع الإسرائيلي يتوعد حزب الله
- انطلاق أولمبياد الكيمياء الدولية بالرياض


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - نينهورساگ الإلهة الأم في الأساطير السومرية